تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

فأول راض سنة من يسيرها

عندي هو محمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي لا لاتّخذت أبا بكر خليلا» فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة : كان خلقه القرآن. وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارم أخلاق بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن النبي جعله المخيّر لخلته لو كان متّخذا خليلا غير الله.

وجملة (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) تعليلية لتمنّيه أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا بأنه قد صدر عن خلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه.

وقوله : (أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) معناه سوّل لي الانصراف عن الحق. والضلال : إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقا غير المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده ، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مسبعة. ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهدى (الذي هو إصابة الطريق) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال ، ولذلك سموا الدليل الذي يسلك بالركب الطريق المقصود هاديا.

والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملا هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف (عَنِ) في قوله : (عَنِ الذِّكْرِ) فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق. ففي قوله : (أَضَلَّنِي) مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجى ، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية ، فهذه نكت من بلاغة نظم الآية.

و (الذِّكْرِ) : هو القرآن ، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه.

والمجيء في قوله : (إِذْ جاءَنِي) مستعمل في إسماعه القرآن فكأنّ القرآن جاء حلّ عنده. ومنه قولهم : أتاني نبأ كذا ، قال النابغة :

أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنك لمتني

فإذا حمل الظالم في قوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) على معيّن وهو عقبة بن

٤١

أبي معيط فمعنى مجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أبيّ بن خلف وحمله على عداوته وأذاته ، وإذا حمل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم ، وإمكان استماعهم إياه. وإضلال خلّانهم إياهم صرف كل واحد خليله عن ذلك ، وتعاون بعضهم على بعض في ذلك.

وقيل : (الذِّكْرِ) : كلمة الشهادة ، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم ، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة ، فإن كلمة الشهادة لما كانت سبب النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي ، ومثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل.

و (إِذْ) ظرف للزمن الماضي ، أي بعد وقت جاءني فيه الذكر ، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال : بعد ما جاءني ، أو بعد أن جاءني ، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق ، ومنه قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) [التوبة : ١١٥] أي تمكن هديه منهم.

وجملة (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسوّل لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان ، أي مجبول على شدة خذله.

والخذل : ترك نصر المستنجد مع القدرة على نصره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) في سورة آل عمران [١٦٠].

فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل ، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠))

عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله : (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) [الفرقان : ٢٩] أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربّه قومه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن ، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر ، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو خبر مستعمل في الشكاية.

والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بأن الرسول توجه إلى ربّه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره ، وتأكيده ب (إِنَ) للاهتمام به ليكون التشكّي

٤٢

أقوى. والتعبير عن قريش ب (قَوْمِي) لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه.

وفعل الاتخاذ إذا قيّد بحالة يفيد شدة اعتناء المتّخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصدا. فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال : إن قومي هجروا القرآن.

واسم الإشارة في (هذَا الْقُرْآنَ) لتعظيمه وأن مثله لا يتّخذ مهجورا بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به.

والمهجور : المتروك والمفارق. والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعه.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١))

هذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما لقيه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم.

وفيه تنبيه للمشركين ليعرضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال من كذّبوا من قوم نوح وعاد وثمود.

والقول في قوله : (وَكَذلِكَ) تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣]. والعدوّ : اسم يقع على المفرد والجمع والمراد هنا الجمع.

ووصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين ، أي من جملة المجرمين ، فإن الإجرام أعمّ من عداوة الأنبياء وهو أعظمها. وإنما أريد هنا تحقيق انضواء أعداء الأنبياء في زمرة المجرمين ، لأن ذلك أبلغ في الوصف من أن يقال : عدوّا مجرمين كما تقدم عند قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممّن هم يومئذ معرضون عنه كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» وبأنه ينصره على الذين يصرّون على عداوته لأن قوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) تعريض بأن يفوض الأمر إليه فإنه كاف في الهداية والنصر.

والباء في قوله : (بِرَبِّكَ) تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل. وأصله : كفى ربّك في هذه الحالة.

٤٣

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢))

عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نزّل منجّما وقالوا : لو كان من عند الله لنزل كتابا جملة واحدة. وضمير (وَقالَ) ظاهر في أنه عائد إلى المشركين ، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملة واحدة وإنما كانت وحيا مفرّقا ؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن ، وما كان الإنجيل إلا أقوالا ينطق بها عيسى عليه‌السلام في الملإ ، وكذلك الزبور نزل قطعا كثيرة ، فالمشركون نسوا ذلك أو جهلوا فقالوا : هلّا نزل القرآن على محمد جملة واحدة فنعلم أنه رسول الله. وقيل : إن قائل هذا اليهود أو النصارى ، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة. فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأمية وحالة الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه ، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارا تامة قط.

و (نُزِّلَ) هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم : (جُمْلَةً واحِدَةً).

وقد جاء قوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ردّا على طعنهم ، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) وعدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاما له بحكمة تنزيله مفرّقا ، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسير عليه.

وقوله : (كَذلِكَ) جواب عن قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) إشارة إلى الإنزال المفهوم من «لو نزّل عليه القرآن» وهو حالة إنزال القرآن منجّما ، أي أنزلناه كذلك الإنزال ، أي المنجّم ، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته ، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلا عن الفعل. فالتقدير : أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال المنجّم. فموقع جملة (كَذلِكَ) موقع الاستئناف في المحاورة. واللام في (لِنُثَبِّتَ) متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه (كَذلِكَ). والتثبيت : جعل الشيء ثابتا. والثبات : استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ)

٤٤

[إبراهيم : ٢٤]. ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء : ٦٦] ، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس. والفؤاد : هنا العقل. وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتا في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه.

وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجّما بكلمة جامعة وهي (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل ما به خير للنفس ، فمنه ما قاله الزمخشري : الحكمة في تفريقه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم يلقى إليه إذ ألقي إليه شيئا بعد شيء وجزءا عقب جزء ، وما قاله أيضا : «أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين» اه ، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه ، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبّت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشرح صدره.

وما قاله بعد ذلك : «إن تنزيله مفرّقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلّما نزل شيء منها ، أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كلّه جملة» اه.

ومنه ما قاله الجدّ الوزير رحمه‌الله : إن القرآن لو لم ينزل منجّما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت : إن نزوله منجّما أعون لحفّاظه على فهمه وتدبره.

وقوله : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) عطف على قوله (كَذلِكَ) ، أي أنزلناه منجّما ورتّلناه ، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة. واتفقت أقوال أئمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم : ثغر مرتّل ، ورتل ، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نور الأقحوان. ولم يوردوا شاهدا عليه من كلام العرب.

والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن ، أي نزّلناه مفرّقا منسّقا في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرّق في الزمان فإذا كمل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أنزلت جملة واحدة ، ومفرّق في التأليف بأنه مفصّل واضح. وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فرّق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل.

ويجوز أن يراد ب (رَتَّلْناهُ) أمرنا بترتيله ، أي بقراءته مرتّلا ، أي بتمهّل بأن لا يعجّل في قراءته بأن تبيّن جميع الحروف والحركات بمهل ، وهو المذكور في سورة المزّمّل [٤]

٤٥

في قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً).

و (تَرْتِيلاً) مصدر منصوب على المفعول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبيّنا لنوع الترتيل.

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣))

لما استقصى أكثر معاذيرهم وتعلّلاتهم وألقمهم أحجار الردّ إلى لهواتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعمّ ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لترّهاتهم.

والمثل : المشابه. وفعل الإتيان مجاز في أقوالهم والمحاجّة به ، وتنكير (مثل) في سياق النفي للتعميم ، أي بكل مثل. والمقصود : مثل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله [تعالى] : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان : ٤] ، و (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] بقرينة سوق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم ، و (قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢]. ودل على إرادة هذا المعنى من قوله : (بِمَثَلٍ) قوله آنفا (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) [الفرقان : ٩] عقب قوله : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨]. وتعدية فعل (يَأْتُونَكَ) إلى ضمير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لإفادة أن إتيانهم بالأمثال يقصدون به أن يفحموه.

والإتيان مستعمل مجازا في الإظهار. والمعنى : لا يأتونك بشبه يشبّهون به حالا من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يشبه حال رسول من الله إلا أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن الله لا تلازم ما زعموه سواء كان ما أتوا به تشبيها صريحا بأحوال غير الرسل كقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) [الفرقان : ٥] وقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ، وقولهم : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨] ، أم كان نفي مشابهة حاله بأحوال الرسل في زعمهم فإن نفي مشابهة الشيء يقتضي إثبات ضده كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] وكذلك قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] إذا كانوا قالوه على معنى أنه

٤٦

مخالف لحال نزول التوراة والإنجيل. فهذا نفي تمثيل حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال الرّسل الأسبقين في زعمهم. ويدخل في هذا النوع ما يزعمون أنه تقتضيه النبوءة من المكانة عند الله أن يسأله ، فيجاب إليه كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٧ ، ٨].

وصيغة المضارع في قوله : (لا يَأْتُونَكَ) تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٢].

والاستثناء في قوله : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.

وجملة (جِئْناكَ) حالية كما تقدم في قوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠].

وقوله (جِئْناكَ بِالْحَقِ) مقابل قوله : (لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) وهو مجيء مجازي. ومقابلة (جِئْناكَ بِالْحَقِ) لقوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) إشارة إلى أن ما يأتون به باطل. مثال ذلك أن قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ، أبطله قوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠].

والتعبير في جانب ما يؤيده الله من الحجة ب (جِئْناكَ) دون : أتيناك ، كما عبر عمّا يجيئون به ب (يَأْتُونَكَ) إما لمجرد التفنن ، وإما لأن فعل الإتيان إذا استعمل مجازا كثر فيما يسوء وما يكره ، كالوعيد والهجاء ، قال شقيق بن شريك الأسدي :

أتاني من أبي أنس وعيد

فسلّ لغيظة الضّحّاك جسمي

وقول النابغة :

أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنك لمتني

وقوله :

فليأتينك قصائد وليدفعن

جيشا إليك قوادم الأكوار

يريد قصائد الهجاء. وقول الملائكة للوط (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) [الحجر : ٦٤] أي عذاب قومه ، ولذلك قالوا له في المجيء الحقيقي (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ). وتقدم في

٤٧

سورة الحجر [٦٣] ، وقال الله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٢٤] (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] ، بخلاف فعل المجيء إذا استعمل في مجازة فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد والنصر والشيء العظيم ، قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء : ١٧٤] (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [النصر : ١] ، وفي حديث الإسراء : «... مرحبا به ونعم المجيء جاء» ، (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] ، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) [هود : ٤٠] ، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييدا نافعا لنوح.

والتفسير : البيان والكشف عن المعنى ، وقد تقدم ما يتعلق به مفصّلا في المقدمة الأولى من مقدمات هذا الكتاب ، والمراد هنا كشف الحجة والدليل.

ومعنى كونه (أَحْسَنَ) ، أنه أحق في الاستدلال ، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بهرجة سفسطتهم وشبههم فيجيء الكشف عن الحق أحسن وقعا في نفوس السامعين من مغالطاتهم ، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته ، فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولوعيد المشركين وذمهم.

والموصول واقع موقع الضمير كأنه قيل : هم يحشرون على وجوههم ، فيكون الضمير عائدا إلى الذين كفروا من قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] إظهارا في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبت لهم مضمون الصلة ، وليبنى على الصلة موقع اسم الإشارة ، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ، هم شرّ مكانا وأضل سبيلا ، ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم ، كما قال في سورة الإسراء [٩٧] (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) عقب قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإذ كان قصدهم مما يأتون به من

٤٨

الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلال السبيل دون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه.

وقد تقدم معنى (يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) في سورة الإسراء [٩٧] عند قوله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ). وتقدم ذكر الحديث في السّؤال عن كيف يمشون على وجوههم.

وشرّ : اسم تفضيل. وأصله أشرّ وصيغتا التفضيل في قوله (شَرٌّ) ، و (أَضَلُ) مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف: ٧٧] في جواب قول إخوة يوسف (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧].

وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم. وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين : هم شر الخلق ، فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب ، أي هم شر مكانا وأضل سبيلا لا المسلمون ، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين.

والمكان : المقر. والسبيل : الطريق ، مكانهم جهنم ، وطريقهم الطريق الموصل إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم.

والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالمكان الأشرّ والسبيل الأضل ، لأجل ما سبق من أحوالهم التي منها قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].

و (سَبِيلاً) تمييز محوّل عن الفاعل ، فأصله : وضل سبيلهم. وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجاز عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم.

[٣٥ ، ٣٦] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦))

لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول والتعريض بوعده بالانتصار له.

وابتدئ بذكر موسى وقومه لأنه أقرب زمنا من الذين ذكروا بعده ولأن بقايا شرعه

٤٩

وأمته لم تزل معروفة عند العرب ، فإن صح ما روي أن الذين قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] اليهود ، فوجه الابتداء بذكر ما أوتي موسى أظهر.

وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم. وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ وذلك من أول ما ابتدئ بوحيه إليه ، وليس المراد بالكتاب الألواح لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله (اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ) ، فقوله (فَقُلْنَا اذْهَبا) مفرع عن إيتاء الكتاب ، فالإيتاء متقدم عليه.

وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) (جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ، فإن الكتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وحيا نزل منجّما فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم.

والتعرض هنا إلى تأييد موسى بهارون تعريض بالرد على المشركين إذ قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيّد برسول مثله.

والوزير : المؤازر وهو المعاون المظاهر ، مشتق من الأزر وهو القوة. وأصل الأزر : شدّ الظهر بإزار عند الإقبال على عمل ذي تعب ، وقد تقدم في سورة طه. وكان هارون رسولا ثانيا وموسى هو الأصل. والقوم هم قبط مصر قوم فرعون.

و (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لمّا يقع منهم ، ولكنه وصف لإفادة قراء القرآن أن موسى وهارون بلّغا الرسالة وأظهر الله منهما الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضا بالمشركين في تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتمهيدا للتفريع ب (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية.

والموصول في قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير.

وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها : أولها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم.

والتدمير : الإهلاك ، والهلاك : دمور.

واتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق

٥٠

في اليمّ.

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧))

عطف على جملة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الفرقان : ٣٥] باعتبار أن المقصود وصف قومه بالتكذيب والإخبار عنهم بالتدمير.

وانتصب (قَوْمَ نُوحٍ) بفعل محذوف يفسره (أَغْرَقْناهُمْ) على طريقة الاشتغال ، ولا يضر الفصل بكلمة (لَمَّا) لأنها كالظرف ، وجوابها محذوف دل عليه مفسر الفعل المحذوف ، وفي هذا النظم اهتمام بقوم نوح لأن حالهم هو محل العبرة فقدم ذكرهم ثم أكّد بضميرهم.

ويجوز أن يكون (وَقَوْمَ نُوحٍ) عطفا على ضمير النصب في قوله (فَدَمَّرْناهُمْ) [الفرقان : ٣٦] أي ودمرنا قوم نوح ، وتكون جملة (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) مبيّنة لجملة (فَدَمَّرْناهُمْ).

والآية : الدليل ، أي جعلناهم دليلا على مصير الذين يكذبون رسلهم. وجعلهم آية : هو تواتر خبرهم بالغرق آية.

وجعل قوم نوح مكذّبين الرسل مع أنهم كذّبوا رسولا واحدا لأنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشرا لأنهم قالوا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٢٤] فكان تكذيبهم مستلزما تكذيب عموم الرسل ، ولأنهم أول من كذّب رسولهم ، فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم. وقصة قوم نوح تقدمت في سورة الأعراف وسورة هود.

وجملة (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) عطف على (أَغْرَقْناهُمْ). والمعنى : عذبناهم في الدنيا بالغرق وأعتدنا لهم عذابا أليما في الآخرة. ووقع الإظهار في مقام الإضمار فقيل (لِلظَّالِمِينَ) عوضا عن : أعتدنا لهم ، لإفادة أن عذابهم جزاء على ظلمهم بالشرك وتكذيب الرسول.

[٣٨ ، ٣٩] (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩))

٥١

انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه (تَبَّرْنا). وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها. ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله : (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) [الفرقان : ٣٦].

وتنوين (عاداً وَثَمُودَ) مع أن المراد الامتان. فأما تنوين (عاداً) فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغير زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف. وأما صرف (ثَمُودَ) في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب ، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع (عاداً) كما قال تعالى : (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) [الإنسان : ٤].

وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي. وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف.

وأما (أَصْحابَ الرَّسِ) فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرسّ بئر عظيمة أو حفير كبير. ولما كان اسما لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب.

قال زهير :

بكرن بكورا واستحرن بسحرة

فهنّ ووادي الرسّ كاليد للفم

وسمّوا بالرّسّ ما عرفوه من بلاد فارس ، وإضافة (أَصْحابَ) إلى (الرَّسِ) إما لأنهم أصابهم الخسف في رسّ ، وإما لأنهم نازلون على رسّ ، وإما لأنهم احتفروا رسّا ، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدّوه وأضرموه. والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى «فلجا» (١).

واختلف في المعنيّ من (أَصْحابَ الرَّسِ) في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود. وقال السهيلي : هم قوم كانوا في عدن أرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولا. وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير (سميت العنقاء لطول عنقها) وكانت تسكن في جبل يقال له «فتح» (٢) ، وكانت تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد

__________________

(١) فلج بفتحتين. وقال ياقوت : بفتح فسكون اسم بلد ، ويقال : بطن فلج من همى ضريّة.

(٢) وهو أول الدهناء بفاء أخت القاف ومثناة فوقية بعدها خاء معجمة ، وقيل حاء مهملة : جبل أو قرية لأهل الرسّ لم يذكره ياقوت ، وذكر فتاح وقال : جمع فتح وقال : أرض بالدهناء ذات رمال.

٥٢

فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق. وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله. قال وهب بن منبه : خسف بهم وبديارهم. وقيل : هم قوم شعيب. وقيل : قوم كانوا مع قوم شعيب ، وقال مقاتل والسدّي : الرسّ بئر بأنطاكية ، وأصحاب الرسّ أهل أنطاكية بعث إليهم حبيب النجّار فقتلوه ورسّوه في بئر وهو المذكور في سورة يس [٢٠] (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) الآيات. وقيل : الرس واد في «أذربيجان» في «أرّان» يخرج من «قاليقلا» ويصب في بحيرة «جرجان» ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية. ولعله من تشابه الأسماء يقال : كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف ، وقيل غير ذلك مما هو أبعد.

والقرون : الأمم فإن القرن يطلق على الأمة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) في أول الأنعام [٦]. وفي الحديث : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»الحديث.

والإشارة في قوله : (بَيْنَ ذلِكَ) إلى المذكور من الأمم. ومعنى (بَيْنَ ذلِكَ) أن أمما تخللت تلك الأقوام ابتداء من قوم نوح.

وفي هذه الآية إيذان بطول مدد هذه القرون وكثرتها.

والتنوين في (كُلًّا) تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير : وكلّهم ضربنا له الأمثال وانتصب (كُلًّا) الأول بإضمار فعل يدل عليه (ضَرَبْنا لَهُ) تقديره : خاطبنا أو حذّرنا كلّا وضربنا له الأمثال ، وانتصب (كُلًّا) الثاني بإضمار فعل يدل عليه (تَبَّرْنا) وكلاهما من قبيل الاشتغال.

والتتبير : التفتيت للأجسام الصلبة كالزجاج والحديد. أطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعية في (تَبَّرْنا) وأصلية في (تَتْبِيراً) ، وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) في سورة الأعراف [١٣٩] ، وقوله : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) في سورة الإسراء [٧]. وانتصب (تَتْبِيراً) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك.

ومعنى ضرب الأمثال : قولها وتبيينها وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

والمثل : النظير والمشابه ، أي بيّنا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا

٥٣

حال أنفسهم عليها. قال تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) [إبراهيم : ٤٥].

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))

لما كان سوق خبر قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرسّ وما بينهما من القرون مقصودا لاعتبار قريش بمصائرهم نقل نظم الكلام هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك وبما هو أظهر منه لأنظارهم ، وهو آثار العذاب الذي نزل بقرية قوم لوط.

واقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجيب من عدم اعتبارهم كما تقدم في قوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الفرقان : ٢١]. وكانت قريش يمرّون بديار قوم لوط في أسفارهم للتجارة إلى الشام فكانت ديارهم يمرّ بها طريقهم قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨]. وكان طريق تجارتهم من مكة على المدينة ويدخلون أرض فلسطين فيمرّون حذو بحيرة لوط التي على شافتها بقايا مدينة «سدوم» ومعظمها غمرها الماء. وتقدم ذكر ذلك عند قوله تعالى : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) في سورة الحجر [٧٩].

والإتيان : المجيء. وتعديته ب (عَلَى) لتضمينه معنى : مرّوا ، لأن المقصود من التذكير بمجيء القرية التذكير بمصير أهلها فكأنّ مجيئهم إياها مرور بأهلها ، فضمّن المجيء معنى المرور لأنه يشبه المرور ، فإن المرور يتعلق بالسكان والمجيء يتعلق بالمكان فيقال : جئنا خراسان ، ولا يقال : مررنا بخراسان. وقال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨].

ووصف القرية ب (الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) لأنها اشتهرت بمضمون الصلة بين العرب وأهل الكتاب. وهذه القرية هي المسماة «سدوم» بفتح السين وتخفيف الدال وكانت لقوم لوط قرى خمس أعظمها «سدوم». وتقدم ذكرها عند قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) في سورة الأعراف [٨٠].

و (مَطَرَ السَّوْءِ) هو عذاب نزل عليهم من السماء وهو حجارة من كبريت ورماد ، وتسميته مطرا على طريقة التشبيه لأن حقيقة المطر ماء السماء.

٥٤

والسّوء بفتح السين : الضرّ والعذاب ، وأما بضم السين فهو ما يسوء. والفتح هو الأصل في مصدر ساءه ، وأما السّوء بالضم فهو اسم مصدر ، فغلب استعمال المصدر في الذي يسوء بضر ، واستعمال اسم المصدر في ضد الإحسان.

وتفرع على تحقيق إتيانهم على القرية مع عدم انتفاعهم به استفهام صوري عن انتفاء رؤيتهم إياها حينما يأتون عليها ، لأنهم لمّا لم يتّعظوا بها كانوا بحال من يسأل عنهم : هل رأوها ، فكان الاستفهام لإيقاظ العقول للبحث عن حالهم. وهو استفهام إما مستعمل في الإنكار والتهديد ، وإما مستعمل في الإيقاظ لمعرفة سبب عدم اتعاظهم.

وقوله : (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) يجوز أن يكون (بَلْ) للإضراب الانتقالي انتقالا من وصف تكذيبهم بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم اتعاظهم بما حل بالمكذبين من الأمم إلى ذكر تكذيبهم بالبعث ، فيكون انتهاء الكلام عند قوله : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) وهو الذي يجري على الوجه الأول في الاستفهام. وعبر عن إنكارهم البعث بعدم رجائه لأن منكر البعث لا يرجو منه نفعا ولا يخشى منه ضرا ، فعبر عن إنكار البعث بأحد شقّي الإنكار تعريضا بأنهم ليسوا مثل المؤمنين يرجون رحمة الله.

والنشور : مصدر نشر الميت أحياه ، فنشر ، أي حيي. وهو من الألفاظ التي جرت في كلام العرب على معنى التخيّل لأنهم لا يعتقدونه ، ويروى للمهلهل في قتاله لبني بكر ابن وائل الذين قتلوا أخاه كليبا قوله :

يا لبكر انشروا لي كليبا

يا لبكر أين أين الفرار

فإذا صحّت نسبة البيت إليه كان مراده من ذلك تعجيزهم ليتوسل إلى قتالهم.

والمعنى : أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فلم يكن لهم استعداد للاعتبار ، لأن الاعتبار ينشأ عن المراقبة ومحاسبة النفس لطلب النجاة ، وهؤلاء المشركون لما نشئوا على إهمال الاستعداد لما بعد الموت قصرت أفهامهم على هذا العالم العاجل فلم يعنوا إلا بأسباب وسائل العاجلة ، فهم مع زكانتهم في تفرس الذوات والشيات ومراقبة سير النجوم وأنواء المطر والريح ورائحة أتربة منازل الأحياء ، هم مع ذلك كله معرضون بأنظارهم عن توسم الإلهيات وحياة الأنفس ونحو ذلك. وأصل ذلك الضلال كلّه انجرّ لهم من إنكار البعث فلذلك جعل هنا علة لانتفاء اعتبارهم بمصير أمة كذبت رسولها وعصت ربها. وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥] أي دون من لا

٥٥

يتوسمون.

[٤١ ، ٤٢] (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢))

كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهم الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالا في مغيبه ، فعطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه. وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زيّ الكبراء والمترفين لا يجرّ المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحا ولا ينظر خيلاء ويجالس الصالحين ويعرض عن المشركين ، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء ، وأولئك يستخفون بالخلق الحسن ، لما غلب على آرائهم من أفن ، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونهم ، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم. وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه.

و (إِذا) ظرف زمان مضمّن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلّقه جوابا له. فجملة (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) جواب (إِذا). والهزؤ بضمتين : مصدر هزأ به. وتقدم في قوله : [تعالى] (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) في سورة البقرة [٦٧]. والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهزؤ لأنهم محّضوه لذلك ، وإسناد (يَتَّخِذُونَكَ) إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزءون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم. وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدأبون عليه ولا يخلطون معه شيئا من تذكر أقواله ودعوته ، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية ، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء.

وجملة (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) بيان لجملة (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذبتهم الأحاديث بينهم.

والاستفهام إنكار لأن يكون بعثه الله رسولا.

واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية.

والمعنى : إنكار أن يكون المشار إليه رسولا لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع

٥٦

بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم ، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) في سورة الأنبياء [٣٦] ، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فانظره.

أما قولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تأثر أسماعهم بأقواله يوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام لو لا أنهم تريّثوا ، فكان في الريث أن أفاقوا من غشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثا من عند الله ، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يستفز غير الراسخين في الكفر. وهذا الكلام مشوب بفساد الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبهلون السامعين. ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعا على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالهم تستلزم اقترابهم من الضلال.

و (إِنْ) مخفّفة من (إنّ) المشددة ، والأكثر في الكلام إهمالها ، أي ترك عملها نصب الاسم ورفع الخبر ، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو من أخوات ظنّ وهذا من غرائب الاستعمال. ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في (أنّ) المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيدا. وفي كلام صاحب «الكشاف» ما يشهد له في تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في سورة آل عمران [١٦٤] ، والجملة بعدها مستأنفة ، واللّام في قوله (لَيُضِلُّنا) هي الفارقة بين (إن) المحققة وبين (إن) النافية.

والصبر : الاستمرار على ما يشق عمله على النفس. ويعدّى فعله بحرف (على) لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه.

و (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جوابا لشرطها ، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل (لَوْ لا) عليه ، وهو (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا). وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يؤتى بالشرط بعده تقييدا لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدّم دليل الجواب ، والجواب محذوفا لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب ، فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه ، ولذا

٥٧

قال في «الكشاف» : «(لَوْ لا) في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة» فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) إلى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي) [الممتحنة : ١] فإن قوله : (إِنْ كُنْتُمْ) قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداء الله. وتأخير الشرط ليظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب. قال في «الكشاف» : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق ب (لا تَتَّخِذُوا) يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه» اه. وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جوابا للشرط تقديما لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣].

(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

هذا جواب قولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) المتضمن أنهم على هدى في دينهم ، وكان الجواب بقطع مجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم ، فتضمن ذلك وعيدا بعذاب. والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر ، وممن رآه أبو جهل سيّد أهل الوادي ، وزعيم القالة في ذلك النادي.

ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجّة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلالا من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطئ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخّن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود : أنت أبو جهل؟ فقال : «وهل أعمد من رجل قتله قومه».

و (مَنْ) الاستفهامية أوجبت تعليق فعل (يَعْلَمُونَ) عن العمل.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣))

استئناف خوطب به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصا على هداهم والإلحاح في دعوتهم ، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم ، فالخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفعل (اتَّخَذَ) يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في

٥٨

العمل ، وهو إلى باب كسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظنّ ، فإن (اتَّخَذَ) معناه صيّر شيئا إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى. والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر ، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساويا للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مرادا للمتكلم.

فقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته ، أي ما يحب أن يكون إلها له ، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية ، فالمعنى : من اتخذ ربا له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة. فإطلاق (إِلهَهُ) على هذا الوجه إطلاق حقيقي. وهذا يناسب قوله قبله (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) [الفرقان : ٤٢] ، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير. واختاره ابن عرفة في «تفسيره» وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته.

وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى : من اتخذ هواه قدوة له في أعماله لا يأتي عملا إلا إذا كان وفاقا لشهوته فكأنّ هواه إلهه. وعلى هذا يكون معنى (إِلهَهُ) شبيها بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ.

وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم. ونحا إليه ابن عباس ، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب «الكشاف» وابن عطية. وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملا للآية.

واعلم أنه إن كان مجموع جملتي (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) كلاما واحدا متصلا ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله ، تعين فعل «رأيت» لأن يكون فعلا قلبيا بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله : (أَرَأَيْتَ) إنكاريا كالثاني في قوله : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) وكان مجموع الجملتين كلاما على طريقة الإجمال ثم التفصيل. والمعنى : أرأيتك تكون وكيلا على من اتخذ إلهه هواه ، وتكون الفاء في قوله (أَفَأَنْتَ) فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط ، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٤٩] على قراءة إعادة همزة الاستفهام ، وتكون جملة (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)

٥٩

عوضا عن المفعول الثاني لفعل (أَرَأَيْتَ) ، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام على نحو قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر : ١٩] وعليه لا يوقف على قوله (هَواهُ) بل يوصل الكلام. وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام «الكشاف».

وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلة عن الأخرى في نظم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملا في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيبا مشوبا بالإنكار ، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار ، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) إنكاريا بمعنى : إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٢].

و (مَنْ) صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) [الفرقان : ٤٢] وروعي في ضمائر الصلة لفظ (مَنْ) فأفردت الضمائر. والمعنى : من اتخذوا هواهم إلها لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم.

و «إله» جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله (فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) للتقوّي إشارة إلى إنكار ما حمّل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩]. والمعنى : تكون وكيلا عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه.

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج ، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٢] ، ف (أَمْ) منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها. والتقدير : أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون.

والمراد من نفي (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه إليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه. وهذا كقوله تعالى (وَلا

٦٠