تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

والتأكيد ب (إِنَ) واللام منظور فيه إلى حال الناس لا إلى حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالتأكيد واقع موقع التعريض بهم بقرينة قوله (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ).

و (لَكِنَ) استدراك ناشئ عن عموم الفضل منه تعالى فإن عمومه وتكرره يستحق بأن يعلمه الناس فيشكروه ولكن أكثر الناس لا يشكرون كهؤلاء الذين قالوا (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [النمل : ٧١] فإنهم يستعجلون العذاب تهكما وتعجيزا في زعمهم غير قادرين قدر نعمة الإمهال.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤))

موقع هذا موقع الاستئناف البياني لأن قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [النمل : ٧٣] يثير سؤالا في نفوس المؤمنين أن يقولوا : إن هؤلاء المكذبين قد أضمروا المكر وأعلنوا الاستهزاء فحالهم لا يقتضي إمهالهم؟ فيجاب بأن الذي أمهلهم مطلع على ما في صدورهم وما أعلنوه وأنه أمهلهم مع علمه بهم لحكمة يعلمها.

وفيه إشارة إلى أنهم يكنون أشياء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، منها : أنهم يتربصون بهم الدوائر ، وأنهم تخامر نفوسهم خواطر إخراجه وإخراج المؤمنين. وهذا الاستئناف لما كان ذا جهة من معنى وصف الله بإحاطة العلم عطفت جملته على جملة وصف الله بالفضل ، فحصل بالعطف غرض ثان منهم ، وحصل معنى الاستئناف البياني من مضمون الجملة.

وأما التوكيد ب (إِنَ) فهو على نحو توكيد الجملة التي قبله. ولك أن تجعله لتنزيل السائل منزلة المتردد وذلك تلويح بالعتاب.

و (تُكِنُ) تخفي وهو من (أكن) إذا جعل شيئا كانّا ، أي حاصلا في كن. والكنّ: المسكن. وإسناد (تُكِنُ) إلى الصدور مجاز عقلي باعتبار أن الصدور مكانه. والإعلان : الإظهار.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

عطف على جملة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) [النمل : ٧٤]. وهو في معنى التذييل للجملة المذكورة لأنها ذكر منها علم الله بضمائرهم فذيل ذلك بأن الله يعلم كل غائبة في السماء والأرض.

وإنما جاء معطوفا لأنه جدير بالاستقلال بذاته من حيث إنه تعليم لصفة علم الله

٣٠١

تعالى وتنبيه لهم من غفلتهم عن إحاطة علم الله لما تكن صدورهم وما يعلنون.

والغائبة : اسم للشيء الغائب والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالتاء في العافية ، والعاقبة ، والفاتحة. وهو اسم مشتق من الغيب وهو ضد الحضور ، والمراد : الغائبة عن علم الناس. استعمل الغيب في الخفاء مجازا مرسلا.

والكتاب يعبر به عن علم الله ، استعير له الكتاب لما فيه من التحقق وعدم قبول التغيير. ويجوز أن يكون مخلوقا غيبيا يسجل فيه ما سيحدث.

والمبين : المفصل ، لأن الشيء المفصل يكون بيّنا واضحا. والمعنى : أن الله لا يعزب عن علمه حقيقة شيء مما خفي على العالمين. وذلك يقتضي أن كل ما يتلقاه الرسل من جانب الله تعالى فهو حق لا يحتمل أن يكون الأمر بخلافه. ومن ذلك ما كان الحديث فيه من أمر البعث الذي أنكروه وكذبوا بما جاء فيه.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦))

إبطال لقول الذين كفروا (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النمل : ٦٨]. وله مناسبة بقوله (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ٧٥] ، فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئا مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق إذا بلغت الأفهام إلى إدراك المراد منه على حسب مراتب الدلالة التي أصولها في علم العربية وفي علم أصول الفقه.

ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطا من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية ، ولما في القرآن من الأصول الصريحة في الإلهيات مما يكشف سوء تأويل بني إسرائيل لكلمات كتابهم في متشابه التجسيم ونحوه ، فإنك لا تجد في التوراة ما يساوي قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. فالمعنى : نفي أن يكون أساطير الأولين بإثبات أنه تعليم للمؤمنين ، وتعليم لأهل الكتاب. وإنما قص عليهم أكثر ما اختلفوا وهو ما في بيان الحق منه نفع للمسلمين ، وأعرض عما دون ذلك. فموقع هذه الآية استكمال نواحي هدي القرآن للأمم فإن السورة افتتحت بأنه هدى وبشرى للمؤمنين ، وأن المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعمهون في ضلالهم فلم ينتفعوا بهديه. فاستكملت هذه الآية ما جاء به من هدي بني إسرائيل لما يهم

٣٠٢

مما اختلفوا فيه.

والتأكيد ب (إِنَ) مثل ما تقدم في نظائره. وأكثر الذي يختلفون فيه هو ما جاء في القرآن من إبطال قولهم فيما يقتضي إرشادهم إلى الحق أن يبين لهم ، وغير الأكثر ما لا مصلحة في بيانه لهم.

ومن مناسبة التنبيه على أن القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر ما هم فيه مختلفون ، أن ما قصه مما جرى بين ملكة سبأ مع سليمان كان فيه مما يخالف ما في كتاب الملوك الأول وكتاب الأيام الثاني ففي ذينك الكتابين أن ملكة سبأ تحملت وجاءت إلى أورشليم من تلقاء نفسها محبة منها في الاطلاع على ما بلغ مسامعها من عظمة ملك سليمان وحكمته ، وأنها بعد ضيافتها عند سليمان قفلت إلى مملكتها. وليس مما يصح في حكم العقل وشواهد التاريخ في تلك العصور أن ملكة عظيمة كملكة سبأ تعمد إلى الارتحال عن بلدها وتدخل بلد ملك آخر غير هائبة ، لو لا أنها كانت مضطرة إلى ذلك بسياسة ارتكاب أخف الضررين إذ كان سليمان قد ألزمها بالدخول في دائرة نفوذ ملكه ، فكان حضورها لديه استسلاما واعترافا له بالسيادة بعد أن تنصلت من ذلك بتوجيه الهدية وبعد أن رأت العزم من سليمان على وجوب امتثال أمره.

ومن العجيب إهمال كتّاب اليهود دعوة سليمان بلقيس إلى عقيدة التوحيد وهل يظن بنبي أن يقر الشرك على منتحليه.

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

هذا راجع إلى قوله في طالع السورة (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ٢] ذكر هنا لاستيعاب جهات هدي القرآن. أما كونه هدى للمؤمنين فظاهر ، وأما كونه رحمة لهم فلأنهم لما اهتدوا به قد نالوا الفوز في الدنيا بصلاح نفوسهم واستقامة أعمالهم واجتماع كلمتهم ، وفي الآخرة بالفوز بالجنة. والرسالة المحمدية وإن كانت رحمة للعالمين كلهم كما تقدم في قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) في سورة [الأنبياء : ١٠٧] فرحمته للمؤمنين أخص.

والتأكيد بإن منظور فيه إلى المعرض كما تقدم في قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [النمل : ٧٣].

٣٠٣

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨))

لما سبق ذكر المشركين بطعنهم في القرآن وتكذيبهم بوعيده ، وذكر بني إسرائيل بما يقتضي طعنهم فيه بأنه لمخالفة ما في كتبهم ، وذكر المؤمنين بأنهم اهتدوا به وكان لهم رحمة فهم موقنون بما فيه ، تمخض الكلام عن خلاصة هي افتراق الناس في القرآن فريقين : فريق طاعن ، وفريق موقن ، فلا جرم اقتضى ذلك حدوث تدافع بين الفريقين. وهو مما يثير في نفوس المؤمنين سؤالا عن مدى هذا التدافع ، والتخالف بين الفريقين ومتى ينكشف الحق ، فجاء قوله (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) استئنافا بيانيا فيعلم أن القضاء يقتضي مختلفين. وأن كلمة (بين) تقتضي متعددا ، فأفاد أن الله يقضي بين المؤمنين بالقرآن والطاعنين فيه قضاء يبين المحق من المبطل. وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين عن استبطائهم النصر فإن النبي أول المؤمنين ، وإنما تقلد المؤمنون ما أنبأهم به فالقضاء للمؤمنين قضاء له بادئ ذي بدء.

وفيه توجيه الخطاب إلى جناب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسناد القضاء إلى الله في شأنه بعنوان أنه رب له إيماء بأن القضاء سيكون مرضيا له وللمؤمنين. فجعل الرسول في هذا الكلام بمقام المبلغ وجعل القضاء بين أمته مؤمنهم وكافرهم ، وتعجيل لمسرة الرسول بهذا الإيماء.

وإذا قد أسند القضاء إلى الله وعلق به حكم مضاف إلى ضميره فقد تعين أن يكون المراد من المتعلق غير المتعلق به وذلك يلجئ : إما إلى تأويل معنى إضافة الحكم بما يخالف معنى إسناد القضاء إذا اعتبر اللفظان مترادفين لفظا ومعنى ، فيكون ما تدل عليه الإضافة من اختصاص المضاف بالمضاف إليه مقصودا به ما اشتهر به المضاف باعتبار المضاف إليه. وذلك أن الكل يعلمون أن حكم الله هو العدل ولأن المضاف إليه هو الحكم العدل. فالمعنى على هذا : أن ربك. يقضي بينهم بحكمه المعروف المشتهر اللائق بعموم علمه واطراد عدله.

وإما أن يؤول الحكم بمعنى الحكمة وهو إطلاق شائع قال تعالى (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩] وقال (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ولم يكن يحيى حاكما وإنما كان حكيما نبيئا فيكون المعنى على هذا : إن ربك يقضي بينهم بحكمته ، أي بما تقتضيه الحكمة ، أي من نصر المحق على المبطل.

ومآل التأويلين إلى معنى واحد وبه يظهر حسن موقع الاسمين الجليلين في تذييله

٣٠٤

بقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، فإن العزيز لا يصانع ، والعليم لا يفوته الحق ، ويظهر حسن موقع التفريغ بقوله : [٧٩]

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩))

فرعت الفاء على الإخبار بأن رب الرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين المختلفين في شأن القرآن أمرا للرسول بأن يطمئن بالا ويتوكل على ربه فيما يقضي به فإنه يقضي له بحقه ، وعلى معانده بما يستحقه ، فالأمر بالتوكل مستعمل في كنايته وصريحه فإن من لازمه أنه أدى رسالة ربه ، وأن إعراض المعرضين عن أمر الله ليس تقصيرا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو معنى تكرر في القرآن كقوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف : ٦] وقوله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النمل : ٧٠].

والتوكل : تفعل من وكل إليه الأمر ، إذا أسند إليه تدبيره ومباشرته ، فالتفعل للمبالغة. وقد تقدم عند قوله تعالى (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في آل عمران [١٥٩] ، وقوله (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) في المائدة [٢٣] وقوله (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في سورة إبراهيم [١١].

وقد وقعت جملة (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) موقعا لم يخاطب الله تعالى أحدا من رسله بمثله فكان ذلك شهادة لرسوله بالعظمة الكاملة المنزهة عن كل نقص ، لما دل عليه حرف (عَلَى) من التمكن ، وما دل عليه اسم (الْحَقِ) من معنى جامع لحقائق الأشياء. وما دل عليه وصف مبين من الوضوح والنهوض.

وجاءت جملة (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) مجيء التعليل للأمر بالتوكل على الله إشعارا بأنه على الحق فلا يترقب من توكله على الحكم العدل إلا أن يكون حكمه في تأييده ونفعه. وشأن (إن) إذا جاءت في مقام التعليل أن تكون بمعنى الفاء فلا تفيد تأكيدا ولكنها للاهتمام.

وجيء في فعل التوكل بعنوان اسم الجلالة لأن ذلك الاسم يتضمن معاني الكمال كلها ، ومن أعلاها العدل في القضاء ونصر المحق. وذلك بعد أن عجلت مسرة الإيماء إلى أن القضاء في جانب الرسول عليه الصلاة والسلام بإسناده القضاء إلى عنوان الرب مضافا إلى ضمير الرسول كما تقدم آنفا.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي اقتضاه وجود مقتضي جلب حرف التوكيد لإفادة التعليل فلا يفيد التقديم تخصيصا ولا تقويا.

٣٠٥

و (الْمُبِينِ) : الواضح الذي لا ينبغي الامتراء فيه ولا المصانعة للمحكوم له.

وفي الآية إشارة إلى أن الذي يعلم أن الحق في جانبه حقيق بأن يثق بأن الله مظهر حقه ولو بعد حين.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠))

استئناف بياني جوابا عما يخطر في بال السامع عقب قوله (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩] من التساؤل عن إعراض أهل الشرك لما عليه الرسول من الحق المبين. وهو أيضا تعليل آخر للأمر بالتوكل على الله بالنظر إلى مدلوله الكنائي ، فموقع حرف التوكيد فيه كموقعه في التعليل بالجملة التي قبله. وهذا عذر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ، ولكونه تعليلا لجانب من التركيب وهو الجانب الكنائي غير الذي علل بجملة (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩] لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها تنبيها على استقلالها بالتعليل.

والإسماع : إبلاغ الكلام إلى المسامع.

و (الْمَوْتى) و (الصُّمَ) : مستعاران للقوم الذين لا يقبلون القول الحق ويكابرون من يقوله لهم. شبهوا بالموتى على طريقة الاستعارة في انتفاء فهمهم معاني القرآن ، وشبهوا بالصم كذلك في انتفاء أثر بلاغة ألفاظه عن نفوسهم. وللقرآن أثران :

أحدهما : ما يشتمل عليه من المعاني المقبولة لدى أهل العقول السليمة وهي المعاني التي يدركها ويسلم لها من تبلغ إليه ولو بطريق الترجمة بحيث يستوي في إدراكها العربي والعجمي وهذا أثر عقلي.

والأثر الثاني : دلالة نظمه وبلاغته على أنه خارج عن مقدرة بلغاء العرب. وهذا أثر لفظي وهو دليل الإعجاز وهو خاص بالعرب مباشرة ، وحاصل لغيرهم من أهل النظر والتأمل إذا تدبروا في عجز البلغاء من أهل اللسان الذي جاء به القرآن ، فهؤلاء يوقنون بأن عجز بلغاء أهل ذلك اللسان عن معارضته دال على أنه فوق مقدرتهم ؛ فالمشركون شبهوا بالموتى بالنظر إلى الأثر الأول ، وشبهوا بالصم بالنظر إلى الأثر الثاني ، فحصلت استعارتان. ونفي الإسماع فيهما ترشيحان للاستعارتين وهما مستعاران لانتفاء معالجة إبلاغهم.

٣٠٦

ولأجل اعتبار كلا الأثرين المبنيّ عليه ورود تشبيهين كرر ذكر الترشيحين فعطف (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) على (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ، ولم يكتف بأن يقال : إنك لا تسمع الموتى ولا الصم.

وتقييد الصم بزمان توليهم مدبرين لأن تلك الحالة أوغل في انتفاء إسماعهم لأن الأصم إذا كان مواجها للمتكلم قد يسمع بعض الكلام بالصراخ ويستفيد بقيته بحركة الشفتين ، فأما إذا ولى مدبرا فقد ابتعد عن الصوت ولم يلاحظ حركة الشفتين فذلك أبعد له عن السمع.

واستدلت عائشة رضي‌الله‌عنها بهذه الآية على رد ظاهر حديث ابن عمر : «أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين فناداهم بأسمائهم وقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، قال ابن عمر : فقيل له : يا رسول الله أتنادي أمواتنا فقال : إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم». فقالت عائشة : إنما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) حتى قرأت الآية.

وهذا من الاستدلال بظاهر الدلالة من القرآن ولو باحتمال مرجوح كما بيناه في المقدمة التاسعة. وإلا فإن الموتى هنا استعارة وليس بحقيقة.

وضميرا (وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) عائدان إلى الصم ، وهو تتميم للتشبيه حيث شبهوا في عدم بلوغ الأقوال إلى عقولهم بصم ولوا مدبرين ، فإن المدبر يبعد عن مكان من يكلمه فكان أبعد عن الاستماع كما تقدم آنفا.

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ).

كرر تشبيه المشركين في إعراضهم عن الحق بأن شبهوا في ذلك بالعمي بعد أن شبهوا بالموتى وبالصم على طريقة الاستعارة إطنابا في تشنيع حالهم الموصوفة على ما هو المعروف عند البلغاء في تكرير التشبيه كما تقدم عند قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) في سورة البقرة [١٩].

وحسن هذا التكرير هنا ما بين التشبيهين من الفروق مع اتحاد الغاية ؛ فإنهم شبهوا

٣٠٧

بالموتى في انتفاء إدراك المعاني الذي يتمتع به العقلاء ، وبالصم في انتفاء إدراك بلاغة الكلام الذي يضطلع به بلغاء العرب. وشبهوا ثالثا بالعمي في انتفاء التمييز بين طريق الهدى وطريق الضلال من حيث إنهم لم يتبعوا هدي دين الإسلام. والغاية واحدة وهي انتفاء اتباعهم الإسلام ففي تشبيههم بالعمي استعارة مصرحة ، ونفي إنقاذهم عن ضلالتهم ترشيح للاستعارة لأن الأعمى لا يبلغ إلى معرفة الطريق بوصف الواصف.

والهدى : الدلالة على طريق السائر بأن يصفه له فيقول مثلا : إذا بلغت الوادي فخذ الطريق الأيمن.

والذي يسلك بالقوافل مسالك الطرق يسمى هاديا.

والتوصل إلى معرفة الطريق يسمى اهتداء. وهذا الترشيح هو أيضا مستعار لبيان الحق والصواب للناس ، والأعمى غير قابل للهداية بالحالتين حالة الوصف وهي ظاهرة ، وحالة الاقتياد فإن العرب لم يكونوا يأخذون العمي معهم في أسفارهم لأنهم يعرقلون على القافلة سيرها.

وقوله (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) يتضمن استعارة مكنية قرينتها حالية. شبه الدين الحق بالطريق الواضحة ، وإسناد الضلالة إلى سالكيه ترشيح لها وتخييل ، والضلالة أيضا مستعارة لعدم إدراك الحق تبعا للاستعارة المكنية ، وأطلقت هنا على عدم الاهتداء للطريق ، وضمير (ضَلالَتِهِمْ) عائد إلى العمي ، ولتأتي هذه الاستعارة الرشيقة عدل عن تعليق ما حقه أن يعلق بالهدي فعلق به ما يقتضيه نفي الهدي من معنى الصرف والمباعدة. فقيل (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) بتضمين هادي معنى صارف. فصار : ما أنت بهاد ، بمعنى : ما أنت بصارفهم عن ضلالتهم كما يقال : سقاه عن العيمة ، أي سقاه صارفا له عن العيمة ، وهي شهوة اللبن.

وعدل في هذه الجملة عن صيغتي النفيين السابقين في قوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) [النمل : ٨٠] الواقعين على مسندين فعليين ، إلى تسليط النفي هنا على جملة اسمية للدلالة على ثبات النفي. وأكد ذلك الثبات بالباء المزيدة لتأكيد النفي.

ووجه إيثار هذه الجملة بهذين التحقيقين هو أنه لما أفضى الكلام إلى نفي اهتدائهم وكان اهتداؤهم غاية مطمح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المقام مشعرا ببقية من طمعه في اهتدائهم حرصا عليهم فأكد له ما يقلع طمعه ، وهذا كقوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)

٣٠٨

[القصص : ٥٦] وقوله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥]. وسيجيء في تفسير نظير هذه الآية من سورة الروم توجيه لتعداد التشابيه الثلاثة زائدا على ما هنا فانظره.

وقرأ حمزة وحده وما أنت تهدي بمثناة فوقية في موضع الموحدة وبدون ألف بعد الهاء.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

استئناف بياني لترقب السامع معرفة من يهتدون بالقرآن.

والإسماع مستعمل في معناه المجازي كما تقدم.

وأوثر التعبير بالمضارع في قوله (مَنْ يُؤْمِنُ) ليشمل من آمنوا من قبل فيفيد المضارع استمرار إيمانهم ومن سيؤمنون.

وقد ظهر من التقسيم الحاصل من قوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠] إلى هنا ، أن الناس قسمان منهم من طبع الله على قلبه وعلم أنه لا يؤمن حتى يعاجله الهلاك ، ومنهم من كتب الله له السعادة فيؤمن سريعا أو بطيئا قبل الوفاة.

وفرع عليه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) المفيد للدوام والثبات لأنهم إذا آمنوا فقد صار الإسلام راسخا فيهم ومتمكنا منهم ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢))

هذا انتقال إلى التذكير بالقيامة وما ادخر لهم من الوعيد. فهذه الجملة معطوفة على الجمل قبلها عطف قصة على قصة. ومناسبة ذكرها ما تقدم من قوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إلى قوله (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) [النمل : ٨٠ ، ٨١]. والضمير عائد إلى الموتى والصم والعمي وهم المشركون.

و (الْقَوْلُ) أريد به أخبار الوعيد التي كذبوها متهكمين باستبطاء وقوعها بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [النمل : ٧١] ، فالتعريف فيه للعهد يفسره المقام.

والوقوع مستعار لحلول وقته وذلك من وقت تهيؤ العالم للفناء إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

٣٠٩

والآية تشير إلى شيء من أشراط حلول الوعيد الذي أنذروا به وهو الوعيد الأكبر يعني وعيد البعث ، فتشير إلى شيء من أشراط الساعة وهو من خوارق العادات. والتعبير عن وقوعه بصيغة الماضي لتقريب زمن الحال من المضي ، أي أشرف وقوعه ، على أن فعل المضي مع (إذا) ينقلب إلى الاستقبال.

والدابة : اسم للحي من غير الإنسان ، مشتق من الدبيب ، وهو المشي على الأرض وهو من خصائص الأحياء. وتقدم الكلام على لفظ (دَابَّةٍ) في سورة الأنعام [٣٨]. وقد رويت في وصف هذه الدابة ووقت خروجها ومكانه أخبار مضطربة ضعيفة الأسانيد فانظرها في «تفسير القرطبي» وغيره إذ لا طائل في جلبها ونقدها.

وإخراج الدابة من الأرض ليريهم كيف يحيي الله الموتى إذ كانوا قد أنكروا البعث. ولا شك أن كلامها لهم خطاب لهم بحلول الحشر. وإنما خلق الله الكلام لهم على لسان دابة تحقيرا لهم وتنديما على إعراضهم عن قبول أبلغ كلام وأوقعه من أشرف إنسان وأفصحه ، ليكون لهم خزيا في آخر الدهر يعيرون به في المحشر. فيقال : هؤلاء الذين أعرضوا عن كلام رسول كريم فخوطبوا على لسان حيوان بهيم. على نحو ما قيل : استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما.

وجملة (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) تعليل لإظهار هذا الخارق للعادة حيث لم يوقن المشركون بآيات القرآن فجعل ذلك إلجاء لهم حين لا ينفعهم.

وقرأ الجمهور إن الناس بكسر همزة (إن) ، وموقع (إن) في مثل هذا التعليل. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (أَنَّ النَّاسَ) بفتح الهمزة وهي أيضا للتعليل لأن فتح همزة (أن) يؤذن بتقدير حرف جر وهو باء السببية ، أي تكلمهم بحاصل هذا وهو المصدر. والمعنى : أنها تسجل على الناس وهم المشركون عدم تصديقهم بآيات الله. وهو تسجيل توبيخ وتنديم لأنهم حينئذ قد وقع القول عليهم ف (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام : ١٥٨]. وحمل هذه الجملة على أن تكون حكاية لما تكلمهم به الدابة بعيد.

[٨٣ ـ ٨٤] (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤))

انتصب (يَوْمَ) على تقدير (اذكر) فهو مفعول به ، أو على أنه ظرف متعلق بقوله (قالَ أَكَذَّبْتُمْ) مقدم عليه للاهتمام به. وهذا حشر خاص بعد حشر جميع الخلق المذكور

٣١٠

في قوله تعالى بعد هذا (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [النمل : ٨٧] وهو في معنى قوله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] فيحشر من كل أمة مكذبو رسولها.

والفوج : الجماعة من الناس. و (مِنْ) الداخلة على (كُلِّ أُمَّةٍ) تبعيضية وأما (من) الداخلة على (مِمَّنْ يُكَذِّبُ) فيجوز جعلها بيانية فيكون فوج كل أمة هو جماعة المكذبين منها ، أي يحشر من الأمة كفارها ويبقى صالحوها. ويجوز جعل (من) هذه تبعيضية أيضا بأن يكون المعنى إخراج فوج من المكذبين من كل أمة. وهذا الفوج هو زعماء المكذبين وأئمتهم فيكونون في الرعيل الأول إلى العذاب.

وهذا قول ابن عباس إذ قال : مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يساق أمام كل طائفة زعماؤها. وتقدم تفسير (فَهُمْ يُوزَعُونَ) في قصة سليمان من هذه السورة [١٧].

والمعنى هنا : أنهم يزجرون إغلاظا عليهم كما يفعل بالأسرى.

والقول في (حَتَّى إِذا جاؤُ) كالقول في (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) [النمل : ١٨] ولم يذكر الموضع الذي جاءوه لظهوره وهو مكان العذاب ، أي جهنم كما قال في الآية (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) [فصلت : ٢٠].

و (حَتَّى) في (حَتَّى إِذا جاؤُ) ابتدائية. و (إِذا) الواقعة بعد (حَتَّى) ظرفية والمعنى : حتى حين جاءوا.

وفعل (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) هو صدر الجملة في التقدير وما قبله مقدم من تأخير للاهتمام. والتقدير : وقال أكذبتم بآياتي يوم نحشر من كل أمة فوجا وحين جاءوا. وفي (قالَ) التفات من التكلم إلى الغيبة.

وقوله (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) قول صادر من جانب الله تعالى يسمعونه أو يبلغهم إياه الملائكة.

والاستفهام يجوز أن يكون توبيخيا مستعملا في لازمه وهو الإلجاء إلى الاعتراف بأن المستفهم عنه واقع منهم تبكيتا لهم ، ولهذا عطف عليه قوله (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). فحرف أم فيه بمعنى (بل) للانتقال ومعادل همزة الاستفهام المقدرة محذوف دل عليه قوله (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). والتقدير : أكذبتم بآياتي أم لم تكذبوا فما ذا كنتم تعملون إن لم

٣١١

تكذبوا فإنكم لم توقنوا فما ذا كنتم تعملون في مدة تكرير دعوتكم إلى الإسلام. ومن هنا حصل الإلجاء إلى الاعتراف بأنهم كذبوا.

ومن لطائف البلاغة أنه جاء بالمعادل الأول مصرحا به لأنه المحقق منهم فقال (أَكَذَّبْتُمْ)

(بِآياتِي) وحذف معادله الآخر تنبيها على انتفائه كأنه قيل : أهو ما عهد منكم من التكذيب أم حدث حادث آخر ، فجعل هذا المعادل مترددا فيه ، وانتقل الكلام إلى استفهام. وهذا تبكيت لهم. قال في الكشاف» : «ومثاله أن تقول لراعيك وقد علمت أنه راعي سوء : أتأكل نعمي أم ما ذا تعمل بها ، فتجعل ما ابتدأت به وجعلته أساس كلامك هو الذي صح عندك من أكله وفساده وترمي بقولك : أم ما ذا تعمل بها ، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل لتبهته. ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا وتكون أم متصلة وما بعدها هو معادل الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل : أكذبتم أم لم تكذبوا فما ذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم تتبعوا آياتي».

وجملة (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) في موضع الحال ، أي كذبتم دون أن تحيطوا علما بدلالة الآيات. وانتصب (عِلْماً) على أنه تمييز نسبة (تُحِيطُوا) ، أي لم يحط علمكم بها ، فعدل عن إسناد الإحاطة إلى العلم إلى إسنادها إلى ذوات المخاطبين ليقع تأكيد الكلام بالإجمال في الإسناد ثم التفصيل بالتمييز.

وإحاطة العلم بالآيات مستعملة في تمكن العلم حتى كأنه ظرف محيط بها وهذا تعيير لهم وتوبيخ بأنهم كذبوا بالآيات قبل التدبر فيها.

و (أَمَّا ذا) استفهام واسم إشارة وهو بمعنى اسم الموصول إذا وقع بعد (ما). والمشار إليه هو مضمون الجملة بعده في قوله (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ولكون المشار إليه في مثل هذا هو الجملة صار اسم الإشارة بعد الاستفهام في قوة موصول فكأنه قيل : ما الذي كنتم تعملون؟ فذلك معنى قول النحويين : إن (ذا) بعد (ما) و (من) الاستفهاميتين يكون بمعنى (ما) الموصولة فهو بيان معنى لا بيان وضع.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥))

يجوز أن يكون الواو للحال ، والمعنى : يقال لهم أكذبتم بآياتي وقد وقع القول عليهم. وهذا القول هو القول السابق في آية (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) [النمل : ٨٢] فإن ذلك القول مشتمل على حوادث كثيرة فكلما تحقق شيء منها فقد وقع القول.

٣١٢

والتعبير بالماضي في قوله (وَقَعَ) هنا على حقيقته ، وأعيد ذكره تعظيما لهوله ويجوز أن تكون الواو عاطفة والقول هو القول الأول وعطفت الجملة على الجملة المماثلة لها ليبنى عليها سبب وقوع القول وهو أنه بسبب ظلمهم وليفرع عليه قوله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ).

والتعبير بفعل المضي على هذا الوجه لأنه محقق الحصول في المستقبل فجعل كأنه حصل ومضى.

و (بِما ظَلَمُوا) بمعنى المصدر ، والباء للسببية ، أي بسبب ظلمهم ، والظلم هنا الشرك وما يتبعه من الاعتداء على حقوق الله وحقوق المؤمنين فكان ظلمهم سبب حلول الوعيد بهم ، وفي الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة» فكل من ظلم سيقع عليه القول الموعود به الظالمون لأن الظلم ينتسب إلى الشرك وينتسب هذا إليه كما تقدم عند قوله تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) في هذه السورة [٥٢].

وجملة (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) مفرعة على (وَقَعَ الْقَوْلُ) أي وقع عليهم وقوعا يمنعهم الكلام ، أي كلام الاعتذار أو الإنكار ، أي فوجموا لوقوع ما وعدوا به قال تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦].

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

هذا الكلام متصل بقوله (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٨٥] أي بما أشركوا ، فذكرهم بدلائل الوحدانية بذكر أظهر الآيات وأكثرها تكرارا على حواسهم وأجدرها بأن تكون مقنعة في ارعوائهم عن شركهم. وهي آية ملازمة لهم طول حياتهم تخطر ببالهم مرتين كل يوم على الأقل. وتلك هي آية اختلاف الليل والنهار الدالة على انفراده تعالى بالتصرف في هذا العالم ؛ فأصنامهم تخضع لمفعولها فتظلم ذواتهم في الليل وتنير في النهار ، وفيها تذكير بتمثيل الموت والحياة بعده بسكون الليل وانبثاق النهار عقبه.

والجملة معترضة بين جملة (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) [النمل : ٨٥] وجملة (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] ليتخلل الوعيد بالاستدلال فتكون الدعوة إلى الحق بالإرهاب تارة واستدعاء النظر تارة أخرى.

والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حالهم لأنها لغرابتها تستلزم سؤال من

٣١٣

يسأل عن عدم رؤيتهم فهذه علاقة أو مسوغ استعمال الاستفهام في التعجيب ، وهي علاقة خفية أشار سعد الدين في «المطول» إلى عدم ظهورها وتصدى السيد الشريف إلى بيانها غاية البيان وأرجعها إلى المجاز المرسل فتأمله.

والرؤية يجوز أن تكون قلبية وجملة (أَنَّا جَعَلْنَا) سادة مسد المفعولين ، أي كيف لم يعلموا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا مع أن ذلك واضح الدلالة على هذا الجعل. واختير من أفعال العلم فعل الرؤية لشبه هذا العلم بالمعلومات المبصرة.

ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمصدر المنسبك من الجملة مفعول الرؤية والمعنى : كيف لم يبصروا جعل الليل للسكون والنهار للإبصار مع أن ذلك بمرأى من أبصارهم. والجعل مراد منه أثره وهو اضطرار الناس إلى السكون في الليل وإلى الانتشار في النهار. فجعلت رؤية أثر الجعل بمنزلة رؤية ذلك الجعل وهذا واسع في العربية أن يجعل الأثر محل المؤثر ، والدال محل المدلول. قال النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل.

والمبصر : اسم فاعل أبصر بمعنى رأى. ووصف النهار بأنه مبصر من قبيل المجاز العقلي لأن نور النهار سبب الإبصار. ويجوز أن تكون الهمزة للتعدية من أبصره ، إذا جعله باصرا.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) تعليل للتعجيب من حالهم إذ لم يستدلوا باختلاف الليل والنهار على الوحدانية ولا على البعث.

ووجه كون الآيات في ذلك كثيرة كما اقتضاه الجمع هو أن في نظام الليل آيات على الانفراد بخلق الشمس وخلق نورها الخارق للظلمات ، وخلق الأرض ، وخلق نظام دورانها اليومي تجاه أشعة الشمس وهي الدورة التي تكوّن الليل والنهار ، وفي خلق طبع الإنسان بأن يتلقّى الظلمة بطلب السكون لما يعتري الأعصاب من الفتور دون بعض الدواب التي تنشط في الليل كالهوام والخفافيش وفي ذلك أيضا دلالة على تعاقب الموت والحياة ، فتلك آيات وفي كل آية منها دقائق ونظم عظيمة لو بسط القول فيها لأوعب مجلدات من العلوم.

وفي جعل النهار مبصرا آيات كثيرة على الوحدانية ودقة صنع تقابل ما تقدم في آيات

٣١٤

جعل الليل سكنا. وفيه دلالة على أن لا إحالة ولا استبعاد في البعث بعد الموت ، وأنه نظير بعث اليقظة بعد النوم ، وفي جليل تلك الآيات ودقيقها عدة آيات فهذا وجه جعل ذلك آيات ولم يجعل آيتين.

ومعنى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لناس شأنهم الإيمان والاعتراف بالحجة ولذلك جعل الإيمان صفة جارية على قوم لما قلناه غير مرة من أن إناطة الحكم بلفظ (قوم) يومئ إلى أن ذلك الحكم متمكن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم ومنه قوله تعالى (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦] ، أي الفرق من مقومات قوميتهم فكيف يكونون منكم وأنتم لا تفرقون ، أي في ذلك آيات لمن من شعارهم التدبر والاتصاف ، أي فهؤلاء ليسوا بتلك المثابة.

ولكون الإيمان مقصودا به أنه مرجو منهم جيء فيه بصيغة المضارع إذ ليس المقصود أن في ذلك آيات للذين آمنوا لأن ذلك حاصل بالفحوى والأولوية ، فصار المعنى : أن في ذلك لآيات للمؤمنين ولمن يرجى منهم الإيمان عند النظر في الأدلة. وقريب من هذا المعنى قوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير : ٢٧ ، ٨]. ولهذا خولف بين ما هنا وبين ما في سورة يونس [٦٧] إذ قال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لأن آية يونس مسوقة مساق الاستدلال والامتنان فخاطب بها جميع الناس من مؤمن وكافر فجاءت بصيغة الخطاب ، وجعلت دلالتها لكل من يسمع أدلة القرآن فمنهم مهتد وضال ولذلك جيء فيها بفعل (يَسْمَعُونَ) [يونس : ٦٧] المؤذن بالامتثال والإقبال على طلب الهدى.

وأما هذه الآية فمسوقة مساق التعجيب والتوبيخ فجعل ما فيها آيات لمن الإيمان من شأنهم ليفيد بمفهومه أنه لا تحصل منه دلالة لمن ليس من شأنهم الانصاف والاعتراف ولذلك أوثر فيه فعل (يُؤْمِنُونَ).

وجاء ما في الليل من الخصوصية بصيغة التعليل باللام بقوله (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) ، وما في النهار بصيغة مفعول الجعل بقوله (مُبْصِراً) تفننا ، ولما يفيده (مُبْصِراً) من المبالغة.

والمعنى على التعليل والمفعول واحد في المآل. وبهذا قال في «الكشاف» «التقابل مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف» أي ففي الآية احتباك إذ المعن : جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه.

واعلم أن ما قرر هنا يأتي في آية سورة يونس عدا ما هو من وجوه الفروق البلاغية

٣١٥

فارجع إليها هنالك.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧))

عطف على (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) [النمل : ٨٣] ، عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا ب «يوم يحشرون إلى النار» ذكروا أيضا بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور ، تسجيلا عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذارا بما يعقبه مما دل عليه قوله آتوه (داخِرِينَ) وقوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

والنفخ في الصور تقدم في قوله (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في سورة الأنعام [٧٣] وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] ، وذلك هو يوم الحساب. وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعنى بها الإحياء ، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون ، ولهذا فرع عليه قوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، أي عقبه حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب ، فكل أحد يخشى أن يكون معذبا ، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعا من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات.

والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٩] وقوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) إلى قوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠١ ـ ١٠٣] وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة. قال تعالى (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٣] وقال (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤].

وجيء بصيغة الماضي في قوله (فَفَزِعَ) مع أن النفخ مستقبل ، للإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق ، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله (يُنْفَخُ).

والداخرون : الصاغرون. أي الأذلاء ، يقال : دخر بوزن منع وفرح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور.

٣١٦

وضمير الغيبة الظاهر في (آتَوْهُ) عائد إلى اسم الجلالة ، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) على تقدير : آتون فيه والمضاف إليه (كل) المعوض عنه التنوين ، تقديره : من فزع ممن في السموات والأرض آتوه داخرين. وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.

وقرأ الجمهور (آتَوْهُ) بصيغة اسم الفاعل من أتى. وقرأ حمزة وحفص (أَتَوْهُ) بصيغة فعل الماضي فهو كقوله (فَفَزِعَ).

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨))

الذي قاله جمهور المفسرين : إن الآية حكت حادثا يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) عطفا على (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة إلخ .. وجعلوا الرؤية بصرية ، ومرّ السحاب تشبيها لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة ، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، وجعلوا الخطاب في قوله (تَرَى) لغير معين ليعم كل من يرى ، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧]. فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأن الآيات التي ورد فيها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها ، فأجابوا بأنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) إلى أن قال (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٨] لأن الداعي هو إسرافيل (وفيه أن للاتباع أحوالا كثيرة ، وللداعي معاني أيضا).

وقال بعض المفسرين : هذا مما يكون عند النفخة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها. وكأنهم لم يجعلوا عطف (وَتَرَى الْجِبالَ) على (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] حتى يتسلط عليه عمل لفظ (يوم) بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة ، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه ، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانيا.

٣١٧

وجعل كلا الفريقين قوله (صُنْعَ اللهِ) إلخ مرادا به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته ، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد ، فإن الإتقان إجادة ، والهدم لا يحتاج إلى إتقان.

وقال الماوردي : قيل هذا مثل ضربه الله ، أي وليس بخبر. وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال :

أحدهما : أنه مثل للدنيا يظن الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ، قاله سهل بن عبد الله التستري.

الثاني : أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتا في القلب ، وعمله صاعد إلى السماء.

الثالث : إنه مثل للنفس عند خروج الروح ، والروح تسير إلى العرش.

وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة.

ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان (الْجِبالَ) مشبها بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ (الْجِبالَ) مستعارا لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنيا.

وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة ، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب ، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق ، ومعنى بالتأمل خليق ، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٧ ـ ٨٩] بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجا وجمعا بين استدعاء للنظر ، وبين الزواجر والنذر ، كما صنع في جملة (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل : ٨٦] الآية.

أو هي معطوفة على جملة (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل : ٨٦] الآية ، وجملة (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت ، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة. وهذا من العلم

٣١٨

الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم ، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة.

فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار ، ويحسبون الأرض ساكنة. واهتدى بعض علماء اليونان إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضي تقريبا وضياء النصف الآخر وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار ، ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية لأن الحركة مختلفة المدارات فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي (غاليلي) الإيطالي.

والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلا رمز إليه رمزا ، فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزا.

وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها ، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال. ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركا يحاكي دبيب النمل أشد وضوحا للراصد ، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والماء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء.

ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل : ٨٦] فجعل هنا بطريق الخطاب (وَتَرَى الْجِبالَ). والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعليما له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعمم كما عمم قوله (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل : ٨٦] في هذا الخطاب ، وادخارا لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه‌السلام على كيفية إحياء الموتى ، اختص الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقا في كتابه فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابة.

وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله (وَتَرَى الْجِبالَ) المقتضي أن الرائي يراها

٣١٩

في هيئة الساكنة ، وقوله (تَحْسَبُها جامِدَةً) إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة.

وقوله (وَهِيَ تَمُرُّ) الذي هو بمعنى السير (مَرَّ السَّحابِ) أي مرا واضحا لكنه لا يبين من أول وهلة. وقوله بعد ذلك كله (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام لأن خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن ولكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور.

و (مَرَّ السَّحابِ) مصدر مبين لنوع مرور الجبال ، أي مرورا تنتقل به من جهة إلى جهة مع أن الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقر وهو ينتقل من صوب إلى صوب ويمطر من مكان إلى آخر فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه. وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي.

وانتصب قوله (صُنْعَ اللهِ) على المصدرية مؤكدا لمضمون جملة (تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) بتقدير : صنع الله ذلك صنعا. وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون.

والجامدة : الساكنة ، قاله ابن عباس. وفي «الكشاف» : الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح ، يعني أنه جمود مجازي ، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة والصنع. قال الراغب : إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعا قال تعالى (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] يقال للحاذق المجيد : صنع ، وللحاذقة المجيدة : صنّاع. اه. وقصر في تفسير الصنع الجوهري وصاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» واستدركه في «تاج العروس».

قلت : وأما قولهم : بئس ما صنعت ، فهو على معنى التخطئة لمن ظن أنه فعل فعلا.

حسنا ولم يتفطن لقبحه. فالصنع إذا أطلق انصرف للعمل الجيد النافع وإذا أريد غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو تهكم أو مشاكلة.

واعلم أن الصنع يطلق على العمل المتقن في الخير أو الشر قال تعالى (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [طه : ٦٩] ، ووصف الله ب (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) تعميم

٣٢٠