تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

قصد فرعون إرهابهم بهذا الوعيد لعلهم يرجعون عن الإيمان بالله. ونظير أول هذه الآية تقدم في سورة الأعراف ، ونظير آخرها تقدم فيها وفي سورة طه. وهنالك ذكرنا عدد السحرة وكيف آمنوا. واللام في (فَلَسَوْفَ) لام القسم.

[٥٠ ، ٥١] (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

الضّير : مرادف الضرّ ، يقال : ضاره بتخفيف الراء يضيره ، ومعنى (لا ضَيْرَ) لا يضرنا وعيدك. ومعنى نفي ضره هنا : أنه ضر لحظة يحصل عقبه النعيم الدائم فهو بالنسبة لما تعقبه بمنزلة العدم. وهذه طريقة في النفي إذا قامت عليها قرينة. ومنها قولهم : هذا ليس بشيء ، أي ليس بموجود ، وإنما المقصود أن وجوده كالعدم.

وجملة : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) تعليل لنفي الضير ، وهي القرينة على المراد من النفي.

والانقلاب : الرجوع ، وتقدم في سورة الأعراف.

وجملة : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) بيان للمقصود من جملة : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ). والطمع : يطلق على الظن الضعيف ، وعرّف بطلب ما فيه عسر. ويطلق ويراد به الظن كما في قول إبراهيم (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢] ، فهذا الإطلاق تأدّب مع الله لأنه يفعل ما يريد. وعلّلوا ذلك الطمع بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه‌السلام ، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢))

هذه قصة أخرى من أحوال موسى في دعوة فرعون ، فالواو لعطف القصة ولا تفيد قرب القصة من القصة ، فقد لبث موسى زمنا يطالب فرعون بإطلاق بني إسرائيل ليخرجوا من مصر ، وفرعون يماطل في ذلك حتى رأى الآيات التسع كما تقدم في سورة الأعراف. ونظير بعض هذه الآية تقدم في سورة طه. وزادت هذه بقوله : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) ، أي أعلم الله موسى أن فرعون سيتبعهم بجنده كما في آية سورة طه. والقصد من إعلامه بذلك تشجيعه.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر (أَسْرِ) بهمزة وصل فعل أمر من (سرى) وبكسر نون

١٤١

(أَنْ). لأجل التقاء الساكنين. وقرأ الباقون بهمزة قطع وسكون نون (أن) وفعلا سرى وأسرى متحدان كما تقدم في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) [الإسراء : ١].

[٥٣ ـ ٥٦] (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦))

ظاهر ترتيب الجمل يقتضي أن الفاء للتعقيب على جملة : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) [الشعراء : ٥٢] وأن بين الجملتين محذوفا تقديره : فأسرى موسى وخرج بهم فأرسل فرعون حاشرين ، أي لما خرج بنو إسرائيل خشي فرعون أن ينتشروا في مدائن مصر فأرسل فرعون في المدائن شرطا يحشرون الناس ليلحقوا بني إسرائيل فيردّوهم إلى المدينة قاعدة الملك.

و (الْمَدائِنِ) : جمع مدينة ، أي البلد العظيم. ومدائن القطر المصري يومئذ كثيرة. منها (مانوفرى أو منفيس) هي اليوم ميت رهينة بالجيزة و (تيبة أو طيبة) هي بالأقصر و (أبودو) وتسمى اليوم العرابة المدفونة ، و (ابو) وهي (بو) وهي ادنو ، و (اون رميسي)، و (أرمنت) و (سنى) وهي أسناء و (ساورت) وهي السيوط ، و (خمونو) وهي الاشمونيين ، و (بامازيت) وهي البهنسا ، و (خسوو) وهي سخا ، و (كاريينا) وهي سد أبي قيرة ، و (سودو) وهي الفيوم ، و (كويتي) وهي قفط.

والتعريف في (الْمَدائِنِ) للاستغراق ، أي في مدائن القطر المصري ، وهو استغراق عرفي ، أي المدائن التي لحكم فرعون أو المظنون وقوعها قرب طريقهم. وكان فرعون وقومه لا يعلمون أين اتجه بنو إسرائيل فأراد أن يتعرض لهم في كل طريق يظن مرورهم به. وكان لا يدري لعلهم توجهوا صوب الشام ، أو صوب الصحراء الغربية ، وما كان يظن أنهم يقصدون شاطئ البحر الأحمر بحر «القلزم» وكان يومئذ يسمى بحر «سوف».

وجملة (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) مقول لقول محذوف لأن (حاشِرِينَ) يتضمن معنى النداء ، أي يقولون إن هؤلاء لشرذمة قليلون.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى حاضر في أذهان الناس لأن أمر بني إسرائيل قد شاع في أقطار مصر في تلك المدة التي بين جمع السحرة وبين خروج بني إسرائيل ، وليست الإشارة للسحرة خاصة إذ لا يلتئم ذلك مع القصة.

وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير لشأنهم أكده التصريح بأنهم شرذمة قليلون.

١٤٢

والشرذمة : الطائفة القليلة من الناس ، هكذا فسره المحققون من أئمة اللغة ، فإتباعه بوصف (قَلِيلُونَ) للتأكيد لدفع احتمال استعمالها في تحقير الشأن أو بالنسبة إلى جنود فرعون ، فقد كان عدد بني إسرائيل الذين خرجوا ستمائة ألف ، هكذا قال المفسرون ، وهو موافق لما في سفر العدد من التوراة في الإصحاح السادس والعشرين.

و (قَلِيلُونَ) خبر ثان عن اسم الإشارة ، فهو وصف في المعنى لمدلول (هؤُلاءِ) وليس وصفا لشرذمة ولكنه مؤكد لمعناها ، ولهذا جيء به بصيغة جمع السلامة الذي هو ليس من جموع الكثرة.

و (قليل) إذا وصف به يجوز مطابقته لموصوفه كما هنا ، ويجوز ملازمته الإفراد والتذكير كما قال السموأل أو الحارثي :

وما ضرّنا أنا قليل ... البيت

ونظيره في ذلك لفظ (كثير) وقد جمعهما قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) [الأنفال : ٤٣].

و «غائظون» اسم فاعل من غاظه الذي هو بمعنى أغاظه ، أي جعله ذا غيظ. والغيظ : أشد الغضب. وتقدم في قوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) في آل عمران [١١٩] ، وقوله : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) في سورة براءة [١٥] ، أي وأنهم فاعلون ما يغضبنا.

واللام في قوله : (لَنا) لام التقوية واللام في (لَغائِظُونَ) لام الابتداء ، وتقديم (لَنا) على (لَغائِظُونَ) للرعاية على الفاصلة.

وقوله : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) حثّ لأهل المدائن على أن يكونوا حذرين على أبلغ وجه إذ جعل نفسه معهم في ذلك بقوله : (لَجَمِيعٌ) وذلك كناية عن وجوب الاقتداء به في سياسة المملكة ، أي إنا كلّنا حذرون ، فجميع وقع مبتدأ وخبره (حاذِرُونَ) ، والجملة خبر إن ، و (جميع) بمعنى : (كل) كقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) في سورة يونس [٤].

و (حاذِرُونَ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الحاء فهو جمع حذر وهو من أمثلة المبالغة عند سيبويه والمحققين. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وخلف بألف بعد الحاء جمع (حاذر) بصيغة اسم الفاعل. والمعنى : أن الحذر من شيمته

١٤٣

وعادته فكذلك يجب أن تكون الأمة معه في ذلك ، أي إنا من عادتنا التيقظ للحوادث والحذر مما عسى أن يكون لها من سيّئ العواقب.

وهذا أصل عظيم من أصول السياسة وهو سدّ ذرائع الفساد ولو كان احتمال إفضائها إلى الفساد ضعيفا ، فالذرائع الملغاة في التشريع في حقوق الخصوص غير ملغاة في سياسة العموم ، ولذلك يقول علماء الشريعة : إن نظر ولاة الأمور في مصالح الأمة أوسع من نظر القضاة ، فالحذر أوسع من حفظ الحقوق وهو الخوف من وقوع شيء ضار يمكن وقوعه ، والترصد لمنع وقوعه ، وتقدم في قوله (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) في براءة [٦٤]. والمحمود منه هو الخوف من الضارّ عند احتمال حدوثه دون الأمر الذي لا يمكن حدوثه فالحذر منه ضرب من الهوس.

وهذا يرجح أن يكون المحذور هو الاغترار بإيمان السحرة بالله وتصديق موسى ويبعّد أن يكون المراد خروج بني إسرائيل من مصر لأنه حينئذ قد وقع فلا يحذر منه وإنما يكون السعي في الانتقام منهم.

[٥٧ ـ ٦٠] (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠))

إن جريت على ما فسّر به المفسرون قوله : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الشعراء : ٥٣] لزمك أن تجعل الفاء في قوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ) لتفريع الخروج على إرسال الحاشرين ، أي ابتدأ بإرسال الحاشرين وأعقب ذلك بخروجه ، فالتعقيب الذي دلت عليه الفاء بحسب ما يناسب المدة التي بين إرسال الحاشرين وبين وصول الأنباء من أطراف المملكة بتعيين طريق بني إسرائيل إذ لا يخرج فرعون بجنده على وجهه ، غير عالم بطريقهم. وضمير النصب عائد إلى فرعون ومن معه مفهوما من قوله : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشعراء : ٥٢].

وإن جريت على ما فسرنا به قوله تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) [الشعراء : ٥٣] ولا إخالك إلا منشرح الصدر لاختيار ذلك ، فلتجعل الفاء في (فَأَخْرَجْناهُمْ) تفريعا على جملة : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشعراء : ٥٢]. والتقدير : فأسرى موسى ببني إسرائيل فأخرجنا فرعون وجنده من بلادهم في طلب بني إسرائيل فاتّبعوا بني إسرائيل.

وضمير : (فَأَخْرَجْناهُمْ) على كل تقدير عائد إلى ما يفهم من المقام ، أي أخرجنا

١٤٤

فرعون وجنده. والجنات : جنات النخيل التي كانت على ضفاف النيل. والعيون : منابع تحفر على خلجان النيل. والكنوز : الأموال المدخرة.

والمقام : أصله محل القيام أو مصدر قام. والمعنى على الأول : مساكن كريمة ، وعلى الثاني : قيامهم في مجتمعهم ، والكريم : النفيس في نوعه. وذلك ما كانوا عليه من الأمن والثروة والرفاهية ، كل ذلك تركه فرعون وجنوده الذين خرجوا منه لمطاردة بني إسرائيل لأنهم هلكوا فلم يرجعوا إلى شيء مما تركوا.

(كَذلِكَ) تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) في سورة الكهف [٩١]. فهو بمنزلة الاعتراض.

وجملة : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) معترضة أيضا والواو اعتراضية وليست عطفا لأجزاء القصة لما ستعلمه. والإيراث : جعل أحد وارثا. وأصله إعطاء مال الميت ويطلق على إعطاء ما كان ملكا لغير المعطى (بفتح الطاء) كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف : ١٣٧] ، أي أورثنا بني إسرائيل أرض الشام ، وقال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر : ٣٢].

والمعنى : أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم ، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز ، لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان [٢٨] (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ). ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك ، فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدّهر فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان.

فضمير (أَوْرَثْناها) هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس ، أي أورثنا بني إسرائيل جنات وعيونا وكنوزا ، فعود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه ، أي أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين فسلط الله عليهم بني إسرائيل فغلبوهم على أرض فلسطين والشام. وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم : عندي درهم ونصفه ، وقوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) [النساء : ١٧٦] ، إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل

١٤٥

المراد : والمرء يرث أختا له إن لم يكن لها ولد ، ويجوز أن يكون نصب الضمير لفعل «أورثنا» على معنى التشبيه البليغ ، أي أورثنا أمثالها. وقيل ضمير : (أَوْرَثْناها) عائد إلى خصوص الكنوز لأن بني إسرائيل استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه.

ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ) إلى قوله : (وَأَوْرَثْناها) حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون. وضمير (فَأَخْرَجْناهُمْ) عائد إلى قوم فرعون المفهوم من قوله : (فِي الْمَدائِنِ) [الشعراء : ٥٣] ، أي فأخرجنا أهل المدائن. وحذف المفعول الثاني لفعل (أَوْرَثْناها). والتقدير : وأورثناها غيرهم ، ويكون قوله : (بَنِي إِسْرائِيلَ) بيانا لاسم الإشارة في قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ) [الشعراء : ٥٤] سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقع.

وجملة : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) مفرعة على جملة : (فَأَخْرَجْناهُمْ) وما بينهما اعتراض. والتقدير : فأخرجناهم فأتبعوهم. والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ) ، وضمير النصب عائد إلى (بِعِبادِي) [الشعراء : ٥٢] من قوله : (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) [الشعراء : ٥٢].

و (فَأَتْبَعُوهُمْ) بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تبع ، أي فلحقوهم.

و (مُشْرِقِينَ) حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال : أشرق ، إذا دخل في أرض الشرق ، كما يقال : أنجد وأتهم وأعرق وأشأم ، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر (القلزم) وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سوف وهو شرقي مصر. ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق ، أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشيا فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر.

[٦١ ـ ٦٦] (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦))

أي لما بلغ فرعون وجنوده قريبا من مكان جموع بني إسرائيل بحيث يرى كل فريق

١٤٦

منهما الفريق الآخر. فالترائي تفاعل لأنه حصول الفعل من الجانبين.

وقولهم : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) بالتأكيد لشدة الاهتمام بهذا الخبر وهو مستعمل في معنى الجزع. و (كَلَّا) ردع. وتقدم في سورة مريم [٧٩] (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) ردع به موسى ظنهم أنهم يدركهم فرعون ، وعلّل ردعهم عن ذلك بجملة : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ).

وإسناد المعية إلى الرب في (إِنَّ مَعِي رَبِّي) على معنى مصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه. وذلك أن موسى واثق بأن الله منجيه لقوله تعالى : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) [الشعراء : ١٥] ، وقوله : (أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشعراء : ٥٢] كما تقدم آنفا أنه وعد بضمان النجاة.

وجملة : (سَيَهْدِينِ) مستأنفة أو حال من (رَبِّي). ولا يضر وجود حرف الاستقبال لأن الحال مقدرة كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]. والمعنى : أنه سيبيّن لي سبيل سلامتنا من فرعون وجنده. واقتصر موسى على نفسه في قوله : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) لأنهم لم يكونوا عالمين بما ضمن الله له من معيّة العناية فإذا علموا ذلك علموا أن هدايته تنفعهم لأنه قائدهم والمرسل لفائدتهم. ووجه اقتصاره على نفسه أيضا أن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدوّ ، وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد الرسول. وهذا وجه اختلاف المعية بين ما في هذه الآية وبين ما في قوله تعالى في قصة الغار (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] لأن تلك معية حفظهما كليهما بصرف أعين الأعداء عنهما ، وقد أمره الله أن يضرب بعصاه البحر وانفلق البحر طرقا مرّت منها أسباط بني إسرائيل ، واقتحم فرعون البحر فمدّ البحر عليهم حين توسطوه فغرق جميعهم.

والفرق بكسر الفاء وسكون الراء : الجزء المفروق منه ، وهو بمعنى مفعول مثل الفلق. والطود : الجبل.

و (أَزْلَفْنا) قربنا وأدنينا ، مشتق من الزلف بالتحريك وهو القرب. والظاهر أن فعله كفرح. ويقال : ازدلف : اقترب ، وتزلف : تقرب ، فهمزة (أَزْلَفْنا) للتعدية.

والمعنى أن الله جرأهم حتى أرادوا اقتحام طرق البحر كما رأوا فعل بني إسرائيل يظنون أنه ماء غير عميق.

والآخرون : هم قوم فرعون لوقوعه في مقابلة فريق بني إسرائيل.

١٤٧

[٦٧ ، ٦٨] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

تقدم القول في نظيره آنفا قبل قصة موسى. وكانت هذه القصة آية لأنها دالة على أن ذلك الانقلاب العظيم في أحوال الفريقين الخارج عن معتاد تقلبات الدول والأمم دليل على أنه تصرف إلهي خاص أيد به رسوله وأمته وخضّد به شوكة أعدائهم ومن كفروا به ، فهو آية على عواقب تكذيب رسل الله مع ما تتضمنه القصة من دلائل التوحيد.

ووجه تذييل كل استدلال من دلائل الوحدانية وصدق الرسل في هذه السورة بجملة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى آخرها تقدم في طالعة هذه السورة.

[٦٩ ـ ٧٧] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧))

عقبت قصة موسى مع فرعون وقومه بقصة رسالة إبراهيم. وقدمت هنا على قصة نوح على خلاف المعتاد في ترتيب قصصهم في القرآن لشدة الشبه بين قوم إبراهيم وبين مشركي العرب في عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر. وفي تمسكهم بضلال آبائهم وأن إبراهيم دعاهم إلى الاستدلال على انحطاط الأصنام عن مرتبة استحقاق العبادة ليكون إيمان الناس مستندا لدليل الفطرة ، وفي أن قوم إبراهيم لم يسلّط عليهم من عذاب الدنيا مثل ما سلط على قوم نوح وعلى عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين فأشبهوا قريشا في إمهالهم.

فرسالة محمد وإبراهيم صلّى الله عليهما قائمتان على دعامة الفطرة في العقل والعمل ، أي في الاعتقاد والتشريع ، فإن الله ما جعل في خلق الإنسان هذه الفطرة ليضيعها ويهملها بل ليقيمها ويعملها. فلما ضرب الله المثل للمشركين لإبطال زعمهم أنهم لا يؤمنون حتى تأتيهم الآيات كما أوتي موسى ، فإن آيات موسى وهي أكثر آيات الرسل السابقين لم تقض شيئا في إيمان فرعون وقومه لما كان خلقهم المكابرة والعناد أعقب ذلك بضرب المثل بدعوة إبراهيم المماثلة لدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النداء على إعمال دليل النظر.

١٤٨

وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى معلوم من السياق كما تقدم في قوله أول السورة (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

والتلاوة : القراءة. وتقدم في قوله : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) في البقرة [١٠٢].

و (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) : قصته المذكورة هنا ، أي اقرأ عليهم ما ينزل عليك الآن من نبأ إبراهيم. وإنما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوته للإشارة إلى أن الكلام المتضمن نبأ إبراهيم هو آية معجزة ، وما تضمنته من دليل العقل على انتفاء إلهية الأصنام التي هي كأصنام العرب آية أيضا. فحصل من مجموع ذلك آيتان دالّتان على صدق الرسول. وتقدم ذكر إبراهيم عند قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ) في البقرة [١٢٤].

و (إِذْ قالَ) ظرف ، أي حين قال. والجملة بيان للنبإ ، لأن الخبر عن قصة مضت فناسب أن تبيّن باسم زمان مضاف إلى ما يفيد القصة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ) الآية في سورة يونس [٧١].

و (ما) اسم استفهام يسأل به عن تعيين الجنس كما تقدم في قوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) في هذه السورة [٢٣]. والاستفهام صوري فإن إبراهيم يعلم أنهم يعبدون أصناما ولكنه أراد بالاستفهام افتتاح المجادلة معهم فألقى عليهم هذا السؤال ليكونوا هم المبتدئين بشرح حقيقة عبادتهم ومعبوداتهم ، فتلوح لهم من خلال شرح ذلك لوائح ما فيه من فساد ، لأن الذي يتصدّى لشرح الباطل يشعر بما فيه من بطلان عند نظم معانيه أكثر مما يشعر بذلك من يسمعه ، ولأنه يعلم أن جوابهم ينشأ عنه ما يريده من الاحتجاج على فساد دينهم وقد أجابوا استفهامه بتعيين نوع معبوداتهم.

وأدخل أباه في إلقاء السؤال عليهم : إمّا لأنه كان حاضرا في مجلس قومه إذ كان سادن بيت الأصنام كما روي ، وإمّا لأنه سأله على انفراد وسأل قومه مرة أخرى فجمعت الآية حكاية ذلك.

والأظهر أن إبراهيم ابتدأ بمحاجّة أبيه في خاصتهما ثم انتقل إلى محاجّة قومه ، وأن هذه هي المحاجّة الأولى في ملإ أبيه وقومه ؛ ألقى فيها دعوته في صورة سؤال استفسار غير إنكار استنزالا لطائر نفورهم ، وأما قوله في الآية الأخرى (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات ٨٥ ، ٨٦] فذلك مقام آخر له في قومه كان بعد الدعوة الأولى المحكية في سورة الصافات. ولأجل ذلك كان الاستفهام مقترنا بما يقتضي

١٤٩

التعجب من حالهم بزيادة كلمة (ذا) بعد (ما) الاستفهامية في سورة الأنبياء. وكلمة (ذا) إذا وقعت بعد (ما) تؤول إلى معنى اسم الموصول فصار المعنى في سورة الأنبياء : ما هذا الذي تعبدونه ، فصار الإنكار مسلطا إلى كون تلك الأصنام تعبد.

والظاهر أنه ألقى عليهم السؤال حين تلبّسهم بعبادة الأصنام كما هو مناسب الإتيان بالمضارع في قوله : (تَعْبُدُونَ) وما فهم قومه من كلامه إلا الاستفسار فأجابوا : بأنهم يعبدون أصناما يعكفون على عبادتها.

والتنوين في (أَصْناماً) للتعظيم ، ولذا عدل عن تعريفها وهم يعلمون أن إبراهيم يعرفها ويعلم أنهم يعبدونها. واسم الأصنام عندهم اسم عظيم فهم يفتخرون به على عكس أهل التوحيد. ولهذا قال إبراهيم لهم في مقام آخر (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) [العنكبوت : ١٧] على وجه التحقير لمعبوداتهم والتحميق لهم. وأتوا في جوابهم بفعل (نَعْبُدُ) مع أن الشأن الاستغناء عن التصريح إذ كان جوابهم عن سؤال فيه (تَعْبُدُونَ). فلا حاجة إلى تعيين جنس المعبودات فيقولوا أصناما كما في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] ، (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [سبأ : ٢٣] (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] فعدلوا عن سنّة الجواب إلى تكرير الفعل الواقع في السؤال ابتهاجا بهذا الفعل وافتخارا به ، ولذلك عطفوا على قولهم : (نَعْبُدُ) ما يزيد فعل العبادة تأكيدا بقولهم : (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ). وفي فعل «نظلّ» دلالة الاستمرار جميع النهار. وأيضا فهم كانوا صابئة يعبدون الكواكب وجعلوا الأصنام رموزا على الكواكب تكون خلفا عنها في النهار ، فإذا جاء الليل عبدوا الكواكب الطالعة.

وضمّن (عاكِفِينَ) معنى (عابدين) فعدي إليه الفعل باللام دون (على). ولما كان شأن الرب أن يلجأ إليه في الحاجة وأن ينفع أو يضر ألقى إبراهيم عليهم استفهاما عن حال هذه الأصنام هل تسمع دعاء الداعين وهل تنفع أو تضر تنبيها على دليل انتفاء الإلهية عنها.

وكانت الأمم الوثنية تعبد الوثن لرجاء نفعه أو لدفع ضره ولذلك عبد بعضهم الشياطين.

وجعل مفعول (يَسْمَعُونَكُمْ) ضمير المخاطبين توسعا بحذف مضاف تقديره : هل يسمعون دعاءكم كما دل عليه الظرف في قوله : (إِذْ تَدْعُونَ). وأراد إبراهيم فتح المجادلة ليعجزوا عن إثبات أنها تسمع وتنفع.

١٥٠

و (بَلْ) في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام ، فلما طووا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفاديا من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف.

وقوله : (كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : يفعلون فعلا كذلك الفعل. وقدم الجار والمجرور على (يَفْعَلُونَ) للاهتمام بمدلول اسم الإشارة.

واقتصر إبراهيم في هذا المقام (الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه للدعوة) على أن أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضرّ وإلّا لضرّته لأنه عدوّها.

وضمير (فَإِنَّهُمْ) عائد إلى (ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ). وقوله : (وَآباؤُكُمُ) عطف على اسم (كُنْتُمْ). والعدوّ : مشتق من العدوان ، وهو الإضرار بالفعل أو القول. والعدوّ : المبغض ، فعدوّ : فعول بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير فلا تلحقه علامات التأنيث (إلا نادرا كقول عمر لنساء من الأنصار : يا عدوات أنفسهن). قال في «الكشاف» : حملا على المصدر الذي على وزن فعول كالقبول والولوع.

والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة. ولذلك فقوله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) من قبيل التشبيه البليغ ، أي هم كالعدوّ لي في أني أبغضهم وأضرهم. وهذا قريب من قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] أي عاملوه معاملة العدوّ عدوّه. وبهذا الاعتبار جمع بني قوله (لَكُمْ عَدُوٌّ) [فاطر : ٦] وقوله : (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦].

والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله : (فَإِنَّهُمْ) دون (فإنّها) جري على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام لأنهم يعتقدونها مدركة.

وجملة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) مفرّعة على جمل كلام القوم المتضمنة عبادتهم الأصنام وأنهم مقتدون في ذلك بآبائهم. فالفاء في (أَفَرَأَيْتُمْ) للتفريع وقدم عليها همزة الاستفهام اتّباعا للاستعمال المعروف وهو صدارة أدوات الاستفهام. وفعل الرؤية قلبي.

ومثل هذا التركيب يستعمل في التنبيه على ما يجب أن يعلم على إرادة التعجيب مما يعلم من شأنه. ولذلك كثر إردافه بكلام يشير إلى شيء من عجائب أحوال مفعول الرؤية كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً) [النجم : ٣٣ ، ٣٤] الآية ، ومنه تعقيب قوله

١٥١

هنا (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) بقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي).

وعطف (آباؤُكُمُ) على (أَنْتُمْ) لزيادة إظهار قلة اكتراثه بتلك الأصنام مع العلم بأن الأقدمين عبدوها فتضمن ذلك إبطال شبهتهم في استحقاقها العبادة.

ووصف الآباء بالأقدمية إيغال في قلة الاكتراث بتقليدهم لأن عرف الأمم أن الآباء كلما تقادم عهدهم كان تقليدهم آكد.

والفاء في قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) للتفريع على ما اقتضته جملة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) من التعجيب من شأن عبادتهم إياها. ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجعل الاستفهام تقريريا والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي ، أو فاء فصيحة بتقدير : إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدوّ لي. وهذا الوجه أظهر.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) منقطع. و (إِلَّا) بمعنى (لكن) إذا كان ربّ العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] فهو الصنم الأعظم عندهم ، وإلى قوله : (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠]. ويظهر أن الكلدانيين (قوم إبراهيم) لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار. وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكب الشمس والصنم الذي يمثل الشمس هو (بعل) ، فوظيفة الأصنام عندهم تدبير شئون الناس في حياتهم. وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها. وقد يكونون معترفين برب عظيم خالق للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلا لأنّ الله من جملة معبوديهم ، أي إلا الرب الذي خلق العوالم. وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء. وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت.

[٧٨ ـ ٨٢] (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

١٥٢

الأظهر أن الموصول في موضع نعت ل (رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] وأنّ (فَهُوَ يَهْدِينِ) عطف على الصلة مفرع عليه لأنه إذا كان هو الخالق فهو الأولى بتدبير مخلوقاته دون أن يتولّاها غيره. ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ مستأنفا به ويكون (فَهُوَ يَهْدِينِ) خبرا عن (الَّذِي). وزيدت الفاء في الخبر لمشابهة الموصول للشرط. وعلى الاحتمالين ففي الموصولية إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو الاستدراك بالاستثناء الذي في قوله : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] ، أي ذلك هو الذي أخلص له لأنه خلقني كقوله في الآية الأخرى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩].

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ) دون أن يقول : فيهدين ، لتخصيصه بأنه متولي الهداية دون غيره لأن المقام لإبطال اعتقادهم تصرف أصنامهم بالقصر الإضافي ، وهو قصر قلب. وليس الضمير ضمير فصل لأن ضمير الفصل لا يقع بعد العاطف.

والتعبير بالمضارع في قوله : (يَهْدِينِ) لأن الهداية متجددة له. وجعل فعل الهداية مفرّعا بالفاء على فعل الخلق لأنه معاقب له لأن الهداية بهذا المعنى من مقتضى الخلق لأنها ناشئة عن خلق العقل كما قال تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠]. والمراد بالهداية الدلالة على طرق العلم كما في قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] فيكون المعنى : الذي خلقني جسدا وعقلا. ومن الهداية المذكورة دفع وساوس الباطل عن العقل حتى يكون إعمال النظر معصوما من الخطأ.

والقول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ، وقوله : (فَهُوَ يَشْفِينِ) كالقول في سابقهما للرد على زعمهم أن الأصنام تقدر لهم تيسير ما يأكلون وما يشربون وبها برؤهم إذا مرضوا ، وليسا بضميري فصل أيضا.

وعطف (إِذا مَرِضْتُ) على (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) لأنه لم يكن حين قال ذلك مريضا فإن (إِذا) تخلص الفعل بعدها للمستقبل ، أي إذا طرأ عليّ مرض.

وفي إسناده فعل المرض إلى نفسه تأدب مع الله راعى فيه الإسناد إلى الأسباب الظاهرة في مقام الأدب ، فأسند إحداث المرض إلى ذاته ولأنه المتسبب فيه ، فأما قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) فلم يأت فيه بما يقتضي الحصر لأنهم لم يكونوا يزعمون أن الأصنام تميت بل عمل الأصنام قاصر على الإعانة أو الإعاقة في أعمال الناس في حياتهم. فأما الموت فهو من فعل الدهر والطبيعة إن كانوا دهريين وإن كانوا يعلمون أن

١٥٣

الخلق والإحياء والإماتة ليست من شئون الأصنام وأنها من فعل الله تعالى كما يعتقد المشركون من العرب فظاهر.

وتكرير اسم الموصول في المواضع الثلاثة مع أن مقتضى الظاهر أن تعطف الصلتان على الصلة الأولى للاهتمام بصاحب تلك الصلات الثلاث لأنها نعت عظيم لله تعالى فحقيق أن يجعل مستقلا بدلالته.

وأطلق على رجاء المغفرة لفظ الطمع تواضعا لله تعالى ومباعدة لنفسه عن هاجس استحقاقه المغفرة وإنما طمع في ذلك لوعد الله بذلك.

والخطيئة : الذنب. يقال : خطئ إذا أذنب. وتقدم في قوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) في البقرة [٥٨]. والمقصود في لسان الشرائع : مخالفة ما أمر به الشرع. وإذ قد كان إبراهيم حينئذ نبيئا والأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها فالخطيئة منهم هي مخالفة مقتضى المقام النبوي.

والمغفرة : العفو عن الخطايا ، وإنما قيده ب (يَوْمَ الدِّينِ) لأنه اليوم الذي يظهر فيه أثر العفو ، فأما صدور العفو من الله لمثل إبراهيم عليه‌السلام ففي الدنيا ، وقد يغفر خطايا بعض الخاطئين يوم القيامة بعد الشفاعة.

ويوم الدين : هو يوم الجزاء ، وهذا الكلام خبر يتضمن تعريضا بالدعاء. وقد أشار في هذه النعوت إلى ما هو من تصرفات الله في العالم الحسي بحيث لا يخفى عن أحد قصدا لاقتصاص إيمان المشركين إن راموا الاهتداء.

وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه‌السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخلق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخلق إلى الخلق الثاني وهو البعث ، فذكر خلق الجسد وخلق العقل وإعطاء ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء ، وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه ، وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى ، وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمة.

وحذفت ياءات المتكلم من (يَهْدِينِ) ، و (يَسْقِينِ) ، و (يَشْفِينِ) ، و (يُحْيِينِ) لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها ، وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة ، وقد تقدم

١٥٤

ذلك في قوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] في قصة موسى المتقدمة.

[٨٣ ـ ٨٩] (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

لما كان آخر مقاله في الدعوة إلى الدين الحق متضمنا دعاء بطلب المغفرة تخلص منه إلى الدعاء بما فيه جمع الكمال النفساني بالرسالة وتبليغ دعوة الخلق إلى الله فإن الحجة التي قام بها في قومه بوحي من الله كما قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] فكان حينئذ في حال قرب من الله. وجهر بذلك في ذلك الجمع لأنه عقب الانتهاء من أقدس واجب وهو الدعوة إلى الدين ، فهو ابتهال أرجى للقبول كالدعاء عقب الصلوات وعند إفطار الصائم ودعاء يوم عرفة والدعاء عند الزحف ، وكلها فراغ من عبادات. ونظير ذلك دعاؤه عند الانتهاء من بناء أساس الكعبة المحكي في قوله تعالى : (إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) إلى قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) إلى (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٩] وابتدأ بنفسه في أعمال هذا الدين كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف :١٤٣] ، وكما أمر رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر : ١٢].

وللأوليات في الفضائل مرتبة مرغوبة ، قال سعد بن أبي وقاص «أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله». وبضد ذلك أوليات المساوئ ففي الحديث : «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سنّ القتل».

وقد قابل إبراهيم في دعائه النعم الخمس التي أنعم الله بها عليه المذكورة في قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى قوله : (يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢] الراجعة إلى مواهب حسية بسؤال خمس نعم راجعة إلى الكمال النفساني كما أومأ إليه قوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وأقحم بين طلباته سؤاله المغفرة لأبيه لأن ذلك داخل في قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ).

فابتداء دعائه بأن يعطى حكما. والحكم : هو الحكمة والنبوءة ، قال تعالى عن يوسف : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [القصص : ١٤] أي النبوءة ، وقد كان إبراهيم حين دعا نبيئا فلذلك كان السؤال طلبا للازدياد لأن مراتب الكمال لا حدّ لها بأن يعطى الرسالة مع

١٥٥

النبوءة أو يعطى شريعة مع الرسالة ، أو سأل الدوام على ذلك.

ثم ارتقى فطلب إلحاقه بالصالحين. ولفظ الصالحين يعم جميع الصالحين من الأنبياء والمرسلين ، فيكون قد سأل بلوغ درجات الرسل أولي العزم نوح وهود وصالح والشهداء والصالحين فجعل الصالحين آخرا لأنه يعم ، فكان تذييلا.

ثم سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده. وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه.

وقد جعل الله في ذريته أنبياء ورسلا يذكرونه وتذكره الأمم التابعة لهم ويخلد ذكره في الكتب. قال ابن العربي : «قال مالك : لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح» ، وقد قال الله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه‌الله. وقد تقدم الكلام على هذا مشبعا عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في سورة الفرقان [٧٤].

واللسان مراد به الكلام من إطلاق اسم الآلة على ما يتقوم بها. واللام في قوله : (لِي) تقتضي أن الذكر الحسن لأجله فهو ذكره بخير. وإضافة (لِسانَ) إلى (صِدْقٍ) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ففيه مبالغة الوصف بالمصدر ، أي لسانا صادقا.

والصدق هنا كناية عن المحبوب المرغوب فيه لأنه يرغب في تحققه ووقوعه في نفس الأمر. وسأل أن يكون من المستحقين الجنة خالدا فاستعير اسم الورثة إلى أهل الاستحقاق لأن الوارث ينتقل إليه ملك الشيء الموروث بمجرد موت المالك السابق. ولما لم يكن للجنة مالكون تعين أن يكون الوارثون المستحقين من وقت تبوّؤ أهل الجنة الجنة ، قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١٠ ، ١١].

وسأل المغفرة لأبيه قبل سؤال أن لا يخزيه الله يوم القيامة لأنه أراد أن لا يلحقه يومئذ شيء ينكسر منه خاطره وقد اجتهد في العمل المبلّغ لذلك واستعان الله على ذلك وما بقيت له حزازة إلا حزازة كفر أبيه فسأل المغفرة له لأنه إذا جيء بأبيه مع الضالّين لحقه انكسار ولو كان قد استجيب له بقية دعواته ، فكان هذا آخر شيء تخوف منه لحاق

١٥٦

مهانة نفسية من جهة أصله لا من جهة ذاته. وفي الحديث أنه يؤتى بأبي إبراهيم يوم القيامة في صورة ذيخ (أي ضبع ذكر) فيلقى في النار فلا يشعر به أهل الموقف فذلك إجابة قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي قطعا لما فيه شائبة الخزي.

وتقدم الكلام على معنى الخزي عند تفسير قوله تعالى : (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في سورة البقرة [٨٥]. وقوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) في آل عمران [١٩٢].

وضمير (يُبْعَثُونَ) راجع إلى العباد المعلوم من المقام.

وجملة : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) تعليل لطلب المغفرة لأبيه فيه إيماء إلى أنه سأل له مغفرة خاصة وهي مغفرة أكبر الذنوب أعني الإشراك بالله ، وهو سؤال اقتضاه مقام الخلّة وقد كان أبوه حيا حينئذ لقوله في الآية الأخرى : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧]. ولعلّ إبراهيم علم من حال أبيه أنه لا يرجى إيمانه بما جاء به ابنه ؛ أو أن الله أوحى إليه بذلك ما ترشد إليه آية (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤]. ويجوز أنه لم يتقرر في شرع إبراهيم حينئذ حرمان المشركين من المغفرة فيكون ذلك من معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤]. ويجوز أن يكون طلب الغفران له كناية عن سبب الغفران وهو هدايته إلى الإيمان.

و (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ) إلخ يظهر أنه من كلام إبراهيم عليه‌السلام فيكون (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدلا من (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) قصد به إظهار أن الالتجاء في ذلك اليوم إلى الله وحده ولا عون فيه بما اعتاده الناس في الدنيا من أسباب الدفع عن أنفسهم.

واستظهر ابن عطية : أن الآيات التي أولها (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) يريد إلى قوله : (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٠٢] منقطعة عن كلام إبراهيم عليه‌السلام وهي إخبار من الله تعالى صفة لليوم الذي وقف إبراهيم عنده في دعائه أن لا يخزى فيه اه. وهو استظهار رشيق فيكون : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ) استئنافا خبرا لمبتدإ محذوف تقديره : هو يوم لا ينفع مال ولا بنون. وفتحة (يَوْمَ) فتحة بناء لأن (يوم) ظرف أضيف إلى فعل معرب فيجوز إعرابه ويجوز بناؤه على الفتح ، فهو كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩]. ويظهر على هذا الوجه أن يكون المراد ب (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الإشارة إلى إبراهيم عليه‌السلام لأن الله تعالى وصفه بمثل هذا في آية سورة

١٥٧

الصافات [٨٣ ، ٨٤] في قوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) (أي شيعة نوح) (لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

وفيه أيضا تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغني عنهم شيئا ، ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ من باب «على لاحب لا يهتدى بمناره» ، أي لا منار له فيهتدى به ، وهو استعمال عربي إذا قامت عليه القرينة. ومن عبارات علم المنطق «السّالبة تصدق بنفي الموضوع».

والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة (وهي النصر) ، فالمال وسيلة الفدية ، والبنون أحق من ينصرون أباهم ، ويعتبر ذلك النصر عندهم عهدا يجب الوفاء به. قال قيس ابن الخطيم :

ثأرت عديّا والخطيم ولم أضع

ولاية أشياخ جعلت إزاءها

واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأولى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العرف. فالكلام من قبيل الاكتفاء ، كأنه قيل : يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر. وقوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) استثناء من مفعول (يَنْفَعُ) ، أي إلّا منفوعا أتى الله بقلب سليم.

هذا معنى الآية وهو مفهوم للسامعين فلذلك لم يؤثر عن أحد من سلف المفسرين عدّ هذه الآية من متشابه المعنى وإنما أعضل على خلفهم طريق استخلاص هذا المعنى المجمل من تفاصيل أجزاء تركيب الكلام. وذكر صاحب «الكشاف» احتمالات لا يسلم شيء منها من تقدير حذف ، فبنا أن نفصّل وجه استفادة هذا المعنى من نظم الآية بوجه يكون أليق بتركيبها دون تكلف.

فاعلم أن فعل (يَنْفَعُ) رافع لفاعل ومتعدّ إلى مفعول ، فهو بحقّ تعدّيه إلى المفعول يقتضي مفعولا ، كما يصلح لأن تعلّق به متعلقات بحروف تعدية ، أي حروف جر ، وإن أول متعلقاته خطورا بالذهن متعلق سبب الفعل ، فيعلم أن قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يشير إلى فاعل (يَنْفَعُ) ومفعوله وسببه الذي يحصل به ، فقوله : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) هو المتعلق بفعل (أَتَى اللهَ) لأن فاعل الإتيان إلى الله هو المنفوع فهو في المعنى مفعول فعل (يَنْفَعُ) والمتعلّق بأحد فعليه وهو فعل (أَتَى) الذي

١٥٨

هو فاعله متعلّق في المعنى بفعله الآخر وهو (يَنْفَعُ) الذي (مَنْ أَتَى اللهَ) مفعوله. فعلم أن تقدير الكلام : يوم لا ينفع نافع أو شيء ، أو نحو ذلك مما يفيد عموم نفي النافع ، حسبما دل عليه (مالٌ) ـ و ـ (بَنُونَ) من عموم الأشياء كما قررنا. وحذف مفعول (يَنْفَعُ) لقصد العموم كحذفه في قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] أي يدعو كل أحد ، فتحصل أن التقدير : يوم لا ينفع أحدا شيء يأتي به للدفع عن نفسه.

والمستثنى وهو (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) متعيّن لأن يكون استثناء من مفعول (يَنْفَعُ) وليس مستثنى من فاعل (يَنْفَعُ) لأن من أتى الله بقلب سليم يومئذ هو منفوع لا نافع فليس مستثنى من صريح أحد الاسمين السابقين قبله ، ولا مما دلّ عليه الاسمان من المعنى الأعمّ الذي قدرناه بمعنى : «ولا غيرهما» ، فتمحض أن يكون هذا المستثنى مخرجا من عموم مفعول (يَنْفَعُ). وتقديره : إلا أحدا أتى الله بقلب سليم ، أي فهو منفوع ، واستثناؤه من مفعول فعل (يَنْفَعُ) يضطرنا إلى وجوب تقدير نافعه فاعل فعل (يَنْفَعُ) ، أي فإنه نفعه شيء نافع. ويبيّن إجماله متعلق فعل (يَنْفَعُ) وهو (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إذ كان القلب السليم سبب النفع فهو أحد أفراد الفاعل العام المقدر بلفظ «شيء» كما تقدم آنفا.

فالخلاصة أن الذي يأتي الله يومئذ بقلب سليم هو منفوع بدلالة الاستثناء وهو نافع (أي نافع نفسه) بدلالة المجرور المتعلّق بفعل (أَتَى) ، فإن القلب السليم قلب ذلك الشخص المنفوع فصار ذلك الشخص نافعا ومنفوعا باختلاف الاعتبار ، وهو ضرب من التجريد. وقريب من وقوع الفاعل مفعولا في باب ظن في قولهم : خلتني ورأيتني ، فجعل القلب السليم سببا يحصل به النفع ، ولهذا فالاستثناء متصل مفرّغ عن المفعول. وقد حصل من نسج الكلام على هذا المنوال إيجاز مغن أضعاف من الجمل المطوية. وجعل الاستثناء منقطعا لا يدفع الإشكال.

والقلب : الإدراك الباطني.

والسليم : الموصوف بقوة السلامة ، والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية ، أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي. وضدّه المريض مرضا مجازيا قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠]. والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة الظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربّهم.

١٥٩

[٩٠ ـ ٩٥] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) َجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥))

الظاهر أن الواو في قوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) واو الحال ، والعامل فيها (لا يَنْفَعُ مالٌ) [الشعراء : ٨٨] ، أي يوم عدم نفع من عدا من أتى الله بقلب سليم وقد أزلفت الجنة للمتقين. والخروج إلى تصوير هذه الأحوال شيء اقتضاه مقام الدعوة إلى الإيمان بالرغبة والرهبة لأنه ابتدأ الدعوة بإلقاء السؤال على قومه فيما يعبدون إيقاظا لبصائرهم ، ثم أعقب ذلك بإبطال إلهية أصنامهم. والاستدلال على عدم استئهالها الإلهية بدليل التأمل ، وهو أنها فاقدة السمع والبصر وعاجزة عن النفع والضر ، ثم طال دليل التقليد الذي نحا إليه قومه لما عجزوا عن تأييد دينهم بالنظر.

فلما نهضت الحجة على بطلان إلهية أصنامهم انتصب لبيان الإله الحق رب العالمين ، الذي له صفات التصرف في الأجسام والأرواح ، تصرف المنعم المتوحّد بشتّى التصرف إلى أن يأتي تصرفه بالإحياء المؤبد وأنه الذي نطمع في تجاوزه عنه يوم البعث فليعلموا أنهم إن استغفروا الله عما سلف منهم من كفر فإن الله يغفر لهم ، وأنهم إن لم يقلعوا عن الشرك لا ينفعهم شيء يوم البعث ، ثم صور لهم عاقبة حالي التقوى والغواية بذكر دار إجزاء الخير ودار إجزاء الشر.

ولما كان قومه مستمرين على الشرك ولم يكن يومئذ أحد مؤمنا غيره وغير زوجه وغير لوط ابن أخيه كان المقام بذكر الترهيب أجدر ، فلذلك أطنب في وصف حال الضالّين يوم البعث وسوء مصيرهم حيث يندمون على ما فرطوا في الدنيا من الإيمان والطاعة ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتداركوا الإيمان ولات ساعة مندم.

والإزلاف : التقريب. وقد تقدم في قوله : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) في هذه السورة [٦٤]. والمعنى : أن المتقين يجدون الجنة حاضرة فلا يتجشمون مشقة السوق إليها.

واللام في (لِلْمُتَّقِينَ) لام التعدية.

و (بُرِّزَتِ) مبالغة في أبرزت لأن التضعيف فيه مبالغة ليست في التعدية بالهمزة ، ونظيره قوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) في سورة النازعات [٣٦]. والمراد ب (لِلْغاوِينَ) الموصوفون بالغواية ، أي ضلال الرأي.

١٦٠