تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

القصة على أوله فلا تفيد إلا تعقيب الإخبار ، وهي في ذلك مساوية للواو. ولكن أوثر حرف التعقيب في هذه الآية لكونها على نسج ما حكيت به قصة ثمود في قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) [النمل : ٤٥] ، فالاختلاف بين هذه الآية وآية الأعراف تفنّن في الحكاية ، ومراعاة للنظير في النسج. وهذا من أساليب قصص القرآن كما بينته في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير.

وكذلك قوله (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) دون (أَخْرِجُوهُمْ) [الأعراف : ٨٢] لأن المحكي من كلام القوم هو تآمرهم على إخراج آل لوط ؛ فما هنا حكاية بمرادف كلامهم وما في الأعراف حكاية بالمعنى والغرض هو التفنّن أيضا.

وكذلك الاختلاف بين (قَدَّرْناها) هنا وبين (كانَتْ) في الأعراف [٨٣]. وأما الاختلاف بين (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) وبين (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف : ٨٤] فهما عبرتان بحالهم تفرعتا على وصف ما حلّ بهم فوزعت العبرتان على الآيتين لئلا يخلو تكرير القصة من فائدة.

والمراد بآل لوط لوط وأهل بيته لأن ربّ البيت ملاحظ في هذا الاستدلال كقوله تعالى (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] ، أراد فرعون وآله.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى)

لما استوفى غرض الاعتبار والإنذار حقه بذكر عواقب بعض الأمم التي كذبت الرسل وهي أشبه أحوالا بأحوال المكذبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالكتاب الذي أنزل عليه ، وفي خلال ذلك وحفافيه تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلقاه من قومه أقبل الله بالخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقنه ما ذا يقوله عقب القصص والمواعظ السالفة استخلاصا واستنتاجا منها ، وشكر الله على المقصود منها.

فالكلام استئناف والمناسبة ما علمت. أمر الرسول بالحمد على ما احتوت عليه القصص السابقة من نجاة الرسل من العذاب الحال بقومهم وعلى ما أعقبهم الله على صبرهم من النصر ورفعة الدرجات. وعلى أن أهلك الأعداء الظالمين كقوله (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٥] ونظيره قوله في سورة العنكبوت [٦٣] (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وقوله في آخر هذه السورة [٩٣] (وَقُلِ الْحَمْدُ

٢٨١

لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ) الآية. فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمد الله على ذلك باعتبار ما أفاده سوق تلك القصص من الإيماء إلى وعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر على أعدائه. فقوله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنشاء حمد الله. وقد تقدمت صيغة الحمد في أول الفاتحة.

وعطف على المأمور بأن يقوله من الحمد أمر بأن يتبعه بالسلام على الرسل الذين سبقوه قدرا لقدر ما تجشموه في نشر الدين الحق.

وأصل (سَلامٌ) سلمت سلاما ، مقصود منه الإنشاء فحذف الفعل وأقيم مفعوله المطلق بدلا عنه. وعدل عن نصب المفعول المطلق إلى تصييره مبتدأ مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام كما تقدم عند قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في أول سورة الفاتحة [٢].

والسلام في الأصل اسم يقوله القائل لمن يلاقيه بلفظ : سلام عليك ، أو السلام عليك. ومعناه سلامة وأمن ثابت لك لا نكول فيه ، لما تؤذن به (على) من الاستعلاء المجازي المراد به التمكن كما في (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وأصل المقصود منه هو التأمين عند اللقاء إذ قد تكون بين المتلاقين إحن أو يكون من أحدهما إغراء بالآخر ، فكان لفظ (السلام عليك) كالعهد بالأمان. ثم لما كانت المفاتحة بذلك تدل على الابتداء بالإكرام والتلطف عند اللقاء ونية الإعانة والقرى ، شاع إطلاق كلمة : السلام عليك ، ونحوها عند قصد الإعراب عن التلطف والتكريم وتنوسي ما فيها من معنى بذل الأمن والسلامة ، فصار الناس يتقاولونها في غير مظان الريبة والمخافة فشاعت في العرب في أحيائهم وبيوتهم وصارت بمنزلة الدعاء الذي هو إعراب عن إضمار الخير للمدعو له بالسلامة في حياته. فلذلك قال تعالى (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) كما تقدم في سورة النور [٦١] وصار قول : السلام ، بمنزلة قول : حياك الله ، ولكنهم خصّوا كلمة : (حياك الله) بملوكهم وعظمائهم فانتقلت كلمة (السلام عليكم) بهذا إلى طور آخر من أطوار استعمالها من عهد الجاهلية وقد قيل إنها كانت تحية للبشر من عهد آدم.

ثم ذكر القرآن السلام من عند الله تعالى على معنى كونه معاملة منه سبحانه بكرامة الثناء وحسن الذكر للذين رضي‌الله‌عنهم من عباده في الدنيا كقوله حكاية عن عيسى إذ أنطقه بقوله (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ) [مريم : ٣٣]. وكذلك في الآخرة وما في معناها من أحوال الأرواح بعد الموت كقوله عن عيسى (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٣] ، وقوله عن أهل الجنة (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس :

٢٨٢

٥٧ ، ٥٨].

وجاء في القرآن السلام على خمسة من الأنبياء في سورة الصافات. وأيضا أمر الله الأمة بالسلام على رسولها فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] أي قولوا : السلام عليك أيها النبي لأن مادة التفعيل قد يؤتى بها للدلالة على قول منحوب من صيغة التفعيل ، فقوله : (سَلِّمُوا تَسْلِيماً) معناه : قولوا كلمة السلام. مثل بسمل ، إذا قال : بسم الله ، وكبر ، إذا قال : الله أكبر. وفي الحديث «تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين».

ومعنى (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) إنشاء طلب من الله أن يسلم على أحد المصطفين ، أي أن يجعل لهم ذكرا حسنا في الملأ الأعلى.

فإذا قال القائل : السلام على فلان ؛ وفلان غائب أو في حكم الغائب كان ذلك قرينة على أن المقصود الدعاء له بسلام من الله عليه. فقد أزيل منه معنى التحية لا محالة وتعين للدعاء ، ولهذا نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين. عن أن يقولوا في التشهد : السلام على الله السلام على النبي السلام على فلان وفلان. فقال لهم «إن الله هو السلام» أي لا معنى للسلام على الله في مقام الدعاء لأن الله هو المدعو بأن يسلم على من يطلب له ذلك.

فلما أمر تعالى في هذه السورة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول (سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) فقد عيّن له هذه الجملة ليقولها يسأل من الله أن يكرم عباده الذين اصطفى بالثناء عليهم في الملأ الأعلى وحسن الذكر ، إذ قصارى ما يستطيعه الحاضر من جزاء الغائب على حسن صنيعه أن يبتهل إلى الله أن ينفحه بالكرامة.

والعباد الذين اصطفاهم الله في مقدمتهم الرسل والأنبياء ويشمل ذلك الصالحين من عباده كما في صيغة التشهد : «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين». وسيأتي الكلام على التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة الأحزاب.

(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)

هذا مما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقوله فأمر أن يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) تمهيدا لقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا) تشركون لأن العباد الذين اصطفاهم الله جاءوا كلهم بحاصل هذه الجملة. وأمر أن يشرع في الاستدلال على مسامع

٢٨٣

المشركين فيقول لهم هذا الكلام ، بقرينة قوله أما تشركون بصيغة الخطاب في قراءة الجمهور ، ولأن المناسب للاستفهام أن يكون موجها إلى الذين أشركوا بالله ما لا يخلق ولا يرزق ولا يفيض النعم ولا يستجيب الدعاء ، فليس هذا لقصد إثبات التوحيد للمسلمين.

والاستفهام مستعمل في الإلجاء وإلزام المخاطب بالإقرار بالحق وتنبيهه على خطئه. وهذا دليل إجمالي يقصد به ابتداء النظر في التحقيق بالإلهية والعبادة. فهذا من قبيل ما قال الباقلاني وإمام الحرمين وابن فورك إن أول الواجبات أول النظر أو القصد إلى النظر ثم تأتي بعده الأدلة التفصيلية ، وقد ناسب إجماله أنه دليل جامع لما يأتي من التفاصيل فلذلك جيء فيه بالاسم الجامع لمعاني الصفات كلها ، وهو اسم الجلالة. فقيل : (آللهُ خَيْرٌ). وجيء فيما بعد بالاسم الموصول لما في صلاته من الصفات.

وجاء (خَيْرٌ) بصيغة التفضيل لقصد مجاراة معتقدهم أن أصنامهم شركاء الله في الإلهية بحيث كان لهم حظ وافر من الخير في زعمهم ، فعبّر ب (خَيْرٌ) لإيهام أن المقام لإظهار رجحان إلهية الله تعالى على أصنامهم استدراجا لهم في التنبيه على الخطأ مع التهكم بهم إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. والعاقل لا يؤثر شيئا على شيء إلا لداع يدعو إلى إيثاره ، ففي هذا الاستفهام عن الأفضل في الخير تنبيه لهم على الخطأ المفرط والجهل المورط لتنفتح بصائرهم إلى الحق إن أرادوا اهتداء. والمعنى : أالله الحقيق بالإلهية أم ما تشركونهم معه.

والاستفهام على حقيقته بقرينة وجود أم المعادلة للهمزة فإن التهكم يبنى على الاستعمال الحقيقي.

وهذا الكلام كالمقدمة للأدلة الآتية جميعها على هذا الدليل الإجمالي كما ستعلمه ..

وقرأ الجمهور تشركون بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بياء الغيبة فيكون القول الذي أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محكيا بالمعنى روعي فيه غيبة المشركين في مقام الخطاب بالأمر.

وما موصولة والعائد محذوف. والتقدير : ما يشركونها إياه ، أي أصنامكم.

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ

٢٨٤

ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠))

أم منقطعة بمعنى (بل) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها لأن (أم) لا تفارق معنى الاستفهام. انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري ، ومن المقدمة الإجمالية وهي قوله (آللهُ خَيْرٌ) أما تشركون [النمل : ٥٩] ، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال. عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته. فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكرهم بخلق السموات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات ، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شئونهم في الحياة ، وبسابق رحمته ، كما عددها في موضع آخر عليهم بقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم :٤٠].

ومن للاستفهام. وهي مبتدأ والخبر جملة (خَلَقَ السَّماواتِ ..) إلخ وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له ، ولا تقدير في الكلام. وذهب الزمخشري وجميع متابعيه إلى أن (من) موصولة وأن خبرها محذوف دل عليه قوله فيما تقدم (آللهُ خَيْرٌ) [النمل : ٥٩] وأن بعد (أم) همزة استفهام محذوفة ، والتقدير : بل أمّن خلق السموات إلخ خير أم ما تشركون. وهو تفسير لا داعي إليه ولا يناسب معنى الإضراب لأنه يكون من جملة الغرض الأول على ما فسر به في «الكشاف» فلا يجدر به إضراب الانتقال.

فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ، فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله ، وهو مشوب بتوبيخ ، فلذلك ذيل بقوله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) كما سيأتي ، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل.

والخطاب ب (لَكُمْ) موجه إلى المشركين للتعريض بأنهم ما شكروا نعمة الله.

وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله ، ولقطع شبهة أن يقولوا : إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء ، اغترارا بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب ، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب ، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما ، ولذلك جمع بين قوله (وَأَنْزَلَ) وقوله (فَأَنْبَتْنا) تنبيها

٢٨٥

على إزالة الشبهة.

ونون الجمع في (فَأَنْبَتْنا) التفات من الغيبة إلى الحضور. ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه.

والإنبات : تكوين النبات.

والحدائق : جمع حديقة وهي البستان والجنة التي فيها نخل وعنب. سميت حديقة لأنهم كانوا يحدقون بها حائطا يمنع الداخل إليها صونا للعنب لأنه ليس كالنخل الذي يعسر اجتناء ثمره لارتفاع شجره فهي بمعنى : محدق بها. ولا تطلق الحديقة إلا على ذلك.

والبهجة : حسن المنظر لأن الناظر يبتهج به.

ومعنى (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) ليس في ملككم أن تنبتوا شجر تلك الحدائق ، فاللام في (لَكُمْ) للملك و (أَنْ تُنْبِتُوا) اسم (كانَ) و (لَكُمْ) خبرها. وقدم الخبر على الاسم للاهتمام بنفي ملك ذلك.

وجملة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه.

والاستفهام إنكاري. و (بَلْ) للإضراب عن الاستفهام الإنكاري تفيد معنى (لكن) باعتبار ما تضمنه الإنكار من انتفاء أن يكون مع الله إله فكان حق الناس أن لا يشركوا معه في الإلهية غيره فجيء بالاستدراك لأن المخاطبين بقوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) وقوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف ، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل ، فهم يعدلون بالله غيره ، أي يجعلون غيره عديلا مثيلا له في الإلهية مع أن غيره عاجز عن ذلك فيكون (يَعْدِلُونَ) من عدل الذي يتعدى بالباء ، أو يعدلون عن الحق من عدل الذي يعدّى ب (عن).

وسئل بعض العرب عن الحجاج فقال : «قاسط عادل» ، فظنوه أثنى عليه فبلغت كلمته للحجاج ، فقال : أراد قوله تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] أي وذلك قرينة على أن المرار ب (عادل) أنه عادل عن الحق.

٢٨٦

وأيّا ما كان فالمقصود توبيخهم على الإشراك مع وضوح دلالة خلق السموات والأرض وما ينزل من السماء إلى الأرض من الماء.

ولما كانت تلك الدلالة أوضح الدلالات المحسوسة الدالة على انفراد الله بالخلق وصف الذين أشركوا مع الله غيره بأنهم في إشراكهم معرضون إعراض مكابرة عدولا عن الحق الواضح قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥].

والإخبار عنهم بالمضارع لإفادة أنهم مستمرون على شركهم لم يستنيروا بدليل العقل ولا أقلعوا بعد التذكير بالدلائل. وفي الإخبار عنهم بأنهم قوم إيماء إلى تمكن صفة العدول عن الحق منهم حتى كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم غير مرة.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١))

أم للإضراب الانتقالي مثل أختها السابقة. وهذا انتقال من الاستدلال المشوب بالامتنان إلى الاستدلال المجرد بدلائل قدرته وعلمه بأن خلق المخلوقات العظيمة وبتدبيره نظامها حتى لا يطغى بعضها على بعض فيختل نظام الجميع.

ولأجل كون الغرض من هذا الاستدلال إثبات عظم القدرة وحكمة الصنع لم يجيء خلاله بخطاب للمشركين كما جاء في قوله في الآية قبلها (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) [النمل : ٦٠] الآية ، وإن كان هذا الصنع العجيب لا يخلو من لطف بالمخلوقات أراده خالقها ، ولكن ذلك غير مقصود بالقصد الأول من سوق الدليل هنا.

والقرار : مصدر قرّ ، إذا ثبت وسكن. ووصف الأرض به للمبالغة ، أي ذات قرار. والمعنى جعل الأرض ثابتة قارّة غير مضطربة. وهذا تدبير عجيب ولا يدرك تمام هذا الصنع العجيب إلا عند العلم بأن هذه الأرض سابحة في الهواء متحركة في كل لحظة وهي مع ذلك قارّة فيما يبدو لسكانها فهذا تدبير أعجب ، وفيه مع ذلك رحمة ونعمة. ولو لا قرارها لكان الناس عليها متزلزلين مضطربين ولكانت أشغالهم معنتة لهم.

ومع جعلها قرارا شقّ فيها الأنهار فجعلها خلالها. وخلال الشيء : منفرج ما بين أجزائه. والأنهار تشق الأرض في أخاديد فتجري خلال الأرض.

٢٨٧

والرواسي : الجبال ، جمع راس وهو الثابت. واللام في (لَها) لام العلة ، أي الرواسي لأجلها أي لفائدتها ، فإن في تكوين الجبال حكمة لدفع الملاسة عن الأرض ليكون سيرها في الكرة الهوائية معدلا غير شديد السرعة وبذلك دوام سيرها.

وجعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة ، وهو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين : أحدهما الآخر عن الاختلاط به ، بسبب تفاوت الثقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء الملح والماء العذب. فالحاجز حاجز من طبعهما وليس جسما آخر فاصلا بينهما ، وتقدم في سورة النحل.

وهذا الجعل كناية عن خلق البحرين أيضا لأن الحجز بينهما يقتضي خلقهما وخلق الملوحة والعذوبة فيهما.

ثم ذيّل بالاستفهام الإنكاري وبالاستدراك بجملة مماثلة لما ذيّل به الاستدلال الذي قبلها على طريقة التكرير تعديدا للإنكار وتمهيدا للتوبيخ بقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). وأوثر هنا نفي صفة العلم عن أكثر المشركين لقلة من ينظر في دقائق هذه المصنوعات وخصائصها منهم فإن اعتياد مشاهدتها من أول نشأة الناظر يذهله عما فيها من دلائل بديع الصنع. فأكثر المشركين يجهل ذلك ولا يهتدي بما فيه ، أما المؤمنون فقد نبههم القرآن إلى ذلك فهم يقرءون آياته المتكرر فيها الاستدلال والنظر.

وهذه الدلائل لا تخلو عن نعمة من ورائها كما علمته آنفا ولكنها سيقت هنا لإرادة الاستدلال لا للامتنان.

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢))

ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شئون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير ، وحال انتياب السوء ، وحال التصرف في الأرض ومنافعها. فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر. وهي : حالة الاحتياج ، وحالة البؤس ، وحالة الانتفاع.

فالأولى : هي المضمنة في قوله (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول ، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء

٢٨٨

محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوه من المعاوضات ، وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها.

والاضطرار : افتعال من الضرورة لا من الضر. وتقديره : أنه نالته الضرورة فطاوعها. وليس له فعل مجرد وإنما يقال : اضطره كذا إلى كذا.

واللام في (الْمُضْطَرَّ) لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني ، أي يجيب فردا معهودا في الذهن بحالة الاضطرار.

والإجابة : إعطاء الأمر المسئول. والمعنى : أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضا ويؤخر بعضا.

وحالة البؤس : هي المشار إليها بقوله (وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

والكشف : أصله رفع الغشاء ، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس.

ورمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء. وهو أيضا مستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء. والمعنى : من يزيل السوء. وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسب ، والمال ، والعرض.

والمعنى : إن الله يكشف السوء عن المسوئ إذا دعاه أيضا فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها ، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه.

وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة. والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى ، والله أعلم بذلك.

وحالة الانتفاع : هي المشار إليها بقوله (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها ، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير : مالكين لها ، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها. وأفاد خلفاء بطريق الالتزام

٢٨٩

معنى الوراثة لمن سبق ، فكل حي هو خلف عن سلفه. والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلا بعد جيل. وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١]. وهذه مرتبة التحسيني.

وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا وهو من مسالك العلة في أصول الفقه.

ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال ، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها.

ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريرا لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

وانتصب (قَلِيلاً) على الحال من ضمير الخطاب في قوله (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم ، فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم.

والتذكر : من الذّكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم ، أي قليلا استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره. فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالا. و (ما) مصدرية والمصدر هو فاعل (قَلِيلاً).

والقليل هنا مكنّى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم ، والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم. وهذه الكناية تلميح وتعريض ، أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل.

وأصل (تَذَكَّرُونَ) تتذكرون فأدغمت تاء التفعل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفا وهو إدغام سماعي.

وقرأ الجمهور (تَذَكَّرُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم ، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم.

٢٩٠

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣))

(بل) لإضراب الانتقال من نوع دلائل التصرف في أحوال عامة الناس إلى دلائل التصرف في أحوال المسافرين منهم في البر والبحر فإنهم أدرى بهذه الأحوال وأقدر لما في خلالها من النعمة والامتنان.

ذكر الهداية في ظلمات الليل في البرّ والبحر. وإضافة الظلمات إلى البر والبحر على معنى (في). والهدى في هذه الظلمات بسير النجوم كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧]. فالله الهادي للسير في تلك الظلمات بأن خلق النجوم على نظام صالح للهداية في ذلك ، وبأن ركّب في الناس مدارك للمعرفة بإرصاد سيرها وصعودها وهبوطها ، وهداهم أيضا بمهاب الرياح ، وخوّلهم معرفة اختلافها بإحساس جفافها ورطوبتها ، وحرارتها وبردها.

وبهذه المناسبة أدمج الامتنان بفوائد الرياح في إثارة السحاب الذي به المطر وهو المعنيّ برحمة الله. وإرساله الرياح هو خلق أسباب تكونها.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (نَشْراً) بضمتين وبالنون. وقرأه ابن عامر بالنون بضم فسكون. وقرأ عاصم (بُشْراً) بالموحدة وبسكون الشين مع التنوين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين. وقد تقدم في سورة الفرقان [٤٨] (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) نشرا (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وتقدم في سورة الأعراف [٥٧] (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) نشرا (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ، وتوجيه هذه القراءات هنالك.

وذيّل هذا الدليل بتنزيه الله تعالى عن إشراكهم معه آلهة لأن هذا خاتمة الاستدلال عليهم بما لا ينازعون في أنه من تصرف الله فجيء بعده بالتنزيه عن الشرك كله وذلك تصريح بما أشارت إليه التذييلات السابقة.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

هذا انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله تعالى بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة. وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد. والاستفهام

٢٩١

تقريري لأنهم لا ينكرون أنه يبدأ الخلق وأنه يرزقهم.

وأدمج في خلال الاستفهام قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأن تسليم بدئه الخلق يلجئهم إلى فهم إمكان إعادة الخلق التي أحالوها. ولما كان إعادة الخلق محلّ جدل وكان إدماجها إيقاظا وتذكيرا أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ولأن الرزق مقارن لبدء الخلق فلو عطف على إعادة الخلق لتوهّم أنه يرزق الخلق بعد الإعادة فيحسبوا أن رزقهم في الدنيا من نعم آلهتهم.

وإذ قد كانوا منكرين للبعث ذيّلت الآية بأمر التعجيز بالإتيان ببرهان على عدم البعث.

والبرهان : الحجة. وتقدم عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في آخر سورة النساء [١٧٤].

وإضافة البرهان إلى ضمير المخاطبين وهم المشركون مشير إلى أن البرهان المعجزين عليه هو برهان عدم البعث ، أي إن كنتم صادقين فهاتوه لأن الصادق هو الذي قوله مطابق للواقع. والشيء الواقع لا يعدم دليلا عليه.

وجماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله (آللهُ خَيْرٌ) أما تشركون [النمل : ٥٩] أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده ثم فصّلت ذلك بآيات (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى قوله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [النمل : ٦٠ ـ ٦٤] فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة وهو خلق السموات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس. ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها ، وهذا ملحق بالمشاهدات.

وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار.

وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكّنهم من التصرف في الأرض إذ جعل البشر خلفاء في الأرض ، وسخر لهم التصرّف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة ، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر. وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو.

وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد وفي مطاويها جوامع التمكن في

٢٩٢

الأرض.

[٦٥ ـ ٦٦] (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦))

لما أبطلت الآيات السابقة إلهية أصنام المشركين بالأدلة المتظاهرة فانقطع دابر عقيدة الإشراك ثني عنان الإبطال إلى أثر من آثار الشرك وهو ادعاء علم الغيب بالكهانة وإخبار الجن ، كما كان يزعمه الكهان والعرافون وسدنة الأصنام. ويؤمن بذلك المشركون. وفي «معالم التنزيل» وغيره نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت قيام الساعة فما كان سؤالهم عن ذلك إلا لظنهم أن ادعاء العلم بوقتها من شأن النبوءة توصلا لجحد النبوءة إن لم يعين لهم وقت الساعة فأبطلت الآية هذه المزاعم إبطالا عاما معياره الاستثناء بقوله (إِلَّا اللهُ). وهو عام مراد به الخصوص أعني خصوص الكهان وسدنة بيوت الأصنام. وإنما سلك مسلك العموم لإبطال ما عسى أن يزعم من ذلك ، ولأن العموم أكثر فائدة وأوجز ، فإن ذلك حال أهل الشرك من بين من في السماوات والأرض. فالقصد هنا تزييف آثار الشرك وهو الكهانة ونحوها. وإذ قد كانت المخلوقات لا يعدون أن يكونوا من أهل السموات أو من أهل الأرض لانحصار عوالم الموجودات في ذلك كان قوله (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ) في قوة لا يعلم أحد الغيب ، ولكن أطنب الكلام لقصد التنصيص على تعميم المخلوقات كلها فإن مقام علم العقيدة مقام بيان يناسبه الإطناب.

واستثناء (إِلَّا اللهُ) منه لتأويل (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بمعنى : أحد ، فهو استثناء متصل على رأي المحققين وهو واقع من كلام منفي. فحق المستثنى أن يكون بدلا من المستثنى منه في اللغة الفصحى فلذلك جاء اسم الجلالة مرفوعا ولو كان الاستثناء منقطعا لكانت اللغة الفصحى تنصب المستثنى.

وبعد فإن دلائل تنزيه الله عن الحلول في المكان وعن مماثلة المخلوقات متوافرة فلذلك يجري استعمال القرآن والسنة على سنن الاستعمال الفصيح للعلم بأن المؤمن لا يتوهم ما لا يليق بجلال الله تعالى. ومن المفسرين من جعل الاستثناء منقطعا وقوفا عند ظاهر صلة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن الله ينزّه عن الحلول في السماء والأرض.

وأما من يتفضل الله عليه بأن يظهره على الغيب فذلك داخل في علم الله قال تعالى

٢٩٣

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧]. فأضاف (غيب) إلى ضمير الجلالة.

وأردف هذا الخبر بإدماج انتفاء علم هؤلاء الزاعمين علم الغيب أنهم لا يشعرون بوقت بعثهم بل جحدوا وقوعه إثارة للتذكير بالبعث لشدة عناية القرآن بإثباته وتسفيه الذين أنكروه. فذلك موقع قوله (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ، أي أن الذين يزعمون علم الغيب ما يشعرون بوقت بعثهم.

و (أَيَّانَ) اسم استفهام عن الزمان وهو معلّق فعل (يَشْعُرُونَ) عن العمل في مفعوليه. وهذا تورّك وتعيير للمشركين فإنهم لا يؤمنون بالبعث بلة شعورهم بوقته.

و (بَلِ) للإضراب الانتقالي من الإخبار عنهم ب (ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) وهو ارتقاء إلى ما هو أغرب وأشد ارتقاء من تعييرهم بعدم شعورهم بوقت بعثهم إلى وصف علمهم بالآخرة التي البعث من أول أحوالها وهو الواسطة بينها وبين الدنيا بأنه علم متدارك أو مدرك.

وقرأ الجمهور (ادَّارَكَ) بهمز وصل في أوله وتشديد الدال على أن أصله (تدارك) فأدغمت تاء التفاعل في الدال لقرب مخرجيها بعد أن سكنت واجتلب همز الوصل للنطقبالساكن. قال الفراء وشمر : وهو تفاعل من الدّرك بفتحتين وهو اللحاق.

وقد امتلكت اللغويين والمفسرين حيرة في تصوير معنى الآية على هذه القراءة تثار منه حيرة للناظر في توجيه الإضرابين اللذين بعد هذا الإضراب وكيف يكونان ارتقاء على مضمون هذا الانتقال ، وذكروا وجوها مثقلة بالتكلف.

والذي أراه في تفسيرها على هذا الاعتبار اللغوي أن معنى التدارك هو أن علم بعضهم لحق علم بعض آخر في أمر الآخرة لأن العلم ، وهو جنس ، لمّا أضيف إلى ضمير الجماعة حصل من معناه علوم عديدة بعدد أصناف الجماعات التي هي مدلول الضمير فصار المعنى : تداركت علومهم بعضها بعضا.

وذلك صالح لمعنيين : أولهما : أن يكون التدارك وهو التلاحق الذي هو استعمال مجازي يساوي الحقيقة ، أي تداركت علوم الحاضرين مع علوم أسلافهم ، أي تلاحقت وتتابعت فتلقّى الخلف عن السلف علمهم في الآخرة وتقلدوها عن غير بصيرة ولا نظر ، وذلك أنهم أنكروا البعث ويشعر لذلك قوله تعالى عقبه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً

٢٩٤

وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النمل : ٦٧ ـ ٦٨]. وقريب من هذا قوله تعالى في سورة المؤمنين [٨١] (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ).

الوجه الثاني : أن يكون التدارك مستعملا مجازا مرسلا في الاختلاط والاضطراب لأن التدارك والتلاحق يلزمه التداخل كما إذا لحقت جماعة من الناس جماعة أخرى أي لم يرسوا على أمر واختلفت أقوالهم اختلافا يؤذن بتناقضها ، فهم ينفون البعث ثم يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله من العذاب ، وهذا يقتضي إثبات البعث ولكنهم لا يعذبون ثم يتزودون تارة للآخرة ببعض أعمالهم التي منها : أنهم كانوا يحبسون الراحلة على قبر صاحبها ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيزعمون أن صاحبها يركبها ، ويسمونها البلية ، فذلك من اضطراب أمرهم في الآخرة.

وفعل المضي على هذين الوجهين على أصله. وحرف (في) على هاذين الوجهين في تفسيرها على قراءة الجمهور مستعمل في السببية ، أي بسبب الآخرة.

ويجوز وجه آخر وهو أن يكون (ادَّارَكَ) مبالغة في (أدرك) ومفعوله محذوفا تقديره : إدراكهم ، أي حصل لهم علمهم بوقت بعثهم في اليوم الذي يبعثون فيه ، أي يومئذ يوقنون بالبعث ، فيكون فعل المضي مستعملا في معنى التحقق ، ويكون حرف (في) على أصله من الظرفية ..

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بل أدرك بهمز قطع وسكون الدال ، ومعناه ؛ انتهى علمهم في الآخرة. يقال : أدرك ، إذا فني. وفي ثبوت معنى فني لفعل أدرك خلاف بين أئمة اللغة ، فقد أثبته ابن المظفر في رواية شمّر عنه قال شمّر : ولم أسمعه لغيره ، وأثبته الزمخشري في «الكشاف» في هذه الآية وصاحب «القاموس». وقال أبو منصور : هذا غير صحيح في لغة العرب وما علمت أحدا قال : أدرك الشيء إذا فني.

وأقول قد ثبت في اللغة : أدركت الثمار ، إذا انتهى نضجها ، ونسبه في «تاج العروس» لليث ولابن جني وحسبك بإثبات هؤلاء الأثبات. قال الكواشي في «تبصرة المتذكر» : المعنى فني علمهم في الآخرة من أدركت الفاكهة ، إذا بلغت النضج وذلك مؤذن بفنائها وزوالها.

فحاصل المعنى على قراءة الجمهور (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) وقد تلقى بعضهم

٢٩٥

عن بعض ما يعلمون في شأن الآخرة وهو ما اشتهر عنهم من إنكار الحياة الآخرة ، أو قد اضطرب ما يعلمونه في شأن الآخرة وأنهم سيعلمون ذلك لا محالة في يوم الدار الآخرة.

وحاصل المعنى على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر : ما يشعرون أيّان يبعثون فإنهم لا علم لهم بالحياة الآخرة ، أي جهلوا الحياة الآخرة.

أما عدد القراءات الشاذة في هذه الجملة فبلغت عشرا.

وأما جملة (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) فهو إضراب انتقال للارتقاء من كونهم اضطرب علمهم في الآخرة ، أو تقلد خلفهم ما لقنه سلفهم ، أو من أنهم انتفى عملهم في الآخرة إلى أن ذلك الاضطراب في العلم قد أثار فيهم شكا من وقوع الآخرة. و (من) للابتداء المجازي ، أي في شك ناشئ عن أمر الآخرة. وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات الخبر ودوامه ، والظرفية للدلالة على إحاطة الشك بهم.

وجملة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ارتقاء ثالث وهو آخر درجات الارتقاء في إثبات ضلالهم وهو أنهم عميان عن شأن الآخرة.

و (عَمُونَ) : جمع عم بالتنوين وهو فعل من العمى ، صاغوا له مثال المبالغة للدلالة على شدة العمى ، وهو تشبيه عدم العلم بالعمى ، وعادم العلم بالأعمى. وقال زهير:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

فشبه ضلالهم عن البعث بالعمى في عدم الاهتداء إلى المطلوب تشبيه المعقول بالمحسوس.

و (من) في قوله (مِنْها عَمُونَ) للابتداء المجازي ، جعل عماهم وضلالهم في إثبات الآخرة كأنه ناشئ لهم من الآخرة إذ هي سبب عماهم ، أي إنكارها سبب ضلالهم. وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : من إنكار وجودها عمون ، فالمجرور متعلق ب (عَمُونَ). وقدم على متعلقه للاهتمام بهذا المتعلق وللرعاية على الفاصلة. وصيغت الجملة الاسمية للدلالة على الثبات كما في قوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها).

وترتيب هذه الاضرابات الثلاثة ترتيب لتنزيل أحوالهم ؛ فوصفوا أولا بأنهم لا يشعرون بوقت البعث ثم بأنهم تلقفوا في شأن الآخرة التي البعث من شئونها علما مضطربا أو جهلا فخبطوا في شك ومرية ، فأعقبهم عمى وضلالة بحيث إن هذه الانتقالات مندرجة متصاعدة حتى لو قيل : بل ادّارك علمهم في الآخرة فهم في شك منها فهم منها

٢٩٦

عمون لحصل المراد. ولكن جاءت طريقة التدرج بالإضراب الانتقالي أجزل وأبهج وأروع وأدل على أن كلا من هذه الأحوال المترتبة جدير بأن يعتبر فيه المعتبر باستقلاله لا بكونه متفرعا على ما قبله ، وهذا البيان هو ما أشرت إليه آنفا عند الكلام على قراءة الجمهور (ادَّارَكَ) من خفاء توجيه الإضرابين اللذين بعد الإضراب الأول.

وضمائر جمع الغائبين في قوله (يَشْعُرُونَ) ، و (يُبْعَثُونَ) ، (عِلْمُهُمْ) ، (هُمْ فِي شَكٍ) ، (هُمْ مِنْها عَمُونَ) عائدة إلى (من) الموصولة في قوله تعالى (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). و (من) هذه وإن كانت من صيغ العموم فالضمائر المذكورة عائدة إليها بتخصيص عمومها ببعض من في الأرض وهم الذين يزعمون أنهم يعلمون الغيب من الكهان والعرّافين وسدنة الأصنام الذين يستقسمون للناس بالأزلام ، وهو تخصيص لفظي من دلالة السياق وهو من قسم المخصص المنفصل اللفظي. والخلاف الواقع بين علماء الأصول في اعتبار عود الضمير إلى بعض أفراد العام مخصصا للعموم يقرب من أن يكون خلافا لفظيا. ومنه قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] فإن ضمير (بُعُولَتُهُنَ) عائد إلى المطلقات الرجعيات من قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] الذي هو عام للرجعيات وغيرهن.

وبهذا تعلم أن التعبير ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) [النمل : ٦٧] هنا ليس من الإظهار في مقام الإضمار لأن الذين كفروا أعم من ما صدق (من) في قوله (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ).

[٦٧ ـ ٦٨] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨))

أعقب وصف عماية الزاعمين علم الغيب بذكر شبهتهم التي أرتهم البعث مستحيل الوقوع ، ولذلك أسند القول هنا إلى جميع الذين كفروا دون خصوص الذين يزعمون علم الغيب ، ولذلك عطفت الجملة لأنها غايرت التي قبلها بأنها أعم.

والتعبير عنهم باسم الموصول لما في الموصول من الإيماء إلى علة قولهم هذه المقالة وهي ما أفادته الصلة من كونهم كافرين فكأنه قيل وقالوا بكفرهم أإذا كنا ترابا .. إلى آخره استفهاما بمعنى الإنكار.

٢٩٧

أتوا بالإنكار في صورة الاستفهام لتجهيل معتقد ذلك وتعجيزه عن الجواب بزعمهم. والتأكيد ب (إِنْ) لمجاراة كلام المردود عليه بالإنكار. والتأكيد تهكم.

وقرأ نافع وأبو جعفر (إِذا كُنَّا تُراباً) بهمزة واحدة هي همزة (إذا) على تقدير همزة استفهام محذوفة للتخفيف من اجتماع همزتين ، أو بجعل (إذا) ظرفا مقدّما على عامله والمستفهم عنه هو (إِنَّا لَمُخْرَجُونَ).

وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بهمزتين في (أَإِذا) ـ و (أَإِنَّا) على اعتبار تكرير همزة الاستفهام في الثانية لتأكيد الأولى ، إلا أن أبا عمرو خفف الثانية من الهمزتين في الموضعين وعاصما وحمزة حققاهما. وهؤلاء كلهم حذفوا نون المتكلم المشارك تخفيفا من الثقل الناشئ من وقوع نون المتكلم بعد نون (إن). وقرأ ابن عامر والكسائي (أَإِذا) بهمزتين وإننا بهمزة واحدة وبنونين اكتفاء بالهمزة الأولى للاستفهام ، وكلها استعمال فصيح.

وقد تقدم في سورة المؤمنين حكاية مثل هذه المقالة عن الذين كفروا إلا أن اسم الإشارة الأول وقع مؤخرا عن (نَحْنُ) في سورة المؤمنين [٨٣] ووقع مقدما عليه هنا ، وتقديمه وتأخيره سواء في أصل المعنى لأنه مفعول ثان ل (وُعِدْنا) وقع بعد نائب الفاعل في الآيتين. وإنما يتجه أن يسأل عن تقديمه على توكيد الضمير الواقع نائبا على الفاعل. وقد ناطها في «الكشاف» بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر وبسوق الكلام لأجله. وبينه السكاكي في «المفتاح» بأن ما وقع في سورة المؤمنين كان بوضع المنصوب بعد المرفوع وذلك موضعه. وأما ما في سورة النمل فقدم المنصوب على المرفوع لكونه فيها أهم ، يدلك على ذلك أن الذي قبله (إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) والذي قبل آية سورة المؤمنين (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) [المؤمنون : ٨٢] فالجهة المنظور فيها هناك (في سورة المؤمنين) هي كون أنفسهم ترابا وعظاما ، والجهة المنظور فيها هنا في سورة النمل هي كون أنفسهم وكون آبائهم ترابا لا جزء هناك من بناهم (جمع بنية) على ـ أي باقيا ـ صورة نفسه (أي على صورته التي كان عليها وهو حي). ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره فصيره هذا العارض أهم اه.

وحاصل الكلام أن كل آية حكت أسلوبا من مقالهم (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ... قالُوا أَإِذا مِتْنا) [المؤمنون : ٨١ ، ٨٢] (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا).

٢٩٨

وبعد فقد حصل في الاختلاف بين أسلوب الآيتين تفنن كما تقدم في المقدمة السابعة.

والأساطير : جمع أسطورة ، وهي القصة والحكاية. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة النحل [٢٤]. والمعنى : ما هذا إلا كلام معاد قاله الأولون وسطّروه وتلقفه من جاء بعدهم ولم يقع شيء منه.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩))

أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم هذه الكلمة ولذلك فصل فعل (قُلْ) وتقدم نظيره في سورة الأنعام [١١]. والمناسبة في الموضعين هي الموعظة بحال المكذبين لأن إنكارهم البعث تكذيب للرسول وإجرام. والوعيد بأن يصيبهم مثل ما أصابهم إلا أنها هنالك عطفت ب (ثُمَّ انْظُرُوا) وهنا بالفاء (فَانْظُرُوا) وهما متآئلان. وذكر هنالك (عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام : ١١] وذكر هنا (عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) : والمكذبون مجرمون. والاختلاف بين الحكايتين للتفنن كما قدمناه في المقدمة السابعة.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠))

كانت الرحمة غالبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشفقة على الأمة من خلاله ، فلما أنذر المكذبون بهذا الوعيد تحركت الشفقة في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام فربط الله على قلبه بهذا التشجيع أن لا يحزن عليهم إذا أصابهم ما أنذروا به. وكان من رحمتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حرصه على إقلاعهم عما هم عليه من تكذيبه والمكر به ، فألقى الله في روعه رباطة جاش بقوله (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ).

والضيق : بفتح الضاد وكسرها ، قرأه الجمهور بالفتح ، وابن كثير بالكسر. وحقيقته : عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه ، وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها. وإنما هو انضغاط في أعصاب صدره. وقد تقدم عند قوله (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) في آخر سورة النحل [١٢٧].

والظرفية مجازية ، أي لا تكن ملتبسا ومحوطا بشيء من الضيق بسبب مكرهم.

٢٩٩

والمكر تقدم عند قوله تعالى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) في سورة آل عمران [٥٤]. و (ما) مصدرية ، أي من مكرهم.

[٧١ ـ ٧٢] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢))

عطف على (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً) [النمل : ٦٧]. والتعبير هنا بالمضارع للدلالة على تجدد ذلك القول منهم ، أي لم يزالوا يقولون.

والمراد بالوعد ما أنذروا به من العقاب. والاستفهام عن زمانه ، وهو استفهام تهكم منهم بقرينة قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وأمر الله نبيه بالجواب عن قولهم لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن أطلعه على شيء منه من عباده المصطفين.

والجواب جار على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على حقيقة الاستفهام تنبيها على أن حقهم أن يسألوا عن وقت الوعيد ليتقدموه بالإيمان.

و (عَسى) للرجاء ، وهو مستعمل في التقريب مع التحقيق.

و (رَدِفَ) تبع بقرب. وعدي باللام هنا مع أنه صالح للتعدية بنفسه لتضمينه معنى (اقترب) أو اللام للتوكيد مثل شكر له. والمعنى : رجاء أن يكون ذلك قريب الزمن. وهذا إشارة إلى ما سيحل بهم يوم بدر.

وحذف متعلق (تَسْتَعْجِلُونَ) أي تستعجلون به.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣))

موقع هذا موقع الاستدراك على قوله (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [النمل : ٧٢] أي أن تأخير العذاب عنهم هو من فضل الله عليهم. وهذا خبر خاص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيها على أن تأخير الوعيد أثر من آثار رحمة الله لأن أزمنة التأخير أزمنة إمهال فهم فيها بنعمة ، لأن الله ذو فضل على الناس كلهم. وقد كنا قدمنا مسألة أن نعمة الكافر نعمة حقيقية أو ليست نعمة والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي.

والتعبير ب (لَذُو فَضْلٍ) يدل على أن الفضل من شئونه. وتنكير (فَضْلٍ) للتعظيم.

٣٠٠