مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

وقال بعض أصحابه : كنت أراه سائرا فى الشتاء (١) وهو على رءوس الجبال يرفضّ (٢) عرقا.

وقال ممشاد الدّينورىّ : كان أبو الحسن يصعد الجبل الذي هو معدن السّباع (٣) ، ولا يجسر أحد أن يصعد إليه ، فيبقى أربعين يوما ثم يرجع ، فلا يبقى أحد (٤) إلّا ترك البيع والشّراء وخرج ينظر إلى الدّينورىّ (٥) تبرّكا به ، وتعظيما له.

وكان أحد مريديه مارّا فى بعض الأسواق ، فرأى الرّمّان فى أول طلوعه ، فاشتهاه (٦) فاشترى منه شيئا وخبّأه فى ركوته (٧) خوفا من الشيخ أن يراه ، ثم جاء فجلس فى مجلس الشيخ (٨) ، فقال الشيخ ـ رضى الله عنه (٩) : «أدركنا قوما [من أهل الإرادة](١٠) لا يشتهون الملح ، ونرى الآن قوما (١١) يشتهون الرّمّان ويخبّئونه فى الرّكا إذا اشتروه!» (١٢). فسمع المريد ذلك فوقع (١٣) مغشيّا عليه ، ولمّا أفاق أخرج الرّمّان من ركوته ووضعه لمن يأكله ، ونزع الله شهوة الرّمّان من قلبه.

__________________

(١) فى «م» و «ص» : «سائرا الشتاء».

(٢) يرفضّ : يسيل.

(٣) فى «ص» : «الجبل معدن السباع» والمعدن : مكان كل شىء فيه أصله وموطنه. [وانظر الكواكب السيارة ص ٢٨٧].

(٤) «أحد» عن «م».

(٥) فى «ص» : «وهم ينظرون إليه».

(٦) فى «ص» : «اجتاز بالسوق فاشتهى الرّمّان فى أول وقته».

(٧) الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.

(٨) قوله : «ثم جاء فجلس فى مجلس الشيخ» عن «م» وساقط من «ص».

(٩) فى «ص» : «فلما وعظ الشيخ قال».

(١٠) ما بين المعقوفتين عن «م».

(١١) فى «ص» : «ونرى الآن مريدين».

(١٢) قوله : «إذا اشتروه» عن «م».

(١٣) فى «م» : «فسقط».

٥٨١

وقيل : إنه (١) ختم الميعاد يوما عند اصفرار الشمس ، ثم مضى إلى بيته ليصلّى المغرب ، فوقع فى نفس بعض الحاضرين : لو صلّى الشيخ مع الجماعة كان أفضل (٢) من صلاته وحده (٣). فقال الشيخ : «إنّ الباعة يخرجون نيرانهم (٤) فى طرق المسلمين ، وما أحبّ أن أستضىء (٥) بنور ظالم».

وقال بعض الصوفية : «كنت أعملت فكرى فى مسألة (٦) فى الجامع ، وقمت إلى حلقة الدّينورىّ لأسأله عنها ، ونويت أن أمتحنه فيها ، فجئت فوقفت عليه والمجلس حفل (٧) ، فنظر إلىّ من قبل أن أسأله عنها ، وقال : «يا فلان (٨) ، بأىّ مسألة عملتها وجئت تسألنى عنها؟ عليك بالتوبة» ، فوقع علىّ البكاء ، وبكى أكثر من كان فى مجلسه ، فرجعت من المجلس (٩) وأنا أبكى!

وقال ابن الحسن الحضرمى (١٠) : مررت بقبر أبى الحسن الدّينورىّ ـ رحمة الله عليه ـ فقرأت «يس» و «تبارك» (١١) وغيرهما ، وقلت : اللهم اجعل ثوابها (١٢) ـ يعنى القراءة ـ لأبى الحسن الدينورى ، وانصرفت.

__________________

(١) أى : الشيخ أبو الحسن الدّينورى.

(٢) فى «م» : «كان أولى».

(٣) فى «ص» : «فذّا» وهى بمعناها.

(٤) فى «ص» : «إن هذه الباعة يخرجون ملعقاتهم» وكلمة «ملعقاتهم» تحريف ، والصواب : معلقاتهم ، أى مصابيحهم التى يعلقونها فى الطّرقات.

(٥) فى «م» : «يستضيء» تحريف.

(٦) فى «م» : «أعلمت» مكان «أعملت» تحريف. وفى «ص» : «عملت مسألة».

(٧) والمجلس حفل ، أى : به جمع كثير من الناس.

(٨) فى «ص» : «يا بنى».

(٩) فى «م» : «عن المسجد».

(١٠) فى «ص» : «ابن الحضرمى» وفى «م» : «الحسن الحضرى» وما أثبتناه عن الكواكب السيارة ص ٢١٦ ، وهو من أصحاب أبى الحسن الدينورى.

(١١) فى «م» : «تبارك الملك». يعنى سورة الملك.

(١٢) فى «ص» : «فقلت فى نفسى : اللهم إنى جعلت ثواب ما قرأت».

٥٨٢

ومررت على أبى بكر بن المهلب ، فقال لى : كنت اليوم عند قبر الشيخ [أبى الحسن الدينورى](١)؟ فقلت : نعم ، ما الخبر (٢)؟ فقال : رأيته الساعة فى المنام وهو يقول : جاءنا الساعة ابن الحسن وقرأ عند القبر وقال : اللهم إنى جعلت (٣) ثواب ما قرأت لأبى الحسن الدينورى. فقلت : آه ، والله هو أحوج إلى ذلك (٤) منا ، نحن فى غنى ، وهذا ما كان! فقلت : سبحان الله ، هذا رجل مكاشف فى الحياة وفى الممات (٥).

وقدم عليه (٦) رجل مغربى برسالة له من المغرب (٧) [وصار يسأل الناس عن منزل الشيخ ، فسأله إنسان : ما معك للشيخ؟ فقال : معى رسالة له من المغرب. فأخذه وجاء به إلى منزل الشيخ ، فطرق الرجل الباب](٨) فقال الشيخ (٩) : من بالباب؟ فقال الرجل : أنا يا سيدى فلان ومعى رجل مغربى معه رسالة لكم من المغرب (١٠). فقال : قل للمغربى : الشيخ لا حاجة له بالرسالة ، ولا يقبلها ، فإنّك رجل خائن فتحت الكتاب فى الطريق ، ونظرت إلى ما تضمّنه. فقلت ذلك للمغربى ، فأطرق خجلا وقال : كيف أنتم مع هذا الشيخ؟ ثم مضى (١١).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٢) فى «ص» : «أيش الخبر» وهو تعبير عربى سليم.

(٣) فى «ص» : «وقال : قد جعلت».

(٤) فى «ص» : «قلت : آه ، أنت والله أحوج منا» يريد بذلك الحسن.

(٥) فى «م» : «يكاشف فى الحياة والممات».

(٦) فى «ص» : «وجاءه».

(٧) فى «م» : «برسالة من الغرب له».

(٨) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٩) فى «ص» : «فصاح الشيخ من فوق».

(١٠) فى «م» : «برسالة من الغرب».

(١١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «قل له : لست أقبلها ، هذا رجل خائن قد فتح الكتاب فى الطريق ، وكان كذلك» انتهى.

٥٨٣

وقال أبو الحسن بن اللّيث بن سعد : أصابنى مرّة وجع الأرواح ، فاشتدّ بى ذات ليلة (١) ، فذكرت الشيخ أبا الحسن الدّينورىّ ، [فتوضأت للصلاة وصليت ركعتين ، وقلت فى سجودى : «اللهمّ ببركة الشيخ أبى الحسن الدّينورى](٢) خفّف عنى ما أجد من هذا البلاء» فحصلت لى العافية من وقتى (٣) ، ونمت من ليلتى ، فلما كان وقت الصبح جاءتنى جارية الشيخ أبى الحسن فطرقت علىّ الباب (٤) ، فقلت : من بالباب؟ فقالت : أنا جارية الشيخ أبى الحسن ، أريد أن أصعد إليك. قال : فنزلت وفتحت الباب (٥) ، فقالت : إنّ الشيخ يقرئك السّلام ويقول لك : كيف وجدت استشفاعك بنا اللّيلة؟ قد شفّعنا فيك وشفعنا!

فقلت لها : قبّلى عنى يد الشيخ وأبلغيه مزيد السّلام ، وقولى له : جزاك الله عنه خيرا (٦).

وحكى أنّ الشّيخ وقعت بينه وبين ابن يونس مقاولة (٧) ، قال ابن يونس : فما أفلحت فى جسمى منذ خاطبت الشيخ. وماتا فى (٨) سنة ٣٣١ ه‍. فرئى ابن يونس فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لى وأصلح بينى وبين الدّينورىّ ، وأباح لنا الجنّة (٩).

__________________

(١) فى «م» : «فى ليلة من الليالى».

(٢) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٣) فى «ص» : «.. إلّا خفّفت عنى ما أجد ، ووهبت لى العافية ، فنمت من وقتى».

(٤) فى «ص» : «فدقّ الباب علىّ».

(٥) فى «ص» : «قلت : أيش الخبر؟» مكان «فنزلت وفتحت الباب».

(٦) فى «ص» : «فقلت لها : أقرئيه منّى السلام وقولى له : جزاك الله عنى خيرا».

(٧) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وكان جرى بين الشيخ وبين ابن يونس كلام».

(٨) فى «م» : «وتوفيا جميعا».

(٩) فى «ص» : «أصلح بيننا ربّ العالمين جلّت قدرته» وجملة : «أباح لنا الجنة» عن «م».

٥٨٤

وحكى (١) عن بعضهم ، قال : حصلت لى ضائقة شديدة ، فتوسّلت إلى الله سبحانه وتعالى بأبى الحسن الدّينورىّ ، ففرّج عنّى.

وحصلت لزوجتى شدّة فى بعض الأوقات من الطّلق ، فأخذت إناء وجئت به إلى الشيخ ، وقلت : يا سيدى ، أريد أن تكتب لزوجتى شيئا لتسهيل الولادة ، فأخذ الإناء وكتب فيه : «بسم الله الرّحمن الرحيم» ، فانفلق الإناء. فمضيت وجئت بإناء آخر ، فكتب فيه ، فانفلق أيضا ، فعل ذلك ثلاث مرّات ، فقال : «يا بنّى ، لا تتعب نفسك ، لو جئتنى بكلّ إناء لم يكن إلّا كما ترى ، فإنّى عبد إذا ذكرت الله تعالى ذكرته بهيبة وحضور!».

وقال بعض أصحابه : اغتسلت يوم جمعة ، ولبست ثيابا حسنة ، وتطيّبت ، فعرضت لى زوجتى عند باب البيت ، وكنت حديث عهد بعرس ، فرجعت إلى البيت فغشيتها ، ثم اغتسلت ومضيت إلى الجامع ، فوقفت عند عمود خلف ظهر الشيخ بالجامع وقرأت ختما فى ركعة واحدة ، وكنت أفعل ذلك كثيرا فى يوم الجمعة ، وكنت إذا انصرفت لا يكلّمنى الشيخ ، فلما كان ذلك اليوم دعانى فقال لى : أما أنت حافظ القرآن؟ قلت : نعم. قال : وقرأت ختما فى هذه الرّكعة؟ قلت : نعم. قال : يا بنّى ، كيف تكون حافظا لكتاب الله تعالى وتغتسل للجمعة ثم تكون منك حالة تنقض طهارتك؟ أما استحييت من فساد الطّهارة؟ وما هذه الثياب الرفيعة؟ «إيش تعمل بهذه؟».

قال : فأطرقت حياء من هيبته ، ورجعت إلى منزلى ، فنزعت تلك الثّياب ولبست دونها.

ومن كراماته أنّ إنسانا كان ساكنا فى قيساريّة هشام بن عبد الملك ، فسأل بعض العلماء عن الصلاة فيها ، فقال : أحسبك ألّا تصلّى فيها ولا فى شىء من

__________________

(١) من هنا إلى قوله : «وتوفى عنده» عن «م» ولم يرد فى «ص». [انظر الهامش رقم (٤) ص ٥٩٢].

٥٨٥

الصّوافّ (١). وقال له بعضهم : صلّ فيها. قال : فأتيت إلى الشيخ أبى الحسن الدّينورىّ ، فلما وقفت على مجلسه ووقعت عينه علىّ قال : يا بنىّ ، الصّلاة فى الجامع خير من الصّلاة فى القيساريّة والصّواف. قال : فمن ثمّ لزمت الصّلاة فى الجامع.

ومن كراماته أيضا ، ما ذكره صاحب الحكاية السابقة ، قال : خرجت فى ليلة مقمرة فى الشّتاء إلى صحن الجامع ، [وكان الشيخ جالسا مع أصحابه ، فجاء فتى فجلس معى ، ونظر إلى السماء وقال](٢) : ألا ترى هذا الغيم وهذا الضياء؟! هذا نور ربّ العزّة! فقلت : «هذا نور مخلوق ، ونور الله ليس بمخلوق».

فخالفتى الفتى فى ذلك ، وقمنا على ذلك. فوجّه إلىّ الدّينورىّ رجلا من أصحابه فقال له : قل له : «أثبت على ما أنت عليه ولا تبال ممّن خالفك ، فإنّ الحقّ معك ، ولا تكلّم من خالفك إلى أن يتوب»!

فعجبت من الرّجل وقلت : من أبلغه ما كان بيننا؟! لا أعلم أنّ أحدا علم ذلك إلّا الله سبحانه وتعالى ، وهجرت الفتى مدّة اثنى عشر يوما إلى أن رجع عمّا كان عليه.

ومن ذلك أنّى كنت ألزم الصّفّ الأوّل فى المقصورة ، فإذا خلوت جاءنى إبليس بوسواس يلقيه فى قلبى فأغتّمّ لذلك ، فقلت : ليس لى إلّا الدّينورىّ ، فجئت إليه وهو فى مجلسه يتكلم على الناس ، فهبت أن أسأله ، فأجابنى عن سؤالى قبل أن أسأله ، وأحسن فى جوابه ، ثم ختم بأن قال : ابتهل إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء.

__________________

(١) قيسارية : بلد على ساحل بحر الشام ، وتعد فى أعمال فلسطين ، ولا أدرى ما يريد بالصواف ، وربما كان يعنى بها مرابط الإبل أو مكانا بعينه.

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة السياق والمعنى.

٥٨٦

وقال أبو كثير المؤذن : تنزهت مع جماعة من الأصحاب ، فجئت ، فنهانى الشيخ عن النّزهة وصاح علّى وطردنى ، فقمت من الجمعة إلى الجمعة أدبّر حججا (١) أقولها له ، ثم جئت يوم الجمعة لأقول له : «روّحوا القلوب (٢) ساعة فساعة» أو «روّحوا القلوب مع الذّكر». فلما جئت قال لى : أين الذي تعبت عليه (٣)؟!.

وقال أيضا : كنا فى مجلسه بداره ، وكان هناك إنسان صالح معنا يسمّى عمر ، فسمعنا ضرب آلات وغناء ، فقال : يا عمر ، عندك همّة (٤) تسكت بها هذا المنكر؟ قال : فأطرقت أنا وقلت : لا. فقال الشيخ : أمر عجيب! إنسان يخبر بأحوال غيره من غير اطّلاع؟! ثم انجمع (٥) الشيخ وأطرق ، فما سمعت من المنكر شيئا.

وقال أحد الصّوفيّة (٦) : كنت فى الصحراء مع جماعة ومعنا قوّال (٧) ، فدخلنا بعض الحجز (٨) ، فقال القوّال شيئا ، فقمنا ، فطربنا ورقصنا وصفّقنا ، ثم جئت إلى الشيخ بعد مدّة ، فسألته عن مسألة ، فقال لى : «ليس لك جواب عندى ، لأنك لم تخلق (٩) للرّقص والتصفيق!».

__________________

(١) حججا : أدلّة وبراهين ، جمع حجّة.

(٢) روّحوا القلوب : أريحوها.

(٣) أى : أين الذي دبّرته من الحجج والبراهين وأتعبت نفسك من أجل أن تقوله لى اعتذارا؟!

(٤) الهمّة : ما همّ به من أمر ليفعل ، أو العزم القوىّ.

(٥) انجمع : عزم على شىء.

(٦) فى «م» : «بعض الصوفية».

(٧) القوّال : الرجل البليغ ، والكثير القول ، صيغة مبالغة ، والمراد بها هنا الشاعر الراوية.

(٨) الحجز : النواحى يحتجز بها

(٩) فى «م» : «لا تخلق».

٥٨٧

وربّما كان ينظر إلى السماء إذا سئل عن مسألة ، ويجيب كأنّه مشاهد لشىء.

وقال أزهر بن عمّار : رأيت الشيخ وهو قائم يصلّى فى حلقته ، فقلت فى نفسى : «لو صلّى ناحية (١) وجاء إلى الحلقة كان أولى». فلما فرغ من صلاته التفت إليّ وقال : «يا هذا ، مالك وللاعتراض علّى؟!» فكبر فى عينى ولزمته.

وقال ممشاد الدّينورىّ : كان أبو الحسن بن الصّائغ قد انفرد فى الجبل للعبادة ، فخرجت يوما إليه لأفتقده ، وكان يوما حارّا ، فإذا نسر قد نشر جناحيه وهو قريب من مكانه ، فذهبت أنظر تحت النّسر ، فرأيت أبا الحسن قائما يصلى والنّسر يظلّه من الحرّ (٢) : وقال أبو حفص الأسوانى : آخى أبو الحسن بينى وبين أخ لى ، فخرجت أنا وهو إلى السّفر ، فوقع بينى وبينه كلام ، فتهاجرنا ، فلما قدمت قال لى الشيخ : «أتظّنّ أنك فى سفرك خارج عنى؟ أما علمت أنّى أهتمّ بأصحابى فى أسفارهم كاهتمامى (٣) بهم فى حال حضورهم؟ تكلّمت مع صاحبك حتى تهاجرتما .. أتظنّان أنّ أعمالكما ليست تعرض علىّ؟!».

وقال أيضا : خرج لى صاحب بسفر للحجاز ، فذهبت معه لتوديعه (٤) ، وكنت صائما فى ذلك اليوم تطوّعا (٥) ، فأحضر المسافر رغيفا

__________________

(١) أى : خارج حلقته.

(٢) النّسر : بفتح النون وكسرها.

(٣) فى «م» : «باهتمامى».

(٤) فى «م» : «لأجل توديعه».

(٥) فى «م» : «تطوع» ، لا تصح.

٥٨٨

حواريّا وقدحا (١) فيه ماء بارد (٢) ، وقال لى : هيّا يا أخى فكل معى ، فإنى لا أعلم هل نجتمع ونأكل معا أنا وأنت أو لا (٣)!

فقلت فى نفسى : إدخال السّرور على أخى أفضل من صيامى تطوعا.

فأكلت ، ثم ودّعته ورجعت ، فمررت بدار الشّيخ ، فقلت : أصعد حتّى أسلّم عليه ، فلما صعدت إليه وسلّمت عليه قال لى : يا فلان ، قلت : لبّيك سيّدى.

قال لى : أفطرت اليوم وأكلت رغيفا حوّاريّا (٤) وشربت الماء البارد؟ قلت : نعم. فنظر إلىّ وقال : ليس هذا عجبا (٥) ، إنما العجب فتياك (٦) لنفسك أنّ إدخالك السّرور على أخيك أفضل من صيامك التوع!

فقلت : هذا علم الغيب. فقال الشيخ : «الويل لك ، ثم الويل لك إن قلت واعتقدت أنّ هذا علم الغيب! أما علمت أنّ أعمال أصحابى تعرض علىّ؟» فوقع الفتى مغشيّا عليه.

ومن كرامات الدّينورىّ أيضا ، قال أبو علىّ الحسين بن عبد الله الأسوانى الزاهد : آخى الشيخ أبو الحسن الدينورى بينى وبين أبى حفص الأسوانى ، فوجدت فى نفسى شيئا ، فشكوته إلى الشيخ ، فقال لى : «لا تفطر معه ، ولا تشرب معه فى كوز واحد ، ولا ترقد فى موضع واحد».

__________________

(١) فى «م» : «وقدح» ، لا تصح ، والصواب ما أثبتناه. والرغيف الحوّارىّ : المصنوع من الدقيق الأبيض. وقد مرّ.

(٢) فى «م» : «باردا» لا تصح ، والصواب بالرفع.

(٣) فى «م» : «يا أخى فإنى لا أعلم هل أجتمع أنا وأنت ونتواكل أو لا».

(٤) فى «م» : «رغيف الحوارىّ».

(٥) فى «م» : «عجب» ، خطأ ، والصواب بالنصب.

(٦) الفتيا : الفتوى.

٥٨٩

فأقمنا على ذلك زمانا ، حتى أنّنا إذا كنّا فى مسجد نام أحدنا فى أسفل (١) المسجد والآخر فى أعلى (٢) المسجد ، ويفطر كلّ واحد منا على حدته (٣) ، فعطشت ليلة وليس فى كوزى ماء ، فوجدت كوزه ، فقلت : أشرب ولا أعود ، ترى هل يدرى الدّينورى ويرانا (٤)؟ فشربت ، ووقع فى نفسى الإنكار ، فلما أصبحت غدوت إليه أنا وعمر ، ولم يكن عمر علم بشربى ، لأنه كان نائما ، فلمّا سلّمنا عليه وسألناه عن مسألة ، فقال : «لا تأتيانى ، أنتما لا تصلحان لى ، أنتما لم يكن لى عليكما حكم فى شربة ماء ، ليس بينى وبينكما قرب!».

فهالنا ذلك منه ، فنظر إلينا وقال : «الويل لكما إن قلتما (٥) : إنّ ذا علم غيب».

وقال علىّ بن الخوارزمىّ الفقير (٦) : دخلت حمّام عمرو بن العاص ، رضى الله عنه ، يوم جمعة لغسل الجمعة مع جماعة من الفقراء ، فلما خرجنا رأينا الرّمّان أخضر فى أول مجيئه ، فاشتهاه رجل منّا وقال : اشتروه ، فقال له بعض أصحابنا : «أيش (٧) عزمك ، اليوم الجمعة ، يوم مجلس (٨) ، عزمك أن يتكلّم علينا؟!».

__________________

(١) فى «م» : «سفل».

(٢) فى «م» : «علو».

(٣) أى : بمفرده.

(٤) فى «م» : «ترى الدينورى يرانا ويدرى؟».

(٥) فى «م» : «الويل لكم إن قلتم».

(٦) رويت هذه الحكاية من قبل باختلاف يسير فى ألفاظها مع زيادة طفيفة.

(٧) أيش : أى شىء ، وهى كلمة عربية [انظر المحرر فى غريب كلام العرب للهنائى ص ٢٤٤].

(٨) يعنى : مجلس الشيخ الدّينورى.

٥٩٠

قال : اشتروه فإنى أشتهيه ، فاشتريناه وجعلناه فى ركوة ، وحشيناها بمئزر ، وذهبنا (١) فصلّينا وجلسنا عند الشيخ فى الحلقة ، فالتفت إلينا وقال : «قوم يشتهون الرّمّان لوقت الإفطار! لقد كنت أرى بعض المريدين إذا بدا الرّمّان من قشره لا يستطيع أن ينظر إليه صونا ، [وعشنا](٢) فى زمان يشتهيه المبتدئون فيشترونه ويخبّئونه لوقت الإفطار». فصعق الرجل ورمى بالرّكوة فخرج الرّمّان.

ومن كراماته العظيمة أنّ صاحب الشّرطة اجتمع ببعض مريديه وقال له : قل للشيخ يأخذ أسبابه (٣) ويمضى من بلدنا إلى غيره (٤) من البلاد.

فجاء المريد وجلس فى حلقة الشيخ. فقال له الشيخ : ما الذي قال لك فلان؟ ـ يعنى صاحب الشرطة. قال : يا سيدى قال لى كيت وكيت (٥).

قال : لا عليك يا بنىّ ، فإنّه يموت بريقه!

وكان كذلك ، فقد طلع الأمير (٦) إلى داره ، ودفع له غلامه كأسا فشربها (٧) فشرق بها فى الحال (٨) ومات.

ومن كراماته أنّ رجلا يسمّى أحمد بن النعمان التّرّاس ، كان من أصحاب المذكور [فمات](٩) فصلى عليه الشيخ إماما بمصلى خولان ،

__________________

(١) فى «م» : «ورحنا».

(٢) صونا : وقاية .. وما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة المعنى والسياق.

(٣) أسبابه : حوائجه.

(٤) فى «م» : «غيرها».

(٥) كيت وكيت : كذا وكذا ، وهى كناية عن القصة والأحدوثة ، ولا تستعملان إلّا مكررتين.

(٦) يعنى : صاحب الشرطة.

(٧) فى «م» : «فشربه». والكأس : القدح ما دام فيه الخمر ، وهى مؤنثة فى اللغة.

(٨) فى «م» : «فشرق به للوقت».

(٩) ما بين المعقوفتين من عندنا.

٥٩١

وأنزل فى القبر ، فجلس الشيخ على شفير القبر وصاح : «يا أحمد ، اذكر العهد الذي خرجت به من الدّنيا وقدمت به على الله .. يا أحمد ، لا تخف من ملائكة ربّك». فناداه من جوف القبر : يا سيّدى ، فزت ، والله فزت!

وقال بعض أصحابه : كان الشيخ جالسا بمسجد يعرف بمسجد «دعلان» فى يوم الاثنين الثانى عشر من شهر رجب الفرد الحرام سنة ٣٣١ ه‍ ، وكنت جالسا معه ذلك اليوم ، فقال : أحبّ أن أسمع قراءة رجل صالح. فجىء إليه بابن بكلور الأعمى ، فقرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(١) فصاح الشيخ وخرّ مغشيّا عليه ، فحمل إلى منزله ، ومات ليلة الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة (٢) خلت من شهر رجب الفرد ، سنة ٣٣١ ه‍ ـ كما ذكر فى أول الترجمة إجمالا ـ فغسّله أبو بكر بن المهلّب ، وصلّى عليه ودفنه ، ونزل فى حفرته ، وسمعه يقول وهو نازل فى لحده : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(٣). وكان ابن المهلب يريد أن يبيت الشيخ عنده وهو يأبى ، إلى أن كانت الليلة التى توفّى فيها ، جاء إلى منزله ، وتوفّى عنده (٤).

وحكى [عنه](٥) أنّ رجلا طحّانا كان لبعض الأكراد عنده ستة دنانير من ثمن قمح ، فزار [الطّحّان] قبر الشيخ ، وجاء الكردىّ فوجده عند قبر الشيخ (٦) ،

__________________

(١) سورة المؤمنون ـ الآيتان ١ و ٢.

(٢) فى «م» : «لثلاثة عشر ليلة» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) سورة المؤمنون ـ الآية ٢٩.

(٤) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» ، والمشار إليه فى الهامش بالصفحة رقم (٥٨٥).

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م» فى الموضعين.

(٦) فى كرامات الأولياء للنبهانى : «فاتفق أن لقى الكردى ..» أى لقى الكردىّ الطحان وهو يزور قبر أبى الحسن الدينورى مصادفة.

[انظر القصة فى المصدر المذكور ج ٢ ص ٣١٥ ، وقد أوردها النبهانى مختصرة ، وانظر الكواكب السيارة ص ٢٨٧].

٥٩٢

فطالبه وألحّ عليه ، فتوسّل إليه بالشّيخ فى المهلة (١) ، فأبى [الكردىّ] ، وأخذه ومضى ، فلم يتقدّم الكردىّ سوى عشرين خطوة ، وهمزت به دابّته ، فانخسف به قبر ، فوقع واندقّت رأسه (٢).

وقال أبو حفص بن غزال بن عمر (٣) الحضرمى الإمام : «من أراد الحجّ إلى بيت الله الحرام فليغتسل (٤) فى يوم الأربعاء آخر الشهر ، من أىّ شهر كان (٥) ، ويلبس ثوبا نظيفا ، ويتطيّب بطيب إن كان عنده ، ويمضى إلى قبر الشيخ أبى الحسن الدّينورىّ ويصلى عنده أربع ركعات ، يقرأ فى الأولى : فاتحة الكتاب وآية الكرسىّ (٦). وفى الثانية : الفاتحة وسورة القدر (٧). وفى الثالثة : الفاتحة وسورة ألهاكم التكاثر (٨). وفى الرابعة : الفاتحة وسورة الإخلاص (٩).

ثم يسلّم ويقول : «يا فرد لا يزدوج ، يا مالك الأشباح والمهج ، يا ودود ، يا ودود (١٠) ، يا ذا العرش المجيد ، يا مبدئ ، يا معيد ، يا فعّال لما يريد ، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك ، وبقدرتك التى قدرت بها على خلقك (١١) ، وبرحمتك التى وسعت كلّ شىء ، يا مغيث أغثنى ، يا مغيث أغثنى» (١٢).

__________________

(١) فى «ص» : «فتحسّب بقبر الشيخ فى المهلة عليه». وما بين المعقوفتين ـ بعد ذلك ـ عن «ص» وساقط من «م».

(٢) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فلم يتقدم أكثر من عشرين خطوة حتى همز الدّابة فانخسف به قبر واندقت عنقه ومات». والرأس مذكر فى اللغة ، وأيضا العنق ، ولكن الأخير قد يؤنث بمعنى «الرقبة».

(٣) فى «م» : «عمران» .. وما أثبتناه عن «ص» والكواكب السيارة ص ٢٨٧ وهو الصحيح.

(٤) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «يغتسل».

(٥) فى «ص» : «فى آخر أربعاء فى أى شهر كان ، بعد صلاة الفجر».

(٦) فى «ص» : «يقرأ فى الأوله (هكذا) بعد الفاتحة آية الكرسى».

(٧) فى «ص» : «وفى الثانية بعد الفاتحة إنّا أنزلناه فى ليلة القدر».

(٨) فى «ص» : «بعد الفاتحة ألهاكم التكاثر».

(٩) فى «ص» : «بعد الفاتحة سورة الإخلاص».

(١٠) هكذا مكررة.

(١١) فى «م» : «على جميع خلقك».

(١٢) هكذا فى «م» .. وفى «ص» لم تتكرر الجملة.

٥٩٣

وتشير بإصبعك إلى القبر ، ويكون ذلك قبل طلوع الشمس. ثم تقول : «اللهمّ اجعل ثواب القراءة والصّلاة للشيخ أبى الحسن الدينورى صاحب هذا القبر».

ثم تنزع ثيابك ، وتجعل فى وسطك سراويل ، وتتمرّغ (١) على القبر ، وتجعل رجليك خارج القبر (٢) ، فإنك تحج إن شاء الله تعالى. وإيّاك أن تكذب أو تجعله على سبيل التجربة ، فإنّك لا تنتفع به (٣).

وحكى أنّ العادل بن السّلّار (٤) ـ قبل وزارته ـ استدعاه الأمير حسن بن الحافظ [الخليفة الفاطمى](٥) للقتل ، وكان فى تلك الليلة قد قتل أربعين أميرا فى القصر الغربّى ، وكان العادل إذ ذاك ساكنا بمصر القديمة (٦) ، فقال للموكّلين به : أريد منكم الإنعام علىّ بزيارة القرافة ، قبل أن أطلع إلى القرافة (٧) ، فإن حضر

__________________

(١) هذه الفقرة وردت فى «م» بضمير الغائب لا المخاطب ، هكذا : «ثم ينزع ثيابه ويجعل فى وسطه سراويل ، ويتمرغ ...» الخ.

(٢) فى «ص» : «خارجا عن القبر».

(٣) فى «م» : «وليحذر أن يكذبه ، أو يجعل ذلك سببا للتجربة ، فإنه لا ينتفع به». ويقول ابن الزيات معلقا على هذا : «وهذا أغرب ما رأيته فى تاريخ ابن عثمان» يعنى مؤلف مرشد الزوار.

[انظر الكواكب السيارة ص ٢٨٨].

(٤) عرف فى تاريخ الدولة الفاطمية بلقب الملك العادل سيف الدين ناصر الحق ابن السلّار ، وكان سنّيّا مغاليا ، وقد هيأ لرجوع المذهب السّنّى إلى مصر ، وكان شافعى المذهب ، وهو من أصل كردىّ ، وقد نشأ فى القاهرة وشغل مناصب مختلفة فى الوجه القبلى وتدرج فيها حتى ولى الوزارة فى عهد الخليفة الظافر فى رجب سنة ٥٤٣ ه‍. وقد اعتمد الخليفة الظافر فى الكيد لابن السلّار واغتياله سنة ٥٤٨ ه‍ على يد نصر بن عباس ، وهو شاب من أخص خواصه. [انظر تاريخ الدولة الفاطمية للدكتور حسن إبراهيم ص ١٨٠ ـ ١٨٥ ، والدولة الفاطمية فى مصر للدكتور أيمن فؤاد ص ٢٠٨ ـ ٢١٢ وغيرها من الصفحات].

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م». [وانظر المصدر الأخير ص ١٩٠ ـ ١٩٢].

(٦) فى «ص» : «وكان مسكن العادل مصر».

(٧) فى «ص» : «فسأل المستخدمين أن يمكنوه من زيارة الشيخ أبى الحسن فى طريقه» ومعنى قوله : «قبل أن أطلع القرافة» أى : قبل أن أقتل.

٥٩٤

أجلى كان آخر العهد بتلك الأماكن ، وإلّا فأكون قد حصلت على خير بزيارتى لقبور الصّالحين.

قال : ففعلوا ما أمرهم به ، وزار قبور المشهورين فى الجبّانة إلى أن جاء إلى قبر أبى الحسن الدّينورىّ ، فقرأ شيئا من القرآن ، وتوسّل إلى الله فى خلاصه وبكى ، ثم خرج مع القوم ، فرأى فى دهليز التربة رجلا يبكى ويستغيث ، فسأله عن سبب بكائه ، فقال : اجتمع علىّ دين ، وقال أهلى : امض إلى قبر الشيخ أبى الحسن فتوسّل إلى الله فى وفاء دينك. قال : فدفع له دنانير وذهب إلى القاهرة ، ودخل إلى القصر ، فأخبر الأمير بمجيئه ، فقال : يمضى ، فقد ولّيته «مصر» وعفوت عنه (١).

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وقال إن حضرت [أى : ساعة وفاتى] فأكون قد تبركت بهذه الأماكن. ودفع لهم شيئا ، فأتوا به إلى القرافة ، فجاء إلى القبر [أى : قبر أبى الحسن الدينورى] ولقى عنده رجلا ، فقال : ما يقعدك هاهنا فى هذا الوقت؟ فقال : اجتمع علىّ دين ، وقال لى أهلى : امض إلى قبر الشيخ أبى الحسن الدينورى. فأعطاه دينارين ، ودخل معهم ، فشاوروا عليه ، فقيل لهم : يمضى ويتولى مصر ، فقد عفونا عنه».

٥٩٥

قبر أبى بكر محمد بن داود الدّقّىّ (١) :

بجانبه (٢) قبر الشيخ أبى بكر محمد بن داود الدّينورىّ المعروف بالدّقّىّ ، ويقال القابلىّ (٣). صحب ابن الجلّاء والزّقاق (٤) ، وعاش مائة عام ، وتوفى سنة ٣٥٧ ه‍ (٥).

وكان يقول : «المعدة موضع يجمع [فيه](٦) الأطعمة ، فإذا (٧) طرحت فيها الحلال صدرت الأعضاء بالأعمال الصالحة ، وإذا طرحت فيها (٨)

__________________

(١) العنوان من عندنا .. وهو : أبو بكر محمد بن داود الدينورى ، أحد الأعيان ، البغدادى ، ثم الدمشقى ، أقام بالشام ، وعمّر فوق مائة سنة ، ومولده سنة ٢٥٠ ه‍ تقريبا ، وصحب أبا عبد الله ابن الجلّاء وأبا بكر الزقّاق ، وأكابر القوم ، وكان من أجلّ المشايخ. وسمّى بالدّقّى نسبة إلى أبى بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الدّقّى ، المؤدب المعروف بابن الدّق. وقد ذكرت بعض المراجع هذا الاسم مرة بالراء المهملة ، «الرقى» ، مثل ابن الزيات فى الكواكب السيارة ، والشعرانى فى طبقاته ، ومرة بالزاى المعجمة ، «الزقى» ، مثل الخطيب البغدادى فى تاريخ بغداد ، وكلا الاسمين محرف ، وما أثبتناه هو الصحيح ، وذكره السمعانى فى الأنساب ، والسلمى فى طبقات الصوفية ، وأبو القاسم فى الرسالة القشيرية.

[انظر ترجمته فى تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٦٦ و ٢٦٧ ، وطبقات الشعرانى ج ١ ص ١١٩ ، والرسالة القشيرية ج ١ ص ١٨٠ ، والأنساب للسمعانى ج ٢ ص ٤٨٦ ، وطبقات الصوفية ص ٤٤٨ ـ ٤٥٠ ، والكواكب السيارة ص ٢٨٨ ، وطبقات الأولياء ص ٣٠٦ ـ ٣١٠].

(٢) أى بجانب الشيخ أبى الحسن الدينورى ، وفى الأنساب ، وتاريخ بغداد ، وطبقات الأولياء ، والرسالة القشيرية ، أنه مات بدمشق.

(٣) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «القبالى» .. وفى الكواكب السيارة : «الفتالى» ولم ترد هذه الكلمة فى المراجع التى ترجمت له.

(٤) فى «ص» : «ابن الزقاق» وما أثبتناه عن «م» هو الذي ذكرته سائر المراجع التى ترجمت له. وهو أبو بكر الزقاق.

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «مات سنة خمسين وثلاثمائة» ـ وقد اختلف فى تاريخ وفاته ، ففى تاريخ بغداد أنه توفى سنة ٣٥٩ ه‍. وفى طبقات الأولياء سنة ٣٦٠ ه‍. وفى طبقات الصوفية وطبقات الشعرانى أنه مات بعد الخمسين وثلاثمائة.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٧) فى «م» : «فإن».

(٨) فى «م» : «فيه» أى الموضع.

٥٩٦

الشّبهة اشتبه عليك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ، وإذا طرحت فيها الحرام كان حجابا بينك وبين الله تعالى» (١).

وكان يقول (٢) : «لا يكون المريد مريدا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة».

وقيل له : «ما علامة الصّوفىّ؟ قال : أن يكون مشغولا بكل ما هو أولى به من غيره ، ويكون معصوما من المذمومات».

وقال : «علامة القرب الارتفاع عن كل شىء سوى الله تعالى ، ومن انقطع إلى الله لجأ إليه ، ومن انقطع إلى المخلوقين لجأ إليهم».

وسئل عن سوء أدب الفقراء مع الله فى أحوالهم ، فقال : «انحطاط همومهم من حقيقة العلم إلى ظاهره».

وقال : «كم من مسرور سروره بلاؤه ، وكم من مغموم غمّه نجاته».

وقال : «الإخلاص أن يكون ظاهر الإنسان وباطنه ، وسكونه وحركته خالصا لله عزّ وجلّ» (٣).

وقال : «الفقير [هو](٤) الذي عدم الأسباب من ظاهره ، وعدم طلبها من باطنه».

وقال : «خلق الله الخلق متحرّكين فى أسبابهم ، وجعل الحياة (٥) فيهم

__________________

(١) فى «ص» : «كان بينك وبين الله حجاب».

(٢) فى «ص» : «وكان أبو بكر يقول».

(٣) بعد هذا فى طبقات الصوفية : «.. لا يشوبه حظّ نفس ، ولا هوى ، ولا خلق ، ولا طمع».

(٤) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

(٥) فى «ص» : «الحيلة». وفى طبقات الصوفية : «خلق الله تعالى الخلائق كلّهم متحركين يدبّون على الأرض ، وجعل الحياة منهم لأهل المعرفة ، فالخلق متحركون فى أسبابهم ، وأهل المعرفة أحياء بحياة معروفهم ، فلا حياة ـ حقيقة ـ إلّا لأهل المعرفة ، لا غير». [انظر المصدر المذكور ص ٤٥٠].

٥٩٧

لأهل المعرفة ، فالخلق يتحركون فى أسبابهم ، وأهل المعرفة أحياء بحياة معروفهم ، فلا حياة حقيقية إلّا لأهل المعرفة لا غير».

وقال : «كنت فى البادية ، فوافيت قبيلة من العرب ، فأضافنى رجل منهم ، فرأيت غلاما أسود مقيدا هناك ، ورأيت جمالا ميّتة بفناء البيت ، فقال لى الغلام : أنت ضيف ، وأنت كريم على مولاى ، فاشفع لى عنده ، فإنّه لا يردّك (١).

فقلت لصاحب البيت : لا آكل لك طعاما حتى تطلق هذا الغلام (٢).

فقال : قد أفقرنى وأتلف مالى. فقلت له : ما الذي (٣) فعل؟ قال : كانت لى جمال ، وكنت أعيش من ظهورها (٤) ، فحمّلها أحمالا ثقالا (٥) ، وحدا عليها (٦) ، فأخذت مسيرة ثلاثة أيام فى يوم واحد ، فلما حطّ عنها أحمالها ماتت لوقتها (٧). ولكن وهبته لك.

وحلّ عنه القيد ، فلما أصبح أحببت أن أسمع صوته ، فقلت ذلك لسيّده ، فقال : لا نقدر ، قلت : لا بدّ من ذلك ، فأمره (٨) أن يشدّ جملا بحمل وثيق ، ثم حدا (٩) بصوت عظيم ما سمعت قطّ أندى منه ولا أطيب ، فقطع

__________________

(١) فى «ص» : «فتشفّع لى فإنه لا يردّك».

(٢) فى «ص» : «لا آكل طعاما حتى تحل هذا الغلام».

(٣) فى «ص» : «فقلت : ما الذي».

(٤) فى «ص» وطبقات الأولياء ، والرسالة القشيرية : «قال : له صوت طيب ، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال».

(٥) فى «ص» : «فقالا» تحريف من الناسخ. وفى طبقات الأولياء : «أحمالا ثقيلة».

(٦) فى «م» : «وجرى عليها» وما أثبتناه عن «ص» ، وفى المصدر السابق : «وحدا لها» من الحداء ، وهو الغناء للإبل فتشتد فى السير.

(٧) قوله : «لوقتها» عن «م» أى : فى الحال .. وفى المصدر السابق : «ماتت كلها».

(٨) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فسألته ذلك ، فأمره ...».

(٩) هكذا فى «م» .. وفى المصدر السابق : «فأمر الغلام أن يحدو على جمل كان على بئر هناك يسقى عليه ، فحدا ...» الخ.

٥٩٨

الجمل الحبل وهام على وجهه ، ووقعت أنا على وجهى ، فلم أسمع ، فأشار سيّده له بأن يسكت ، فأفقت وقلت (١) :

إن كنت تنكر أنّ للا

صوات فائدة ونفعا

فانظر إلى الإبل اللّوا

تى هنّ أقوى منك طبعا (٢)

تصغى إلى قول الحدا

ة فتقطع الفلوات قطعا (٣)

وروى عنه أنه قام ليلة إلى الصّباح يقوم ويقعد ويسقط على هذا البيت (٤) :

يا رب فاردد فؤاد مكتئب

ليس له من حبيبه خلف (٥)

والناس حوله يبكون.

وحكى (٦) عنه أنه قال : «صلّيت فى ليلة شاتية فقلت : ليتنى أدرى من وافقنى فى هذه الليلة! قال : فسمعت من يقول : وافقك فيها غلام من أهل دينور يقال له : أبو الحسن بن الصائغ ، دعاه الله إليه فأجابه.

__________________

(١) فى «ص» : «.. وحدا ، فقطع الجمل الحبل وهام .. فوقعت على وجهى ، فلم أسمع حتى أشار إليه بالسكوت ، وأنشدت ..». وفى المصدر السابق : «فهام الجمل على وجهه وقطع حباله ، ولا أظن أنى سمعت صوتا أطيب منه ، ووقعت لوجهى حتى أشار عليه بالسكوت .. وأنشد فى المعنى». وقد ورد الشعر فى «ص» متداخلا فى بعضه ومتصلا كأنه نثر.

(٢) فى «م» : «هو» مكان «هن» تحريف. وفى طبقات الأولياء : «هن أغلظ منك طبعا».

(٣) فى المصدر السابق : «تصغى إلى حدو الحداة».

(٤) فى «م» : «مفرد» أى : بيت واحد. وفى المصدر السابق : «قام ليلة إلى الصباح يصيح ويبكى وينشد».

(٥) فى المصدر السابق : «بالله» مكان «يا رب» .. وفى «ص» : «حنينه» مكان «حبيبه».

(٦) هنا فى «ص» : «قبر الشيخ الفقيه أبى عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد» وقد مر .. ومن هذا الموضع إلى نهاية المخطوط اثرنا الاقتصار على «م» ، حيث أن ماورد فى «ص» ـ إن وجد ـ فهو بصورة مختصرة ، وسنشير إلى ذلك فى موضعه.

٥٩٩

قال : فخرجت مسافرا حتى جئت إلى دينور ، فسألت عنه ، فقيل لى إنه بدكّان أبيه ، فجئت إليه ، فإذا أنا بغلام عليه هيبة ووقار ، وهو فى خدمة أبيه بين يديه فى الدّكّان ، وهو يعمل الصنعة ، قال : فوقفت قليلا ، فدفع له والده لحما وقال : امض بهذا إلى أمّك. قال : فأخذ اللّحم وذهب ، وقد أخذ بمجامع قلبى ، فذهبت معه ، فمرّ برجل يوقد نارا وهو يؤرّثها (١) بالحطب الصّغار ، ثم بعد ذلك أوقدها بالحطب الكبار ، فوقف أبو الحسن طويلا ونظر إليه ، وبكى بكاء شديدا ، فجئت إليه وقلت له : ممّ تبكى يا بنىّ؟ فقال : «يا عم ، أما تنظر إلى ما فعل هذا الرجل وهو يوقد النار بالحطب الصّغار قبل الكبار؟! فربما يكون ذلك فى نار الآخرة ، وأكون أنا منهم! فأبكانى ذلك» ، فقلت : لله درّك ، ما أخوفك من ربّك!

وسار ، وسرت خلفه ، [وحين سمع] أذان المؤذّن (٢) بالظّهر وهو يقول : «حىّ على الفلاح» قال (٣) : لبيك داعى الله ، ثم ترك اللّحم ، فقلت فى نفسى : أما خاف من كلب يأتى فيأخذ اللحم؟

ثم وقفت أنظر إلى ما يقع فى اللحم ، فإذا أنا بكلب قد جاء مسرعا إلى أن وقف يحرس اللّحم ، فلما انقضت الصّلاة خرج وأخذ اللّحم وانصرف ، فتبعته إلى منزله ، فدخل منزلا عظيما وغاب ساعة ، ثم خرج ووجهه مشرق ، فقلت له : ما اسمك يا حبيبى؟ فقال لى : أما تعرفنى؟ أنا أبو الحسن الذي رأيته فى منامك. فقلت له : حبيبى ، مثلك من يصلح للعبادة. ثم ودّعته (٤) وتوجهت.

__________________

(١) يورّثها : يوقدها ويشعلها.

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة المعنى. وفى «م» : «أذان المؤذنون» لا تصح بهذه الصورة.

(٣) فى «م» : «فقال».

(٤) فى «م» : «دعوته» تحريف ، وما أثبتناه هو الصواب.

٦٠٠