مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

هل يصل إليك فى القبر (١)؟ قالت : نعم ، الكل يصل إلىّ ، لكن لم يكن ذلك مثلما تقرأ (٢) على رأس قبرى (يس) ، فإنى أجد راحة من ذلك أكثر من الصّدقة والدعاء (٣).

وحكى عن محمد بن محمد المدنى ، قال : مات قريب (٤) لى ، فرأيت فى المنام كأنّ وجهه نور يتلألأ ، فقلت له : ما هذا النور؟ فقال : جارنا فلان ـ وسمّاه باسمه ـ زارنا وقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات ، وقسم ثوابها بين أهل القبور (٥) ، فأصابنى من النور ما ترى.

وروى أبو محمد السّمنانى قال : سمعت عبد الرحمن بن جمعة الكوفى يقول : رأيت فيما يرى النائم كأنى أمرّ فى مقبرة من المقابر (٦) ، فرأيتهم فى جلبة وتشويش ، فقلت : ما هذا الذي أرى بكم؟ فقالوا : مرّ عبد من عباد الله فقرأ ثلاث مرات سورة الإخلاص ، فقال : يا رب ، قد جعلت أجرها لمن فى هذه المقبرة ، فنحن نقتسم أجرها منذ أربعة أشهر فيما بيننا.

وروى عن الطّلائعى قال : كنت أزور قبر إبراهيم بن شيبان (٧) كل يوم

__________________

وروى عن رجل من آل عاصم الجحدرىّ ، قال : رأيت عاصما فى منامى ـ بعد موته بسنتين ـ فقلت : أليس قد متّ؟! قال : بلى. قلت : فأين أنت؟ قال : أنا ـ والله ـ فى روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابى ، نجتمع كلّ ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد العزيز فنتلاقى أخباركم .. قلت : أجسامكم أم أرواحكم؟ قال : هيهات .. بليت الأجسام ، وإنما نتلاقى بالأرواح. فقلت : هل تعلمون زيارتنا؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة وليلة الجمعة كله ، وليلة السبت». (انتهى).

(١) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «ما أبعثه من الصّدقة يصل إليك فى القبر ، وما أدعو به؟».

(٢) فى «ص» : «لا مثلما يقرأ».

(٣) فى «ص» : «ما أجد من الصدقة والدعاء».

(٤) فى «م» و «ص» : «قرابة».

(٥) فى «ص» : «أهل القبر».

(٦) فى «م» : «من بعض المقابر».

(٧) هو إبراهيم بن شيبان القرميسينىّ ، أبو إسحاق ، له مقامات فى الورع والتقوى يعجز عنها

٤١

وأقرأ جزءا من القرآن ، وأهب ثواب ذلك الجزء له ، فجئت يوما وجلست عند قبره ، وتفكرت فى حاله ودرجته عند الله تعالى ساعة ، ثم قمت وما قرأت شيئا ، فلمّا جنّ علىّ الليل رأيت فى المنام إبراهيم (١) فقال : يا أبا علىّ ، كنت تقرأ شيئا وتجعل ثوابه لنا ، فلم تركت اليوم؟ فقلت : يا شيخ ، ومثلك يحتاج إلى ثواب قراءتنا؟ فقال : يا أبا علىّ ، ومن يشبع من رحمة الله تعالى؟!.

قال الحافظ عبد الغنى (٢) رحمه الله ، سمعت أخى أبا إسماعيل بن إبراهيم ابن عبد الواحد بن على المقدّسي يقول : رأيت خالى الشيخ الصالح أبا العباس أحمد بن محمد بن قدامة المقدسى فى النوم ، وكان عدّة من أصحابنا (٣) كل ليلة جمعة يختمون القرآن ، ويجعلون ثوابه لأمواتنا وأموات المسلمين ، فقلت له : ما نقرؤه يصل إليكم؟ فقال : نعم ، ولكنكم تستعجلون فيه ، كأنه أشار إلى استحباب الترتيل والتّثبّت فى القراءة.

وروى أيضا بإسناده إلى عائشة ، رضى الله عنها ، عن أبى بكر الصّدّيق ، رضى الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : «من زار قبر والديه كل جمعة ، أو أحدهما ، فقرأ عندهما ، أو عند أحدهما ، سورة «يس» ، غفر الله له بعدد كل آية أو حرف».

__________________

الخلق ، إلا مثله. صحب أبا عبد الله المغربيّ ، وإبراهيم الخوّاص .. وكان شديدا على المدّعين ، متمسكا بالكتاب والسّنّة ، وكانت وفاته سنة ٣٣٦ ه‍.

[انظر ترجمته فى حلية الأولياء ج ١٠ ص ٣٦١ ، ٣٦٢ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، والطبقات الكبرى للشعرانى ج ١ ص ١١٣ ، ١١٤ ، والرسالة القشيرية ج ١ ص ١٧٤ ، وطبقات الصوفية ص ٤٠٢ ـ ٤٠٥].

(١) فى «ص» : «إبراهيم بن شيبان».

(٢) هو الإمام عبد الغنى بن عبد الواحد بن على بن سرور المقدّسي الحنبلى ، الحافظ ، أوحد زمانه فى علم الحديث والحفظ ، صاحب «العمدة» و «الكمال» وغير ذلك من التصانيف ، نزل مصر فى آخر عمره ، ومات بها سنة ٦٠٠ ه‍ ، وله تسع وخمسون سنة.

[انظر حسن المحاضرة ج ١ ص ٣٥٤ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ٣٤٥ ، ٣٤٦ ، وتذكرة الحفاظ ج ٤ ص ١٣٧٢ ـ ١٣٨١].

(٣) عدّة ، أى : عدد .. وفى «ص» : «وكان عادة أصحابنا كل جمعة ..».

٤٢

قال الحافظ رحمه الله : حدثنى بعض أصحابنا من أهل الفقه والعلم ، قال : ماتت أمّى ، وكانت صوّامة قوّامة ، وكنت أقرأ كل ليلة ألف مرة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وأقول : اللهم إنّى أسألك قبول ما قرأته ، وأن تجعل ثوابه هدية منى لأمّى ، أو والدتى (١). فأقمت على ذلك خمس سنين ، وكنت أشتهى أن أراها ، فقرأت ليلة خمسمائة مرّة (٢)(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وأهديت ثوابها لها ، فرأيتها فى منامى وعليها ثياب جدد ، وهى فى أحسن صورة ، فقلت لها : سلام عليك يا أمّاه ، ما ذا لقيت (٣) من الله؟ قالت : كل خير ، جزاك الله عنى خيرا يا ولدى ، والله يا ولدى (٤) لقد وصلت إلىّ هديتك ، بالله يا بنىّ ، [لا تسمع من هؤلاء الذين يقولون لا تصل الهدية إلى الأموات ، والله لقد وصلت وخفّف عنّى بها شيئا كثيرا ، فبالله يا بنىّ](٥) إن لم يكن الكثير فليكن القليل ، ولا تقطع عنى هديتك.

وكان لها ولد عندنا يقال له عبد الرحمن ، فقالت : والله لا أتركه عندكم ، فأخذته وحملته ومضت .. قال : فاستيقظت على أثر (٦) ذهابها ، فما أقام الصبى إلّا ثلاثة أيام ثم مات ، رحمه الله.

قال رسول الله (٧) ، صلّى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم (٨) انقطع عمله إلّا من

__________________

(١) فى «ص» : «واجعل ثوابه هدية منى إلى والدتى».

(٢) «مرّة» عن «م».

(٣) فى «ص» : «ما لقيت».

(٤) «يا ولدى» عن «م».

(٥) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٦) هكذا فى «م» ، ويقال : جاء فى إثره وفى أثره ، أى : فى عقبه .. وفى «ص» : «فاحتملته ومضت ، واستيقظت ، فما أقام الصبى إلّا ثلاثة أيام ثم مات».

(٧) هنا فى «ص» : «وأمّا قوله» ، ولم يأت بعدها بجواب «أمّا» ، وهو سهو من الناسخ.

(٨) فى «ص» : «إذا مات العبد» وكلاهما مروى.

٤٣

ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له». رواه مسلم والنسائى ، ورواه أبو داود والترمذى .. وليست قراءة القارئ من بعده والهدية له من عمله ، لأن الخبر يدل على انقطاع عمله ، لا عمل غيره ، ولا يمتنع أن يصل إليه من عمل غيره إذا عمله وجعل ثوابه إليه (١). وأمّا قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فقال (٢) ابن عباس : نسخها قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ..)(٣). فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.

وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، ألا ترى إلى قوله فى أول الآية : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)(٤). فأمّا هذه الآية فلهم ما سعوا وسعى غيرهم ، لخبر سعد بن عبادة ، رضى الله عنه ، أنه سأل النبي ، صلّى الله عليه وسلم : هل لأمّى أجر إن تطوّعت عنها؟ قال : نعم. وفى حديث أنّه حفر بئرا وقال : يا ربّ ، هذه لأمّ سعد (٥). وخبر المرأة التى سألت : إنّ أبى مات ولم يحج .. فقال : حجّى عنه.

وقال الربيع بن أنس ، رضى الله عنه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) يعنى : الكافر .. فأما المؤمن فله ما سعى غيره .. قال مضارب بن إبراهيم : دعا عبد الله بن طاهر والى خراسان ، الحسن بن الفضل ، فقال : أشكلت علىّ

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «.. ولا يمنع أن يتصل إليه من غيره عمل إذا عمله وجعل ثوابه إليه».

(٢) فى «م» و «ص» : «قال» .. والفاء هنا واقعة فى جواب «أمّا» والآية التى قبل الفعل هى الآية رقم ٣٩ من سورة النجم.

(٣) سورة الطور ـ من الآية ٢١ .. وقد وردت الآية فى «ص» محرفة من الناسخ .. والآية بتمامها : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ). ومعنى «ما ألتناهم» ، أى : ما نقصناهم.

(٤) سورة النجم ـ الآيات من ٣٦ ـ ٣٩.

(٥) فى «م» : «لأبى سعد».

٤٤

ثلاث آيات (١) : قوله فى وصف ابن آدم : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(٢) ، وقد صح الخبر بأن الندم توبة .. وقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(٣) ، وصح الخبر بأن القلم قد جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة .. وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فما بال الإضعاف؟ (٤) .. فقال الحسن بن الفضل : يجوز أن يكون الندم توبة لهذه الأمة (٥) فإن الله سبحانه خصّها بخصائص لم يشرك فيها غيرهم. وقيل : إنّ ندم قابيل لم يكن على [قتل](٦) هابيل ، وإنما كان على جهله (٧). وقوله [عزّ وجلّ](٨) : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) يعنى : من طريق العدل .. وأما قوله : [عزّ وجلّ] : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فإنها شئون يعيدها للاشئون يبيدها (٩) ، ومحا سوق المقادير إلى المواقيت .. فقام عبد الله بن طاهر فقبّل رأسه وسوّغه خراجه (١٠).

وروى مبشّر بن إسماعيل (١١) عن عبد الرحمن بن العلاء (١٢) أنه أوصى

__________________

(١) «آيات» عن «ص».

(٢) سورة المائدة ، من الآية ٣١.

(٣) سورة الرحمن ، من الآية ٢٩.

(٤) الإضعاف والأضعاف : المضاعفة والكثرة.

(٥) أى : أمّة محمد ، صلّى الله عليه وسلم .. وفى «ص» : «يجوز أن يكون الندم توبة له ، [أى لقابيل على قتله أخيه هابيل] ويكون ندم هذه الأمة توبة لها».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٧) فى «م» : «حمله».

(٨) ما بين المعقوفتين عن «ص» فى الموضعين.

(٩) فى «م» : «يبديها».

(١٠) سوّغه خراجه : سهّله وأباحه له.

(١١) فى «م» : «ميسر» تصحيف من الناسخ. وهو : مبشّر بن إسماعيل الكلبى ، أبو إسماعيل ، من أهل حلب ، عالم مشهور ، صدوق ، سمع الأوزاعى ، وخرّج له البخارى مقرونا بآخر ، ووثقه ابن حبّان وابن سعد. ومات بحلب سنة ٢٠٠ ه‍.

[انظر ميزان الاعتدال ج ٣ ص ٤٣٣ ، ورجال صحيح البخارى ج ٢ ص ٨٨٣ ، ورجال صحيح مسلم ج ٢ ص ٢٨٠ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٣٥٩]

(١٢) هو عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج ، شامّى الأصل ، روى عن أبيه ، وما روى عنه

٤٥

إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها ، وقال : سمعت ابن عمر رضى الله عنهما يوصى بذلك .. والله أعلم.

الوظيفة التاسعة : الدعاء للمزور ، لأنّ الدعاء تحفة الميت من زائريه .. روى عن النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، أنه قال : «ما الميت فى قبره إلا كالغريق المتغوّث (١) ينتظر دعوة تلحقه ، أو صدقة تلحقه من ابنه (٢) ، أو أخيه ، أو صديق له (٣) ، فإذا لحقته كانت أحبّ إليه من الدنيا وما فيها».

[فإذا جزت على المقابر فلا تبخل بقراءة آيتين ، فإنها صدقة سهلة](٤) قال العلماء : هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار.

قال بشّار بن غالب النجرانى : رأيت رابعة العدوية فى النوم ، وكنت كثير الدعاء لها ، فقالت : يا بشّار بن غالب (٥) ، رأيت هداياك تأتينا على أطباق من نور ، مخمّرة (٦) بمناديل الحرير!! قلت : وكيف ذلك؟ قالت : هكذا دعاء المؤمنين الأحياء ، إذا دعوا للموتى يؤتى به إلى الميت على أطباق من نور ، مخمّر بمناديل الحرير ، فيقال (٧) له : هذه هدية فلان.

__________________

سوى مبشر بن إسماعيل الحلبى [انظر ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٥٧٩].

(١) أى : الذي يطلب الإغاثة والمعونة .. وفى رواية «المغوّث ، وهى بمعناها. وفى «ص» : «كالغريق المتعذب».

(٢) فى «م» : «من أبيه».

(٣) «له» عن «ص».

(٤) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص». وقوله : «قال العلماء» بعد ذلك عن «ص».

(٥) فى «م» : «يا بشّار بن غالب النجرانى».

(٦) مخمّرة ، أى : ملفوفة ومستترة.

(٧) فى «م» : «يقال».

٤٦

قال بشر بن منصور : لمّا كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبانة (١) فيشهد الجنائز فيصلى عليهم ، وإذا أمسى (٢) وقف على المقابر فقال : «آنس الله وحشتكم ، ورحم غربتكم ، وتجاوز عن سيّئاتكم ، وقبل حسناتكم» ، لا يزيد على هذه الكلمات .. قال الرجل : فأمسيت (٣) ذات ليلة فانصرفت إلى أهلى ولم آت المقابر فأدعو بما كنت أدعو به ، فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاءونى ، فقلت : من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا : إنك كنت تدعو فى كل يوم عند انصرافك إلى أهلك بدعوات دعوت لنا بها .. قلت : فإنى أعود. فما تركتهن بعد (٤).

وعن عبد الرحمن بن العلاء (٥) عن أبيه ، أنه قال لولده : إذا أنا متّ وأدخلتمونى فى اللحد فهيلوا (٦) علّى التراب وقولوا : بسم الله ، وعلى ملّة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، وسوّوا علّى التراب ، واقرءوا عند رأسى بفاتحة الكتاب وفاتحة البقرة ، إلى قوله : [تعالى](٧) : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٨) ، وخاتمتها (٩) من قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(١٠) ، فإنى سمعت ابن عمر ، رضى الله عنه ، يستحب ذلك .. رواه الطبرانى فى معجمة (١١).

__________________

(١) يختلف إلى الجبّانة : يأتى إليها.

(٢) هكذا فى «م» وفى الكواكب السيارة ص ١٧ ـ وفى «ص» : «فإذا مشى».

(٣) هكذا فى «م» والمرجع السابق ـ وفى «ص» : «فأنسيت».

(٤) هكذا فى «م» وفى «ص» باختلاف يسير فى بعض الألفاظ .. وفى الكواكب السيارة : «.. فقالوا : إنك عوّدتنا عند انصرافك بهدية تهديها إلينا. فقلت : وما هى؟ قالوا : الدعوات اللاتى كنت تدعو بهنّ عند انصرافك إلى أهلك. قال : فما زلت عليهنّ ما دمت حيّا».

[انظر المصدر السابق ص ١٨].

(٥) سبق التعريف به. وهذه الفقرة عن «م» ولم ترد فى «ص».

(٦) أى : فصبّوا وأرسلوا .. وفى «م» : «فهيّئوا».

(٧) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٨) سورة البقرة ـ من الآية الخامسة. أى : يقرأ الآيات الخمس الأولى منها.

(٩) فى «م» : «وخاتمها».

(١٠) سورة البقرة ـ من الآية ٢٨٤. والمراد قراءة الآيات الثلاث الأخيرة من السورة المشار إليها.

(١١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

٤٧

وقال الشعبى (١) : سنّة كانت فى الأنصار : إذا مات الميت لم يدفن حتى يقرأ عند رأسه سورة البقرة. وبعد هذا ، فكل ما يفعله الإنسان من أنواع البرّ والخير يصل إليهم ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ)(٢) .. وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)(٣) .. فلو لم تكن الصلاة والدعاء (٤) يصلان إليهم ، وكذلك الاستغفار ، لم يخبر الله عنهم بذلك ، فكذلك الصدقة وقراءة القرآن والدعاء ، ينفعهم ويصل إليهم. وقد صلى النبي صلّى الله عليه وسلم على جماعة من الصحابة والنجاشى ، وهو غائب (٥) ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وهو بالمدينة لمّا صلى عليه .. وكذلك لمّا صلّى على خبيب (٦) بن عدىّ ، أحد أصحابه ـ صلّى الله عليه وسلم ـ حين صلب بمكة ، والنبي صلّى الله عليه وسلم بالمدينة ، والأدلة أكثر من أن تحصى.

__________________

(١) هو عامر بن شراحيل بن عبد ، الشعبى ، الحميرى ، من التابعين ومن رجال الحديث الثقات.

ولد سنة ١٩ ه‍ ، ويضرب المثل بحفظه ، اتصل بعبد الملك بن مروان فكان نديمه وسميره ورسوله إلى ملك الروم ، واستقضاه عمر بن عبد العزيز. وكان وفاته سنة ١٠٣ بالكوفة ، واختلف فى سنة وفاته من سنة ١٠٣ ـ ١٠٧ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٣ ص ٢٥١ ، وتاريخ بغداد ج ١٢ ص ٢٢٧ ـ ٢٣٤ وحلية الأولياء ج ٣ ص ٣١٠ ـ ٣٣٨ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢ ـ ١٦ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٤٤٩ ـ ٤٥١].

(٢) سورة الحشر ـ من الآية ١٠.

(٣) سورة غافر ـ الآية ٧.

(٤) فى «ص» : «الصلاة والدعاء والاستغفار» وستأتى لفظة «الاستغفار» بعد ذلك.

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وهو غائب ، والبحر متعرض بينهم ، فلو لم يصل ثواب صلاته إلى الميت لما صلّوا عليه وهم بالمدينة».

(٦) فى «م» و «ص» : «حبيب» بالحاء المهملة ، خطأ ، والصواب بالخاء المعجمة. [انظر ترجمته فى أسد الغابة ج ٢ ص ١٢٠ ـ ١٢٢].

٤٨

وعن إبراهيم بن محمد بن سلامة الموصلىّ قال : سمعت بعض الصالحين من مشايخ الرحبة يقول : إنه رأى فى منامه كأنه اجتاز بمقبرة الرحبة ، فرأى أهل المقبرة جلوسا فى أكفانهم وعليهم النور والبهاء ، وهم يتشاجرون وقد ارتفعت أصواتهم كأنهم يقتسمون شيئا ، فسألتهم عن ذلك ، فقالوا : اجتاز بنا [بالأمس](١) فلان ـ وسمّاه لى رجل من الصالحين من أهل الرحبة ـ فعثر فى رجله (٢) ، فانقطع ظفر إصبعه الإبهام ، فأغمى عليه ، ووجد لذلك ألما شديدا ، فقال : اللهمّ إن كان فى هذه العثرة وهذا الألم ثواب (٣) فقد أهديته لأهل هذه المقبرة .. فكلّنا من أمس نقتسم ثواب ذلك وما فنى .. قال : فلما أصبحت أتيت إلى دكّانه فى السوق ، فسلمت عليه وسألته أن يرينى رجله ، فأبى وقال : رجلى مثل أرجل الناس ، ما عليك منها؟! فقلت : لى فيها غرض ، فكشف لى عن رجله الصحيحة ... فقلت : أريد أن تكشف لى عن الأخرى ، فأبى ، فأقسمت عليه حتى كشفها لى ، وأصبعه الإبهام مشدودة بخرقة ، فقلت : هذا قصدى .. فسألنى عن ذلك ، فحدثته بما رأيت فى منامى .. فأقسم علىّ ألّا أحدّث بذلك فى حياته ، وحتى مات ـ رحمه الله.

ويشهد لصحة هذه الرؤيا ، ما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال : «يثاب المؤمن (٤) حتى بالشوكة تصيبه ، وبالعثرة يعثرها».

وحدّث بعض شيوخ الحرم أنه زار المقبرة التى بأم القرى (٥) وقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إحدى عشرة مرة ، ثم أهدى إليهم ثوابها ، ثم إنه رأى

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٢) فى «ص» : «برجله».

(٣) «ثواب» عن «م» ولم ترد فى «ص».

(٤) فى «ص» : «إن الله يثيب المؤمن».

(٥) فى «م» و «ص» : «برسم القرى». وأم القرى : مكة المكرمة.

٤٩

حفّارين يحفرون قبرا (١) ، فسألهم عن القبر ، لمن هو؟ قالوا : لرجل غريب ، فقلت فى نفسى : أقف حتى يأتوا (٢) بالجنازة وأصلّى عليها ، وأغتنم الأجر والثواب فى ذلك ، لما روى عن النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، أنه قال : «من صلّى على جنازة كتب له قيراط (٣) من الأجر ، فإن تبعها كتب له قيراطان ..» الحديث.

فاستندت إلى قبر من تلك القبور ، فنمت ، فرأيت أهل المقبرة جلوسا وهم يتشاجرون فيما بينهم ، ورأيت صاحب ذلك القبر الذي كنت مستندا إليه شيخا على وجهه نور (٤) وهو يكلمنى ويقول : يا أخى ، تتّكىء على القبر وقد قال رسول الله : «لو أنّ أحدكم جلس على جمرة فتحرق ثوبه حتى تصل إلى جلده لكان أهون عليه من أن يطأ قبر مسلم». فقلت : اجعلنى فى حلّ [قال : أنت فى حلّ](٥) .. فسألته عن مشاجرة أهل المقبرة ، فقال : إنهم يقتسمون ثواب إحدى عشرة (٦) مرة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) التى (٧) قرأتها .. فقلت : وكم أصاب كل واحد من ثوابها؟ فقال : خير كثير .. فقلت : ما الذي أصابك؟ فقال : أنا آثرتهم بحصتى ، لأنهم ليس لهم أحد يهدى إليهم (٨) ،

__________________

(١) «قبرا» عن «ص».

(٢) فى «م» و «ص» : «يأتون» خطأ ، والصواب ما أثبتناه ، فالفعل هنا منصوب بحذف النون ، لأنه من الأفعال الخمسة.

(٣) فى «م» : «قيراطان». والحديث رواه البخارى ، ومسلم ، والنسائى ، والدارمى ، وابن ماجه ، وابن حنبل ، وغيرهم ، فى الجنائز.

(٤) فى «م» و «ص» : «نورا» بالنصب ، وكلاهما له وجه ، فالرفع على أنه مبتدأ مؤخر ، والنصب على الوصفية ، والرفع هنا أوجه.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٦) فى «م» : «إحدى عشر» خطأ .. فهنا تجب المطابقة للمعدود تذكيرا وتأنيثا ، تقول : «رأيت أحد عشر كوكبا» فى حالة التذكير ، و «إحدى عشرة فتاة» فى حالة التأنيث.

(٧) فى «م» و «ص» : «الذي» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٨) فى «ص» : «فقال : أنا قد آثرتهم بسهمى ، لأن هؤلاء ليس لهم أحد ، وأنا لى ولد صالح ...».

٥٠

وأنا لى ولد صالح خيّاط (١) بباب الندوة يتصدق [عنى](٢) كل يوم بدانقين ، ويهدى إلىّ كل ليلة قبل أن ينام إحدى عشرة (٣) مرة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) .. فقلت : وما اسمه؟ قال : محمد .. فقلت له : أتأذن لى أن أبشّره؟

قال : إن فعلت ذلك فلك علىّ منّة كبيرة .. سلّم عليه وقل له : يقول لك (٤) أبوك : يا ولدى لم تركتنى الليلة أوّل الليل؟ [ولكن] لما انتبهت (٥) وقرأت وبكيت وأهديت ، وصل إلىّ .. فجزاك الله خيرا ، ورضى الله عنك برضاى (٦).

قال : فمضيت إليه ، وعرّفته الحال ، فقال لى : من أنت؟ إن والدى له ـ منذ مات ـ عشرون سنة (٧)! فحدّثته بما رأيت وقلت : الساعة جئت (٨) من عنده .. فقال : صدقت (٩) ، كذا كان ، وفرح بذلك.

وقد حكى (١٠) أنّ قافلة مرّت بمقبرة فى الليل ، فأخرج رجل رأسه من المحمل وقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إحدى عشرة (١١) مرة وأهداها لأهل المقبرة ، فنام فرأى رجلا وهو يقول له : جزاك الله خيرا .. كنت فى أشدّ العذاب ، فلما أهديت لنا هذه الهدية ابنى منها ثواب بعض حروف ، فنجوت.

__________________

(١) فى «م» : «خياطا» لا تصح بالنصب إلّا على إضمار فعل ، أى : يعمل خياطا. والرفع هنا على الوصفية.

(٢) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٣) فى «م» : «إحدى عشر» خطأ ، وسبق التعليق عليه.

(٤) فى «م» : «يقولك».

(٥) هكذا فى «م». وما بين المعقوفتين ساقط من «ص».

(٦) فى «ص» : «برضاى عنك».

(٧) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «والدى مات منذ عشرون ـ هكذا ـ سنة» وقوله «عشرون» هنا خطأ ، والصواب : «منذ عشرين سنة».

(٨) فى «م» : «خرجت».

(٩) فى «ص» : «صدق» أى : والده.

(١٠) من قوله : «وقد حكى» عن «م» وساقط من «ص» إلى قوله : «لمّا قرأتها».

(١١) فى «م» : «إحدى عشر» خطأ ، سبق التعليق عليه.

٥١

وقد روى أنّ رجلا كان يخص ابنه بالهدية ، فجاء يوما إلى قبره وقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقال : اللهم اجعل ثوابها لولدى .. فنام ، فرأى فى النوم رجلا من جيران ولده وهو يقول : كأنّك بخلت علينا .. لقد نزل ثوابها فعمّنا لمّا قرأتها (١).

قال الشافعى ـ رحمه الله تعالى ـ فى الأم (٢) : يلحق الميت من فعل غيره الحجّ إذا أدّاه (٣) عنه ، والدّين إذا قضاه عنه ، والدعاء إذا دعا له .. فأمّا الحج (٤) ، فإن مات وعليه حجّ واجب وله مال ، حجّ عنه من صلب ماله ، وإن لم يخلف شيئا يجب على الوارث أن يحج عنه ، فإن تطوّع أجنبىّ فحجّ عنه أجزاه ، وأمّا التطوع فإن لم يكن بوصية لم يجز فعله ، وإن أوصى ففيه قولان .. وأمّا الدّين فيجب قضاؤه من صلب ماله ، فإن لم يكن له مال فتطوّع وارثه ، أو غيره فقضاه ، أجزاه .. وأمّا الصّدقة ، فإذا تصدّق الوارث أو غيره عن الميت لحقه ثواب الصّدقة .. وواسع من فضله ـ تعالى ـ (٥) أن يثيب المتصدق .. وأما الدعاء ، فإذا دعا للميت ولده أو غيره ، وصل ثوابه.

قال صاعد (٦) : كنت ممّن (٧) حضر جنازة عبد الله بن الفرج ، فرأيته

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) فى «م» و «ص» : «الإملا». تصحيف من الناسخ. وكتاب «الأم» أشبه بموسوعة فى أبواب الفقه الشافعى ، جمعه البويطى ـ أحد تلاميذ الشافعى ـ فى سبعة مجلدات ، وبوّبه الربيع بن سليمان ، وهو من تلاميذ الإمام أيضا.

(٣) فى «م» : «ادعاه» تحريف من الناسخ.

(٤) فى «ص» : «وقال» مكان «فأمّا الحج».

(٥) فى «م» «من فضل مقالى» تصحيف .. وفى «ص» : «قال الشافعى رحمه الله : وواسع فى فضل الله أن يثيب المتصدق».

(٦) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «صاغور». لم أقف عليه.

(٧) فى «ص» : «فيمن».

٥٢

فى النوم كأنه جالس على قبره ومعه صحيفة ، فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لى ولكل من تبع جنازتى (١) .. فقلت : أنا ممّن تبع جنازتك ، فقال : هذا اسمك فى الصحيفة.

وقد بلغنا أنّ أرواح المؤمنين يأتون كل جمعة إلى سماء الدنيا فيقفون بحذاء قبورهم ، وينادى كلّ واحد منهم : يا أهلى ، يا جيرانى ، اعطفوا علينا بشىء يرحمكم الله ، واذكرونا (٢) ولا تنسونا ، فنحن قد بقينا فى سجن وثيق ، وغم طويل ، ووهن شديد ، فارحمونا قبل أن تصيروا أمثالنا .. الأموال (٣) التى فى أيديكم أموالنا ، والدور دورنا.

فإذا تصدق الإنسان عن ميته جاء ملك من الملائكة بطبق من نور ، والهدية على ذلك الطبق ، ولها نور ساطع فى سبع سموات ، فيقوم على شفير القبر وينادى : عليك (٤) السلام يا صاحب هذا القبر الغريب ، إنّ أهلك أهدوا إليك هذه الهدية ، فاقبلها .. فيدخلها فى قبره ، فينوّر له قبره ، ويوسع عليه.

قال عثمان بن سودة ، وكانت أمّه من العابدات ، يقال لها «راهبة» لكثرة عبادتها : لمّا احتضرت رفعت رأسها إلى السماء وقالت : يا ذخرى وذخيرتى ، لا تفضحنى عند الموت ، ولا توحشنى فى قبرى .. فكنت آتى قبرها فأقرأ كلّ ليلة جمعة (٥) وأستغفر لها .. فرأيتها ليلة فى منامى ، فقلت : يا أمّاه ، كيف أنت؟ قالت : يا بنّى أنا بحمد الله فى برزخ محمود ، نتوسّد فيه الريحان والسّندس .. فقلت : ألك حاجة؟ قالت : نعم ، لا تدع زيارتنا والدّعاء لنا ، فإنى آنس بمجيئك يوم الجمعة ، إذا أقبلت من أهلك يقال لى : هذا ابنك قد أقبل ، فأسرّ ، ويسرّ من حولى من الأموات.

__________________

(١) فى «م» : «جنازة».

(٢) فى «م» : «فاذكرونا».

(٣) فى «م» : «فأمّا الأموال».

(٤) فى «م» : «عليكم».

(٥) فى «ص» : «كل جمعة».

٥٣

وقد (١) نقل عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه قال : «من قال : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢) وقال : اللهم اجعل ثواب هذه الآية (٣) لأبوىّ ، فقد أدّى حقهما».

وقد نقل عن الشيخ أبى القاسم بن الحباب أنّ الأرواح ترجع إلى الأجساد يوم الجمعة من بعد العصر ، ويوم السبت ، ويوم الاثنين ، ويوم الخميس ، ويوم الجمعة ، ويوم السبت إلى طلوع الشمس (٤).

وقد أحسن من قال :

زر والديك وقف على قبريهما

فكأنّنى بك قد نقلت إليهما

بشراك لو قدّمت فعلا صالحا

وقضيت بعض الحقّ من حقّيهما (٥)

وقرأت من آى الكتاب بقدر ما

قد تستطع وبعثت ذاك إليهما (٦)

لو كنت حيث هما وكانا فى البقا

زاراك حبوا لا على قدميهما (٧)

ما كان ذنبهما إليك فطالما

منحاك صفو الودّ من نفسيهما

كانا إذا [ما] أبصرا بك علّة

جزعا لما تشكو وشقّ عليهما (٨)

كانا إذا سمعا أنينك سيّلا

دمعيهما أسفا على خدّيهما (٩)

فلتلحقنّهما غدا أو بعده

حتما كما لحقا هما أبويهما

__________________

(١) من هنا إلى قوله : «طلوع الشمس» عن «م» وساقط من «ص».

(٢) سورة الجاثية ـ الآيتان : ٣٦ و ٣٧.

(٣) هما آيتان. وربما يقصد ثواب «القراءة».

(٤) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٥) الشطرة الأولى فى «م» : «بشراك قد قدّمت ...»

(٦) الصواب لغة : «تستطيع» وحذفت الياء من الفعل لاستقامة الوزن.

(٧) «حيث هما» : أى مكانهما فى الدار الآخرة .. وفى «م» : «لو كنت جئتهما» .. والأنسب للسياق ما ورد فى «ص». «وكانا فى البقا» : أى على قيد الحياة.

(٨) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٩) فى «ص» : «أسبلا دمعيهما».

٥٤

ولتقدمنّ على فعالك مثلما

قدما هما [أيضا] على فعليهما (١)

فاحفظ حفظت وصيّتى واعمل بها

فعسى تنال الفوز من برّيهما

وتكثر من قراءة القرآن .. ومن الدعاء ، دعاء الزيارة .. وينبغى إذا عزمت على الزيارة فى بكرة (٢) الجمعة أن تبتدئ بركعتين عند طلوع الشمس ، تقرأ فيهما ما تيسر من القرآن (٣) ثم تقول : «اللهم صلّ على محمد وعلى آله ، واعزم بى على خير عزمت فيه على أحد من عبادك الذين دعوتهم فأجابوك ، وأمرتهم فأطاعوك ، وعملوا عملا صالحا ولم يشركوا بعبادتك أحدا.

اللهم من تأهّب فى هذه الساعة فأخذ زينته ، وأظهر لبسته (٤) لقصد أحد من عبادك ، فإننى خارج إليك ، ووافد عليك (٥) ، وطالب ما لديك .. لم أخرج أشرا (٦) ، ولا بطرا ، ولا رياء ، ولا سمعة ، [وإنّما](٧) خرجت زائرا لمن أحببته فيك (٨) ، وأحسنت الظّنّ به لما علمته من طاعته لك ..

اللهم فعرّفنى بركة هذا المخرج ، ويسّر لى نجح هذا المقصد ، وشفّع فىّ عبادك الصّالحين ، واجعلنى محسنا ، فإنك مع المحسنين. وصلّى الله على سيدنا محمد ، إمام الأتقياء ، وشافع الشفعاء ، وعلى آله الطاهرين».

ثم تأخذ فى طريق ، وتحرص على ألّا يجفّ لسانك من تلاوة كتاب الله ، فإن عاقك عائق عن التلاوة ـ من رفيق يشغلك ، أو من تقصير فى حفظ ما تحفظه

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٢) البكرة : أول النهار.

(٣) فى «م» : «ما تيسر قراءته».

(٤) فى «م» : «لبسه» أى : ما يلبس.

(٥) فى «م» : «خارج ووافد لديك».

(٦) فى «م» : «شرّا» تحريف. والأشر : المتكبر ، والبطر مثله.

(٧) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا.

(٨) «فيك» عن «ص».

٥٥

 ـ فأكثر من التسبيح والتحميد والتهليل (١) ، ولو فى أثناء كلام مسايريك (٢) ، وتجعل ذلك عادة للسانك ، واعلم أنك إنما تهدم سيئة وتبنى حسنة ، فلا تقصّر.

وعليك بالاستغفار والتحميد ، فإنّ العبد بين أمرين : بين ذنب يستغفر الله منه (٣) ، وبين نعمة يحمد الله عليها.

وتبدأ فيمن تزور بأهل بيت النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، والمشاهد الصحيحة النسب إلى أهل البيت الطاهرين ، صلوات الله وسلامه عليهم ، وتدعو بحاجتك من أمر الدنيا والآخرة ، وتجتهد (٤) فى أن تستفتح قبل هذا الدعاء بسورة من القرآن ، صغيرة كانت أو كبيرة (٥) .. ثم تزور من فى الجبّانة من السادة الأخيار ، والصّلحاء الأبرار ، فإن قبورهم مظنّة الدعاء والإجابة (٦) .. تقعد عند كل قبر وتقرأ سورة ، وتدعو بدعوة صالحة : إمّا محفوظة أو ما يفتح (٧) الله به على قلبك.

وكلما دخلت الجبّانة تستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، وتسلم عليهم ، وتقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وتهديها لأهل الجبّانة ، فقد ورد فى ذلك خبر ، أنه إذا فعل ذلك عمّهم بالزيارة ، وتقول : سلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين (٨) ـ أو : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ـ وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون .. اللهم [ارحم](٩) المستقدمين منّا والمستأخرين ، عبيدك الفقراء النازلين بك ،

__________________

(١) التهليل ، هو قول : «لا إله إلّا الله».

(٢) أى : الذين يسيرون معك. وفى «ص» : «مسايرك» على الإفراد.

(٣) فى «م» : «فيه».

(٤) فى «ص» : «وتحرص».

(٥) فى «ص» : «قصيرة أو طويلة».

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «كل هؤلاء قبورهم مظنة للدعاء والإجابة». ومظنّة الشيء : موضعه ومألفه.

(٧) فى «م» : «وإمّا ما يفتح».

(٨) فى «ص» : «ويقول : سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين».

(٩) ما بين المعقوفتين عن «ص».

٥٦

الراحلين (١) إليك .. رحلوا من طيب الدنيا ونعيمها إلى ظلمة القبر وما هم لاقوه : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٢). أطاعوك فى أحبّ الأشياء إليك ، وهى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبدك ورسولك (٣) .. اللهم فاغفر لهم ما سوى ذلك من فوارط الغفلة (٤) ، وبوادر الغرّة (٥) ، فإنهم فقراء إلى رحمتك ، وأنت غنّى عن عذابهم ، فأعطهم ما هم فقراء إليه ، وسامحهم ممّا أنت غنّى عنه ، واجعلهم فرطا (٦) وسلفا لنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه ، وقدمنا على ما قدموا عليه .. وتختم بزيارة أهلك (٧) ، فإن كان فيهم أحد من والديك فقد علّمك الله ما تقول : (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)(٨) .. وإن كانوا من أهل بيتك فدعوة نوح عليه السلام : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً)(٩).

وأكثر من قراءة القرآن عند الأهل ، وخصّ كلّ قبر بسورة ، وتمثّل أحوالهم التى هم عليها فى قبورهم ، من تقطيع أكفانهم ، وبلاء أبدانهم ، وتفرّق أوصالهم ، وتغيّر ما كان يعهد من أحوالهم (١٠) ، وتعلم أنك لا محالة حيث صار

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «النازلون .. الراحلون». ويجوز الرفع هنا على الابتداء ، والنصب على الوصفية.

(٢) سورة الكهف ـ من الآية ٤٩.

(٣) فى «ص» : «وأنّ محمدا رسول الله».

(٤) فوارط الغفلة : ما تقدّم منها وما سبق.

(٥) الغرّة : الغفلة .. وفى «ص» : «العزّة».

(٦) واجعلهم فرطا ، أى : أجرا متقدما.

(٧) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «وتختم بالزيارة لأهلك».

(٨) سورة الإسراء ـ من الآية ٢٤.

(٩) سورة نوح ـ الآية ٢٨. ومعنى «تبارا» : هلاكا ودمارا.

(١٠) فى «ص» : «ما كان يعهد منهم ومن أحوالهم».

٥٧

القوم صائر إليهم ، وأنك إن لم تنزل بالمحل فأنت على الطريق سائر .. وتغتنم ما يودّه كلّ مقصّر منهم فلا يقدر عليه ، من زيادة حسنة لا يقدر عليها ، ومن نقص سيئة لا يصل إليها (١). ثم أشدّ تلهّفهم على كلمة تسبيح لا يقدرون أن ينطقوا بها ، أو على ركعة لا يقدرون (٢) أن يحصلوا عليها.

فاستكثر ما أمكنك من الخير (٣) ، ومن الصلاة على النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، فإنّ مع كل صلاة دعوة مستجابة ، وكانوا يستحبّون أن يكون الدعاء بين صلاتين على النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، فيستفتح بالصلاة ، ثم يسأل الحاجة ، ثم يختم بالصلاة .. جاء فى الخبر أنّ الله سبحانه وتعالى يسمع الصلاتين فيستحيى ـ جلّت قدرته ـ ألّا يجيب الدعوة بينهما .. وأبواب الخير كثيرة ، ومن فتح عليه باب خير فقد أريد به خير كثير ، ودفع عنه شر غزير.

قال بشّار بن غالب (٤) : مات لى أخّ ، فرأيته فى المنام ، فقلت له : كيف حالك حين وضعت فى قبرك؟ فقال : أتانى (٥) آت بشهاب من نار ، فلو لا أنّ داعيا دعا لى لرأيت أنه سيضربنى به (٦).

الوظيفة العاشرة : الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بين المقابر.

حكى أنّ امرأة جاءت إلى الحسن البصرى فقالت : إنّ ابنتى ماتت وأحبّ (٧)

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «... من زيادة حسنة ولا نقص سيئة ، فإنه لا يصل إلى شىء من ذلك».

(٢) فى «م» و «ص» : «لا يقدروا». خطأ ، والصواب ثبوت النون.

(٣) فى «ص» : «فاستكثر من الخير ما استطعت».

(٤) هنا فى «ص» : كرر الناسخ ما سبق أن ذكره سهوا منه.

(٥) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «أتى».

(٦) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «سيغرينى به» أى : يلقينى به ، ومنه قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أى : ألقينا.

(٧) فى «م» : «فأحببت». وما بين المعقوفتين بعد ذلك عن «ص» وساقط من «م».

٥٨

أن أراها [فعلّمنى صلاة أصليها لعلّى أراها] ، فعلّمها صلاة ، فرأت ابنتها وعليها لباس القطران ، والغل فى عنقها (١) ، فارتاعت لذلك ، وأخبرت الحسن ، فاغتمّ لذلك ، فلم تمض مدة حتى رآها الحسن وهى فى الجنة على سرير ، وعلى رأسها تاج ، فقالت له : يا شيخ ، أما تعرفنى؟ قال : لا .. قالت : أنا بنت تلك المرأة التى علّمتها الصلاة ورأتنى فى المنام ... فقال لها (٢) : ما سبب أمرك؟ قالت (٣) : مرّ بمقبرتنا رجل فصلّى على النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، وكان فى المقبرة خمسمائة وخمسون إنسانا فى العذاب ، فنودى أن قفوا العذاب عنهم ببركة الصلاة على النبي (٤) صلّى الله عليه وسلم.

الوظيفة الحادية عشرة (٥) : الدعاء لنفسه.

وينبغى للزائر أن يدعو لنفسه عند قبور الأنبياء والصالحين ، فقد أمرنا بالدعاء عند رقة القلب ، وهاهنا يرقّ القلب غالبا.

ومن أبلغ الأدعية : «اللهم إنّى أسألك بما سألك نبيّنا محمد ، صلّى الله عليه وسلم ، وأعوذ بك ممّا استعاذ (٦) منه نبيّك محمد ، صلّى الله عليه وسلم ، وأسألك العفو والعافية ، فعافنى واعف عنى (٧). اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعف عنى». فهذه الدعوات مروية عن النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، وصحيحة ، والأدعية كثيرة.

__________________

(١) القطران : مادة سوداء سائلة لزجة شديدة الاشتعال ، وفى التنزيل العزيز : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ). أمّا الغلّ ، فهو طوق من حديد أو جلد يجعل فى عنق الأسير أو المجرم أو فى أيديهما.

(٢) فى «م» : «فقالت» خطأ .. وفى «ص» : «أنا تلك المرأة التى علّمت أمّى الصلاة فرأتنى فى المنام. قال : فقلت».

(٣) فى «م» : «قلت» خطأ.

(٤) فى «ص» : «ببركة صلاة الرجل على النبي».

(٥) فى «م» : «الوظيفة الحادية عشر» وسيأتى اسم العدد ـ فى الوظائف الآتية ـ على وزن «فاعل» من «الثانى عشر» إلى «التاسع عشر» غير مطابق لموصوفه ، وهى «الوظيفة» ، وجاء مخالفا لقواعد اللغة التى تقرر أن اسم العدد المصاغ على وزن «فاعل» يطابق موصوفه تذكيرا وتأنيثا ، وقد قمنا بتصويب ذلك ، لذا فلن نشير إلى ذلك فى موضعه ، اكتفاء بما ذكرناه هنا.

(٦) فى «ص» : «استعاذك».

(٧) قوله : «فعافنى واعف عنى» عن «م».

٥٩

وكان من أدعية عطاء السّلمى (١) رضى الله عنه : «اللهمّ ارحم غربتى فى الدنيا ، ومصرعى عند الموت ، ووحدتى فى القبر ، ومقامى (٢) بين يديك».

قال بعضهم :

وإنّى لأدعو الله والأمر ضيّق

علىّ فما ينفكّ أن يتفرّجا

وربّ فتى سدّت عليه وجوهه

أصاب لها لمّا دعا الله مخرجا

وإيّاك أن تستبطىء الإجابة ، وارجع إلى إصلاح نفسك.

وما أحسن قول القائل :

نحن ندعو الإله فى كل كرب

ثمّ ننساه عند كشف الكروب

ولا يحملنّك التقصير على ترك الدعاء.

الوظيفة الثانية عشرة : ذكر محاسن الميت (٣) عند قبره .. ففى ذلك نشر لمحاسنه ، وترغيب للسامعين فى زيارته ، وتشويق للطالبين فى الدخول فى زمرة العالمين.

الوظيفة الثالثة عشرة : الإكثار من زيارة الأقارب ، فقد روى أنّ الرجل يموت والداه وهو عاقّ لهما ، فيدعو لهما بعدهما ، ويزورهما كل جمعة ، فيغفر له ويكتب بارّا.

__________________

(١) فى «ص» : «من دعاء عطاء السلمى». وفى حلية الأولياء وميزان الاعتدال «السليمى» ، وهو من زهّاد أهل البصرة ، وله كلام دقيق فى الزهد ، وكان من كبار الخائفين .. بقى إلى حدود الثلاثين ومائة ، وأدرك عطاء السليمى أنس بن مالك وأيامه ، ولقى الحسن ، ومالك بن دينار ، وغيرهم.

[انظر حلية الأولياء ج ٦ ص ٢١٥ ـ ٢٢٦ ، وانظر ميزان الاعتدال ج ٣ ص ٧٧ ترجمة عطاء الشامى ، وص ٧٨ عطاء السليمى].

(٢) فى «ص» : «ومقامنا».

(٣) فى «م» : «إيراد محاسن أخبار الميت».

٦٠