مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

وقالوا : مجنون ، فقام الخواص وجاء إلى عندى ، وجعل يواسينى ثم قال : هل تأكل شيئا؟ فقلت : بعد المغرب. فقال : أحسنتم يا أهل الابتداء ، أنتم على هذا تفلحون.

ثم قام ، فلما صلّينا العشاء الأخيرة جاءنى بقصعة فيها عدس ، ثم جاءنى برغيفين من خبز البرود ، ودورق من الماء ، قال : فوضعتهم ناحية ، ثم جلست أحادثه ، فقال لى : دع الكلام وكل. قال : فأكلت الرغيفين والعدس ، ثم قال لى : هل لك فى الزيادة؟ قلت : نعم. فجاءنى بقصعة أخرى ورغيفين ، فأكلت الجميع ، وشربت الماء ، ونمت إلى الصباح ، ولم أقم تلك الليلة ، ولم أطف ، فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقال لى : «يا بنان ، من أكل بشره أعمى الله عين قلبه» (١). قال : فانتبهت وعقدت مع الله ألّا أشبع بعد هذه الرّؤيا.

وروى عن ابن القاسم غلام «بنان» قال : كنت يوما عند «بنان» فخرج من منزله ، فلقى أبا جعفر الطحاوىّ ، فقال له : أنا قاصد إلى منزلك يا «بنان» ، فرجع «بنان» معه ، وترجّل الطحاوى عن دابته ومشى معه ، فنزع «بنان» نعليه وقال : «ترجّل لى وترجّلت له».

وروى ابن حمزة قال : كان أبو الحسن «بنان» جالسا عندى على طرف حانوتى (٢) وأنا فى صدر الحانوت ، فبينما نحن جلوس إذ أقبل رجل من أهل اليسار راكبا على بغلة وعليه ثياب حسنة ، فترجّل عن دابته ودخل إلىّ فى صدر الحانوت ، وقال : أريد من إحسانك أن تسأل لى هذا الشيخ أن يدعو لوالدتى فإنها مريضة من حمّى لا تفتر عنها.

قال : فقلت : يا أبا الحسن ، إن هذا الرجل ذكر لى أنّ والدته مريضة من حمّى لا تفتر عنها ، وسألنى أن أسألك الدعاء لها.

__________________

(١) فى «م» : «من أكل شره عمى» هكذا. وما أثبتناه هو المذكور فى المراجع التى ترجمت له.

(٢) الحانوت : محل التجارة.

٥٦١

قال : فتكلّم بما لم أسمعه ، ثم تناول ترابا دقيقا (١) من مجرى الباب فشدّه فى كاغدة (٢) ورمى بها إلىّ وقال : قل له يبخرها بهذا.

قال : فأخذها الرجل ومضى ، ثم عاد فى اليوم الثانى وقال : لا أخلى الله هذه البلدة من هذا الرجل ، ما هو إلّا أن بخّرت أمّى بالورقة حتى راقت (٣) وزال ألمها!

ثم طلب منه بخورا ، فقال : يا بنّى ، من أين أعطيك؟ إنما اجتهدت لها فى الدعاء.

وأخبرنا أبو جعفر محمد قال : حدّثنى الوليد الهاشمى قال : ذكر لى أنّ رجلا كان له على إنسان مال بوثيقة ، وهو مائة دينار ، إلى أجل ، فلما مضى الأجل طلب الرجل الوثيقة فلم يجدها ، فجاء إلى أبى الحسن بنان وسأله الدعاء.

فقال : أنا رجل قد كبرت ، وأنا أحبّ الحلوى ، فاذهب فاشتر لى رطلا وأتنى به حتى أدعو لك (٤).

فذهب الرجل واشترى له ذلك ، ثم جاء به ، فقال له بنان : افتح القرطاس ، ففتح القرطاس فإذا هى الوثيقة. فقال له : يا أستاذ ، هذه هى الوثيقة (٥)! فقال : خذها ، وأطعم صبيانك الحلوى (٦).

وحكى بعض المشايخ عن أبى علىّ الرّوذبارىّ الصّوفى قال : كنت يوما فى داخل الحمّام إذ دخل علىّ رسول يونس الخادم ، غلام الخليفة ، وكان الخليفة

__________________

(١) أى : ترابا ناعما.

(٢) فى «م» : «كاغضة» تحريف من الناسخ .. ومعنى شدّه فى كاغدة ، أى : صرّه فى قرطاس كالصّرّة.

(٣) فى «م» : «فراقت» أى : شفيت من مرضها.

(٤) هكذا العبارة فى شذرات الذهب ج ٢ ص ٢٧٢. وفى «م» : «أنا أحب الحلاوة والبرطيل فاذهب إلى وخذ لى معقودا وأتنى به حتى أدعو لك».

(٥) فى «م» : «هذه الوثيقة».

(٦) فى «م» : «وأطعم المعقود لصغارك ، مع السلامة» [انظر هذه القصة فى سير أعلام النبلاء ج ١٤ ص ٤٨٩ و ٤٩٠ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٢٧٢ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥١٣].

٥٦٢

قد أرسل يونس (١) من بغداد لقتال طائفة بمصر خرجت على أميرها (٢) وقاتلوه ، وكان الأمير إذ ذاك «تكين» ، فلما كشف الله تعالى الغمّة تصدّق يونس بمال جزيل ، فلما دخل غلام يونس الحمّام كان السّدر (٣) على رأسى ، فقال لى : الأستاذ يونس يدعوك (٤) ، وقد طلبناك فى بيتك وقيل لنا إنك فى الحمّام.

فقمت معهم وجئت إلى يونس ، فقال لى : بلغنى أنك أقرب الناس إلى «بنان» ، وعندنا مال تمضى به إليه ، فإن أخذه وإلّا ففرّقه على الناس. قال : وألقى إلىّ (٥) كيسا فيه ألف دينار. قال : فأخذته ومضيت إلى «بنان» وأنا مسرور ، لعلمى بما هو فيه ، فلما دخلت عليه قال لى : ما وراءك؟ فحدّثته القصة ، فتغير لونه وقال : يا أحمق ، لئن لم تفعل ما آمرك به لأهجرنّك ، خذ الكيس وارجع إليه ، فإذا دخلت عليه فلا تمش (٦) على بساطه واطوه ، وارم بالكيس بين يديه.

وقال : علّى بالطشت والإبريق واغسل يديك من مسّ الكيس ، وقل له : يقول لك «بنان» : «أخذت هذا من دماء المسلمين تريد أن تضعه فى عنقى؟ يكون فى عنقك أولى»!.

قال أبو علىّ : ففعلت ما أمرنى به. فبكى يونس بكاء شديدا. وأخبرت «بنان» بذلك ، فسرّ سرورا عظيما.

__________________

(١) فى «م» : «يونسا» لا تصح ، علم ممنوع من الصرف.

(٢) فى «م» : «طائفة بغوا بمصر على أميرها».

(٣) السّدر : شجر يصلح ورقه للغسول ، يشبه شجر العنّاب. [انظر لسان العرب ، مادة : سدر].

(٤) فى «م» : «يدعو لك» تحريف.

(٥) فى «م» : «فيه» مكان «إلىّ».

(٦) فى «م» : «لا تمش» والفاء هنا رابطة لجواب الشرط.

٥٦٣

وحكى «بنان» قال : كنت فى مسجد ، وإذا بجماعة من الصّيارف دخلوا فى المسجد ومعهم مال كثير ، فنظروا فيه ووزنوه ، فجاء لهم فقير من زاوية المسجد ، وقال : هل من شىء (١) لله تعالى؟ فقالوا له : فتح الله عليك.

قال : فانصرف إلى مصلّاه ، فلما انصرفوا جاء الفقير إلى مكانهم ، فوجد كيسا فيه خمسمائة دينار ، فأخذه الفقير ووضعه تحت الحصير ، فافتقد الصيارف المال فوجدوه قد نقص ، فرجع أحدهم للمسجد وطلبه ، فلم يجده ، فسأل الفقير عنه ، فقال : خذه من تحت الحصير ، فأخذه وفتحه وأخرج (٢) منه عشرين دينارا ، وقال للفقير : خذ هذه. فأبى أن يقبلها. فقال له : إنك سألتنا الساعة درهما ولم تعطه (٣) ، وقد دفعت لك عشرين دينارا فى هذا الوقت!

فقال له : «لمّا سألتكم درهما لم تعطونى إيّاه لفقرى وفاقتى ، وأنتم الآن دفعتم ذلك لى لأجل دينى وأمانتى بالدنيا!». ولم يقبل منه شيئا.

وقال «بنان» : حججت سنة من السنين فرأيت فى الطريق جارية ليس معها زاد ولا راحلة ، فقلت لها : أين تذهبين؟ قالت : إلى بيته. فأخرجت لها من جيب مرقّعتى (٤) خمسة دنانير وناولتهم لها ، فلما وقع بصرها عليهم رمت بهم إلىّ ، ومدّت يدها فى الهواء وفتحتها فإذا هى مملوءة ذهبا! ثم قالت لى : يا «بنان» ، أنت تنفق من الجيب وأنا أنفق من الغيب!

ثم إنها ما زالت معنا حتى ذهبنا إلى مكة ، ورجعت معى إلى مصر. فتوفّيت ودفنت تحت رجليه ، وكانت من العابدات ، واسمها «سعيدة» ، حجّت ثلاثين حجّة راجلة على قدم التّوكّل.

__________________

(١) فى «م» : «هل شىء».

(٢) فى «م» : «وخرج».

(٣) فى «م» : «يعطه».

(٤) المرقعة : من لباس الصوفية لما فيها من الرقع.

٥٦٤

والدعاء عند قبريهما مجاب.

وقال «بنان» : «لى أربعون (١) سنة ما دخلت فى يدى بيضاء ولا صفراء».

ومن كلامه (٢) رضى الله ورحمه :

قبّح الله نائلا ترتجيه

من يدى من يريد أن تقضيه (٣)

إنّما الجود والسّماح لمن أع

طاك برّا وماء وجهك فيه (٤)

وقال ـ رضى الله عنه : «دخل أبو جعفر محمد بن يعقوب الفرجى إلى مصر ، وكثر الناس عليه ، فأحببت المضّى إليه ، وكان لى أيّام لم (٥) أتناول شيئا من الطعام ، فجئت إليه وهو جالس وعنده جمع كثير يكتبون عنه ، وهو فى بيت ملآن بالكتب (٦) ، فقلت له : رحمك الله ، اختصر لى من هذا العلم كله كلمة أنتفع بها وأعمل عليها. فقال لى : نعم ، عليك بأخذ (٧) الأقلّ من الدّنيا ، وارض (٨) فيها بالذّلّ. فقلت : «حسبى».

__________________

(١) فى «م» : «أربعين» لا تصح لغة.

(٢) البيتان ليسا من كلامه ، وربما كان يستشهد بهما ، فقد وردا فى عيون الأخبار ج ٣ ص ٢١٥ و ٢١٦ ضمن ستة أبيات منسوبة إلى أعرابى ، أولها :

أيّها الدّائب الحريص المعنّى

لك رزق وسوف تستوفيه

ولم يردا فى المصادر المذكورة هنا ، والتى ترجمت له. وهما من بحر الخفيف.

(٣) فى عيون الأخبار : «تقتضيه».

(٤) فى المصدر السابق : «لمن يعصيك عفوا». والعفو من المال : ما زاد على النفقة. وماء الوجه : كناية عن الحياء والكرامة.

(٥) سقطت «لم» من «م».

(٦) فى «م» : «من الكتب».

(٧) فى «م» : «تأخذ».

(٨) فى «م» : «وارضى» لا تصح لغة.

٥٦٥

قبر الشيخ على بن محمود المغربى (١) :

ثم تخرج من باب تربة «بنان» تجد عند الباب (٢) قبر الشيخ الصالح على ابن محمود المغربى الأقريطشى (٣) ، يكنى أبا الحسن ، توفى سنة ٣٧٠ ه‍. ذكره القضاعىّ.

قبر الفقيه محمد بن سهل الثعالبى (٤) :

وبالحومة قبر الفقيه محمد بن سهل بن الفضل الثعالبى المالكى ، توفى فى يوم الجمعة عند الزوال فى مستهل شهر رمضان سنة ٣٨٠ ه‍.

قبر زردانة القابلة (أم محمد) (٥) :

وغربّى تربة «بنان» قبر تحت قبّة (٦) ، به المرأة الصالحة «زردانة» القابلة ، ابنة الحسين بن عبد الله ، عرفت بأم محمد ، وقيل : إنها كانت من أهل الخير (٧) ، وكانت تقبل النساء الفقراء والمساكين ولا تأخذ على ذلك أجرة (٨).

__________________

(١) العنوان من عندنا.

(٢) فى «م» : «فعند الباب».

(٣) نسبة إلى جزيرة «أقريطش» كريت الحالية ـ وينسب إليها جماعة من العلماء ، وقد مرت.

[انظر ص ٥٥٧ ، الهامش رقم (٧) السابق].

(٤) العنوان من عندنا.

(٥) فى السخاوى «قبر أم أحمد القابلة». [انظر تحفة الأحباب ص ٤١٨]. وهذا العنوان من عندنا.

(٦) فى «م» : «هو تحت قبة».

(٧) فى «م» : «أنها كانت تخدم من غير شىء» أى : بدون مقابل.

(٨) تقبل النساء : تقوم بتوليدهن وتلقّى الولد عند الولادة .. وجملة : «ولا تأخذ على ذلك أجرة» عن السخاوى ، وفى «م» : «من غير شىء» وقد مرت.

٥٦٦

وحكى عنها أن امرأة جاءت إليها فقالت لها : هل لك أن تأتى معى إلى امرأة فقيرة؟ قالت : نعم. ثم إنها قامت معها وجاءت إلى بيت ، فدخلت فرأت (١) فيه صبيّة كأنّها بدر ، ولم يكن عليها شىء تستتر به ، فلما رأتها أمّ محمد قالت للمرأة التى دعتها : ما تكون هذه منك؟ فقالت : بنتى ، وإنّ بعلها خرج إلى الغزو (٢) فى أول حملها ، فقال قوم : إنه قتل ، وقال قوم : إنه حىّ ، وقد صرنا إلى ما ترين من الفقر!

ثم إنّ الصّبيّة تمخّضت ساعة ، ووضعت غلاما كأنه البدر فى تمامه ، فقامت القابلة ونزعت قميصا كان عليها وقطعته نصفين ولفّت به الصّغير ، ثم انصرفت ، وجاءت لها بما يصلح للنساء اللاتى يضعن. وظلّت شهرا (٣) كاملا تأتيها فى كل يوم. ثم بعد الشهر جاءت أمّ الصّبيّة إلى أمّ محمد القابلة وهى فرحانة .. فقالت لها : ما بك؟ قالت : قومى معى لتقرّ عينك!

فجاءت معها إلى منزل الصّبيّة ، فرأت به خيرا كثيرا ، ورجلا جالسا إلى جانب الصّبيّة ، فقالت : من يكون هذا الرجل؟ فقالت : هذا بعل ابنتى قد جاء من السفر ومعه هذا الخير الكثير! فقام الرجل إلى أم محمد وقبّل رأسها ، ودفع لها مائة دينار ، فجعلت ترعد (٤) وقالت : معاذ الله أن أبيع آخرتى بها! ثم رمت بها إليهم وخرجت من عندهم ، ولم تعد إليهم بعد.

وحكى عنها ولدها أنها قالت له فى ليلة شاتية : يا بنىّ ، أضئ

__________________

(١) فى «م» : «فرأيت» تحريف.

(٢) فى «م» : «الغزاة».

(٣) فى «م» : «وقامت شهرا».

(٤) ترعد : أخذتها رعدة.

٥٦٧

المصباح (١). فقلت لها : ليس عندنا (٢) فى هذه الليلة زيت. فقالت : يا ولدى ، اسكب فى السراج من ماء الإبريق وسمّ الله تعالى. قال : ففعلت ذلك ، فأضاء السّراج كأحسن ما يكون! فقلت لها : يا أمّاه ، الماء يقد (٣)؟ فقالت : لا ، ولكن من أطاع الله تعالى أطاع له كلّ شىء (٤).

* * *

قبر الشيخ أبى علىّ (الكاتب) الحسن بن أحمد (٥) :

ثم تبحّر قليلا من قبرها إلى قبر الشيخ أبى الحسن علىّ بن أحمد .. وقيل : أبى علىّ الحسن بن أحمد ، الشهير بالكاتب .. [أحد مشايخ الرسالة ، كان من الزاهدين العابدين ، وكان الجنيد يعظّمه ، وكان](٦) أوحد مشايخ وقته ، حتى قال فيه أبو عثمان : إنه من السّالكين ، وكان يعظمه كثيرا (٧). وكانت وفاته سنة أربعين وثلاثمائة ونيّف (٨).

__________________

(١) هكذا فى السخاوى .. وفى «م» : «أنها أفاقت فى ليلة من الليالى ، وكانت ليلة شاتية ، قال : فأيقظتنى وقالت لى : يا بنى ، أسرج لنا السراج».

(٢) فى «م» : «لم يكن عندنا».

(٣) يقد : يشتعل.

(٤) هكذا فى السخاوى .. وفى «م» : «فقالت : يا بنى ، من أطاع الله أطاعه كل شىء» وإلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٥) العنوان من عندنا. وقد جاءت ترجمته فى «ص» بعد ترجمة «بنان» ـ التى لم تكتمل فيها ـ وقال : «عند رأسه [أى رأس بنان] من ظاهر التربة قبر الشيخ أبى علىّ الكاتب الحسن بن أحمد رحمه الله تعالى». [انظر ترجمته فى طبقات الصوفية ص ٣٨٦ وغيرها].

(٦) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٧) فى «ص» : «وكان يعظمه ويعظم شأنه».

(٨) فى «ص» : «مات سنة نيّف وأربعين وثلاثمائة» .. وفى «م» أتى بالنيف أولا ، والنيف من واحد إلى ثلاث ، ولا يقال «نيف» إلّا بعد عقد ، نحو : عشرة ونيف ، ومائة ونيف ، وألف ونيف .. [انظر المصباح المنير ـ مادة : نيف].

٥٦٨

قال أبو علىّ ـ رحمه الله تعالى : «المعتزلة (١) نزّهوا الله تعالى من حيث المعقول فخلطوا. والصوفية نزّهوه من حيث العلم فأصابوا».

ويروى (٢) عن الجنيد ـ رحمه الله ـ أنه قال : «تنزل الرحمة على هذه الطائفة ـ يعنى الصوفية ـ فى ثلاثة مواطن :

ـ عند الأكل ، لأنهم لا يأكلون إلّا عن فاقة.

ـ وعند المذاكرة ، لأنهم يتجارون (٣) فى مقامات الصّدّيقين ، وأحوال النّبيّين.

ـ وعند السّماع (٤) ، فقد كان بعضهم يطوى اليومين والثلاثة ، فإن اشتاقت نفسه إلى القوت عدا بها إلى السّماع ، فيجد ما يغنيه عن الطعام» (٥).

وقال (٦) : «إذا سمع الرّجل الحكمة فلم يقبلها فهو مذنب ، وإذا سمعها ولم يعمل بها فهو منافق».

وقال : «إذا انقطع العبد إلى الله بالكلّيّة ، فأوّل ما يفيده الله الاستغناء به عن سواه ، وقد قيل : من صبر علينا وصل إلينا» (٧).

وقال : «إذا سكن الخوف فى القلب لم ينطق اللّسان إلّا بما يعنيه» (٨).

__________________

(١) فى «م» : «المنزلة» تحريف من الناسخ.

(٢) من هنا إلى قوله : «يغنيه عن الطعام» عن «م» وساقط من «ص».

(٣) يتجارون : يتناظرون.

(٤) فى هذا الموضع أقحم الناسخ سطرين لا معنى لهما ، ثم استدرك وأعاد الصياغة مرة ثانية.

(٥) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٦) أى : وقال أبو علىّ.

(٧) هكذا فى «م» و «ص» .. وفى طبقات الصوفية : «وصل إلينا من صبر علينا».

(٨) هكذا فى «ص» وفى طبقات الصوفية .. أمّا فى «م» فقد جاء «الجوف» مكان «الخوف» وهو تحريف من الناسخ ، كما سقط منها أداة النفى «لم».

٥٦٩

وقال : «إنّ الله تعالى يرزق العبد حلاوة ذكره ، فإن فرح به وشكره (١) ، آنسه بقربه ، وإن قصّر فى الشكر أجرى الذّكر على لسانه (٢) وسلبه حلاوته».

قبر الشيخ أبى الحسن الورّاق (٣) :

وغربيّه قبر الشيخ أبى الحسن بن سعد الورّاق .. كان ـ رحمه الله ـ عابدا ، صالحا ، زاهدا (٤) ، عارفا بالأوقات ، مسلما (٥) من الشّبهات.

ومن كلامه ـ رضى الله عنه (٦) : «من عرف نفسه عدل عنها ، وآفة الناس قلّة معرفتهم بأنفسهم».

وقال : «حياة القلوب (٧) فى ذكر الحىّ الذي لا يموت ، والعيش الهنىء مع الله تعالى لا غير».

وقال : «الأنس بالخلق وحشة ، والطّمأنينة إليهم حمق ، والسّكون إليهم عجز ، والاعتماد عليهم وهن ، والثّقة بهم ضياع. وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل أنسه به وبذكره ، وتوكّله عليه ، وصان سرّه عن النّظر إليهم ، وظاهره عن الاعتماد عليهم».

وقال ـ رضى الله عنه : «من غضّ بصره عن شبهة أو محرّم (٨) ، نوّر الله قلبه بنور يهتدى به إلى طريق رجائه».

__________________

(١) قوله : «فإن فرح به وشكره» سقط من «م» سهوا من الناسخ.

(٢) فى «م» : «لسانك» والسياق يتطلب ما أثبتناه.

(٣) العنوان عن «ص».

(٤) قوله : «عابدا صالحا زاهدا» عن «م».

(٥) مسلما : سليما.

(٦) فى «ص» : «قال» مكان «ومن كلامه ...».

(٧) فى «ص» : «القلب».

(٨) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وقال : من شخص بصره [أى لم يطرف به متأمّلا]

٥٧٠

وقال : «من أسكن نفسه محبّة شىء من الدّنيا فقد قتلها بسيف الطّمع ، ومن طمع فى شىء ذلّ له (١) وهلك».

وقال : «لا يصل العبد لشىء من التّقوى وعليه بقيّة من الزّهد والورع والتّقوى مقرونة بالمراضاة (٢). قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)» (٣).

قيل (٤) : إنّه كان يعطى الورق احتسابا ، وكان الشيخ أبو الحسن الكاتب ـ المقدّم ذكره ـ يكتب احتسابا أيضا ، فغاب الورّاق يوما ، فأعطى الكاتب الورق مع الكتابة ، فلما عاد الورّاق لم يكتب إليه أحد ، فأخذ الورق ، وانفرد الكاتب بالمعلمين ، فغضب منه الورّاق وقال : أخذت الأجر كلّه ، ولم يكلّمه زمانا ، بالمعلمين ، فغضب منه الورّاق وقال : أخذت الأجر كلّه ، ولم يكلّمه زمانا ، وماتا متغاضبين ، فرأى رجل من الصالحين أبا الحسن الدينورى وهو على نجيب (٥) من نور ، وعليه من خلع الرّحمن ، قال : فجئت إليه وقبّلت يديه ، وقلت له : من أين يا سيدى؟ قال : من دعوة الصّلح بين الكاتب والورّاق ، أصلح بينهما ربّ العالمين على موائد الفضل والرحمة (٦)!

__________________

عن محرّم ، ورّثه الله تعالى حكمة على لسانه يهتنى بها [من الهناء] ومن غضّ بصره .. الخ».

(١) فى «ص» : «ذلّ بذلّه». وطمع فى شىء : اشتهاه ورغب فيه.

(٢) فى «ص» : «مقرون بالراحة».

(٣) سورة الطلاق من الآيتين ٢ و ٣.

(٤) من هنا إلى نهاية الترجمة عن «م» وساقط من «ص».

(٥) النجيب : من خيار الإبل.

(٦) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

٥٧١

قبر أبى الحسن علّى بن محمد بن سهل الدّينورىّ (١) :

ثم (٢) تمضى إلى قبر الشيخ الصّالح ، الوليّ الكبير ، والقطب الشهير ، إمام وقته ، والعارف بربه ، أبى الحسن علّى بن محمد بن سهل الدّينورى ، عرف بابن الصّائغ.

وهو فى تربة عظيمة. قال بعض المؤرّخين : الشيخ الصّالح ، العابد ، الزّاهد ، المكاشف ، أبو الحسن علّى بن محمد بن سهل الدّينورىّ ، نسبة إلى «دينور» من بلاد الجبل (٣) ، يعرف بابن الصائغ ، وتوفّى سنة ٣٣١ ه‍ (٤).

وكان يتكلم على الخاطر والباطن ، وكان حوله جماعة [لا يحصون كثرة من أهل الإرادة](٥) قد آخى بينهم ، واشترط عليهم فى مؤاخاتهم أشياء ، وتكلّم عليهم فيها.

وكان كثير الذّكر ، حسن الورع ، يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر.

وكان (٦) علماء الديار المصرية يحضّون أولادهم على صحبته والتماس بركته (٧) ، ويقولون : «لا يجوز أن يتكلّم على النّاس إلا من كانت حالته كحالة أبى الحسن الدّينورىّ».

__________________

(١) هذا العنوان عن «ص» والكنية «أبى الحسن» عن «م» .. [وانظر ترجمته فى طبقات الصوفية ص ٣١٢ ، والرسالة القشيرية ج ١ ص ١٥٣ ، وتحفة الأحباب ص ٤١٤ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥١٣ و ٥١٤].

(٢) من هنا إلى قوله : «من بلاد الجبل» عن «م» وساقط من «ص».

(٣) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٤) فى الرسالة القشيرية وفى طبقات الصوفية : مات سنة ٣٣٠ ه‍ وستأتى بعد قليل.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٦) من هنا إلى قوله : «ضاقت عليه الأرض» ـ بعد ذلك ـ عن «م» وساقط من «ص».

(٧) فى «م» : «والالتماس ببركته».

٥٧٢

وخرج يوما على أصحابه ، وكان فيهم أحداث حسان ، فقال : يا ملاح ، يا ملاح! ثم [قال](١) : أردت بقولى «يا ملاح» أعنى : ملاح القلوب لا ملاح الصّور.

وكان يقول لأصحابه إذا كانوا بين يديه : «اسكتوا حتى يكون سكوتكم ينبئ عنكم». وكان كثير المؤاخاة بين أصحابه.

قال أبو عثمان المغربيّ : «ما رأيت من المشايخ [أنور](٢) من أبى يعقوب النّهرجورىّ ، ولا أكثر هيبة (٣) من أبى الحسن بن الصّائغ».

مات سنة ٣٣٠ ه‍. هكذا قال القشيرى.

وسئل ـ رضى الله عنه ـ عن الاستدلال بالشاهد على الغائب ، فقال : «كيف يستدلّ بصفات من له مثل ونظير على من لا مثل له ولا نظير؟» (٤).

وسئل عن صفة المريد ، فقال : «ضاقت عليه الأرض» (٥).

ولمّا خرج بأمر «تكين» (٦) إلى بيت المقدس ، أغلق (٧) البلد ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة لاستقامة المعنى.

(٢) ما بين المعقوفتين عن الرسالة القشيرية وطبقات الصوفية وسقطت من «م» سهوا من الناسخ.

(٣) هكذا فى «م» وفى الرسالة القشيرية .. وفى طبقات الصوفية : «أكبر همّة».

(٤) فى «م» : «على من لاله مثل» ... وفى طبقات الصوفية : «كيف يستدلّ بصفات من يشاهد ويعاين ، وهو ذو مثل ، على صفة من لا يشاهد فى الدنيا ولا يعاين ، ولا مثل له ولا نظير؟».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى الرسالة القشيرية : «ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم» وفى طبقات الصوفية : «صفته ما قال الله عز وجل : (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) ..» وهى من الآية ١١٨ من سورة التوبة .. وإلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٦) فى «ص» : «ويوم أخرج به تكين» وحكايته مع تكين حاكم مصر هى أن الشيخ كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما مرّ بنا.

(٧) فى «م» : «أغلقت» والبلد مذكر فى اللغة.

٥٧٣

وخرج معه الجمّ الغفير ، وقدّم له بغل ، فلما أراد ركوبه (١) ، قال له بعض من حضر : ادع الله تعالى. فقال : «يا بنىّ ، هذا ليس وقت دعاء ، البلاء قد نزل ، والبغل قد قدّم (٢) ، هذا وقت رضا وتسليم»! وركب ، وبكى النّاس ، وودّعوه ورجعوا.

وقيل : إنّ البغل وقف يبول فى الرّمل ، فوقف أصحابه يبكون وينظرون إليه ، فقال لهم : «لا تيأسوا ، فإنّ الذي أنفذنا على هذا البغل يموت ، ويعمل له صندوق يحمل فيه إلى بيت المقدس ، ويدور البغل ويبول عليه ، وأركب البغل وأعود إليكم عليه ، إن شاء الله تعالى».

ففرحوا ، وجرى الأمر على ما قال ـ رحمة الله عليه ـ فما زال فى بيت المقدس حتى مات «تكين» ، وحمل فى تابوت على البغل الذي حمل عليه الشيخ إلى بيت المقدس. [ثم عاد الشيخ إلى مصر](٣).

وكانت له كرامات ومقامات معروفة ، وقد حدّث بمصر عن أهلها ، وعن أهل بلده. وكان من شأنه أنّ السّلاطين تهابه ، وكان الجنيد يعظّمه ويجلّه.

وقد كان للجنيد حاجة إلى السّلطان فقالوا له : نأخذ أبا الحسن معنا ، فقال لهم : إن ذاك رجل ليس فيه فضلة (٤) لمثل هذا. فتركوه.

وقال (٥) بعض المؤرخين ـ وهو الشريف محمد بن سعد الحرّانى الحسينى ، المعروف بالنّسّابة ـ رواية عن أبى حفص عمر بن محمد غزال ، أنه

__________________

(١) فى «ص» : «أن يركبه».

(٢) فى «ص» : «تقدّم».

(٣) فى «ص» : «وحمل تابوته إلى بيت المقدس» وقوله : «ثم عاد الشيخ إلى مصر» عن السخاوى.

(٤) فى «ص» : «ما فيه فضله». والفضلة ما بقى من الشيء.

(٥) من هنا إلى قوله : «كما آكل» عن «م» وساقط من «ص».

٥٧٤

قال : لمّا ولد أبو الحسن الدّينورىّ أضاء المنزل بنور عظيم ، ولما أن وقع على الأرض قال : لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله ، بنغمة عقلها جميع من فى المنزل.

وقالت فاطمة الدّينوريّة : وضعنا لأبى الحسن قدحا من لبن حليب وخبز ليأكل ، فرأينا حيّة عظيمة تأكل معه ، فإذا أمعنت (١) الحيّة بالأكل ضربها بكفّه ويقول : كلى قليلا بأدب كما آكل (٢).

وقال أبو علىّ ممشاد (٣) : أتى أبو الحسن الدّينورى ـ وهو ابن خمس عشرة سنة (٤) ـ إلى شيخنا ابن سنان ، فسأله أن يسأل له والدته أن تهبه لله ، فسرنا معه إليها ، فسألها الشيخ ، فقالت : كيف أهبه لله؟ أخشى (٥) ألّا يحصل له ولا لى. ولكن قد أبحته (٦) أن يطلع الجبل ، فإذا وجد الله فقد وهبته ، وإن لم يجد فكنت أنا خيرا له من أن يشقى (٧).

فصعد الجبل ، فأقام خمسين يوما ثم نزل وهو كالخلال (٨) اليابس ، فقلت له : كيف كان حالك فى غيبتك؟ فقال : ما دفعت إلى فاقة (٩) ، وما بقى فىّ جارحة إلّا وهى تقتضى المزيد.

فسرنا معه إلى أمه ، فسألته كما سألناه ، فأخبرنا (١٠) بما أخبرنا ،

__________________

(١) أمعنت : بالغت.

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) لعله أبو على بن جمشاد الصائغ أو ممشاد الدينورى المتوفى سنة ٢٩٩ ه‍ [انظر طبقات الصوفية ص ٣١٦].

(٤) فى «م» و «ص» : «خمسة عشر سنة» خطأ ، وما أثبتناه هو الصحيح لغة.

(٥) قوله «أخشى» عن «ص» ولم يرد فى «م».

(٦) أبحته : أذنت له وسمحت.

(٧) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فكنت أنا له خير (هكذا) مما يشقى».

(٨) كالخلال : كالعود.

(٩) الفاقة : الفقر والحاجة.

(١٠) فى «م» : «لمّا سألناها فأخبرها».

٥٧٥

فعتقته (١) وقالت : «اللهمّ ، إنّه وديعتى عندك ، فقد صلح لك ، وقد وهبته لك».

فخرج من يومه وغاب عنها سنين كثيرة (٢). قال أبو بكر : فلقيته بعد ذلك ، فذكرت له الحكاية ، فبكى بكاء شديدا وقال بالفارسية : واخراب قلباه!! وقال : حججت أنا وأبى من دينور فى ثلاثة أيام.

وقال أبو الحسين بن علىّ : اجتمعت مع جماعة من الصالحين بمكة ، فتذاكرنا (٣) أخبار الصالحين ، إلى أن ذكرنا أبا الحسن (٤) علّى بن سهل الدينورى ، وبقربنا (٥) امرأة عجوز عليها آثار العبادة تسمع كلامنا ، فقالت : بأبى أنت ، هل (٦) رأيت ابن الصّائغ؟ قلت لها : نعم! فأكبّت (٧) على رجلىّ ويدىّ تقبّلها (٨) وقالت : يا بنّى ، شهدت أبا الحسن وهو ابن خمس عشرة سنة (٩) وقد خرج إلى الصحراء ، وحضر حضيرا (١٠) وجلس فيه ، فأقبلت الأمطار (١١) حول الحضير ، وليس فى الحضير نقطة ماء ، فلما اجتمعت به قلت له : تأذن لى أن أسألك عن حكاية؟ قال : نعم. فحكيتها له ، فشخص ببصره إلى السماء ، ثم أقبلت الدموع (١٢) تريد أن تسيل من عينيه وهو يمنعها ، ثم قال : دعنا من هذا وهات ما ننتفع به!

__________________

(١) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فعانفته».

(٢) قوله : «عنها» عن «ص» .. و «كثيرة» عن «م».

(٣) فى «ص» : «فتذاكروا».

(٤) فى «ص» : «أبو الحسن» خطأ ، وبقية الاسم لم يرد فى «م».

(٥) فى «ص» : «وكان بقربنا».

(٦) أداة الاستفهام «هل» من «م».

(٧) فى «م» : «فاكتب» تحريف.

(٨) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «تقبلهم».

(٩) فى «م» و «ص» : «خمسة عشر سنة» خطأ ، وقد سبق التعليق عليها.

(١٠) الحضير : الموضع الذي يجلب منه الناس الماء.

(١١) فى «ص» : «الأمطار والثلوج».

(١٢) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فشخص ببصره ساعة وقال ، وأقبلت الدموع ...».

٥٧٦

قال : ولقد رأيته يوما وقد خنقته (١) العبرة ، فغمض عينيه يمنعها وقال : ما أشدّ الزكام! ثم غلبته أيضا ، فالتفت لمّا بكى وقال لعينيه : يا (٢) مرائيتان!

وقال أيوب : كان أبو الحسن يجيء إلى النهر وقد جمد من الثلج ، والدّوابّ تمرّ عليه ، فإذا وصل إليه يريد أن يتطهّر نظر (٣) إلى نقرة صغيرة ، وكلّما (٤) مال إليها ذهب البرد منها وثار الحرّ (٥) ، وليس عليه من ذلك أثر. ولقد جئت من ورائه يوما ـ من حيث لا يعلم ـ لأنظر ما يكون من أمره ، فلما وصل إلى النهر هدأ جريانه ، ولم أسمع له صوتا (٦) ، فتقدّمت ، فلما سمع حسّى التفت إليّ وقال : مالك ولهذا؟!

وقال فارس الجمّال : أصابنى فى وجهى ورم شديد فأتيت إليه ، فتفل فى وجهى (٧) ، فأصبحت وليس فى وجهى منه شىء.

وقال أيضا : كنت معه يوما فى سفر ، فلحقنا عطش شديد ، وأتى وقت صلاة الفرض ، فجاءت سحابة وأمطرت حتى ملأت بركة ، فقال لى : اشرب يا عطشان ، فشربت حتى رويت ، وتوضّأت للصلاة.

وقال بعض أصحابه : نزلت مع أبى الحسن إلى البحر ومعى فتى من المتعبّدين ، فجاز أبو الحسن البحر ، فلما رآه الفتى صعق وخرّ مغشيّا عليه ، فملأ أبو الحسن «فياشة» (٨) ولم يكن فيها إلّا ماء البحر (٩) ، ورشّ على الفتى

__________________

(١) فى «ص» : «وقد جاءته».

(٢) سقطت «يا» من «م».

(٣) الفعل : «نظر» عن «م» وساقط من «ص».

(٤) فى «م» : «فكل ما».

(٥) فى «ص» : «ذهب منها البرد وثار منها الحر».

(٦) فى «م» : «صوت» خطأ.

(٧) فى «م» : «على وجهى».

(٨) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «الفياشة» ولم أقف عليها ، ولعلها آنية رقيقة من جلد ونحوه ، كالقربة ، فمادة «فيش» فيها معنى الضعف والرخاوة.

(٩) فى «ص» : «ماء من البحر».

٥٧٧

ماء ورد طيب (١) ، فقلت : مالى لا ترشّ (٢) علىّ؟! فقال : إنك لست من هناك!

وقال (٣) بعضهم : كان ـ رضى الله عنه ـ يخرج إلى خارج «دينور» إلى (٤) نهر هناك شديد الحرارة ، لا يقدر إنسان (٥) على الوضوء منه لحرارته ، فلما وضع رجله عليه صار كالزّيت ، فإذا توضأ منه وفرغ رجع إلى حاله.

وقال إبراهيم بن أحمد : كان فى المسجد جماعة يتعرّضون لى (٦) بالأذى ، وزاد علىّ أذاهم ، وأنا حدث ، فشكوت ذلك إلى شيخ من شيوخنا ، فقال : امض بنا إلى أبى الحسن الدينورى واذكر له ما وقع لك من الأذى ، فلعلّه يدعو (٧) لك.

قال : فصعدنا إليه ، فلما نظر إلىّ قال : يا بنىّ ، لا بأس عليك ، لا تغتمّ .. ارجوا الله من فضله يكفيكم ، فكان كذلك ـ رضى الله عنه وأرضاه.

وحدّث بعض الثقات ، قال : كان للشيخ أبى الحسن الدينورى حضير (٨) فى الجبل بغير سقف يأوى إليه ، وفيه محاريب (٩) قد عملها ، فجاء مطر عظيم وثلج كثير ، فأصبح الناس وعلى أثوابهم الثلج ، وكل إنسان يستعين بمن يزيل الثلج عن بابه ، ثم قالوا : نذهب إلى أبى الحسن الدينورى فربّما مات من الثلج والمطر. فخرج جماعة من الناس إلى الجبل فوجدوه جالسا فى وسط الحضير وليس عليه شىء من الثلج ، فرجعوا متعجبين (١٠).

__________________

(١) هكذا فى «م» و «ص» على أنها صفة لورد.

(٢) فى «ص» : «لا يرش».

(٣) من هنا إلى قوله : «متعجبين» عن «م» وساقط من «ص».

(٤) «إلى» زيادة من عندنا لاستقامة المعنى.

(٥) فى «م» : «إنسانا» خطأ والصواب ما أثبتناه.

(٦) فى «م» : «له» لا تصح ، فالسياق يستدعى ما أثبتناه.

(٧) فى «م» : «فلعل أن يدعو».

(٨) أى : موضع ، وقد مرت.

(٩) جمع محراب.

(١٠) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

٥٧٨

وكان ـ رضى الله عنه ـ يقول : من لم تظهر كراماته بعد مماته كما كانت (١) فى حياته فليس بصادق.

وكان يقول : دلائل الصّدق لا تخفى ، لا فى الحياة ولا فى الممات.

وقال يحيى بن الربيع : رأيت أبى فى المنام وهو يقول لى : إن أردت أن تتقرب إلى الله تعالى فعليك بأبى الحسن!

وجاءه شابّ فقبّل رأسه ، فقال له : امض إلى أمّك وسلها أن تهبك (٢) الدّفعة (٣) التى دفعتها ، فهو أولى بك من هذا.

وكان يتكلم يوما (٤) فى مجلسه فدخل عليه رجل متعبد من أهل الصعيد ، فلما وقعت عين الشيخ عليه قال : «ما هذا السّوء الأدب؟ قوم يشتهون (٥) أن ينظروا إلينا فإذا رأونا طلبوا على ذلك برهانا!» فصعق الرجل المتعبد مكانه.

وذهب الشيخ أبو الحسن إلى منزله (٦) ، فسئل الرجل عن سبب قول الشيخ وعن صعقته ، فقال (٧) : «كنت فى الصعيد كثيرا ما أقول : وددت لو رأيت الشيخ أبا الحسن ، لما يبلغنى عنه ، وكنت أسأل عنه شيخا من المتعبدين ، فقال لى : أليس كنت تحب أن ترى الشيخ؟ قلت : نعم. قال : هو ذا قد جاءنا الليلة زائرا من مصر! فنظرت إلى هذا الشيخ بعينه وصفته ،

__________________

(١) فى «ص» : «مثلما كانت».

(٢) فى «ص» : «امض واستوهب من والدتك».

(٣) فى «م» : «الرقعة».

(٤) «يوما» عن «م».

(٥) فى «ص» : «يشهدون» تحريف.

(٦) فى «ص» : «إلى مرة» تحريف.

(٧) فى «ص» : «فقيل له القصة ، فقال ...».

٥٧٩

ولم أكن رأيته قط ، فوقع فى نفسى (١) أنّ الشّيخ يجيء من مصر إلى الصعيد فى ليلة واحدة (٢) ... وأمسكت عن هذا ، ثم عزمت على الخروج إلى مصر ، فجئت فى يومى هذا وسألت عنه ، فأرشدت إليه ، فلما وقعت عينى عليه إذا هو الذي رأيته بعينه».

وقال جعفر : «كنت بالصحراء فى متعبّد لى (٣) وكان الشيخ قريبا منّى ، فقمت لأفتقده (٤) ، وإنّى لأنظر (٥) قنديلا يقف فى الجو على رأسه يقد إلى الصباح ، فإذا أصبحت لم أجد شيئا» (٦).

وقال بعض أصحابه : «كنت يوما جالسا فى حلقته ، والناس قيام وقعود (٧) ، فالتفت (٨) ـ رضى الله عنه ـ إلى رجل منهم وعليه ثوب (٩) دنس ، فقال : اذهب ـ ويلك ـ فاغتسل! فخرج من الحلقة وفتّش ثوبه ، فإذا فيه أثر احتلام.

وقال : إنّى لأعرف رجلا وقف على نهر ، فعرض فى نفسه شىء ، فقال : إن كنت صادقة فقولى لهذا النهر : قف. فوقف النهر.

__________________

(١) فى «ص» : «وكان وقع فى نفسى».

(٢) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «أن الشيخ بمصر يجيء إلى الصعيد فى ليلة» أى أنه استبعد حدوث ذلك فى دخيلة نفسه ، أو استحالته.

(٣) فى «ص» : «إلىّ». والمتعبّد : مكان التعبد.

(٤) قوله : «فقمت لأفتقده» عن «ص» وساقط من «م».

(٥) فى «م» : «وكنت أرى».

(٦) فى «ص» : «قنديلا يقد على رأسه ، فإذا أصبحت لم أر القنديل».

(٧) فى «م» : «كنت جالسا فى بعض الأوقات فى حلقته والناس محدقون به قياما وقعودا».

(٨) فى «ص» : «إذ التفت».

(٩) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «تراب».

٥٨٠