مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

واستحى (١) وظنّ أن فرّط فيها ، وأنه يعجز عن القيام بها ، فلهذا طالبه.

ولمّا اعتقله أمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهرى ، ففعل ، وجعله كالخليفة له والنائب عنه (٢). وقال الحسن اللّيثى : حدّثنى بعض شيوخ مصر قال : مررت فى أول اللّيل و «بكّار» فى غرفته يبكى ويصلى ويقول : (كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)(٣) يرددها ما تجاوزها.

وروى أبو حاتم ابن أخى «بكّار» قال : قدم على عمّى «بكار» رجل من البصرة ، [عنده علم وزهادة وفضل ونسك ، فأكرمه عمّى وقرّبه](٤) وأدناه ، وذكر أنه كان معه فى المكتب (٥) فى البصرة ، ومضت به الأيام حتى جاء الرجل فى شهادة ، ومعه شاهد من شهود مصر ، فأدّوا الشهادة عند عمّى ، فما قبل شهادة ذلك الرّجل ، فلما خرج وهو منكسر القلب قلت لعمى : هذا رجل زاهد ، عالم ، وأنت تعرفه. فقال : يا بن أخى ، مارددت شهادته ، إلّا أنّا لمّا كنا صغارا فى المكتب جلست أنا وإيّاه على مائدة فيها أرز وحلوى (٦) ، فنقبت الأرز بأصبعى ، فقال لى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها)(٧) [فقلت له] : أتهزأ (٨) بكلام الله على الطعام؟! ثم أمسكت عن كلامه مدّة ، فما أقدر على قبوله وأنا أذكر ذلك منه.

__________________

(١) استحى واستحيا : خجل. ومن قوله : «فلما نظر أحمد ..» إلى قوله : «والنائب عنه» عن «م» وساقط من «ص».

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) سورة المعارج ـ الآيات من ١٥ ـ ١٧. والمراد بلظى : جهنم والعياذ بالله ، ونزّاعة للشّوى ، أى : قلّاعة للأطراف أو جلد الرأس.

(٤) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٥) المكتب : مكتب تحفيظ القرآن (الكتّاب).

(٦) فى «م» : «وحلو».

(٧) من الآية ١٧ من سورة الكهف.

(٨) ما بين المعقوفتين عن «ص» .. وفى «م» : «أتهتزئ».

٢٢١

ودخل على «بكار» قوم من أهل «الرملة» فقال قوم ممّن حوله : كيف حال قاضيكم؟ فقالوا : عفيف! فالتفت «بكّار» إليهم وقال : لقد غممتمونى (١) يقال : قاض (٢) عفيف ، فسدت الدّنيا!!

وقال محمد بن أحمد بن سلامة : ما تعرّض أحد لبكّار فأفلح (٣) .. لقد تعرض إليه غلام من بنى يزد يقال له : عامر بن محمد ، وكان قد دسّ عليه وقيل له : تظلّم فيه ، وكان فى حجر «بكّار» (٤) ، وكان يقرّبه ليتمه ، فرآه «بكّار» فى مجلس المظالم (٥) ، فقال له : ما تصنع هاهنا؟ فقيل له : هو يرفع فيك (٦)!! فقال : على أىّ شىء يا عامر (٧)! قال : أنفقت مالى (٨).

قال : أنا يا عامر؟! قال : نعم (٩). قال : إن كنت كاذبا فلا نفعك الله بعقلك ولا جسمك. قال أبو محمد : أخبرنى من رآه وهو شيخ ذاهل العقل ، يسيل لعابه من فالج (١٠) ويسبّ الناس ويرميهم بالحجارة ، وهم يقولون (١١) : هذه دعوة الكبير المقدار (١٢) القاضى «بكّار».

__________________

(١) هكذا فى «ص». وفى «م» : «عمّمتونى» بالعين المهملة ، يقال : عمّ القوم فلانا أمرهم ، أى : قلّدوه إيّاه ، فصار ملجئا للعامّة.

(٢) فى «م» : «قاضى». لا تصح.

(٣) فى «م» : «وأفلح» أى : فاز وظفر بما يريد.

(٤) أى : فى كنفه ورعايته.

(٥) فى «م» : «مجلس الظلم».

(٦) أى : يرفع شكواه فيك إلى الحاكم .. وفى «ص» : «يرفع عليك».

(٧) فى «ص» : «على أى شىء تقول يا عامر؟».

(٨) فى «ص» : «أتلفت مالى».

(٩) قوله : «قال نعم» عن «م».

(١٠) الفالج : شلل يصيب أحد شقّى الجسم طولا فيبطل إحساسه وحركته.

(١١) فى «م» : «يقولوا» خطأ ، والصواب ثبوت النون.

(١٢) قوله : «الكبير المقدار» عن «م» ولم يرد فى «ص».

٢٢٢

وقال (١) بعض أصحاب التواريخ فى ترجمة القاضى «بكّار» : إنه رأى النّبىّ صلّى الله عليه وسلم وبين يديه طبق فيه تمر ، فقال له : أطعمنى يا رسول الله ، فناوله ثنتين ، ثم استزاده (٢) ، فأعطاه ثنتين ، فاستزاده ، فأعطاه واحدة ، فاستيقظ من نومه وهو يجد حلاوة التمر فى فمه ، ووجد النوى فى يده ، ثم إنه أتى إلى السيدة زكية ابنة الخير بن نعيم الحضرمّى ، فإذا هى جالسة وبين يديها طبق فيه تمر على صورة الطبق الذي رآه بحضرة النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، فقال لها : أطعمينى ، فناولته ثنتين ، ثم استزادها ، فأعطته ثنتين ، فاستزادها ، فأعطته واحدة ، فطلب منها الزيادة ، فقالت له : لو زادك رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا مناما زدناك يقظة ، ولو زادك ليلا زدناك نهارا (٣)!

وسجن أحمد بن طولون القاضى «بكّارا» (٤) مدة طويلة ، يقال : إنه سجنه بضعة عام (٥) لسبب ، وهو أن «الموفق» الخليفة (٦) لما حكم فى خزائن

__________________

(١) من هنا إلى قوله «نهارا» عن «م» وساقط من «ص».

(٢) أى : طلب المزيد.

(٣) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٤) فى «م» و «ص» : «بكار» ، لا تصح لغة.

(٥) فى «م» : «بضعة عاما» خطأ. ولم ترد هذه العبارة فى «ص». بل جاء فيها : «وسجن ابن طولون القاضى «بكار» وسبب سجنه أن ابن طولون كان عزم على خلع الموفق ، وتوقّف بكار عن الخلع ولم يطاوعه على ما قصد ، فحبسه لأجل ذلك عدة سنين» والجملة الأخيرة منقولة عن وفيات الأعيان ففيه أنه حبسه مدة سنين. وفى كتاب الولاة والقضاة للكندى : كان سجنه فى جمادى الآخرة سنة سبعين [ومائتين] فأقام فى السجن إلى أن عرضت لأحمد بن طولون علّته التى توفى فيها. وتوفى بعده بكار بأربعين يوما ، وكانت وفاته فى ذى الحجة سنة ٢٧٠ ه‍. وعلى هذا يكون ما قضاه فى السجن ستة أشهر تقريبا على هذه الرواية. والله أعلم.

[انظر الولاة والقضاة ص ٤٧٧ ـ ٤٧٩ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٤٢٧].

(٦) هو : أبو أحمد طلحة (الموفق بالله) بن جعفر (المتوكل على الله) بن المعتصم العباسى ، أمير ، من رجال السياسة والإدارة والحزم ، لم يل الخلافة اسما ، ولكنه تولّاها فعلا ، وابتدأت حياته العملية بتولى أخيه «المعتمد على الله» الخلافة سنة ٢٥٦ ه‍ ، وآلت إليه ولاية العهد ، وظهر ضعف «المعتمد» عن القيام بأعباء الدولة ، فنهض بها الموفق ، وصدّ عنه غارات الطامعين بالملك ، ثم حجر عليه بعد أن انهمك المعتمد فى اللهو واللذات وانشغل عن الرعية ، وبعد أن عزم على الرحيل إلى

٢٢٣

الأقاليم ، أمر نوّابه بالأقاليم بحمل الأموال ، وأمر أحمد بن طولون ، فأبى عن حمل الأموال وعصى ، فأمر أبو أحمد الموفّق (١) بسبّ أحمد بن طولون على المنابر بعد الخطبة ، وأمر أحمد بن طولون بسبّ «الموفق» على المنابر. وخرج أحمد بن طولون فى مائة ألف وأكثر إلى دمشق للقاء رسول [أبى] أحمد (٢) الموفق الذي ولّاه على مصر عوضا عن أحمد بن طولون ، فلما نزل أحمد إلى دمشق أحضر القضاة وقال لهم : اثبتوا أن «الموفق» خارجىّ (٣) ، ففعلوا له ذلك ، فأحضر «بكارا» إليه (٤) وقال له : سجّل لى أنّ «الموفّق» خارجّى. فقال له : لم يثبت ذلك عندى. فقال له : عد إلى بلدك. فلما عاد أحمد من سفره طلب «بكارا» ووبّخه ، وقال : من يشهد لك أنّ الخليفة ولّاك (٥)؟ ثم طلب منه الجوائز التى تقدم (٦) ذكرها ، فأحضرها له ، ثم سجنه ، فأقام مسجونا إلى قبيل موته ـ كما سيذكر (٧). وكان يحدّث فى السجن من طاق (٨) ، لأنّ أصحاب الحديث اجتمعوا إلى أحمد بن طولون وشكوا (٩) إليه

__________________

مصر بمكاتبة جرت بينه وبين «أحمد بن طولون». وكان الموفق شجاعا موفقا عادلا ، عالما بالأدب والأنساب والقضاء ، وله مواقف محمودة فى الحروب وغيرها ، وكانت وفاته ببغداد فى أيام أخيه المعتمد سنة ٢٧٨ ه‍ [انظر الأعلام ج ٣ ص ٢٢٩ ، ، وتاريخ بغداد ج ٢ ص ١٢٧ و ١٢٨ وتاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٤٢٥ ـ ٤٢٧ (ترجمة المعتمد على الله) والولاة والقضاة (ترجمة أحمد بن طولون)].

(١) فى «م» : «أحمد الموفق» خطأ ، والصواب «أبو أحمد الموفق» فأبو أحمد كنية الموفق ، ولم يرد هذا فى «ص».

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة لم ترد فى «م».

(٣) حدث ذلك بعد أن حجر على المعتمد وكان الموفق مشغولا بقتال صاحب الزنج.

[انظر وفيات الأعيان ج ١ ص ٢٨١ ، وتاريخ الخلفاء ص ٤٢٧]

(٤) فى «م» : «.. بكار إلى عنده».

(٥) فى «م» : «أنك الخليفة ولاك» يعنى : ولّاك على القضاء.

(٦) فى «م» : «الذي قدم».

(٧) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٨) أى : نافذة.

(٩) فى «م» : «وشكروا» تحريف.

٢٢٤

انقطاع السّماع (١) من «بكّار» ، وسألوه أن يأذن له فى الحديث ، ففعل ، فكان يحدّث على ما ذكرنا من طاق فى السّجن. وحديثه مع ابن طولون مستقصى فى سيرته ، فلا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا فنخرج عن الغرض المقصود بذلك.

وكان يغتسل فى كل جمعة فى السجن ويكتحل ويلبس ثيابه ويتطيّب ، ثم يصبر (٢) حتى يسمع (٣) النداء بالصلاة ، فيأتى إلى السّجّان ، فيقول له (٤) : ما تريد أيها القاضى؟ فيقول : أريد أن أصلّى الجمعة وأجيب داعى الله وأعود إليك. فيقول : اعذرنى أيها القاضى ، لا قدرة لى على ذلك ، يعسر (٥) علىّ.

فيقول «بكّار» : اللهمّ إنّى أجبت مناديك فمنعت ، اللهمّ فاشهد ، ثم يرجع.

ولمّا اعتلّ أحمد بن طولون (٦) فى شهر شوال سنة سبعين ومائتين ، أمر الناس بالدعاء فى مسجد «محمود» فى سفح الجبل المقطم ، فخرج الناس يوم الاثنين ، لستّ خلون من شوّال السّنة المذكورة ، وخرج معهم محمد بن شاذان الجوهرى ، الذي كان خليفة «بكّار» فى القضاء لمّا سجن ، وخرج اليهود بالتوراة ، والنصارى بالإنجيل ، وسألوا وابتهلوا ودعوا .. فاشتدّ به الألم ، [فدعا](٧) خمارويه وقال له : «اذهب إلى القاضى «بكّار» بن قتيبة ، فإنى

__________________

(١) قوله : «السماع» عن «ص» ولم يرد فى «م». ومعناه : سماع الحديث.

(٢) فى «ص» : «يتمهّل».

(٣) فى «م» : «يستمع».

(٤) فى «ص» : «حتى إذا سمع المنادى ينادى للصلاة أتى إلى السجان ، فيقول له».

(٥) فى «ص» : «يعز». وما أثبتناه عن «م».

(٦) هذه الفقرة عن «م» ، وقد وردت فى «ص» مختصرة هكذا : «ولما اعتل أحمد بن طولون أرسل إلى بكار وقال : أنا أردّك إلى منزلك. فقال بكار : للرسول : قل للأمير : شيخ فإن ، وعليل مدنف ، والملتقى عن قريب ، والحاكم هو الله الواحد القهار». وما بعد هذه الفقرة أثبتناه عن «م» ، حيث لم يرد فى «ص».

(٧) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا ولم ترد فى «م».

٢٢٥

أرى أنك تجده يصلى ، فإذا فرغ من صلاته فقل (١) له : إنّ والدى يقرئك السّلام ويسألك الدعاء ، وإن هو عوفى أعادك (٢) إلى مرتبتك. فجاءه خمارويه فوجده قائما يصلى ، فلما انتقل من صلاته (٣) نظر «بكار» إليه ، فسلّم خمارويه عليه ، وأقرأه السلام عن والده ، فقال له : لعلّك جئت فى أمره.

فقال : نعم ، وقال له : إنه يلتمس منك الدعاء ، فإذا هو عوفى أعادك إلى مرتبتك وزادك رفعة. قال : فأخذ القاضى بكّار لحية نفسه (٤) وقال : قل له : يقول لك «بكّار» بن قتيبة : هو شيخ فإن أشرف على حفرته (٥) ، وأنت عليل مدنف (٦) أشرفت على حفرتك ، والملتقى بيننا عن قريب بين يدى الله عزّ وجلّ ، والحاكم هو الله الواحد القهار!

فعاد خمارويه إلى أبيه فوجده فى النزع ، وتحرّس عن الكلام (٧) ، فقضى نحبه ولحق بربه ، وقام بالأمر بعده ولده الأمير أبو الجيش خمارويه ، فأرسل إلى القاضى «بكار» يقول له : انصرف إلى منزلك. فقال : الدّار بأجرة ، وقد اعتدت بها وصلحت لى. فأقام بها ، وجاءه أصحاب الدار يطلبون أجرة الدّار فيما مضى ، فقال : لا أجرة علىّ. ويقال : إنه قال لهم : أنتم عفيتم داركم ونجيت بها (٨) ، وهذه أجرة الدار فى المدّة التى أقمت بها ، وإذا أقمت دفعت لكم الأجرة التى تستحقّ.

__________________

(١) فى «م» : «قل». والصواب وقوع الفاء فى جواب الشرط.

(٢) فى «م» : «عادك».

(٣) أى : خرج منها. وفى الكواكب السيارة : فلما سلّم من صلاته.

(٤) لم يقل الكاتب : «لحيته» خشية أن يلتبس الأمر على القارئ فيظن أن الضمير (فى لحيته) يعود على «خمارويه».

(٥) أى : على قبره ـ كناية عن دنوّ أجله.

(٦) مدنف : اشتد مرضه وأشفى على الموت.

(٧) تحرّس عن الكلام : احترس منه وتوقّاه.

(٨) هكذا فى «م». ومعنى عفيتم من الإعفاء ، وهو إسقاط التكلفة. ونجيت بها ـ لعلها من باب التفاؤل. ولعلها تحريف من «نحيت بها» أى : «سجنت بها» .. وفى كتاب الولاة والقضاة للكندى : «قال : الدار بأجرة ، وقد أنست بها ، فما مضى فعلى غيرنا ، وما كان فى المستأنف (أى المستقبل) فعلّى».

٢٢٦

فأقام أربعين يوما ، ثم توفى إلى رحمة الله تعالى ، وصلّى عليه ولد أخيه محمد بن الحسين بن قتيبة. وعاش محمد بعد عمّه عشر سنين. وكانت جنازة [بكّار] جنازة حافلة (١) ، اجتمع فيها بشر كثير ، يقال إنهم كانوا يزيدون على خمسين ألف رجل. ودفن بالقرب من مصلى بنى مسكين القديمة ، وحزن لموته الحزن الذي يوازى رؤيتهم به. وكانت ولادته بالبصرة فى سنة اثنتين (٢) وثمانين ومائة ـ وروى فى ذى القعدة سنة سبع وثمانين [ومائة] ـ وقد بلغ تسعا (٣) وثمانين سنة ، وهو مسجون.

ورئى أحمد بن طولون فى المنام بعد موت القاضى «بكّار» ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لى وتجاوز عنى بشفاعة القاضى «بكار». فقيل له : ما فعل الله بك فى شأن الذين قتلوا بإذنك فى قبضتك وحروبك؟ قال : كنت بفعلى ذلك بهم رحمة من الله تعالى لهم ، كان القتل لهم تخليصا من العذاب الشديد ، والشرّ المزيد (٤).

وقيل : إنه مرّ بصبيان (٥) وهم يرجمون مجنونا ، فقال لهم : لم ترجمون هذا؟ فقالوا : هذا يزعم أنه يرى (٦) ربه. فالتفت القاضى إليه وقال : صحيح ذلك (٧)؟ فقال له المجنون : وكأنك من جملة الصبيان؟! فقال له القاضى : إن كنت صادقا فمن أنا؟ قال : أنت «بكّار» بن قتيبة الذي علّقت قيود الناس فى عنقك. قال : صدقت.

__________________

(١) فى «م» : «حفلة» وما بين المعقوفتين من عندنا.

(٢) فى «م» : «اثنين» خطأ لغوى.

(٣) فى «م» : «تسع» خطأ لغوى. وما بين المعقوفتين من عندنا.

(٤) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٥) فى «م» : «بالصبيان» وما أثبتناه عن «ص».

(٦) فى «ص» : «رأى».

(٧) فى «ص» : «صحيح ما يقول هؤلاء الصغار؟».

٢٢٧

والدعاء عند قبره (١) مستجاب. ويقال : إنّ رجلا جاء من بغداد فى أيام العادل ابن السلار على وصية بكتاب من الحاكم (٢) ببغداد ، فاستقضى المال من الحاكم فلم يوصله إلى شىء منه ، وتعسّر عليه الحال ، وأخذت الرشوة عليه للحاكم (٣) وغيره ، ولم يجد من ينصره ، فأراد الانصراف إلى بلده بغير شىء ، فقيل له : لو مضيت إلى قبر القاضى «بكّار» ودعوت الله عند قبره أن يجمع عليك ما جئت لطلبه (٤). ففعل ذلك ، ودعا الله تعالى ، وتوسل بالقاضى «بكّار» ، وشكا ما يجده من بعد المكان وقلّة المال ، ثم مضى من وقته (٥) ، فوجد السلطان راكبا والحاكم معه ، فوقف له السلطان وسأله عن [حاله](٦) وأمره ، فأخبره ، فالتفت إلى الحاكم وقال له : سلّم لهذا ماله السّاعة ، واحذر أن تعيقه (٧) لحظة واحدة. فمضى الحاكم لوقته وسلّم إليه المال ، وذلك ببركة الدعاء عند قبر القاضى «بكّار» رحمه الله.

وكان مولده سنة اثنتين (٨) وثمانين ومائة ، كما تقدم ، وتوفى في شهر ذى الحجة الحرام سنة سبعين ومائتين ، [وكانت وفاته ووفاة أحمد بن طولون ، فى سنة واحدة ، كما تقدم](٩) وبلغ عمره تسعا (١٠) وثمانين سنة ، وكانت مدة

__________________

(١) فى «ص» : «عنده».

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» لكتاب من الحكام.

(٣) فى «م» : «للحكام».

(٤) قوله : «ما جئت لطلبه» عن «م» وساقط من «ص».

(٥) فى «ص» : «فشكا إليه القصة ثم مضى».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٧) فى «م» : «تبيته».

(٨) فى «م» و «ص» : «اثنين».

(٩) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(١٠) فى «ص» : «تسع» خطأ ، وفى «م» : «تسعة» خطأ والصواب ما أثبتناه.

٢٢٨

ولايته (١) أربعا وعشرين سنة ، وستة أشهر (٢) ، وستة عشر يوما ، وأقامت مصر بعده بغير قاض (٣) ثلاث سنين.

قبر الشيخ أبى رحمة (٤) :

ويلى قبره (٥) قبر الشيخ الصالح ، المعروف بأبى رحمة. وكان هذا الرجل صالحا محبوبا عند الناس ، يزور الصالحين ويبدى أخبارهم (٦) وفضائلهم ، رآه بعض من كان يزور معه فى النوم بعد وفاته ، فقال له : ما فعل الله بك؟ فقال : والله نجوت بحبّ الله وحبّ رسوله من النار ، وغفر لى بكثرة الصّلاة على المختار (٧).

قبر القاضى الخير بن نعيم (٨) :

ومن غربّى قبر أبى رحمة ـ تحت الكوم ـ قبر (٩) القاضى الخير بن نعيم ابن عبد الوهاب بن عبد الكريم بن مرّة بن كريب (١٠) بن عمرو بن

__________________

(١) أى : ولايته للقضاء.

(٢) فى «م» : «شهور». وما أثبتناه هو الأصح (جمع قلّة).

(٣) فى «ص» : «بلا قضاء».

(٤) هذا العنوان من عندنا.

(٥) أى : قبر القاضى بكّار.

(٦) فى «ص» : «ويدلّ على أخبارهم».

(٧) فى «ص» : «فقال : والله مالى عمل ينجينى إلّا حب الله تعالى وحب رسوله ، وكنت أصلى عليه فى كل يوم وليلة ، وأكثر الصلاة عليه ، فأنجانى الله تعالى من النار ببركة الصلاة على النبي المختار».

(٨) هو خير بن نعيم من مرّة الحضرمى المصرى ، قاض ، من رجال الحديث ، والفقهاء والقصّاص .. ولى القضاء ببرقة ومصر سنة ١٢٠ ه‍ ، واعتزل بمصر سنة ١٣٥ ه‍ ، فدعى ثانية ، فأبى. وكان يحسن اللغة القبطية. وتوفى سنة ١٣٧ ه‍. وقد وثقه النسائى وابن حبان ، وقال أبو زرعة : صدوق ولا بأس به.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٢ ص ٣٢٦ ، والولاة والقضاة ص ٣٤٨ ـ ٣٥٢ ، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى ج ٣ ص ١٧٩ ، وحسن المحاضرة للسيوطى ج ١ ص ٥٥١ وج ٢ ص ١٣٩ ، ورجال صحيح مسلم ج ١ ص ١٩٤].

(٩) فى «ص» : «قبالة أبى رحمة إلى القبلة قبّة تحتها قبر».

(١٠) بعد هذا فى «ص» : «ويكنى أبا إسماعيل ، كان من الفضلاء المحدثين ، وله روايات كثيرة ،

٢٢٩

خزيمة بن أوس الحضرمى ثم الأجدومى ، من بنى ناهض ، يكنى أبا إسماعيل ، ويقال : أبا نعيم. انتهت إليه الرياسة فى زمنه ، تولّى القضاء والقصص بمصر فى آخر خلافة بنى أميّة ، وأول خلافة بنى العباس. وولى القضاء ببرقة فى خلافة بنى أمية ، وكان من الفضلاء المحدّثين. وروى عن سهل بن معلى (١) ، وعبد الله بن هبيرة ، وعن عروة بن الزبير ، وغيرهم. وروى عنه (٢) يزيد بن أبى حبيب ، والليث بن سعد ، وعمرو بن الحارث ، وغيرهم.

وكان يقضى بين الناس فى الجامع العتيق إلى العصر ، فإذا كان بعد (٣) العصر خرج على باب المسجد يقضى بين اليهود والنصارى. وكان يزيد بن أبى حبيب (٤) يقول : ما أدركت من قضاة (٥) مصر أفقه من الخير بن نعيم. ويروى عن سهل بن علىّ [ويقال : عبد الرحمن بن سهل بن علىّ](٦) قال : كنت كثيرا ما أجالس الخير بن نعيم ، وأنا صغير (٧) السّنّ ، وكان يتجر فى الزيت ، فقلت له يوما : يا سيدى (٨) ، وأنت أيضا تتجر فى الزيت؟ فضرب بيده على كتفى ، وقال : انتظر حتى تجوع ببطن غيرك (٩)! فقلت فى نفسى : وكيف يجوع إنسان ببطن غيره؟ قال سهل : فلمّا بليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم.

__________________

وكان يقضى بين المسلمين فى مسجد مصر ..». وما هنا أثبتناه عن «م».

(١) فى «م» : «عن أبى هريرة» ولم تذكر ذلك المراجع التى ترجمت لحياته .. وفى تهذيب التهذيب : «روى عن عبد الله بن هبيرة ، وسهل بن معلى بن أنس ، وابن الزبير ، وعطاء ، وغيرهم. ولم يأت ذكر لأبى هريرة ، فهو لم يدركه.

(٢) فى «م» : «وروى عن» خطأ ، والتصويب من المصدر السابق.

(٣) فى «م» : «بعض» تصحيف.

(٤) فى «ص» : «يزيد بن حبيب» وما أثبتناه عن «م» وكتاب الولاة والقضاة وهو الصحيح.

(٥) فى «م» : «من قضائه» الأخيرة تحريف من الناسخ.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٧) فى «ص» : «وأنا حدث».

(٨) فى «ص» : «يا سيدنا». وفى الكواكب السيّارة : «يا سيدى ، أتكون فى أحكامك وتؤتى بالزيت بين يديك ، ويوزن ويباع؟».

(٩) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «.. حتى تجوع ببطن غيرك فتعلم». وفى الكواكب السيّارة : «إذا أنت جعت ببطن غيرك عرفت قدر ما أنا فيه».

٢٣٠

وحكى عنه أنّ رجلين أتيا إليه فى وقت صلاة المغرب لحكومة (١) بسبب جمل به عيب يريد المشترى ردّه على البائع ، فخاف من فوات صلاة المغرب ، فأخّرهما إلى الغد ، فذهبا بالجمل وباتا (٢) ، فمات الجمل فى تلك اللّيلة ، فلما أصبح الصباح جاء البائع والمشترى إلى القاضى ، فقال المشترى : أصلح الله شأن مولانا القاضى ، اشتريت من هذا الرجل جملا وقال لى : لا عيب فيه ، فوجدت به عيبا ، فجئنا به إليك اللّيلة الماضية لفصل الحكم بيننا ، فأمرتنا أن نأتى فى الصباح ، فمات الجمل فى الليل ، فهل ثمنه يكون فى كيسى أو فى كيسه؟ فقال القاضى : يا ولدى ، لا فى كيسك ولا فى كيسه ، بل فى كيس القاضى الذي لم يخرج لفصل الحكم بينكما. فوزن لهما (٣) ثمن الجمل.

وحكى عن الشريف محمد بن أسعد النّسّابة ، نقيب الطّالبيين بمصر ـ رحمه الله ـ أنه حضر إلى القاضى الخير بن نعيم قاضى مصر خصمان ، ادّعى أحدهما على الآخر بعشرين دينارا ، فسكت المطلوب ولم يجب (٤). فقال القاضى : ما تقول؟! فسكت أيضا. فقال : ما يخلّصك السّكوت. فناول القاضى رقعة وقال : استرها سترك الله ، فسترها القاضى [بكمّه](٥) وقرأها ، فإذا فيها (٦) : العشرون دينارا فى ذمّتى ، وما علّى بها شاهد ، لا بينى ولا بينه (٧) ، وأنا عاجز (٨) اليوم فى حقّ الرسول قبل حقه ، إن اعترفت

__________________

(١) أى : لحكم أو تحكيم. وهذه القصة وردت فى «ص» فى آخر ترجمته ، أى فى غير هذا الموضع باختلاف يسير فى بعض ألفاظها.

(٢) فى «م» : «فذهبوا وباتوا» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) فى «م» : «لهم».

(٤) فى «م» : «لم يجيب» خطأ ، والصواب ما أثبتناه .. والمطلوب : هو المدّعى عليه.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٦) فى «م» : «فإذا فيها مكتوب».

(٧) فى الكواكب السيارة : «وما علىّ بها شاهد إلّا الله».

(٨) فى «ص» : «وأنا حائر».

٢٣١

اعتقلنى ، وإن أنكرت استحلفنى ، أفتنا يرحمك الله. فبكى القاضى وأخرج منديلا من كمّه ، ووزن العشرين دينارا لربّ المال ، فقال له : ما هذا يا سيدى؟

قال : خلاص هذه القضية (١) ، وقرأها عليه ، فقال له : يا سيدى ، أى شىء أردت بهذا؟ قال : الأجر والثّواب. فقال ربّ المال : أنا أولى بذلك وأحق ، والله لا أطالبه أبدا. فهمّ المطلوب أن يقوم ، فقال القاضى : هؤلاء خرجوا لله ، لارجعت فيهم (٢) ، فتخلص الرجل من العشرين ، وتحصّل على العشرين الأخرى. ويقال : إن المديون امتنع ، فتصدّق القاضى بها.

وكان سبب عزله عن القضاء ، أنّ رجلا من الجند خاصم إنسانا وقذفه (٣) ، فرفعه خصمه إلى الحاكم وادّعى عليه ، وشهد عليه شاهد واحد ، وذهب الخصم ليحضر له الشاهد الآخر ، فأمر القاضى بحبس الجندى حتى يحضر الرجل الشاهد الآخر ، ويقام على الجندى الحد ، فأرسل أبو عون عبد الملك بن يزيد (٤) فأخرج الجندى من السجن ، فلما بلغ الخير ذلك اعتزل فى بيته وترك الحكم ، فأرسل إليه أبو عون فى ذلك ، فقال : لا أرجع حتى يردّ الجندىّ إلى مكانه ، فلم يردّ ، وتمّ على عزمه. فقال له (٥) : فأشر علينا برجل نوليه. فقال : غوث (٦) بن سليمان الحضرمى.

__________________

(١) فى «ص» : «المسألة» مكان «القضية».

(٢) فى «ص» : «لا رجعة لهم».

(٣) وردت هذه القصة فى «ص» فى غير هذا الموضع ، وبها اختلاف يسير فى سياقها ، وما أثبتناه هنا عن «م».

(٤) وكان أبو عون أميرا على مصر. وفى «م» : «ابن عون» فى الموضعين والتصويب من الولاة والقضاة للكندى.

(٥) أى : ابن عون ، وفى «م» : «قالوا» : وما أثبتناه عن الكواكب السيارة.

(٦) فى «ص» والكواكب السيارة : «عون» مكان «غوث» ، تصحيف ، والصواب ما أثبتناه. وانظر ترجمة غوث بن سليمان فى كتاب الولاة والقضاة للكندى ص ٣٧٣ ـ ٣٧٦ وغيرها من الصفحات.

٢٣٢

وكانت ولاية الخير بن نعيم على القضاء والقصص ثلاث سنين. وتوفى ـ رحمه الله ـ سنة ستّ (١) وثلاثين ومائة.

* * *

وتخرج من عند الخير تستقبل القبلة تجد على يسارك ثلاثة ألواح من الرخام على قبور ثلاثة ، يقال : إنهم أشراف من البصرة ، وتاريخ وفاتهم (٢) على الألواح من الرخام.

وعلى يمينك تجد قبورا متباعدة (٣) ، قيل : إنهم أولاد جعفر بن محمد الصادق.

* * *

قبر سهل بن أحمد البرمكى (٤) :

ثم تدخل على يسارك تجد تربة كبيرة بها قبر سهل بن أحمد البرمكى ، من ذرّيّة البرامكة ، كان كاتبا بمصر على الخراج ، وكان مغرما بحب أهل البيت ، وكان كثير الزيارة لمشهد طباطبا (٥) ، قيل : إنه قال عند موته وهو يجود بنفسه لما رأى [أهل بيته](٦) ، وقد اجتمعوا يبكون عليه ويصرخون ، فأنشد يقول (٧) :

__________________

(١) فى «م» : «ستة ...» خطأ لغوى.

(٢) فى «ص» : «على قبورهم تاريخ موتهم سنة تسع وسبعين ومائتين».

(٣) فى «ص» : «ثم ترجع على يمينك تجد ستة قبور متطاولة ، ليس واحد منهم إلى جانب الآخر ...».

(٤) هذا العنوان من عندنا. وكان سهل وزيرا فى الدولة الطولونية ، وكان مشهورا بالخير ، كثير البر للفقراء ، وقد أنشأ التربة المنسوبة إليه بجوار مشهد الأشراف رغبة فيهم.

(٥) من قوله : «كان كاتبا بمصر ..» إلى هنا ، عن «م» وساقط من «ص».

(٦) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة المعنى. وانظر الكواكب السيارة ص ٦٣.

(٧) فى «م» : «فأنشأ يقول شعر» هكذا.

٢٣٣

إذا ما بكى الباكون حولى تحرّقا

وقالوا جميعا : مات سهل بن أحمد

فقولوا لهم : لا تندبوه فإنّه

مع السّادة الأبرار آل محمد (١)

قبر خلف الكتّانى (٢) :

ومعه فى التربة قبر خلف الكتّانى (٣) ، المتصامم عن سماع القبيح حتى مات ، كان فى بداية أمره من ذوى الأسباب (٤) ، ثم اشتغل بالعلوم وبرع فيها ، وكان أحد العلماء الفضلاء ، وسافر إلى العراق ، وأفاد علوما شتى ، وحدّث ، وحدّث عنه ، وروى عنه ابن حمضة الحرانى (٥) ، وقبره إلى جانب قبر سهل المذكور. قيل : لمّا كان فى بداية أمره فى السّبب (٦) باع امرأة كتّانا ، فخرج من المرأة ريح ، فخجلت واستحت ، ففطن لذلك ، فقال للمرأة : ارفعى صوتك حتى أسمع ما تقولين ، فظنّت أنه أصمّ ، ففرحت بذلك وزال خجلها.

ومثل هذا يحكى عن حاتم بن علوان الأصمّ ، وأنه شهر بذلك. وكذلك يحكى عن أناس سوى هذين الرّجلين. وتوفى خلف المذكور فى سنة سبع وخمسين [وثلاثمائة](٧).

__________________

(١) الشطرة الأولى فى «م» وفى الكواكب السيارة : «فقلت لهم لا تندبونى فإننى ..» والشطرة الثانية فى الكواكب السيارة : «مع الفتية الأطهار آل محمد». وما أثبتناه هنا عن «ص».

(٢) هذا العنوان من عندنا.

(٣) فى «م» : «الكتنانى» تصحيف. وبعد ذلك فى «ص» ورد تاريخ وفاته .. وسيأتى فى آخر ترجمته هنا ـ ولم يذكر بعد ذلك عنه سوى أنه تصامم عن سماع القبيح حتى مات .. أمّا ما أثبتناه هنا فعن «م».

(٤) فى «م» : «من ذى الأسباب» وفى الكواكب السيارة : «معدود من أرباب الأسباب».

(٥) هكذا فى «م» ولم أقف عليه.

(٦) أى : فى المتاجرة.

(٧) ما بين المعقوفتين عن «ص» والكواكب السيارة ، ولم يرد فى «م».

٢٣٤

مشهد الشريف «طباطبا» (١) :

ثم تخرج من هذه (٢) التربة إلى مشهد «طباطبا» وهو مشهد عظيم مبارك شريف. بهذا المسجد طائفة من بنى «طباطبا». [وطباطبا] هو : أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر الشهيد المقتول ابن عبد الله ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على بن أبى طالب ، لقّب بذلك لرتّة (٣) كانت فى لسانه ، كما حكى عن أبى بكر الخطيب ، الإمام الجليل ، صاحب «تاريخ بغداد» (٤) فى ترجمة إبراهيم المذكور ، أنه لمّا قدم بغداد فى خلافة الرشيد سمع به ، فبعث إليه ، فظن أنّ أحدا وشى به ، فدخل على الرشيد ، فقام له وأجلسه إلى جانبه ، وحادثه ، فصار يظهر للرشيد من كلامه الخوف ، فقال : ما بك يا أبا إسحاق؟ قال : روّعنى صاحب الطّبا (٥) ، يعنى الذي دعاه ، وكان عليه قبا فبدّل القاف طاء ، فلقّب بذلك الوقت «طباطبا».

وقيل : بل طلب يوما ثيابه ، فقال الغلام : أجىء بدرّاعة (٦)؟ فقال : «طباطبا» ، يعنى : قباقبا. ومن عرف بابن طباطبا فإليه ينسب ، وهو أول من لقّب بذلك.

وأمّا من دفن بهذا المشهد فمن ذرّيّته (٧) وفيه قبر ولد ولده على

__________________

(١) فى «ص» : «قبر الشريف طباطبا رضى الله عنه». والمادة بعد ذلك عن «م».

(٢) فى «م» : «هذين» لا تصح.

(٣) الرّتّة : العجمة فى اللسان ، وهى اللّثغة والتّردّد فى النطق.

(٤) فى «م» بعد ذلك : «أنه فى تاريخ بغداد».

(٥) فى «م» : «صاحب الطباطبا» مكررة ، وما أثبتناه عن الكواكب السيارة (ص ٥٩). يعنى : أخافنى صاحب القبا .. فقلب القاف طاء والقبا : القباء ، وهو ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص ، ويتمنطق عليه.

(٦) الدّرّاعة : ثوب من صوف ، وتطلق على الجبّة المشقوقة المقدّم.

(٧) فى «م» : «من ذريته» والفاء واقعة فى جواب «أمّا» .. والذي ذكرته المراجع أن «طباطبا» هذا لم يمت بمصر ، ولا تعرف له بها وفاة. ومن بهذا المشهد هم من نسله ونسل أخيه.

٢٣٥

ابن الحسن ، وكانت (١) له مكانة وجلالة ، بلغ ماله بعد موته ثلاثة (٢) قناطير ذهب ونصف ، وسبعة (٣) قناطير فضة ، وترك مائة عبد ، وأربعين أمة ، وأوصى أن يتصدّق بنصف ماله. وتوفى فى سنة خمس وخمسين ومائتين.

وممّن قبر بهذا المشهد ولد ولده أحمد بن محمد بن إسماعيل ، ذكره طائفة من الفضلاء ، منهم المؤرخ الفاضل أحمد بن خلكان فى كتابه ما صورته : السيد الشريف أبو القاسم أحمد بن محمد بن إسماعيل ، عرف بابن طباطبا الرّسّى الحسينى ، نقيب الطّالبيين بمصر ، وكان من أكابر رؤسائها وكرمائها ، وله شعر جيد مليح فى الزهد والغزل ، ذكره أبو منصور الثعالبى فى كتابه «يتيمة الدهر» ، وذكر له مقاطيع ، من جملتها (٤) :

خليلىّ إنّى للثريّا لحاسد

وإنى على ريب الزّمان لواجد

أيبقى جميعا شملها وهى ستة

وأفقد من أحببته وهو واحد

وله أيضا ـ ويقال : إنه (٥) من كلام وجيه الدولة ابن حمدان ، المكنى أبا المطاع ، عرف بابن ناصر الدولة ، وبذى (٦) القرنين ـ شعر :

قالت لطيف [لطيف] زارنى ومضى

بالله صفه ولا تنقص ولا تزد (٧)

فقال : أبصرته لو مات من ظمإ

وقلت : قف عن ورود الماء لم يرد

قالت : صدقت ، وفاء الحبّ عادته

يا برد ذاك الذي قالت على كبدى

__________________

(١) فى «م» : «كانت» بدون واو العطف.

(٢) فى «م» : «ثلاث» خطأ فى اللغة.

(٣) فى «م» : «وسبع» خطأ فى اللغة.

(٤) فى «م» : «من جملتها ـ شعر». ولم يرد الشعر فى «ص».

(٥) فى «م» : «إنها» أى : مقطوعة الشعر.

(٦) فى «م» : «بذى» بغير واو العطف.

(٧) الأبيات من بحر البسيط ، وما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة الوزن.

٢٣٦

ومن شعره المنسوب إليه فى طول اللّيل (١) :

كأنّ نجوم اللّيل سارت نهارها

فوافت عشاء وهى أنضاء أسفار (٢)

وقد خيّمت كى يستريح ركابها

فلا فلك جارى ولا كوكب سارى (٣)

ومن شعره أيضا ـ عفا الله عنه :

بانوا وأبقوا فى الحشاء لهيبهم

وجدا إذا ظعن الخليل أقاما (٤)

لله أيّام السّرور كأنّها

كانت لسرعة مرّها أحلاما

يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا

علما وردّ من الصّبا أيّاما

وكلامه كثير .. وتصدق بجميع مال أبيه المذكور آنفا ولم يترك منه شيئا ، وافتقر حتى صار على أكلة فى اليوم. ثم إنّ أحمد بن طولون علم بحاله ، فأعطاه قرية بمصر ، فكان يحمل إليه خراجها.

وكان من شأنه ـ رضى الله عنه ـ أن يشفع للناس ويمشى فى حوائجهم ، كثير الرأفة والحلم ، قال ابن زولاق : لم ير فى الأشراف الذين نزلوا إلى الديار المصرية (٥) من الحجاز وغيره من البلاد أكثر شفقة وسعيا فى حاجات الناس من أحمد بن طباطبا.

__________________

(١) فى «م» وصف هذا الشعر المنسوب إليه بالغرابة فقال : «وهو معنى غريب ...».

(٢) فى «م» : «نجوم السماء» ولا يستقيم الوزن بهذا ، وما أثبتناه عن الوفيات ج ١ ص ١٣٠. ووافت : أتت ، وأدركت. والأنضاء : جمع نضو ، ويطلق على البعير المهزول.

(٣) خيّمت القوم : نصبوا خياما ، أو أقاموا فيها. وخيّم الليل : غشّى : (على التشبيه). والبيتان من الطويل.

(٤) الحشاء : الحشا ، ويطلق على ما دون الحجاب الحاجز مما يلى البطن كله من الكبد والطحال والكرش ، وما تبع ذلك. والوجد : الحزن. وظعن : سار وارتحل. والخليل : الصديق الخالص. وفى «م» والوفيات ج ١ ص ١٣٠ : «الخليط» مكان «الخليل» وفيها : «وأبقوا فى حشاى لبينهم» أى لفراقهم.

(٥) فى «م» : «البصرية» تصحيف ، والصواب ما أثبتناه.

٢٣٧

وقال ولده السيد عبد الرّحمن : شفع أبى (١) عند صاحب مصر فى شأن مال طلبه الأمير من الناس ، فأبى أن يقبل شفاعته ، فرأى الأمير فى اللّيل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ، قال له : لم لم تقبل شفاعة أحمد بن على بن طباطبا؟ (٢) فلما أصبح الأمير رفع عن أهل مصر الطّلب.

وتوفى السيد الشريف أحمد المذكور فى سنة ٣٢٥ ه‍ بمصر ، وقبر بهذا المشهد ، وقد نيّف على التسعين (٣).

وممّن قبر بهذا المشهد المذكور ولده عبد الله بن أحمد بن طباطبا ، قال ابن خلكان فى كتابه المذكور : عبد الله بن أحمد المذكور فى الهمزة هو أبو محمد عبد الله بن السيد الشريف أبى (٤) العباس أحمد بن طباطبا الحجازى الأصل ، المصرىّ المولد والدّار والوفاة والملحة (٥) ، وهو المعروف بصاحب السيادة (٦). كان صاحب رباع وضياع ، وله نعمة ظاهرة ، وعبيد وحاشية ، [كثير التّنعّم](٧) ، وكان مع هذا من الصالحين ، يقوم الليل ويصوم النهار ، كثير الصّدقة والضّحايا والحطب من ضياعه (٨) ، وكان حسن المعاملة ، كثير الإفضال على أصحابه (٩) ، يتلطف بهم ، ويركب إلى أصحابه وأصدقائه للزيارة ، ويقضى حوائجهم وحقوقهم ، ويطيل الجلوس عندهم.

__________________

(١) فى «م» : «إلى». تصحيف.

(٢) بعد هذا فى «م» : «أو كلام هذا معناه» وهى جملة اعتراضية.

(٣) فى «م» : «نيّف عن». ونيّف على التسعين ، أى : زاد عليها.

(٤) فى «م» : «أبا» خطأ.

(٥) الملحة : الكلمة المليحة.

(٦) فى «ص» : «هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علّى بن الحسن بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب ، رضوان الله عليهم أجمعين».

(٧) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٨) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «ويرسل إلى كل من يخالطه أو ينقطع إليه القمح والضّحايا والحطب من ضياعه».

(٩) فى «م» : «عن أصحابه». والإفضال : الإحسان.

٢٣٨

ذكر أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن الحسن اللّيثى ، المعروف بابن زولاق ، قال : حدثنى عبد الله (١) بن أحمد بن طباطبا ، قال : رأيت فيما يرى النائم ـ ولى من العمر أقل من عشرين سنة ـ كأنّ طاقا مفتوحا من السماء ، فصعدت فيه ، ومشيت حتى انتهيت إلى بيت فى صدره سرير الرسول (٢) ، عليه امرأة أعلم أنها خديجة ، فقمت إليها ، وسلّمت عليها ، [فقالت : من تكون؟ فقلت : عبد الله بن أحمد بن طباطبا ، فصفّقت بيديها وقالت : يا فاطمة ، قد جاءك من أولادك ولد. فخرجت من بيت على يسار خديجة ، فقمت إليها ، وقبّلت يديها ، فقالت : مرحبا بالولد الصالح ، وجلست](٣) ثم خرج كهلان ، أعلم أنهما الحسن والحسين ، فقمت وقبّلت يد الواحد ، فقال لى : عمّك ، وأشار إلى أخيه الحسين (٤) ، ثم جلسوا ، ثم خرج رجل عليه سكينة ووقار ، فقال لى أحدهما (٥) : هذا جدك أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب ، فقاموا كلهم (٦) ، وجلس ، ثم رأيت خديجة محترفة (٧) تريد النزول عن السرير ، ورأيت الجماعة تحركوا للقيام ، وقد سرى نور ، ونزلت خديجة ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقاموا كلهم ، وقمت معهم ، فأكببت على رجليه أقبّلهما ، فمنعنى وقال : لا تصنع هذا بأحد. وجلسوا يتحدثون ، فما أنسى طيب حديثهم ، إلى أن قال لى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم : قم. فقلت : يا رسول الله ، إنى أريد المقام عندكم.

فقال : قم. فأخذ بيدى وأنزلنى من الطّاق ويدى فى يده وهو يقول لى :

__________________

(١) فى «ص» : «أبو عبد الله» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) فى «ص» : «سرير أسود».

(٣) ما بين المعقوفتين عن «ص» والكواكب السيّارة ، وساقط من «م». والكهلان ـ بعدها ـ مثنى كهل ، وهو من جاوز الثلاثين إلى الخمسين.

(٤) فى «ص» : «وأشار بيده إلى الحسن».

(٥) فى «م» : «إحداهما» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٦) فى «ص» : «فقاموا كلهم له».

(٧) محترفة : أى على حرف السرير وطرفه. وفى «ص» : «محتفزة» أى متهيّئة.

٢٣٩

بلغت (١)؟ فقلت : لا. فقال لى : قد بلغت ، ولكن تثبّت. فلما حصلت رجلى على الأرض انتبهت كالمصروع ، لا أعقل ، فجاءونى بالمعزّمين (٢) ، وعلّقوا التعاويذ ، فأقمت نحوا من شهر (٣) وأنا على تلك الحالة ، ثم أنّى أفقت وفتحت عينّى ، فاستبشر أهلى ، وسألونى عن خبرى ، فحدّثتهم بحديثى (٤) ، فبلغ الحديث أبا عبد الله الزّبيرى (٥) ، فجاء وسألنى عن ذلك ، فأخبرته بحديثى ، فبكى وقال : ليت عينى كانت معك ، لقد شاهدت يا عبد الله (٦) مشهدا عظيما ، وليكوننّ لك نبأ.

قال أبو محمد المذكور (٧) : حدّثنى عبد الله بن يحيى بن طاهر العلوى قال : غرّنى قوم فى أول ما دخلت مصر حتى تقبّلت من أبى بكر محمد بن الماذرائى (٨) ضيعة بألف دينار ، فلم يحصل لى من غلتها سوى

__________________

(١) أى : بلغت الأرض .. وفى «ص» بعد ذلك : «فقلت : لا ، إلى أن بلغ إبهام رجلى الأرض ، فقال لى : بلغت ..».

(٢) المعزمين : الذين يقرءون العزائم ويرقون المريض بالتعاويذ والرّقى. وفى الكواكب السيارة «فجاءوا لى بالمعبّرين» أى الذين يفسرون الرّوّى ، والأول هو الأوجه والمناسب للسياق والمقام.

(٣) فى «م» : «فما قمت نحو من شهر» تحريف من الناسخ.

(٤) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فحدثتهم بعد أيام ..».

(٥) فى الكواكب السيارة : «الزيدى».

(٦) فى «م» و «ص» : «يا أبا عبد الله» وقد تقدم أن اسمه عبد الله بن أحمد.

(٧) أى : ابن زولاق الحسن بن إبراهيم (المؤرخ).

(٨) فى «ص» : «الماردانى» .. وفى «م» : «المادرانى» فى كل المواضع ، وكلاهما مصحّف من «الماذرائى» بفتح الذال ، منسوب إلى «ماذرايا» من قرى البصرة ، وقيل : منسوب إلى «ماذرا» أحد أجداده. وهو محمد بن على بن أحمد ، أبو بكر الماذرائى ، وزير من الكتّاب ، ولد بنصيبين سنة ٢٥٨ ه‍ ، ودخل مصر سنة ٢٧٢ ه‍ ، وخلف أباه فى ولاية النظر فى أمور خمارويه بن أحمد بن طولون بعد مقتل والده سنة ٢٨٠ ه‍ ، فاستوزره هارون بن خمارويه إلى أن زالت دولة بنى طولون ، فحمل مع رجالهم إلى العراق ، فأقام ببغداد مدة ، وعاد إلى مصر مع عساكر العراق ، وولى خراجها ، وملك من الضياع ما لم يملكه أحد قبله ، قال ابن سعيد (فى المغرب» : «ناهض السلاطين والعظماء وضرب وجوههم بالسيوف ، وهو عامل خراج ...».

٢٤٠