مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

نحاس فيها رماد (١) ، وهو الصحيح .. والدعاء فيه مستجاب.

انقضى ذكر قبور الصحابة والأشراف ، رضى الله عنهم ، ولم يبق إلّا من سنذكره (٢) فى ضمن الزيارة ممّن هو فى غير هذا الصّقع (٣) .. وبالله التوفيق.

__________________

(١) فى «ص» : «فيها رماد وهو فيها». أى : الرأس.

(٢) فى «ص» : «إلّا من يرد ذكره منهم».

(٣) الصّقع : الناحية ، وجمعها : أصقاع.

٢٠١

فصل

فى ذكر جامع أحمد بن طولون

وذكر هاهنا لأنّه طريق للقاصد (١) إلى جبّانة مصر من القاهرة ، ولأنّ منه ابتداء الزيارة.

اعلم أولا أن الجبل الذي عليه جامع أحمد بن طولون يسمّى «جبل يشكر ابن جديلة» .. وقال الكندى : جديلة (٢) من لخم .. وقيل : جبل شكر ، وكان شكر رجلا صالحا ، وكان الصالحون يصلّون على القطعة البارزة من هذا الجبل ، الخالية من البناء الذي فى الحدّ القبلى منه ، المجاورة للباب ، وهو مكان الدّعاء فيه مستجاب.

وكان أحمد بن طولون لما رغب فى إنشاء جامع ليحسن ذكره ، أشار عليه جماعة من الصالحين أن يبنى الذي قصده على هذا الجبل ، وذكروا له من فضائله عدّة أشياء .. فقبل (٣) منهم ، وبنى الجامع على الجبل ، وأدخل بيت «يشكر» (٤) العبد الصالح فيه ، فلما كمل (٥) بناؤه تقدّم أن يعمل بدائره منطقة عنبر معجون ، ليفوح ريحها على المصلّين به ، وأشعر الناس بالصلاة فيه (٦) ، فلم يجتمع فيه أحد من الناس ، واعتقدوا أنه بناه من مال لا يعرفون

__________________

(١) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «لأنه طريق القاصد» وسقط منها قوله : «وذكرها هنا» فى أول الفقرة.

(٢) فى «م» : «جزيلة» تحريف ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) فى «م» و «ص» : «وأنه قبل».

(٤) فى «م» : «شكر».

(٥) فى «ص» : «تكمّل».

(٦) أى : أمرهم بالصلاة فيه.

٢٠٢

أصله ، فعزّ ذلك على أحمد بن طولون ، فطلع المنبر يوم جمعة ، فخطب خطبة بحضور جماعة من أصحابه وجنده ، وكان أخذ على أيديهم بالحضور إليه ، وأقسم فى أثناء خطبته بالله العظيم ما بنى هذا الجامع ـ ويده تشير إليه ـ من ماله ، وإنّما بناه بكنز ظفر به فى الجبل الثالث (١) ـ وبيّن طريق وجوده ـ وأن العشارىّ (٢) الذي نصبه على مئذنته وجده فى الكنز ، وأن جميع ما بناه فى القرافة من المصانع والمجارى برسم الماء ، وما جدّده فى السور ـ من الكنز المذكور .. وكمّل الخطبة .. وصلّى هو وأصحابه ، فلما سمع الناس ذلك ، اجتمع خلق كثير فى الجامع وصلّوا الجمعة.

ثم كتب قوم منهم رقعة يسألونه أن يوسّع فى قبلة الجامع ، فأمر بإحضارهم ، فلما حضروا أعلمهم أنه (٣) عندما شرع فى إنشاء الجامع على هذا الموضع اختلف المهندسون فى تحديد (٤) قبلته ، فرأى النّبيّ ، صلّى الله عليه وسلم ، فى المنام وهو يقول له : يا أحمد ، إنّ قبلة هذا الجامع على هذا الموضع ، وخطّ له فى الأرض صورة ما يعمل .. فلما كان الفجر مضى مسرعا إلى الموضع الذي أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوضع القبلة فيه ، فوجد صورة القبلة (٥) فى الأرض مصوّرة ، وأنه بنى المحراب على ذلك ، وأنه لا يسعه أن يوسّع فى المحراب لأجل

__________________

(١) هكذا فى «م» و «ص» .. وفى الكواكب السيارة : «... وإنما بناه من كنز وجده فى الجبل المقطم».

(٢) العشارىّ فى اللغة : القطعة من كل شىء .. وقد توضع فوق المئذنة أو القبة لوضع الحبوب للطيور فيها ، كما قال بذلك المؤرخون والأثريون فى تفسير وجود «العشارى» فوق قبة الإمام الشافعى ، فقد كان يعلوها «عشارى» على صورة مركب أو سفينة طولها متران ونصف.

[انظر مساجد مصر لسعاد ماهر ص ٢٧ ـ المجلد الأول].

(٣) فى «م» و «ص» : «أنه كان».

(٤) هكذا فى «ص» .. وفى «م» والكواكب السيارة : «فى تحرير» أى : فى إنشاء وإقامة.

(٥) فى «م» : «صورة للقبلة».

٢٠٣

ذلك .. فمضوا (١) من عنده وأشاعوا ذلك عن أحمد بن طولون ، فعظم شأن الجامع وضاق بالمصلّين (٢) ، وقالوا لأحمد : نريد فى الجامع زيادة ، فزاد فيه.

ورأى رجل فى المنام كأنّ فاطمة الزهراء (٣) عليها السلام تصلى فى مكان فى هذا الجامع (٤) ، فأصبح وأخبر الناس بالرّؤيا ، فصلّوا فيه ، وهو الآن [أى : المكان](٥) يسمّى بمقام «فاطمة» ، وعليه مقصورة ، والدعاء فيه مستجاب.

وقيل : إن موسى عليه السّلام كان يناجى ربّه فى هذا المكان .. والصّخرات التى ظاهر الجامع (٦) يقال إنّ هارون تعبّد فيها ، ويقال فيها قبره .. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (٧).

__________________

(١) فى «م» و «ص» : «وأنهم خرجوا».

(٢) فى «ص» : «على المصلين».

(٣) فى «م» : «الزهرى» ، تصحيف.

(٤) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «تصلى فيه فى مكان».

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٦) أى : بظهر الجامع (خلفه).

(٧) قوله : «والله أعلم بالصواب» عن «م».

٢٠٤

ذكر ابتداء الزيارة لقبور الصالحين من التابعين والعلماء والزّهّاد

خلا ممّن تقدم ذكرهم ممن استحقّ التقديم

وهم أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصحابته

قبر عنبسة (١) :

على ترتيب الزيارة لمن قصد (٢) خارجا من مصر من باب «الصفا» على الدرب المعروف بالشّعّارين (٣) ، فليسلك عن يمينه طالبا القبلة والشرق إلى باب السور الجديد (٤) إلى مصلى بنى مسكين القديم [يجد](٥) قبر رجل من الصالحين التابعين ، يقال إنّ اسمه «عنبسة» (٦). الدعاء عنده مستجاب ، وهو رجل من الدّفن الأول.

__________________

(١) هذا العنوان من عندنا.

(٢) فى «ص» : «لمن قصدهم».

(٣) فى «م» : «بالشّفّارين» ولم أقف عليه. وقد ذكر ابن الزيات فى الكواكب السيارة أن الشيخ موفق الدين بن عثمان ابتدأ بالزيارة من هذه الكيمان ـ أى المواضع والنواحى ـ لما فيها من المساجد والمدافن المعروفة بإجابة الدعاء. أمّا درب الصفا فهو درب كان يصل إلى مدينة القاهرة ، وهو الآن يعرف بشارع الأشرف والسيدة نفيسة.

(٤) فى «م» : «باب السرور». وفى الكواكب السيارة : «الباب الجديد». [انظر المصدر السابق ص ١٨٥].

(٥) فى «م» : «القديمة». وما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى. ومصلى بنى مسكين القديم كان يعرف بكوم المنامة ، وبنو مسكين ذرية مباركة ، كبيرهم الشيخ الإمام العالم القاضى الحارث ابن مسكين ولد سنة ١٥٤ ه‍ وقيل سنة ١٥٥ ، وكان فقيها على مذهب الإمام مالك ، وانتهت إليه الرياسة فى زمنه. وقد عاصر محنة خلق القرآن وحمل إلى بغداد ، فأوقفه الخليفة المأمون بين يديه وقال له : ما تقول بخلق القرآن؟ قال : إيّاى تعنى؟ قال : نعم. قال : مخلوق! قال ابن عبد ربه فى العقد الفريد : فكفاه الله كيده ، وحسب أنه قال بخلق القرآن ، وليس الأمر كذلك. وكان رضى الله عنه إماما فى علوم شتى ، وله مصنفات فى علم التاريخ ، وعلم الميقات ، وعلم الآلات والساعات ، وولى قضاء مصر ١٢ سنة. وتوفى سنة ٢٥٠ ه‍. ودفن بمصلّاه المذكور تحت كوم المنامة ، وبهذه التربة نحو عشرين إماما من ذريته.

[انظر الكواكب السيارة ص ٤٧ ، والولاة والقضاة للكندى ص ٥٠٢ ـ ٥٠٥ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠٨].

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «رجل من التابعين». ذكره ابن الزيات فيمن دخل مصر من الصحابة ، واختلف فيه ، فقال : هو عنبسة بن عدىّ ، وهو صاحب القبر المعروف بعنبسة ،

٢٠٥

قبر الفقيه عبد الله بن وهب ـ صاحب الإمام مالك (١) :

ثم تمشى إلى الشرق مقدار مائة خطوة ، تجد قبرين لطيفين (٢) ، أحدهما مما يلى القبلة ، فيه أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشى (٣) صاحب مالك بن أنس ، أحد الأئمة المشهورين ، سمع من مالك بن أنس ، وابن أبى ذؤيب (٤) ، وروح عبد الله الجبار ، وحيوة بن شريح ، ومن فى طبقتهم ، وروى عنه جماعة ، وله أحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، تركنا ذكرها لشهرتها ، وقصدنا الاختصار ..

ومن أحاديثه التى رواها (٥) : «أنه ـ صلّى الله عليه وسلم ـ نهى عن أكل كلّ ذى ناب من السباع». ومن أحاديثه التى رواها عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ من طريق أبى هريرة : «أن الله عز وجل أعدّ لعباده الصالحين مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» الحديث (٦).

قال أبو داود (٧) : سمعت ابن وهب يقول : «جعلت على نفسى إن

__________________

وذكر أنه ممّن بايع تحت الشجرة .. وقال السيوطى : .. بايع تحت الشجرة ، وشهد فتح مصر ، ورجع إلى الحجاز ، قاله : ابن الربيع ، وابن يونس والذهبى. غير أن ابن الزيات ذكر فى ص ١٨٥ أنه رجل من الدفن الأول. وهو فيه خلاف ، والمرجح أنه رجل من الصالحين. [انظر الكواكب السيارة ص ٢٧ و ٤٦ و ١٨٥ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٢٢٥].

(١) هذا العنوان من عندنا. وقد مر التعريف به.

(٢) فى «م» و «ص» : «قبرين لطاف» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) قوله «القرشى» لم ترد فى «ص» .. وفى «م» : «بن أبى القرشى» خطأ ، والصواب ما أثبتناه عن المراجع التى ترجمت له.

(٤) هكذا فى «م» وفى طبقات الفقهاء .. وفى «ص» : «ابن أبى ذئب» وكلاهما صحيح. وهو : أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن مغيرة بن الحارث ، من فقهاء التابعين بالمدينة ، مات سنة ١٥٩ ، وقيل سنة ١٥٨ ه‍.

(٥) هذه الفقرة عن «م» ولم ترد فى «ص» إلى قوله : «ولا خطر على قلب بشر».

(٦) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٧) فى «ص» : «ابن داود». وفى الكواكب السيارة (ص ٤٥): «وحكى أبو داود قال : سمعت» وهى مطابقة لما جاء فى «م».

٢٠٦

اغتبت رجلا أن أصوم يوما ، فما هالنى ذلك ، فرأيت أن أشتدّ (١) علّى ، أن أجعل على نفسى أن أتصدق بدرهم ، فاشتدّ علّى ذلك».

وعن يوسف بن عدىّ قال : «أدركت الناس فقيها (٢) غير محدّث ، ومحدّثا غير فقيه ، خلا ابن وهب ، فإنى رأيته فقيها ، محدّثا ، زاهدا ، عابدا» (٣).

قال بشر بن قعنب : «رأيت ليلة مات ابن وهب كأنّ مائدة العلم قد ارتفعت».

قال ابن مسلم : «كانت الهدية تأتى مالكا بالنهار يهديها لابن وهب بالليل» ـ وعن محمد بن مسلم المرادى قال : «سمعت ابن القاسم (٤) يقول : «لو مات ابن عيينة لضربت لابن وهب أكباد الإبل ، ما دوّن أحد تدوينه» (٥).

قيل لسفيان بن عيينة : مات ابن وهب .. فقال : «إنّا لله ، وإنّا إليه راجعون ، أصيب به المسلمون عامة ، وأنا خاصة» (٦).

قال هارون الإيلى : «سمعت ابن وهب يقول : ما تمر بى ليلة إلّا وأنا أستمع لها وأذكر فيها الآخرة وهولها».

وروى أبو الحسن قال : «قال لى ابن وهب : كنت أتمنى على الله ثلاثمائة دينار أنفقها فى طلب الحديث ، فبينما أنا ذات ليلة قائم أصلّى إذا برجل قد أقبل ومعه قرطاس مربوط ، فوضعه على نعلى ، ثم ذهب (٧) ، فصليت العشاء الآخرة

__________________

(١) فى «ص» : «أشدّد».

(٢) فى «م» : «فقها» تحريف.

(٣) قوله : «عابدا» عن «م».

(٤) من أصحاب الإمام مالك.

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «ما دوّن العلم تدوينه أحد».

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وأصبت أنا به خاصة».

(٧) فى «ص» : «ثم ذهبت».

٢٠٧

ثم أخذت القرطاس فوجدته ثقيلا ، فظننت أنه دقّة (١) أهداها إلىّ أخ فى الله ، فجئت إلى البيت ففتحته ، فإذا فيه ثلاثمائة دينار لا تزيد ولا تنقص».

وروى خالد بن خداش (٢) قال : «قرئ على عبد الله بن وهب كتاب أهوال (٣) يوم القيامة ، فخرّ مغشيّا عليه ، فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد ذلك بأيّام ، وذلك بمصر سنة ١٩٧ ه‍».

قال أحمد بن سعيد الهمدانى : «أراد ابن وهب دخول الحمّام ، فلما دخل سمع لغط أهلها (٤) ، ورأى شدة حموّها ، فخطر بقلبه (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ)(٥) [فخرّ مغشيّا عليه] فلما أفاق سئل عن ذلك ، فذكر هذا» (٦).

وروى أحمد (٧) عن عبد الرحمن بن وهب قال : «طلب عبّاد بن محمد (٨) عبد الله بن وهب للقضاء ، فتغّيب فى منزل حرملة بن يحيى ، وهدم

__________________

(١) هكذا فى «ص» وهى من التوابل .. وفى «م» : «دفّة» وهى الجانب من أى شيء.

(٢) فى «م» : «ابن حراش» تحريف. وهو : خالد بن خداش المهلبى ، أبو الهيثم ، حدّث عن مالك بن أنس ، وحمّاد بن زيد ، وابن وهب ، وغيرهم. وثّقه يحيى بن معين ، وابن سعد. وكانت وفاته سنة ٢٢٣ ه‍.

[انظر رجال صحيح مسلم ج ١ ص ١٨٦ ، والإكمال لابن ماكولا ج ٢ ص ٤٢٨].

(٣) فى «م» : «أحوال» تحريف.

(٤) هكذا فى «م» و «ص» أى : سمع أصوات أهل الحمّام المبهمة المختلطة التى لا تفهم. والحمّام يذكر ويؤنث ، والغالب عليه التأنيث ، فيقال : هى الحمّام.

(٥) سورة غافر ـ من الآية ٤٧.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٧) هو أحمد بن عبد الرحمن بن وهب. ابن أخى عبد الله بن وهب. وفى الكواكب السيارة أن أحمد هذا وأبيه عبد الرحمن مدفونان معا فى قبر بجوار عبد الله بن وهب. [انظر المصدر المذكور ص ٤٥].

(٨) هو عبّاد بن محمد بن حيّان البلخى ، من موالى كندة ، وال ، من ضحايا فتنة الأمين والمأمون ، كانت إقامته بمصر ، ووليها للمأمون سنة ١٩٦ ه‍ ، فأقام بالفسطاط ، وكتب الأمين إلى ربيعة بن قيس الحوفى بالولاية على مصر ، وأن يحارب عبّادا ، فنشبت معارك بين الأميرين وأنصارهما انتهت بالقبض على عبّاد وإرساله إلى الأمين ، فقتله ببغداد سنة ١٩٨ ه‍.

[انظر الأعلام ج ٣ ص ٣٥٧].

٢٠٨

عبّاد بعض ديارنا (١) ، فقال له رجل : إنما طمع هذا لكذا وكذا أن يلى القضاء حتى تغيّب (٢) فبلغ قوله عمّى ، فدعا عليه [بالعمى](٣) ، فعمى بعد جمعة».

قال حجاج بن راشد بن محمد : «سمعته ذات ليلة يبكى ويصيح حين أكره على القضاء ، وتغيّب ، فأشرفت عليه من غرفتى (٤) ، فسلّمت عليه وقلت له : ما شأنك يا أبا محمد؟ فقال لى : يا أبا الحسن ، إنّ القضاة يحشرون مع الملوك ، وإنهم يحشرون كالذّرّ (٥) ، وإنّ العلماء يحشرون مع الأنبياء».

ثم تغيّب (٦) بعد ذلك ، وطلب فلم يوجد.

وقال حرملة : «رأيت كتاب مالك بن أنس إلى عبد الله بن وهب مفتى أهل مصر».

وروى زيد بن أبى الغمر قال : حدّثنى أبى قال : «سمعت ابن وهب يقول : حججت أربعا وعشرين حجّة ألقى فيها مالك بن أنس ـ قال أبى : وكنّا نسمّيه ديوان العلم .. وكان يقول : الذي تعلّمناه من أدب مالك أكثر مما تعلمناه من علمه».

__________________

(١) فى «ص» : «بعض دارنا».

(٢) فى «ص» : «فى أن يلى القضاء حتى يتغيب».

(٣) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٤) فى «ص» : «فعرفنى».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فقال : يا أبا الحسن ، بينا أنا أرجو أن أحشر فى زمرة العلماء أحشر فى زمرة الولاة؟ والله لا يكون هذا أبدا». وفى الكواكب السيارة : «إنّ القضاة يحشرون مع الملوك ، والملوك يحشرون كالذّرّ ، والعلماء يحشرون مع الأنبياء ، فأحببت أن أحشر مع الأنبياء». والذّرّ : صغار النمل.

(٦) «ثم» عن «ص».

٢٠٩

وحدّث عبد الله بن وهب قال : «قال لى مالك بن أنس : ما خلّفك عنّا مذ (١) ليال؟! فقال له : كنت أرمد (٢). قال : أحسب هذا من كتابة الليل .. قال : فقلت : أجل .. فصاح مالك بالجارية وقال : هاتى (٣) من ذلك الكحل لأخى وصديقى المصرىّ ـ يعنى ابن وهب» (٤).

وروى محمد بن عمر الأندلسى قال : «ذكر ابن وهب وابن القاسم عند مالك بن أنس (٥) فقال : ابن وهب عالم ، وعبد الرحمن (٦) فقيه».

وذكر أبو الطاهر بن عمر بن السراج قال : «أخبرنى خالى .. وكان من المجتهدين من أهل العلم ـ قال : رأيت فى المنام قائلا يقول : لا يفتى الناس إلّا ابن وهب وابن القاسم المهذب».

قال حرملة : «سمعت ابن وهب يقول : إذا أردت الدخول على السلطان فقل : اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن ، وربّ الأرضين وما أقللن ، وربّ الرّياح وما ذرّين ، وربّ الشياطين وما أغوين ، كن لى جارا (٧) من فلان أن يفرط علىّ أو أن يطغى».

قال ابن بكير : «ولد ابن وهب فى ذى القعدة سنة ١٢٥ ه‍ ، وتوفى يوم الأحد لأربع بقيت من شعبان سنة ١٩٧ ه‍».

__________________

(١) فى «ص» : «منذ».

(٢) يعنى : أصيبت عينى بالرّمد.

(٣) يقال للرجل : هات يا رجل ـ بكسر التاء ـ أى : أعطنى ، وللمرأة : هاتى ـ بالياء. [انظر لسان العرب ـ مادة هيت].

(٤) فى «ص» : «وصديقى المصرى ابن وهب».

(٥) فى «م» : «ذكر عندى مالك بن أنس وابن القاسم» وسقط منها ابن وهب. والعبارة فيها خلط من الناسخ وغير مستقيمة ، والتصويب من وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٣٦) ومن «ص» بتصرف يسير.

(٦) يعنى عبد الرحمن بن القاسم.

(٧) فى «م» : «جار» خطأ ، والصواب بالنصب. والمعنى : كن لى منقذا وحاميا.

٢١٠

قبر الشريفة فاطمة بنت محمد بن الحسن (١) :

عند رجليه (٢) بمقدار ثلاثين خطوة قبر رخام فيه الشريفة فاطمة ابنة محمد بن الحسن بن على بن أبى طالب. وقد توفيت (٣) فى سنة ٣٨٣ ه‍ ، والدعاء عندها مستجاب.

قبور جماعة من الصالحين (٤) :

ثم تستقبل القبلة تجد قبر عبد الرحمن الخواص (٥) ، حدّث عن جماعة ، وحدّث عنه صاحب له أنه كان يخرج معه فى الليل فيفتح له باب مصر ، فيخرج منه إلى الجبانة ويزور الشيخ أبا الحسن الدينورى ويعود فى الليل.

وتمشى وأنت مستقبل القبلة تحت الكوم تجد قبر مقبل الحبشى (٦) وغيره.

__________________

(١) العنوان من عندنا.

(٢) أى : عند رجلى ابن وهب.

(٣) فى «م» : «توفت».

(٤) العنوان من عندنا.

(٥) وتقول العوام : إبراهيم الخواص ، وليس هذا بصحيح ، فإنه لم يمت بمصر. وكان عبد الرحمن هذا يسمى «واعظ المقبرة» قيل إنه أقام عشرين سنة يقف كل يوم على المنامة ويقول :

أيها العالم متم

مثلنا بالأمس كنتم

ليت شعرى فى سفركم

هل ربحتم أم خسرتم؟

فأقام تلك المدة ولم يجبه أحد ، فبينما هو فى يوم من الأيام يتكلم على عادته إذ سمع قائلا يقول :

قد وجدنا ما عملنا

وكذا تلقون أنتم

فلما كان من الغد مات رضى الله عنه ، وكانت وفاته بعد الستين وخمسمائة. [انظر الكواكب السيارة ص ٤٣ و ٤٤].

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «تجد حومة فيها قبور تعرف بالقاضى بكار». وسيأتى ذكر هذا. ومقبل هذا رجل من الصالحين ، قال صاحب المصباح : لم أر أحدا من أصحاب التواريخ ذكره. وقبره داثر. [انظر الكواكب السيارة ص ٤٦ و ٢٤١].

٢١١

ثم تأتى إلى حومة فيها قبر يعرف بالقاضى بكّار (١) ، تدخل وأنت مستقبل القبلة تجد قبرا تحت رجليه وقبرا (٢) عند رأسه ، فالذى عند رأسه يقال لهم أصحاب قضبان الذهب (٣) وهم ثلاثة : إبراهيم ، وهو أكبرهم ، وعبيد الله ، ومحمد .. قيل : إن إبراهيم رئى فى المنام وهو يقول : من زارنا فكأنما تصدّق بقضبان الذهب ، وكانت فى يده ..

والذي عند رجليه يقال له قبر أبى العباس أحمد بن المشجرة (٤) كان من أحسن الناس قراءة ، وكان من قرّاء الأفضل بن أمير الجيوش (٥) ، وكان ذات يوم عند قبر الشيخ أبى الحسن الدينورى يزوره ، فاختاره أحد الفقراء (٦) أن يقرأ له آية من كتاب الله تعالى ، فامتنع ولم يقرأ ، فمنع القراءة .. فلما حضر مجلس الأفضل بن أمير الجيوش طلب منه القراءة ، فلم يستطع ، فقال له الأفضل : ما يمنعك من القراءة؟ فقال له : لن أستطيع. فأمر أن يأخذ (٧) له من خزانة الشراب ما يصلح موضع القرآن .. فقصّ عليه قصّته (٨) مع الفقير ، فقال :

__________________

(١) سيأتى ذكره بالتفصيل بعد قليل.

(٢) فى «ص» : «عند رجليه». وجاءت كلمة «قبر» مرفوعة فى «م» و «ص» خطأ ، والصواب بالنصب.

(٣) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فالقبر الذي عند رأسه يقال له : قبر صاحب قضبان الذهب ، قيل إنه رئى فى المنام ...» الخ.

(٤) فى «م» : «يقال له أبو العباس أحمد بن الشجرة» والأخيرة تحريف. والتصويب من «ص» والكواكب السيارة.

(٥) سقط «ابن» من «ص». وهو : الأفضل شاهنشاه أحمد بن بدر الجمالى ، خلف أباه فى إمارة الجيوش المصرية ، وكان جيد السياسة ، وطّد دعائم الحكم للآمر بأحكام الله العبيدى صاحب مصر ، ودبّر شئون دولته. نقم عليه الآمر أمرا فدسّ له من قتله على مقربة من داره فى القاهرة سنة ٥١٥ ه‍. وكانت ولايته ثمانيا وعشرين سنة.

[انظر الأعلام ج ١ ص ١٠٣ ، ووفيات الأعيان ج ٢ ص ٤٤٨ ـ ٤٥١].

(٦) هذه الجملة فيها اضطراب فى «م». وفى الكواكب السيارة ص ٤٨ : «... فرأى فقيرا فسأله أن يقرأ شيئا من كتاب الله ..» وفى «ص» : «فاقتضى عليه بعض الفقهاء أن يقرأ آية ..».

(٧) فى «ص» : «يؤخذ».

(٨) فى «م» : «فقصّ له القصة».

٢١٢

اخرج واطلبه (١) يدعو لك ، فليس لك خلاص إلّا بدعائه (٢) [فلما عاد إليه وجده قد تغير من مكانه ، فسأله الدعاء وتمرّغ بوجهه على أقدامه .. فقال له : اقرأ فتح الله عليك](٣). ففعل ، فانطلق فى القراءة.

وإلى جانبه من القبلة قبر الرجل الصالح أبو العباس أحمد بن على بن إسماعيل الجميزى (٤) صاحب الدرب المشهور بمصر .. كان رجلا صالحا يبيع الجميز فى مبدأ أمره بباب الجامع ، فدخل رجل من العلويين إلى مصر .. فاشتد به الجوع ، ومنعه الحياء من السؤال ، فدخل الجامع لصلاة الظهر ، فرآه الجميزى فأعجبه سمته (٥) ، ثم دخل خلفه ، وأحرم فى الصف الذي فيه العلوى بالصّلاة (٦) ، فإذا بالعلوى قد سقط فى الصف من شدة جوعه ، فلما فرغ الجميزى من صلاته حقّق النّظر فى وجهه فعرف مابه ، فذهب وجاءه بطعام إلى منزله ، فلما كان من الغد خرج العلوى فرآه رجل فعرفه ، فذهب إلى السلطان فأخبره ، فأرسل إليه بما يركب ، وأمر الغلمان أن يمشوا بين يديه إلى حضرة السلطان ، فلما حضر إلى حضرته أخبره بفعل الجميزى معه ، فأمر السلطان بإحضاره ، فلما حضر إليه (٧) أمر له بألف دينار ، فأخذها وانصرف ، ثم إنه اتّجر حتى صار ذا مال كثير ، ثم نفد منه المال مدة حتى لم يبق له شىء.

__________________

(١) فى «ص» : «واطلب الفقير».

(٢) فى «ص» : «فليس يخلّصك إلّا دعاؤه».

(٣) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٤) كان ـ رضى الله عنه ـ يبيع الجميز بباب جامع مصر ، وكان فقيرا لا يملك شيئا ولا يجد ما ينفق ، وكان ـ رحمه الله ـ عفيفا جدّا ، مشهورا بالخير والصلاح. وقصته مع العلوى وردت فى «م» ولم ترد فى «ص».

(٥) سمته : هيئته ووقاره.

(٦) أحرم بالصلاة : دخل فيها.

(٧) فى «م» : «إلى عنده».

٢١٣

وسافر إنسان أودع عنده ألفا من الذهب (١) ، فلما جاء من سفره رآه على تلك الحالة ، بعد العزّ والغنى ، فظن أن الجميزى فرّط فى ماله ، فسلّم على الجميزى وقال : أين (٢) مالى؟ قال : موجود .. فأخذه وجاء به إلى منزله ، وحفر مكانا فى داره ، وطلع بالكيس مختوما بختم صاحبه .. فقال له صاحب المال : خذ منه ما تريد .. فقال : لا آخذ أجرا على أمانتى ، سر مع السلامة .. ثم عاد الجميزى إلى بيع الجميز على جارى العادة السابقة .. ثم إنّ الرجل الذي أودع عنده المال مرض بعد مدّة ، فأرسل إلى الجميزى ، فلما حضر إليه (٣) قال له : يا سيدى قد حضر من أمر الله ما ترى (٤) ، فخذ هذا المال عندك ، وهذا الولد ولد صغير ، علّمه واصرف عليه من هذا المال الباقى ، وإلّا فأنفقه عليه بالمعروف .. ثم مات .. فكان ينظر فى وجه الطفل كل يوم نظرة إلى أن كبر وآنس رشده (٥) ضمّ إليه ماله ، والجميزى فقير لا مال له ، يقيم اليوم والليلة لا يجد ما يتقوّت به ، ولم يأخذ من مال الطفل شيئا.

مشهد القاضى بكار بن قتيبة (٦) :

وفى مقابل قبره من جهة القبلة قبر القاضى الإمام ، الوليّ الهمام بكّار (٧) بن قتيبة بن أسد بن أبى برذعة بن عبيد الله بن بشير بن عبيد الله بن

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وهذه أيضا لم ترد فى «ص» بهذه الصورة بل وردت مختصرة السياق.

(٢) فى «م» : «أى» ، تصحيف.

(٣) فى «م» : «إلى عنده» .. وفى «ص» : «وكان له صاحب له مال ، وكان له طفل صغير ، فلما حضرته الوفاة أوصى صاحبه بولده وسلم إليه المال ..» الخ.

(٤) فى «م» : «حضر فى أمر الله كما ترى».

(٥) أى : علم وتبيّن منه اهتداء لحسن التصرف فى المال.

(٦) هذا العنوان من عندنا.

(٧) فى «م» : «أبى بكرة» وهى كنيته. وهو : بكار بن قتيبة بن أسد الثقفى ، من ولد أبى بكرة الصحابىّ ، فقيه ومحدّث ، وقاضى الديار المصرية ، ولّاه المتوكل القضاء بمصر سنة ٢٤٦ ه‍ ، وله أخبار فى العدل والعفّة والنزاهة والورع ، وكانت وفاته فى ذى الحجة سنة ٢٧٠ ه‍.

٢١٤

أبى بكرة نفيع بن الحارث ، مولى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، (١) ابن كلدة بن عمرو ابن علاج بن أبى سلمة وهو عبد العزّى (٢) بن غيرة ، بكسر الغين المعجمة وفتح الياء ، ابن عوف بن قسىّ بن هبنة الثقفى .. وقيل : نفيع بن مسروح ، وكان عبد الحارث بن كلدة (٣) ، فاستلحقه ، وأمّه سميّة ، جارية الحارث بن كلدة (٤) ، وهى أم زياد بن أبيه .. وإنّما كنى أبا بكرة لأنه تدلّى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببكرة من حصن (٥) الطائف ، وكان قد أسلم وعجز عن الخروج فكنى بذلك ، وأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وثلاثين (٦) حديثا ، اتفق على ثمانية أحاديث ، وانفرد البخارى بخمسة ، ومسلم بحديث واحد .. روى عنه ابناه عبد الرحمن ، ومسلم (٧) ، وربعى بن حراش (٨) ، والحسن

__________________

[انظر ترجمته فى كتاب الولاة والقضاة لمحمد بن يوسف الكندى ص ٤٧٦ ـ ٤٧٩ وغيرها من الصفحات. والأعلام ج ٢ ص ٦٠ و ٦١ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢٧٩ ـ ٢٨٢ ، وسير أعلام النبلاء ج ١٢ ص ٥٩٩ ـ ٦٠٥ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٦٣].

(١) ما سيأتى عن «م» وساقط من «ص».

(٢) هكذا فى «م» .. وفى أسد الغابة (ج ٦ ص ٣٨): «أبى سلمة بن عبد العزّى».

(٣) فى «م» : «جلدة» تصحيف.

(٤) فى «م» : «أم الحارث بن جلدة» خطأ ، والتصويب من المرجع السابق.

(٥) فى «م» : «ابن حصين» تصحيف من الناسخ.

(٦) فى «م» : «واثنان وثلاثون» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٧) فى سير أعلام النبلاء (ج ٣ ص ٥ و ٦): «حدّث عنه بنوه الأربعة : عبيد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد العزيز ، ومسلم» وأضاف إليهم : الحسن البصرى ، ومحمد بن سيرين ، وعقبة ابن صهبان ، وربعى بن حراش ، والأحنف بن قيس ، وغيرهم.

(٨) فى «م» : «خداش» تحريف. وهو : ربعى بن حراش الغطفانى. وحراش : بحاء مهملة مكسورة ، وراء ، وإعجام شين : [انظر ترجمته فى رجال صحيح البخارى ج ١ ص ٢٥٢ ، ورجال صحيح مسلم ج ١ ص ٢٠٨ ، والإكمال لابن ماكولا ج ٢ ص ٤٢٦].

٢١٥

البصرى ، والأحنف بن قيس ، وكان من الفضلاء الصالحين ، كثير العبادة ، وكان ممّن اعتزل يوم الجمل ولم يقاتل مع واحد من الفرقتين ، ومات ـ رضى الله عنه ـ بالبصرة فى سنة إحدى (١) وخمسين من الهجرة ، وقال (٢) خليفة بن خياط : مات فى سنة اثنتين (٣) وخمسين ، وصلّى عليه أبو برزة الأسلمىّ .. وكان أولاده أشرافا فى البصرة بكثرة المال والعلم والولايات (٤) .. قال الحسن : لم يكن بالبصرة من الصحابة (٥) أفضل من عمران بن الحصين (٦) وأبى بكرة (٧) .. روى له جماعة (٨). والحارث هو مولى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم.

وولد (٩) بكّار هذا بالبصرة سنة ١٨٢ ه‍. وتفقه على ابن يحيى بن مسلم ، المعروف بهلال الرازى ، أحد أصحاب أبى يوسف ، وزفر بن الهذيل (١٠) ، وأخذ عنه علم الشروط أيضا (١١) .. وحدّث بمصر عن أبى داود الطيالسىّ ، ويزيد بن هارون (١٢) ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، وصفوان

__________________

(١) فى «م» : «أحد» خطأ.

(٢) فى «م» : «وكان». تحريف.

(٣) فى «م» : «اثنين». خطأ.

(٤) هذه العبارة وردت فى «م» بها عدة تحريفات ، والتصويب من أسد الغابة (ج ٦ ص ٣٨) ترجمة أبى بكرة الثقفى.

(٥) فى «م» : «بالصحابة».

(٦) فى «م» : «هو ابن الحصين».

(٧) فى «م» : «وأبا بكرة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٨) فى «م» : «الجماعة».

(٩) فى «م» : «وولده» تصحيف.

(١٠) فى «م» : «وتفقه ابن يحيى» والصواب ما أثبتناه ، فقد جاء فى وفيات الأعيان (ج ١ ص ٢٨٠): «أنه أخذ الفقه عن هلال بن يحيى بالبصرة ..». وجاء فى «م» : «أبو الهزيل» تحريف ، وهو : زفر بن الهذيل العنبرى ، أحد الفقهاء والعبّاد ، صدوق ، وثقه ابن معين وغيره ، وكانت وفاته سنة ١٥٨ ه‍. أمّا أبو يوسف فهو : القاضى أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، صاحب الإمام أبى حنيفة ، وصاحب كتاب الخراج ، وقد ولد سنة ١١٣ ه‍ وتوفى سنة ١٨٢ ه‍.

(١١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(١٢) «يزيد بن هارون» عن «م» وبعده عدة أسماء أخرى لم ترد فى «ص».

٢١٦

ابن عيسى الزهرىّ ، وأبى عامر بن إسماعيل ، وإبراهيم بن الوزير ، وسعيد بن عامر ، وأبى أحمد الزبيرىّ ، وأبى عاصم الضّحّاك ، وجماعة من طبقتهم.

وقدم مصر (١) قاضيا عليها ، وكان ذلك من قبل المتوكل (٢) : سنة ستّ وأربعين ومائتين ، قبل ولاية (٣) ابن طولون لثمان خلون من جمادى الآخرة (٤).

وكان محدّثا جليلا من أفاضل المحدّثين .. ومن جملة ما روى بإسناده إلى أبى هريرة ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال : «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بخمس (٥) وعشرين درجة» ، وفى رواية : بسبع وعشرين (٦) .. قال أبو جعفر الطحاوى : سمعت أبا العلىّ (٧) الكوفيّ يقول : «حضرت يوما عند بكّار بن قتيبة ، فدخل عليه رجلان يتخاصمان ، أحدهما أبو الآخر ، فنظر إليهما وأنشد (٨) :

تعاطيتما ثوب العقوق كلاكما

أب غير برّ وابنه غير واصل (٩)

ويقال : إنّ المتوكل لمّا بلغه ما هو عليه من العلم والزهد والفضل والورع ، أرسل إليه كتابا بتقليد القضاء مع نجاب (١٠) إلى البصرة ، فجاء النجاب

__________________

(١) فى «ص» : «وكان من أهل البصرة وقدم إلى مصر ...».

(٢) فى «م» : «وذلك من قبل المتوكل ، ويقال سنة ثمان وأربعين ، ويقال تسعة وأربعين ، ويقال ..» إلخ. وما أثبتناه هنا عن «ص».

(٣) فى «م» : «ولادة» تحريف. فابن طولون ولد سنة ٢٢٠ ه‍ وولى إمرة مصر سنة ٢٥٤ ه‍ من قبل الخليفة المتوكل.

[انظر الأعلام ج ١ ص ١٤٠ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢٧٩].

(٤) التاريخ عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٥) فى «م» : «بخمسة» خطأ. والفذ : الفرد.

(٦) قوله : «وفى رواية : بسبع وعشرين» عن «م» ولم يرد فى «ص» وورد فى الكواكب السيارة (ص ٤٩ و ٥٠).

(٧) فى الكواكب السيارة «أبا العلا».

(٨) فى «م» «وأنشأ يقول بيت». وما أثبتناه عن المرجع السابق.

(٩) فى «م» : «العقوب» مكان «العقوق» ، تصحيف.

(١٠) أى : يتولّى القضاء ، يقال : قلّد فلانا الأمر : ولّاه وفوّضه إليه .. والنجاب : رسول الخليفة.

٢١٧

وسأل عنه ، فدلّ على داره ، فلما طلبه قيل له : قد مضى إلى الفرن يخبز خبزه ، فتعجب النجاب من ذلك ، واستحقره للقضاء ، ولم يكن بدّ (١) من انتظاره ، فجلس عند داره إلى أن جاء من الفرن ومعه الخبز ، فلمّا رآه النجاب قيل له : هذا «بكّار» ، فقام إليه ، وسلّم عليه ، وقال : أنا رسول الخليفة إليك ، فقف حتى أبلغك رسالته .. فقال له «بكار» : ما أقدر على الوقوف معك .. قال : ولم ذلك؟ قال : لأنّ الرّداء الذي علىّ استعرته من والدتى لأمضى حتى أخبز الخبز وأعود ، فقف حتى أستأذنها فى الوقوف معك فيه (٢) ، فدخل داره وأعلم والدته بالقصة ، فأذنت له فى الوقوف معه واستماع ما جاء به .. فخرج إليه ووقف ، فقال له النجاب : الخليفة يسلم عليك ، وقد قلّدك قضاء مصر ، ولا بدّ (٣) من امتثال أمر الخليفة. ثم دفع إليه تقليد القضاء ، فدخل إلى داره وأخرج رغيفين من خبزه فدفعهما إليه وقال : امض فى حفظ الله تعالى .. فتعجب النجاب من ذلك ، ولم يمكنه أن يقول شيئا ، واستحقر الرغيفين من خبزه ، ولم يمكن ردّهما ، ورماهما فى مخلاة معه ، وتهاون بهما (٤) وقال : واخيبة طريقى! ثم مضى حتى أتى الخليفة ، فأعلمه بتسليم التقليد إليه (٥) وقبوله ، وحكى له الخبر من أوّله إلى آخره ، فقال : وما إليه (٥) وقبوله ، وحكى له الخبر من أوّله إلى آخره ، فقال : وما أجازك؟ فضحك وقال : أجازنى رغيفين من خبزه الذي خبزه (٦). فقال له : ائتنى بهما ـ وكان قد فرّط (٧) فى أحدهما ـ فقال : فرّطت فى واحد منهما.

__________________

(١) فى «م» و «ص» : «بدّا» خطأ ، والصواب بالرفع ، اسم «يكن».

(٢) «فيه» عن «ص».

(٣) فى «ص» : «ولا بدّ لك».

(٤) «بهما» عن «ص».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فأعلمه بتسليم التقليد إلى الشيخ بكار ، فقال : وما أجازك ..».

(٦) فى «م» : «الذي كان خبزه».

(٧) فرّط : ضيّع وبدّد.

٢١٨

فقال : ائتنى بالآخر ـ فلما جاء به دفع له مائة دينار (١) ويقال : ألف دينار ، وقال : لو جئتنى بالرّغيفين أعطيتك ألفين ، ويقال : مائتين (٢) فبعد مدة رمد النجاب رمدا عظيما أشرف فيه على العمى ، ثم أراد الخليفة أن يرسله برسالة (٣) أخرى ، فاعتذر برمده ، فأمر الخليفة بإحضار مكحلة فيها كحل ، فكحله منها ، فبرئ من ساعته ، ومضى فى رسالة الخليفة (٤) ، فلما عاد قال : يا أمير المؤمنين ، أريد ذلك الكحل تعلمنى (٥) إيّاه ، فقد وجدت فيه شفاء عظيما (٦). فقال الخليفة : هو الرغيف الذي أتيت به من عند القاضى «بكّار» ، جعلنا منه فى أكحالنا وأدويتنا ، فنحن نعافى ببركته! فندم النجاب على ما فرّط.

وكانت ولايته القضاء يوم الجمعة ، فى جمادى الآخرة سنة ٢٤٦ ه‍.

وكان أحد الفقهاء على مذهب الإمام أبى حنيفة رحمة الله عليه (٧). أخذ الفقه عن هلال بن يحيى بالبصرة. وكان من البكّائين والتّالين لكتاب الله تعالى. وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليها جميع ما حكم به ، ثم يبكى ويقول : يا «بكّار» تقدم إليك رجلان فى كذا وكذا ، وحكمت بكذا وكذا ، فما جوابك غدا إذا وقفت بين يدى الله سبحانه وتعالى؟

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فلما أتاه بالرغيف الباقى دفع له ألف دينار ...».

(٢) قوله : «ويقال : مائتين» عن «م» ولم يرد فى «ص». وفى «طبقات الأولياء» لابن الملقن أن المتوكل جعل الرغيف فى الكحل والأدوية ليستشفى به.

[انظر المصدر المذكور ص ١١٩ ، والكواكب السيّارة ص ٤٩].

(٣) فى «م» : «رسالة». وفى «ص» : «فى رسالة».

(٤) فى «ص» : «ومضى فى رسالته».

(٥) فى «ص» : «أن تعلمنى».

(٦) فى «م» : «شفاء عظيم» خطأ ، والصواب ما أثبتناه. وفى «ص» : «شفاء عظيما لم [أجده] فى غيره».

(٧) فى «م» : «وكان أحد الفقهاء على مذهب أبى حنيفة».

٢١٩

وكان يكثر الوعظ للخصوم ، ويتلو عليهم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١). وكان يفعل هذا مع كلّ حالف ، فمنهم من يخاف (٢) ويرجع عن اليمين ، ومنهم من يحلف.

وحكى أيضا عنه أنه كان إذا أراد أن يحلّف شخصا أمره (٣) أن يقرأ : (وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ)(٤). ثم يقول له احلف بعد ذلك (٥).

وحكى عنه أنّ رجلا قال له ذلك ، فقرأ وحلف ، وكان كاذبا (٦) فى يمينه ، فبرزت عيناه من وجهه ، فامتنع ـ بعد ذلك ـ الفاجر أن يحلف. وكان يحاسب أمناءه فى كل وقت ، ويسأل عن الشهود.

وكان أحمد بن طولون يجيزه (٧) فى كل سنة بألف دينار [زيادة على القدر المقرر له](٨) ، فلما جرى بينه وبينه ما جرى ، قال له ابن طولون : أين جوائزى؟ يجاء بها .. فأرسل إليه ابن طولون ، فوجد فى منزله ستة عشر كيسا (٩) ما مسّها «بكّار» ، فحملها إليه ، فلما نظر أحمد خجل

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ٧٧.

(٢) فى «م» : «يخالف».

(٣) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «أنه أراد أن يحلف شخصا فيأمره ..».

(٤) سورة الطور ـ الآيات من ١ ـ ٨.

(٥) فى «م» : «فيقرأ الخصم ذلك [فيتوب] من وقته». وفيها «تاب» مكان «فيتوب». وما أثبتناه هنا عن «ص».

(٦) فى «ص» : «وحلف كاذبا».

(٧) أى يعطيه جائزة.

(٨) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٩) هكذا فى «م» وفى «ص» .. وفى سير أعلام النبلاء (ج ١٢ ص ٦٠٣) ، ووفيات الأعيان (ج ١ ص ٢٧٩): «وطالبه ـ أى : ابن طولون ـ بجملة المبلغ الذي كان يأخذه ـ أى : بكار ـ كل سنة ، فحمله إليه بختمه ، وكان ثمانية عشر كيسا».

٢٢٠