مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

قبر الشيخ سليمان بن عبد السميع القوصى (١) :

وبالقرب قبر الشيخ الصّالح المحدّث سليمان بن عبد السميع القوصى ، المحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، كان فقيها ، حافظا ، صوفيّا.

من كلامه : «كتمان المصيبة من الإيمان». أخذ ذلك من قوله صلّى الله عليه وسلم : «من كنوز البرّ كتمان المصائب».

ومن كلامه ـ رضى الله عنه وأرضاه فى الدنيا والآخرة (٢) :.

اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد

واعلم بأنّ المرء غير مخلّد (٣)

أو ما ترى أنّ المصائب رحمة

وترى المنيّة للعباد بمرصد (٤)؟

من لا يصاب بمن ترى بمصيبة

هذا طريق ليس فيه بأوحد (٥)

وإذا أتتك مصيبة فاصبر لها

واذكر مصابك بالنّبىّ محمّد (٦)

وتوفى ـ رحمه الله تعالى ـ فى سنة ٣٨٠ ه‍.

__________________

(١) العنوان من عندنا. ذكره القرشى فى كتاب مهذب الطالبيين وقال : قبره فى التربة التى على باب أبى الحسن الدينورى ، وله ذرّيّة صلحاء بمدينة قوص. [انظر الكواكب السيارة ص ٢٩٠].

(٢) فى المصدر السابق : «وكان يتمثل بهذين البيتين» وذكر البيتين الأولين فقط. وجاء البيتان المذكوران فى مجمع الحكم. والأمثال فى الشعر العربى غير منسوبين [انظر المصدر المذكور ص ٢٦٨ ، وانظر عيون الأخبار لابن قتيبة ج ٣ ص ٦٧].

(٣) فى عيون الأخبار : «الدّهر» مكان «المرء».

(٤) هكذا البيت فى الكواكب السيارة .. وفى «م» : «أن المصائب رحمة» .. وفى عيون الأخبار : «أنّ الحوادث جمّة» وجمّة : كثيرة متوالية.

(٥) فى «م» : «يصيب» مكان «يصاب» لا تصح معنى.

(٦) فى «م» «اصبر» مكان «فاصبر». والبيت فى عيون الأخبار :

وإذا أنتك مصيبة تشجى بها

فاذكر مصابك بالنّبىّ محمّد

٦٠١

ثم تمضى إلى تربة بها الإمام الفاضل أبى القاسم وأبى إسحاق بن شعبان القرطبى المالكى ، كان إماما فاضلا جليلا ، وكانت وفاته سنة ٣٥٥ ه‍.

قبر إبراهيم بن اليسع بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، وقبر روبيل ابن يعقوب عليه السلام (١) :

ثم تمضى من قبره إلى مشهد به قبر إبراهيم بن اليسع بن إسحاق بن إبراهيم ، خليل الرحمن. وبظاهر القبّة التى بالمشهد قبر ولد من أولاد يعقوب. وهذا المشهد من مشاهد الرّؤيا.

حكى أنّ رجلا بات عند القبر فى هذا المكان قديما ، فقرأ سورة يوسف وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم ، ونام ، فرأى قائلا يقول : هذه والله قصّتنا ، من أعلمك بها؟ فقال : هذه القصة مذكورة فى كتاب الله الذي أنزله على نبيّه صلّى الله عليه وسلم ، فمن أنت؟ قال : أنا روبيل بن يعقوب إسرائيل الله ، أحد إخوة يوسف. فلما أصبح الرجل أخبر الناس بهذه الرّؤيا ، فبنوا هذا المسجد لما علموا من صدق الرّائى.

قبر الشيخ العفيف عبد الجبّار الفرّاش (٢) :

ثم تذهب إلى قبر الشيخ العفيف عبد الجبار الفراش ، وهو تربة يرقى إليها بسلالم ، وهو على يمين الخارج من المشهد. كان رجلا صالحا ، جيدا ، متعبدا ، وكان صائم الدّهر.

__________________

(١) العنوان من عندنا ، وهو من مشاهد الرؤيا. [وانظر ما كتب عنه فى الكواكب السيارة ص ٢٨٢].

(٢) العنوان من عندنا. وهو الفقيه الجليل القدر ، العابد الزاهد عبد الجبار الفراش ـ وفى الكواكب السيارة : المعروف بابن الفراش ـ من أكابر القوم ، كان ابن طغج يأتى لزيارته ماشيا .. وكان صائم الدهر ، ويشم عند قبره رائحة طيبة [انظر الكواكب السيارة ص ٢٩٥ و ٢٩٦].

٦٠٢

حكى عنه أنه شفع فى إنسان عند الوالى ، فأبى أن يقبل شفاعته ، فأرسل يقول : «إنّك تقتل (١) فى نصف الليل». فلما بلغه ذلك قال : والله لئن لم يتمّ هذا الأمر لأهدمنّ داره عليه.

فلما كان فى نصف الليل جاء رجل من بغداد من قضاء الخليفة [أمر](٢) بمسكه وقتله. فمسك فى وقته وقتل ، كما أشار الشيخ ، فارتدع الناس عن مخالفته وصاروا يبتدرون أمره.

قبر الشيخ أبى بكر الإصطبلى (٣) :

كان من أكابر الصّالحين (٤) ، جلست على قبره امرأة عليها دم حيض ، فسمعت قائلا يقول من جوف (٥) القبر : أتجلسين على قبر رجل أحبّ الله فأحبّه (٦)؟

قبر الشيخ محمود بن سالم بن مالك الطويل (٧) :

وبجانبه قبر الشيخ الصالح الحامى (٨) محمود بن سالم بن مالك ، الأمير ، المعروف بالطويل ، صاحب المسجد بسفح الجبل.

__________________

(١) فى «م» : «تغزل» تحريف من الناسخ.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد فى «م» .. وفى الكواكب السيارة : «.. حضر من بغداد جماعة أمروا بقتله».

(٣) العنوان عن «ص». وفى الكواكب السيارة : «كانت له دعوة مجابة ، ويرى على قبره نور كثير ... وقبره القبر المسطوح فيما بين ابن الفارض وعبد الجبار الفراش» [انظر المصدر المذكور ص ٢٩٦].

(٤) هكذا فى «ص» .. واكتفى بهذه العبارة عنه ثم أتى بعده بترجمة الشيخ محمود بن سالم. وفى «م» : «الصدفين» مكان «الصالحين» لعلها تحريف من «الصوفيين».

(٥) فى «م» : «خوف» مكان «جوف» تحريف. وفى الكواكب السيارة «خلف».

(٦) فى المصدر السابق : «كيف تطئين قبر رجل صالح مادنس بمعصية؟! فسكتت ، ثم تابت ولم تزل تعبد الله حتى ماتت» أما قوله : «أتجلسين على قبر رجل أحب الله فأحبه» فقد ورد منسوبا إلى الفقيه خليفة المخزومى الشافعى المعروف بالناطق [انظر المصدر السابق ص ٣٠٥].

(٧) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الكواكب السيارة ص ٢٨٢].

(٨) الحامى ، أى : الجندى.

٦٠٣

ذكر أبو جعفر الطحاوى عنه أنه كان جنديّا من جند السّرىّ بن الحكم أمير مصر ، فركب السّرىّ يوما من بعض الأيام ، وكان محمود معه ، فعارض السّرىّ رجل فى طريقه ووعظه بشىء أغاظه ، فالتفت إلى محمود وقال له اضرب عنق هذا. فانتضى (١) محمود سيفه ورمى برأس الرّجل فى الطريق ، فلما رجع محمود إلى منزله خلا بنفسه ، وتفكّر وندم ، وقال : تكلّم الرّجل بكلمة حقّ فقتله ، على ما ذا؟! لم لم أمتنع؟! (٢).

وكثر أسفه وبكاؤه ، وآلى على نفسه ألّا يرجع إلى (٣) خدمة الأمير أبدا.

ثم أقبل على العبادة ، وتقرّب إلى الله تعالى ، فيقال إنه رأى المقتول فى منامه وهو يتبختر (٤) فى الجنة ، فقال له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لى وأدخلنى الجنّة. وقال له : يا محمود ، قل لأستاذك : يا ظالم ، قد سبقك غريمك إلى أحكم الحاكمين!

ثم إنّ محمودا (٥) عمّر المسجد المذكور (٦) ، المجاور لمشهد إبراهيم بن اليسع ، وأقام به شرائع الإسلام ، وأول من خطب به السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن السيد الشريف شمس الدين بن عبد الله محمد ، قاضى العساكر المنصورة ، والمدرس بمدرسة السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب ، المجاورة لجامع عمرو ، به عرفت المدرسة إلى الآن ، وكان أيضا نقيب الأشراف.

__________________

(١) انتضى سيفه : أخرجه من غمده .. وفى «م» : «فاقتضى» تحريف من الناسخ.

(٢) فى الكواكب السيارة : «تكلم رجل بكلمة حقّ فقتلته فكيف يكون حالك إذا وقفت بين يدى الله؟! وبكى بكاء شديدا ...» الخ.

(٣) فى «م» : «أنه لا يرجع على» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٤) يتبختر : يتمايل ويمشى مشيد المعجب بنفسه .. وفى «م» : «يتمختر» عامية. وفى المصدر السابق : «يخطر فى الجنة».

(٥) فى «م» : «محمود» لا تصح ، والصواب بالنصب.

(٦) هو مسجد «محمود» المسمى باسمه.

٦٠٤

قبر الفقيه المحدّث أبى الحسن علىّ بن مرزوق الرّدينىّ (١) :

ثم تمضى إلى قبر الفقيه الفاضل ، المحدّث ، المفسّر ، أبى الحسن علىّ ابن مرزوق (٢) بن عبد الله الردينى.

كان كثير الإنكار على أبى عمرو عثمان بن مرزوق الحوفى وعلى أصحابه ، وكان مقبول الكلمة عند الملوك ، وكان يأوى بمسجد سعد الدولة ، ثم تحوّل إلى مسجد عرف به ، وهو الموجود بقلعة الجبل ، وعليه وقف بالإسكندرية.

وفى المسجد قبر يزعمون أنه قبره ، والصحيح أنه بالقرافة ، وأنه توفى سنة ٥٤٠ ه‍ ، وهو بخط «سارية» شرقىّ تربة أمّ مودود (٣) ، وتربة بنى درباس. واشتهر قبره بإجابة الدعاء بوفاء الدّين.

وحكى عنه بعض المؤرخين ، قال معن بن زيد بن سليمان : إنه كان عليه عشرة آلاف درهم ، وإنه قصد الرّدينىّ بالزيارة ، ونام عنده بجوار قبره ، فرأى الشيخ فى المنام ، فقال له : يا فلان ، فقال : لبّيك. قال : ما تريد؟ قال : أشكو إليك من دين لزمنى. فقال : قل : «اللهمّ بما كان بينك وبين عبدك الرّدينى إلّا قضيت عنى دينى».

قال : فاستيقظت وأنا أقولها ، وإذا بشيخ أعمى جاء إلى عندى وقال لى : أنت الذي توسّلت إلى الله ببركة الشيخ؟! قلت : نعم. قال : خذ هذه العشرة آلاف درهم أوف بها دينك.

وحكى عنه أنّ إنسانا جاء إلى أبى عمرو الحوفى وقال له : إنّ الرّدينىّ كثير الإنكار [عليك](٤) وعلى أتباعك. فقال : إذا كان الصباح جمعت له جمعا وجئت إليه.

__________________

(١) العنوان من عندنا. [انظر ترجمته فى الكواكب السيارة ص ٣٠٢].

(٢) فى «م» : «مرة زوق» تصحيف.

(٣) فى المصدر السابق «أم مردود» بالراء.

(٤) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق وسقط من «م» سهوا من الناسخ.

٦٠٥

فلما كان نصف الليل والشيخ عثمان على سطح داره نزل عليه إنسان من الجو كالطّائر ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا الرّدينّى ، جئت إليك قبل أن تجىء إلىّ. فقال له : يا أخى ، أنا ما أجىء إلّا لمن يمشى على قدميه ، وأمّا من يأتى [طائرا](١) فليس معه كلام!

قبر القاضى يونس الورع (٢) :

ثم تمشى إلى قبر القاضى يونس الورع ، قاضى مصر .. كان رجلا زاهدا ، أكره على القضاء ، وكان يأكل من قمح يأتى به من الغرب ، يزرع له فى أرض ورثها عن بعض أهله ، وكان أيضا يشرب من بئر ورثها عن آبائه ، وكان مجاب الدعوة.

وحكى عنه أنّ السلطان قال له فى بعض الأيام : اسمع فلانا (٣) وشهادته.

فقال له : قد سمعت قوله ولا أقبل شهادته. فقال له : آمرك بأمر فتأبى عن قبوله؟

فقال له : قد أمر من أمره لا يخالف ، قال الله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٤) وهذا ليس كذلك!

* * *

صحة قبر معاذ بن جبل (٥) :

وعلى يمين قبره قبر مكتوب عليه «معاذ بن جبل» الصحابىّ ، وليس

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة يستدعيها السياق ولم ترد فى «م» .. وفى المصدر السابق : «وأمّا من يأتى من الجو فليس لى معه كلام».

(٢) العنوان من عندنا. [انظر ترجمته فى الكواكب السيارة ص ٣٠٥ و ٣٠٦].

(٣) فى «م» : «فلان» لا تصح ، والصواب ما أثبتناه.

(٤) سورة الطلاق ـ من الآية الثانية.

(٥) العنوان من عندنا. وقد نبه على هذا القبر أبو عبد الله القرشى فى تاريخه وقال : هو رجل

٦٠٦

كذلك ، فإنه مات بعمواس (١) فى طاعون جارف (٢). ويحتمل أن يكون هذا رجل من التابعين ، ومعاذ الصّحابّى يكنى [أبا عبد الرحمن](٣).

وروى أنّ معاذا (٤) ـ رضى الله عنه ـ استعمله عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ على جهة من الجهات ، فلما انقضى عمله (٥) رجع إلى أهله ، فلما دخل قالت له زوجته : أين الذي جئت به كما يجيء العمّال [به](٦) إلى أهليهم؟ فقال لها ـ رضى الله عنه : إنّ عمر جعل علىّ رقيبا! فقالت : ألم يكن النّبىّ صلّى الله عليه وسلم استعملك ، وأبو بكر ، وما أرسل واحد منهما عليك رقيبا؟!

ثم إنها أتت إلى عمر ، فقال له (٧) : أنا أرسلت معك رقيبا؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّها طالبتنى بما لم أقدر عليه ، وأنت قلت لى لمّا استعملتنى : «جعلت الله عليك رقيبا» فكيف أعمل؟!

فتعجب عمر من ذلك ، ودفع له شيئا أرضاها به ـ رضى الله عنهما.

__________________

من الصالحين ، واسمه معاذ ، وقد أجمع العلماء أن معاذا مات بعمواس بالشام فى عام الطاعون وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة. وقيل إن هذا القبر لأحد التابعين. [انظر الكواكب السيارة ص ٣٠٨].

(١) فى «م» : «بعمراس» بالراء. وهو خطأ ، وعمواس : كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس.

[انظر معجم البلدان ـ مادة عمواس].

(٢) فى «م» : «الجارف». وكان ابتداء هذا الطاعون فى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، ثم فشا فى أرض الشام فمات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة رضى الله عنهم ، ومن غيرهم ، وذلك فى سنة ١٨ ه‍.

(٣) ما بين المعقوفتين عن الأعلام وسقطت من «م» سهوا من الناسخ. وقد قيل إنه لم يعقّب.

(٤) فى «م» : «معاذ» لا تصح ، والصواب بالنصب.

(٥) فى «م» : «غله» تحريف.

(٦) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٧) فى «م» : «أتت إلى معاذ وقال له» ولا يستقيم المعنى بهذا ، والصواب ما أثبتناه.

٦٠٧

قبر الفقيه العالم أبى السّمراء الضرير (١) :

ثم تمشى من التربة التى تعرف بمعاذ قليلا ، ثم تنحرف على يدك اليمنى تجد قبرا كبيرا ، هو قبر الفقيه العالم الولىّ أبى السّمراء الضرير ، كان من أجلّ الفقهاء والعلماء ، وكان فقيها ، عالما ، نحويّا ، أصوليّا ، لا يطاق فى علومه ، وكان له قدم صدق مع الله تعالى ، وكان كثير الاجتهاد فى الحفظ ، قيل : إنّه لمّا عمى كان يحفظ تلقينا فى كل يوم ما يزيد على مائة سطر.

وسأل الله تعالى فى ذهاب بصره ، وألّا يردّه عليه إلّا بين يديه ، فاستجاب الله له ذلك ، فلمّا مات رئى فى النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : أوقفنى بين يديه وقال : افتح بصرك وانظر ، فقد أعطيتك ما سألت. قال : ففتحت بصرى فرأيت ربى!

قال ابن دحية : وكان السلطان الملك الكامل يأتى إلى قبره ، ويدعو الله تعالى عنده فى قضاء حوائجه ، فيستجاب له ، وقد وقع له (٢) مرارا عديدة (انتهى).

وكان ـ رضى الله عنه ـ شافعىّ المذهب ، يفتى الناس على مذهبهم.

* * *

قبر المرأة الصالحة خيزرانة المكاشفة (٣) :

ثم إذا فرغت من زيارته فاذهب إلى المرأة الصالحة خيزرانة المكاشفة الزاهدة.

__________________

(١) العنوان من عندنا. واسمه فى الكواكب السيارة أبو «السّمرا» الضرير. [انظر المصدر المذكور ص ٣٠٨ و ٣٠٩].

(٢) وقع له : أى استجابة الدعاء .. وفى المصدر السابق : «وقف الكامل عند أبى السمرا وقال : هاهنا يستجاب الدعاء ، وقد دعوت الله هاهنا مرارا فاستجيب لى».

(٣) العنوان من عندنا .. وفى الكواكب السيارة : «خيزران» [انظر المصدر المذكور ص ٣٠٦].

٦٠٨

حكى عنها أنها كانت تكاشف الناس فى خواطرهم ، فقال رجل فى بعض الأيام : أظن أنّ هذه المرأة ساحرة ، فلما كان الليل نام الرجل ، فحصلت له لوقة (١) ، فلما أصبح جاء إليها ، فلما نظرت إليه قالت : «والله يا أخى ما أنا ساحرة ، ولكننى أتيته بنيّة لم تشنها غفلته ، فتفجّرت من قلبى ينابيع الحكمة».

ثم قالت له : «اذهب عافاك الله تعالى وشفاك» فعوفى لوقته وساعته.

وكانت عابدات مصر يأتين (٢) إليها لسماع الوعظ منها ، وينتفعن به.

وكانت (٣) ـ رحمة الله عليها ـ من أجلّ العابدات.

* * *

قبر الفقيه الإمام أبى إسحاق إبراهيم بن محمد :

ثم تأتى إلى تربة تجد بها قبر الشيخ الإمام الفقيه أبى إسحاق إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبى بكر بن سيف بن يوسف بن خلف بن موسى ابن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن على بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمىّ ، القرشىّ ، العباسىّ ، المالكىّ.

كان ـ رضى الله عنه ـ إماما ، عالما ، شريفا ، عفيفا ، كريما ، متواضعا ، تقيّا ، خاشعا ، له تصانيف مشهورة ، وتآليف (٤) مذكورة ، وإشارات واضحة ، وعبارات لائحة (٥) ، وأشعار رقيقة ، ومعان دقيقة.

__________________

(١) حصلت له لوقة : اعوجّ فمه فصار لا يحسن الكلام.

(٢) فى «م» : «تأتى».

(٣) فى «م» : «وهى».

(٤) فى «م» : «وتواليف».

(٥) لائحة : ظاهرة.

٦٠٩

وكان إماما بمسجد الزبير بمصر ، وكان مجاب الدعوة ، كثير البركة. تفقّه على مذهب مالك ، وسمع الحديث بمصر من أبى محمد عبد المولى بن محمد اللّخمىّ ، وبدمشق من أبى أكثم على بن الحسين بن عساكر. وحدّث وصنّف كتاب «البغية والاغتباط فيمن ولى مصر الفسطاط» (١) وصنّف كتابا فى الوعظ. ومولده فى آخر شهر رمضان سنة ٢٧٥ ه‍. وله كرامات عديدة.

ومن كراماته (٢) العظيمة أنّ رجلا دخل عليه فى وقت صلاة الصّبح ، وقال له : يا سيدى إنّ عمّى سجنه كاتب من كتّاب السلطان بسبب ضمانة (٣) ضمنها له ، فعسى أن تكتب له رقعة تستعطفه فيها!

فقال له : يا بنىّ ، أنا لا أعرف الكاتب ، ولكن أنا أدعو له بالخلاص.

ثم سأل الله تعالى أن يحسن خلاص الرّجل. وذهب الرجل ، ثم دخل عند صلاة المغرب ومعه رجل آخر ، فقال : يا سيدى ، هذا عمّى الذي سألتك فى أمره ، أطلقه الكاتب!

فقال له : كيف وقع (٤)؟ قال : يا سيدى ، لمّا ذهبت من عندك دعاه الكاتب إليه (٥) وقال له : أنا أعرف أنك رجل مظلوم ، وكل جهة فى مصر.» .. (٦).

فقال : ليس لى أحد سوى الله تعالى ، غير أن إنسانا من الفقهاء الصلحاء دعا لى. قال : فأطلقه ثم قال له : اسأل لى الرّجل (٧) الذي دعا لك أن يدعو لى بحسن الخاتمة.

__________________

(١) مصر الفسطاط ، أى : مصر القديمة. وفى «م» : «الفسطاس» تحريف.

(٢) فى «م» : «الكرامات».

(٣) الضّمانة : وثيقة ـ أو تعهد شفوى ـ يضمن بها الرجل صاحبه.

(٤) أى : كيف حدث ذلك؟.

(٥) فى «م» : «إلى عنده».

(٦) هكذا فى «م» ، ويبدو أن هنا كلاما سقط من الناسخ.

(٧) فى «م» : «من الرجل».

٦١٠

وحكى عنه أنه حجّ فى سنة إلى بيت الله الحرام ، ورجع إلى العراق فى قافلة ، فاجتاز (١) بمكان يعرف برأس العين من بلاد «حلب» ، فصادفه أمير البلدة ـ وكان ظالما ـ يقال له : حسام الدين. فقال له : يا شيخ ، انزل أنت والقافلة ـ وكان الشيخ مقدّما فيها ـ فنزل الشيخ ونزل الناس ، وجاء العشّار (٢) فأخذ عادته من أعمال التجار ، ثم جاء الأمير وأعوانه والعشّار لينظروا ما مع الشيخ ، فقال له الأمير : ما معك أيها الشيخ؟ قال : معى هذا الحمل من الكتب لا غير. قال : فأمر الأمير بعض غلمانه وقال له : افتح هذا الحمل وآتنى بما تجده (٣) من كتب الأدب واللغة والأشعار الرّائقة ، والخطوط الفائقة.

فجاء الغلام لفتح العدلين (٤) ، وتوجّه الأمير ، فدفع الشيخ للغلام دينارين ، وقال له : سألتك بالله لا تفتح هذا الحمل واتركه. قال : فترك الغلام وذهب ، ورحلت (٥) القافلة. فسأل الأمير الغلام : هل وجدت شيئا؟ قال : لا. قال : لا بدّ لى من أن أنظر فى هذا الحمل.

ثم أمر برجوع القافلة ، فرجعت ، ثم إنّ الشيخ اعتزل ناحية وصلّى ، ودعا الله سبحانه وتعالى ألّا يجعل عليهم سبيلا ، وأن يصرف عنه كيدهم. ثم إنّ الأمير دعاه وقال له : افتح هذا الحمل. ففتحه ، وتقدّم الغلام فأخرج كتاب «الموطّأ» بخطّ ردىء ، ثم أخرج كتابا آخر بخط ردىء ، ثم آخر .. فقال : الظّاهر أنّ جميع الكتب بهذه الخطوط الرديئة! ثم قال : يا شيخ ، سر فى حفظ الله تعالى.

__________________

(١) اجتاز : مرّ.

(٢) العشّار : من يأخذ على السلع مكسا ، أى : ضريبة.

(٣) فى «م» : «وجدته».

(٤) العدل : نصف الحمل يكون على أحد جنبى البعير.

(٥) فى «م» : «ورحلة» لا تصح إملائيّا.

٦١١

قال : فشدّ الشيخ الحمل ووضعه على ظهر الجمل وسار ، وسارت القافلة قليلا فإذا بإنسان يعدو خلف القافلة وهو يقول : يا شيخ ، ارجع وخذ ما دفعت للغلام. فقال الشيخ : لا رجعة (١) لى فيما خرجت عنه. فرجع الغلام ، وسار الشيخ سالما ، وكفاه الله شرّهم ببركته.

وقيل : إنّ رجلا ادّعى على ولد أخى الشيخ أنه أودع عنده وديعة تساوى عشرة دنانير ، وأنّ الشيخ يشهد على ابن أخيه بالوديعة.

فأحضر الشيخ ، فقال : ليس لى علم بذلك. فقال : لا ، بل علمت ذلك ، وقد دخل بالوديعة إلى منزلك ، وهى فى دارك. فقال ولد أخيه للرّجل : هل لك فى المحاكمة؟ قال : نعم.

فجاء الرجل والشيخ وولد أخيه إلى القاضى (٢) ، فأخبره المدّعى بقصته ، فقال القاضى للشيخ : أحقّ ما قاله هذا الرجل يا سيدى؟ قال : لا والله.

فقال المدّعى : بل والله حقّ ذلك. فقال القاضى : أنا أدفع لك شيئا من مالى ودع الشيخ. فقال : والله لا أتركه إلّا بعشرة دنانير أو يحلف أنّ الوديعة لم تدخل إلى داره ، وأنه لا يعلم ذلك.

فحلف الشيخ أنه لم يعلم ذلك ، ولم يعلم بذلك. ثم لمّا فرغ من اليمين قال : اللهمّ إن كان هذا ظلمنى وهو يعلم أننى برىء ممّا قال ، فأظهر فيه آية لخلقك.

ثم توجّه كلّ منهما إلى حال سبيله ، فلم تمض على الرّجل ثلاثة أيام حتى عمى (٣) وصار إلى حالة دميمة ، ثم صار شحّاذا وصار يقول : ارحموا من استجيبت فيه دعوة رجل صالح. ومات بعد ذلك فى مخزن ولم يعلم به إلّا بعد ثلاثة أيام.

__________________

(١) فى «م» : «لا رجعت» خطأ إملائى.

(٢) فى «م» : «إلى القاضى مجلى».

(٣) فى «م» : «ثم عمى».

٦١٢

وحكى عنه أنه دفع إلى رجل ثلاثين دينارا ليعمل له فيها ، فأقامت معه مدّة ، ثم ادّعى أنها ضاعت منه وتلفت ، فقال له الشيخ : اتّق الله يا أخى ، ووعظه فلم يتعظ ، فقال الشيخ لمن حضر : أقسم بالله لئن بقى هذا على هذه النّيّة لم يخرج من الدّنيا حتى يبتلى بالفقر والطلب ، وكان الرجل ذا جدّة (١) وحالة حسنة ، فما مرّت عليه أيّام قلائل حتى نفد جميع ما كان معه وافتقر وصار شحّاذا يسأل النّاس ويدقّ أبوابهم ويقول : تصدّقوا على من غرّه الطّمع.

وحكى عنه أيضا أنّ أمير مصر أقامه على تفرقة الزكوات ، فكان يفرقها فى كل شهر مرة ، فاتفق فى بعض الأيام أنه جلس يفرق الزكاة ثم تذكر أنه خلط ماله بمال الصّدقة ، فتصدق بالجميع ، [فسئل : لم](٢) فعلت ذلك؟

قال : لأنّ مال الزّكاة محرّم (٣) علينا ، وليس لى حاجة بمال خالط مال الزكاة.

فقيل له : لو انتفعت ببعضه (٤) كان أولى. فقال : لا أنتفع بمال خالطته الزكاة.

وكان الشيخ بليدا فى بداية أمره ، فرأى قائلا يقول له : إنّ الحاكم قد سمع قولك ، فأصبح (٥) ينطق بالحكمة ، ثم وضع المصنفات العجيبة.

وقيل : إنه شهد عند قاضى القضاة الذي كان بزمانه فلم يقبل شهادته ، فلمّا كان فى تلك الليلة نام القاضى ، فرأى فى منامه رجلا دخل عليه من غير إذن ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا إنسان من خلق الله تعالى. قال : كيف دخلت إلى دارى بغير إذنى؟ قال : أذن لى ربّ الدّار. قال : ما تريد؟ قال :

__________________

(١) ذا جدّة : صاحب حظّ وغنى.

(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى ، وسقط من «م» سهوا من الناسخ.

(٣) فى «م» : «محرمة».

(٤) فى «م» : «ببعضها».

(٥) أى : الشيخ.

٦١٣

لم لا تقبل شهادة الشيخ إبراهيم القرشيّ وهو عدل عند الله تعالى؟ قال : إنه بليد. قال : إنه فى غد (١) يأتيك وهو ينطق بالحكمة!

وقيل : لمّا احتضر (٢) قيل له : كيف حالك؟ قال : كيف حال من يريد سفرا بعيدا بغير زاد؟ ويدخل قبرا موحشا بلا مؤنس؟ ويقدم على ملك عادل؟ ثم بكى بكاء شديدا ، وتوفّى بعد ذلك.

* * *

وبالقرب قبر ابنته ، المرأة الصالحة ، أمّ الخير.

ويليها من الجهة البحرية قبر الشيخ الصالح ، القدوة ، القاضى برهان الدين ابن عبد العزيز بن إبراهيم الزهرى خطيب قلعة صور ، توفى فى يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم سنة ٣٠٥ ه‍.

* * *

قبر الشيخ أبى البقاء صالح بن الحسين (٣) :

ثم تأتى إلى قبر الشيخ الوليّ العالم أبى البقاء صالح بن الحسين بن عبد الحميد المبتلى ، الشّافعىّ المذهب. كان فقيها زاهدا ، تضرب الأمثال بعبادته ، وكان منقطعا فى جوسق (٤) ابن أصبغ ، وكان يشمل الطلبة بالجامع العمرىّ ، فجاء يوما فوجد الطّلبة جلوسا يتضاحكون ، فقال : «لا إله إلّا الله! فسد الناس ،

__________________

(١) فى «م» : «فى غدا» لا تصح.

(٢) احتضر : حضره الموت.

(٣) فى «م» : «أبى النجا» والتصويب من الكواكب السيارة ص ٣٠٧.

(٤) الجوسق : لفظة معربة تطلق على القصر الصغير.

٦١٤

حتى أهل العلم ، لقد كنّا ندخل فى حلق (١) العلم فلا يقوم الرّجل منّا إلّا باكيا خاشعا ، وإذا عاد (٢) فى اليوم الثانى وجد قد ارتقى عن الحالة الأولى فى الحزن والكآبة».

ثم إنه خرج وانقطع عن الحضور ، ولازم العبادة إلى أن مات بالجوسق.

وكان فى ابتداء أمره مليح الصّورة ، حسن الهيئة ، وكان إذا مرّ افتتن النّساء بملاحته وحسن صورته ، فسأل الله تعالى أن يبتليه ببلاء يمنع من افتتان الناس به ، فابتلى ، رضى الله عنه ، فكان إذا مرّ أعرض (٣) النساء بوجوههنّ عنه ، فحمد الله تعالى على ذلك.

وكان له رجل يخدمه ، ويأتى إليه فى كل يوم بأوراق من مغاسل (٤) البقل ، فيطبخها بشىء من الملح ، ويقدمها له عند إفطاره ، فجاء له الخادم يوما بغير شىء ، فقال له : لم لم تأت بشىء؟ قال : رأيت فى طريقى جماعة من السودان يتحاربون ، فرجعت بغير شىء. فقال له : خذ هذه العكّازة وامض ، فإنّك تأمن من شرّهم. قال : فأخذ الخادم العكّازة ومضى ، ومرّ بينهم فلم يتعرّض له أحد بسوء ، فأخذ حاجة الشيخ ورجع سالما.

وحكى عنه القاضى الفاضل عبد الرحيم بن الحسن (٥) البيسانىّ حكاية عجيبة ، نقلها عنه أبو الحسن (٦) الكاتب. قال أبو الحسن : قال لى القاضى الفاضل ـ رحمه الله تعالى : هل لك فى زيارة القرافة؟ قلت : نعم ، سمعا وطاعة.

__________________

(١) حلق : جمع حلقة.

(٢) فى «م» : «دعاه» تحريف.

(٣) أعرض : صدّ وولّى. وفى «م» : «عرض».

(٤) مغاسل : جمع مغسل ، وهو موضع الغسل.

(٥) فى «م» : «ابن الحسين» وسيأتى بعد قليل.

(٦) فى الكواكب السيارة : «أبو الحسين» فى كل المواضع.

٦١٥

وخرج ، وخرجت معه ، إلى أن جئنا إلى سفح الجبل المقطم إلى قبر الإمام الوليّ الصالح المبتلى. فقال لى : يا أبا الحسن ، هل أحكى لك (١) حكاية من أعجب ما رأيت من كرامات هذا الرجل؟ قلت : (٢) : نعم يا مولاى.

فقال لى (٣) : «لمّا دخلت إلى مصر دخلت وليس معى ما أتقوّت به فى تلك الليلة ، فجئت إلى هذه المقبرة ، وجلست عند هذا القبر ، وقرأت شيئا من القرآن ، فأخذتنى فى أثناء القراءة سنة من النوم ، فرأيت فى منامى رجلا جميلا طلع من القبر وقال لى : ما بك يا عبد الرّحيم؟ فنظرت أمامى فرأيت السلطان صلاح الدين بن أيوب كأنّه جالس على سرير ، فلما رآنى ووقعت عينه علىّ قام لى وأجلسنى إلى جانبه وقال لى : افتح حجرك (٤) ، ففتحت حجرى فصبّ لى فيه جملة من الدّنانير ، ثم أشار لأهل دولته من الحاضرين بتقبيل يدى.

قال : ثم استيقظت وذكرت الرّؤيا ، وتعجبت غاية العجب ، فسمعت قائلا ـ أسمع صوته ولا أدرى شخصه ـ يقول : «إنك رأيت هذا فى المنام وسيكون فى اليقظة» (٥).

قال : فمضيت إلى منزلى وأنا أفكّر (٦) فى شأن الرّؤيا ، فسألنى جماعة فى طريقى أن أكتب لهم قصّة (٧) قال : فكتبت : «للمماليك الحرسيّة ، بالقلعة

__________________

(١) فى «م» : «يا أبا الحسن احكى لى» ولا يستقيم المعنى بهذا السياق. [انظر الكواكب السيارة ص ٣٠٧ و ٣٠٨].

(٢) فى «م» : «قال».

(٣) فى «م» : «قال : فقال لى».

(٤) الحجر من الإنسان : حضنه.

(٥) أى : سيتحقق فى الواقع.

(٦) فى «م» : «متفكر».

(٧) القصة كما تطلق على الحكاية النثرية الطويلة تطلق أيضا على الخبر ، والحديث ، والجملة من الكلام.

٦١٦

الصّلاحيّة ، يقبّلون الأرض بين المواقف العليّة الأعظميّة ، وينهون (١) أنهم باعوا لذّة نومهم بقوت يومهم (٢) ، وقد حرموا ذلك ، أنهوا ذلك» (٣).

قال : فلما وقف السلطان عليها قال : من الذي كتب لهم هذه؟ قال : رجل يقال له : عبد الرّحيم الفاضل. قال : أسمع به ، إنّه كان من رؤساء الكتبة بالديوان ، وقال : علىّ به. فما جلست فى بيتى إلّا قليلا وإذا بالباب يطرق (٤) ، فنظرت من الطّارق ، فإذا رجل من جهة السّلطان ، فقال لى : أجب السّلطان.

قال : فمضيت معه إلى حضرة السّلطان صلاح الدين ، فلما دخلت عليه رأيته على سرير كالذى رأيته فى منامى ، فلما رآنى قام وأجلسنى إلى جانبه ، وسألنى عن أحوالى ، فأخبرته بالأحوال جملة وتفصيلا ، قال : فدعا بدنانير وصبّها فى حجرى ، وفوّض إلىّ الوزارة ، وصرت الآن بما ترى من هذه الأحوال العظيمة ، كلّ هذا ببركة هذا الرّجل (٥) ـ رضى الله عنه.

وكانت وفاة صالح هذا فى سنة ٥٤٠ ه‍ (٦).

__________________

(١) أنهى الشيء : أبلغه وأوصله.

(٢) أى : أنهم كدّوا وتعبوا وهجروا الراحة من أجل الحصول على قوتهم. وهذا الأسلوب فى الكتابة اشتهر به القاضى الفاضل.

(٣) هكذا فى «م» .. والمعنى أنهم امتنعوا وكفّوا عن فعله لعدم حصولهم على أجرهم.

(٤) فى «م» : «فما جلست فى بيتى إلّا وأنا أسمع الباب يطرق».

(٥) يعنى بالرجل الفقيه الزاهد صالح بن الحسين المبتلى.

(٦) فى الكواكب السيارة : أنه عاش طويلا حتى توفى بعد الأربعين وخمسمائة.

٦١٧

صحة قبر الصّحابىّ سارية (١) :

وبجانبه (٢) قبر يقال له قبر سارية بن زنيم ، الصحابىّ الذي ناداه عمر ابن الخطّاب يوم الجمعة وهو يخطب : «يا سارية ، الجبل» ، وفى هذا الخبر أقوال.

ولم يكن حين نودى بديار مصر ، بل كان فى أرض «نهاوند» فى بلاد العجم ، وقصته : أنّ عمر بن الخطّاب ، رضى الله عنه ، بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قطع الخطبة ونادى : «يا سارية ، الجبل ، يا سارية ، الجبل ـ ثلاثا ـ ثم عاد إلى خطبته ، فقال الناس : إن عمر جنّ ، إنّه لمجنون (٣). فسمع ذلك عبد الرحمن بن عوف الزّهرىّ ، رضى الله عنه ، وكان ممّن يردّ عنه ، فجاء إليه بعد أن فرغ من الصلاة وقال له : هل تحب أن تجعل لهم عليك كلاما؟

__________________

(١) العنوان من عندنا. وهو سارية بن زنيم بن عبد الله بن جابر الكنانى الدئلى ، صحابىّ ، من الشعراء ، والقادة الفاتحين ، كان فى الجاهلية لصّا كثير الغارات ، يسبق الفرس عدوا على رجليه ، ولما ظهر الإسلام أسلم وجعله عمر أميرا على جيش وسيّره إلى بلاد فارس سنة ٢٣ ه‍ ففتح بلادا ، منها أصبهان فى رواية. وتوفى سنة ٣٠ ه‍. وهذه التربة المعروفة بسارية فى مصر فيها اختلاف ، فلم يثبت أنه مدفون بمصر ، والله أعلم.

[انظر الأعلام ج ٣ ص ٦٩ و ٧٠ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٠٦ ، والكواكب السيارة ص ٣٠٧ وغيرها من الصفحات].

(٢) أى بجانب قبر صالح المبتلى ، وقيل معه فى التربة نفسها. [انظر الكواكب السيارة ص ٣٠٧].

(٣) فى أسد الغابة : «فالتفت الناس بعضهم إلى بعض ، فقال علّى : ليخرجنّ ممّا قال. فلما فرغ من صلاته قال له علىّ : ما شىء سنح لك فى خطبتك؟ قال : وما هو؟ قال : قولك : يا سارية ، الجبل الجبل ، من استرعى الذئب ظلم. قال : وهل كان ذلك منى؟ قال : نعم. قال : وقع فى خلدى أن المشركين هزموا إخواننا فركبوا أكتافهم ، وأنهم يمرون بجبل ، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا ، وقد ظفروا ، وإن جاوزوا هلكوا ، فخرج منى ما تزعم أنك سمعته .. قال ـ راوى الحديث عبد الله بن عمر عن أبيه ـ فجاء البشير بالفتح بعد شهر ، فذكر أنه سمع فى ذلك اليوم ، فى تلك الساعة ـ حين جاوزوا الجبل ـ صوتا يشبه صوت عمر : يا سارية ، الجبل الجبل ، قال : فعدلنا إليه ، ففتح الله علينا» وهذه الرواية مشهورة.

[انظر أسد الغاية ج ٢ ص ٣٠٦].

٦١٨

[فقال](١) : ما بالهم؟ قال : إنك قلت : كذا وكذا فى أثناء الخطبة. قال له : لم أملك نفسى حين رأيت الكفّار قد أحدقوا بالمسلمين أن صحت : «يا سارية الجبل».

قال : فلما قال عمر ذلك لعبد الرحمن ، جاء عبد الرحمن إلى الناس وقال لهم : اعلموا أنّ عمر ، رضى الله عنه ، لم يدخل فى شىء إلّا كان له منه مخرج ، ولا يتكلّم إلّا بما فيه فائدة. ثم أخبرهم بخبر «سارية».

فلمّا كان بعد مدّة جاء رسول سارية وأخبر أنّ سارية ظفر وانتصر ، ودفع كتابا من سارية إلى عمر ، فقرأ عمر الكتاب على الناس .. أخبر سارية أنّ المسلمين قاتلهم الكفّار يوم جمعة من أول النهار إلى وقت الزوال ، وأنّا سمعنا صوتا ينادى : «يا سارية ، الجبل» فانزوينا إلى الجبل ، ثم رجعنا على المشركين وقاتلهم ، وهزمناهم (٢).

فقال الصحابة ، رضوان الله عليهم : إنّ عمر مؤيّد (٣) من الله عزّ وجلّ بالبصيرة التامّة. (انتهى).

قبر القارئ أبى حفص العمروشى (٤) :

ثم تجىء إلى قبر «العمروشى» ، يكنى أبا حفص ، واسمه عمر ، كان ـ رضى الله عنه ـ مقيما بالجامع العمرىّ ، وكان يقرأ على كل عمود من عمد الجامع ختما كاملا إلى أن مات. وهو يعرف إلى الآن بالقارىء.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة لم ترد فى «م».

(٢) فى «م» : «وما كناهم» تصحيف.

(٣) فى «م» : «يؤيد» تصحيف.

(٤) العنوان من عندنا .. وهو معدود من طبقة القراء. [وانظر الكواكب السيارة ص ٣٠٩].

٦١٩

تربة القاضى الفاضل (١) :

ثم تأتى إلى تربة القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى ، وهو القاضى الفاضل محيى الدّين أبو على ، عبد الرحيم ، ابن القاضى الأشرف أبى الحسن (٢) علىّ ابن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد بن عبد الله ، اللّخمىّ الأصل ، العسقلانيّ المولد ، البيسانى ، المصرى الدار والوفاة ، الشافعىّ.

كان والده قاضيا بمدينة بيسان. قال الحافظ عبد العظيم (٣) : «وبيسان هذه التى نسب إليها هى قصبة غور الأردن من أرض الشام». وقيل : إنها المذكورة فى حديث الجسّاسة (٤). وبيسان أيضا من نواحى «اليمامة». وبيسان أيضا قرية من قرى «مرو». وبيسان موضع جاء ذكره فى غزوة ذى قرد.

ولأجل ولاية والده القضاء بها نسب هذا الفاضل إليها ، وكان والده قاضيا بعسقلان قبل ولاية بيسان.

وكانت ولادته يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة سنة ٥٢٩ ه‍ (٥). ثم قدم القاهرة وخدم الموفق يوسف بن محمد بن الخلال (٦) صاحب ديوان الإنشاء فى أيام الحافظ لدين الله ، وعنه أخذ صناعة الإنشاء.

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٣ ص ٣٤٦ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ١٥٨ ـ ١٦٣ ، والنجوم الزاهرة ج ٦ ص ١٥٦ ـ ١٥٨ ، وطبقات الشافعية ج ٧ ص ١٦٦ ـ ١٦٨ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥٦٤ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ٣٢٤ ـ ٣٢٧].

(٢) فى «م» : «أبا الحسن» لا تصح.

(٣) هو الحافظ عبد العظيم المنذرى.

(٤) الجسّاسة : دابّة يزعمون أنها فى جزائر البحر تجسّ الأخبار وتأتى بها الدّجّال [وانظر حديث الجسّاسة فى معجم البلدان ج ٤ ص ٥٣ مادة طيبة ، وج ١ ص ٥٢٧ مادة بيسان ، ولسان العرب مادة جسس].

(٥) هذه العبارة فى «م» فيها اضطراب فى سياقها ، والتصويب من الوفيات والمراجع التى ترجمت له.

(٦) فى «م» : «ابن جلال» خطأ ، والتصويب من الوفيات ج ٧ ص ٢١٩.

٦٢٠