مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

بنى السلطان الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها ، وكان يرى بشىء من المحارفة (١) ، وقيل ذلك عنه للسلطان ، فأمره بتعليق شىء على الشهاب ، فعلّق كتابا تكلم فيه على الأحاديث والأسانيد ، فلما وقف عليه الكاملية ، قال له بعد أيام : لقد ضاع منى ذلك الكتاب فعلّق لى مثله ، ففعل ، وجاء به ، فرأى الكامل فى الثانى مناقضة الأول ، فعلم الكامل صحّة ما قيل عنه وفيه.

يقول شرف الدين بن عنين (٢) ، لمّا أنكر الناس عليه فى تلقّبه (٣) بذى النّسبين (٤) ، وأنّ دحية لم يعقب قال :

دحية لم يعقب فلم تفترى

إليه بالبهتان والإفك (٥)

ما صحّ عند النّاس شىء سوى

أنّك من كلب بلا شكّ (٦)

وكان شخص من أدباء النصارى يتعصب لابن دحية ويزعم أنّ نسبه صحيح ، فقال فيه تاج العلى (شاعر) :

يا أيّها العيسىّ ما ذا الّذى

تروم أن تثبته فى الصّريح

إنّ أبا الخطّاب من دحية

شبه الذي تذكره فى المسيح

ما فيه من كلّ كلب سوى أنّه

ينبح طول الدّهر لا يستريح

أخرف لا يهدى إلى رشده

كالنّار شرّ أو كلام كريح

فردّه الله إلى غربة

أو هاهنا يستره فى الضّريح

__________________

(١) المحارفة : الحرمان وضيق العيش ، والمراد بها هنا «التحريف».

(٢) هو أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين. [انظر نفح الطيب ج ٤ ص ١٣٤].

(٣) فى «م» : «تقلبه» تحريف.

(٤) أى : بين دحية والحسين ، فقد كان يذكر أنه ولد دحية ، وأنه من سبط أبى بسام الحسينى.

(٥) فى نفح الطيب : «تعتزى» مكان «تفترى». والبيتان من السريع.

(٦) من كلب ، أى : من قبيلة كلب.

٥٤١

فقال ابن دحية :

يا ذا الّذى يعزى إلى هاشم

ذمّك عندى فى البرايا نبيح (١)

ألست أعلى النّاس فى حفظ لما

يسند إلى جدّكم فى الصّحيح؟

يكون حظّى منكم طعنكم

وأنّنى أحمى بقوم المسيح

قلت : والله إنّ ابن دحية معذور فى القول ، ولكن حظ الأفاضل من الدنيا هكذا ، سبحان من له الأمر.

وكانت ولادة أبى الخطاب فى مستهل ذى القعدة الحرام سنة ٥٤٤ ه‍.

وتوفى فى الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ٦٣٣ ه‍ بالقاهرة.

وقال عنه ولد أخيه : كان عمى يقول : ولدت فى ذى القعدة أول الشهر سنة ٥٤٦ ه‍ (٢).

وبجانبه قبر ولده شرف الدين أبى الطّاهر محمد ، ولد ـ رحمه الله تعالى ـ سنة ٦٠٠ ه‍ ، وسمع من أبيه ، وتولى (٣) مشيخة دار الحديث الكاملية (٤) مدة مديدة ، وكان يحفظ جملة من كلام والده ويورده إيرادا جيدا ، وتوفى سنة ٦٦٧ ه‍.

* * *

ويجاوره تربة بها قبر الشيخ الإمام المقرئ غياث بن فارس اللّخمى المالكى (٥) ، تلميذ السيد الشريف الخطيب ، تلميذ أبى الحسن الخشّاب علىّ

__________________

(١) يعزى : ينسب.

(٢) انظر وفيات الأعيان ج ٣ ص ٤٥٠ ، ونفح الطيب ج ٢ ص ٣٠٥ ، وفيها أنه دفن بسفح المقطم.

(٣) فى «م» : «وتوفى» تحريف.

(٤) انظر «المدرسة الكاملية» فى حسن المحاضرة ج ٢ ص ٢٦٢.

(٥) له ترجمة فى حسن المحاضرة ج ١ ص ٤٩٨.

٥٤٢

ابن محمد بن أحمد العجلى ، تلميذ أبى بكر اللخمى ، تلميذ موسى بن يونس ابن عبد الأعلى المعروف بالصّدفى تلميذ ورش نافع ، عرف المذكور بأبى الجود غياث ، توفى ـ رحمه الله ـ سنة ٦٠٥ ه‍.

قبر عبد الله بن لهيعة (١) :

ثم تمضى إلى حومة بها قبر يعرف بعبد الله بن لهيعة ، وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان الحضرمّى ، ولد سنة ٩٧ ه‍ (٢) ، وولى القضاء على مصر من جهة أبى جعفر المنصور فى مستهل سنة ١٥٥ ه‍ (٣) ، وكانت ولايته بسبب أنّ ابن خديج (٤) دخل على المنصور بالعراق فسلم عليه وقال له : توفى ببلدك رجل أصيبت به العامّة! قال : ذلك أبو خيثمة (٥)؟

قال : نعم. فمن ترى أن نولى؟ قال : أبو معدان. قال : ذلك رجل أصم

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٤ ص ١١٥ ، وميزان الاعتدال ج ٢ ص ٤٧٥ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠١ و ٣٤٦ ، وج ٢ ص ١٤١ ، واسمه عبد الله بن عقبة بن لهيعة الحضرمى ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٣٨ و ٣٩ ، والولاة والقضاة ص ٣٦٨ ـ ٣٧٠ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٢٨٣ و ٢٨٤ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٥٠٥].

(٢) فى ميلاده ووفاته اختلاف.

(٣) وقيل : سنة ١٥٤ ه‍.

(٤) فى الوفيات : «ابن حديج» بالحاء المهملة. وفيها : «ذكر ابن الفراء فى تاريخه أن سبب ولايته أن ابن حديج كان بالعراق ، قال : فدخلت على أبى جعفر المنصور ، فقال لى : يا بن حديج ، لقد توفى ببلدك رجل أصيب به العامة ، قلت : يا أمير المؤمنين ذاك إذن أبو خزيمة؟ قال : نعم ، فمن ترى أن نولى القضاء بعده؟ قلت : أبا معدان [عامر بن مرّة] اليحصبى يا أمير المؤمنين ، قال : ذاك رجل أصمّ ، لا يصلح للقاضى أن يكون أصمّ ، قال : فقلت : فابن لهيعة يا أمير المؤمنين. قال : فابن لهيعة على ضعف فيه ، فأمر بتوليته ، وأجرى عليه كل شهر ثلاثين دينارا ، وهو أول قضاة مصر أجرى عليه ذلك».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى المصدر السابق. أبو خزيمة ، وهو إبراهيم بن يزيد القاضى.

٥٤٣

لا يصلح. قال : فابن لهيعة؟ قال : [فابن لهيعة](١) على ضعف فيه! فولّاه ، وأمر له بثلاثين دينارا فى كل شهر. وهو أول قاض أجرى عليه هذا المعلوم ، وأول قاض ولى مصر على مذهب أبى حنيفة ، وأول قاض ولّاه الخليفة.

وصرف عن القضاء سنة ١٦٤ ه‍ ، وذلك بعد أن كتب الليث إلى الخليفة المهدى ببغداد أن اصرفه عنّا. فجاء كتاب المهدى إلى الليث بعزله. فعزله وولّى عون بن سليمان.

وولى عبد الله القضاء عشر سنين ، وتوفى فى شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين ومائة. وروى عن جماعة منهم مشرح (٢) بن هاعان ، وروى عنه الليث وابن المبارك. وهو معدود فى الضعفاء (٣).

قبر الشيخ الإمام أبى يحيى البغدادى (٤) :

ثم تمضى إلى تربة عند قبر يعرف بالبغدادى الناسك ، بهذه التربة قبر الشيخ الإمام محمد بن أحمد بن إسحاق بن الحسين (٥) بن إبراهيم البغدادى ، يكنى أبا يحيى ، وهو أخو أبى الحسن (٦) البغدادى المحدّث الذي توفى سنة ٣٤٧ ه‍ ، ويعرف هذا بصاحب الحنفا ، كان كافور يكثر زيارته ، فجاء إليه يوما وهو متنكّر ومعه ألف دينار ، فسلّم على الشيخ وعرض (٧) عليه المال ، فأبى أن يأخذه. فقال له : اصرفه فى المحتاجين ، فأبى ذلك. فلما أراد الخروج قال : هل من حاجة؟

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

(٢) فى «م» : «مسروخ» تحريف. وهو : مشرح بن هاعان المعافرى ، أبو المصعب المصرى.

(٣) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٤) العنوان من عندنا.

(٥) فى «ص» : «محمد بن الحسن بن إبراهيم البغدادى» وما بعده عن «م» وساقط من «ص».

(٦) فى «م» : «أبو الحسن» خطأ ، والصواب «أبى ...».

(٧) فى «م» : «وأعرض» تصحيف.

٥٤٤

قال : نعم ، ألّا تعود (١) إلىّ بعدها أبدا. فخرج كافور يبكى ولم يجتمع به بعد ذلك.

وكان أبوه من أجلّ تجار بغداد ، ولمّا مات ترك له سبعين ألف دينار ، فأخذها الشيخ محمد وانقطع إلى الله سبحانه وتعالى (٢).

قبر الشيخ أبى بكر بن محمد المالكى (٣) :

وبهذه التربة قبر يعرف بقبر الشيخ (٤) أبى بكر بن محمد المالكى الفقيه ، يقال إنه من السبعة الأبدال ، وهو شيخ الشيخ عبد الصمد البغدادى.

قيل : إنه مرّ (٥) على امرأة مقعدة ، فقالت له : هل من شىء لله (٦)؟! فقال : والله لا أملك من مال الدنيا شيئا (٧) ، ولكن ادفعى لى يدك (٨). فناولته يدها ، فجذبها ، فقامت تمشى كأن لم يكن بها مرض ، وأقامت فى خدمته إلى أن ماتت (٩).

وقيل : إذا جعلت قبره خلف ظهرك واستقبلت الجبل وسلّمت على رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، ردّ عليك السّلام.

وكان إذا دخل الحمّام غمّض عينيه إلى أن يخرج. وكان يقول : إنّ المؤمن لا تمسّه النار ولا تحرقه ، ولو لا خوف الشهرة لأدخلت يدى فى النار (١٠).

__________________

(١) فى «م» : «هو ألّا تعود».

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) العنوان من عندنا. وقد ورد ذكره فى «م» و «ص» معا.

(٤) فى «م» : «يعرف بالشيخ».

(٥) فى «ص» : «جاز» وهى بمعناها.

(٦) فى «ص» : «عسى شىء لوجه الله».

(٧) فى «ص» : «ما معى شىء».

(٨) فى «ص» : «ولكن هاتى يدك».

(٩) فى «ص» : «فأخذ بيدها فقامت معه بإذن الله تعالى ، والدعاء عنده مستجاب».

(١٠) من قوله : «وكان إذا دخل الحمام» إلى هنا عن «م» ولم يرد فى «ص».

٥٤٥

قبر سلطان العاشقين عمر بن الفارض (١) :

ثم تخرج من هذه التربة إلى تربة الشيخ الصالح المعتقد شرف الدين أبى القاسم عمر بن أبى الحسن على بن المرشد بن على ، الحموى الأصل ، المصرى المولد والدّار والوفاة ، عرف بابن الفارض. كان ـ رضى الله عنه ـ رجلا

__________________

(١) هو الإمام قدوة العارفين ، وسلطان المحبين الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض ، تلميذ الشيخ أبى الحسن على البقال ، صاحب الفتح الإلهى والعلم الوهبى ، نشأ فى العبادة من حال صغره ، كان مهيبا ، وكان سخيّا معتدل القامة ، وله وجه جميل حسن مشرب بحمرة ظاهرة ، وإذا استمع وتواجد وغلب عليه الحال يزداد وجهه جمالا ونورا ، ويتحدر العرق من سائر وجهه حتى يسيل من تحت قدميه على الأرض ، وكان عليه نور وخفر ، وكان إذا حضر فى مجلس يظهر على ذلك المجلس سكون وسكينة ، وكان يحضر مجلسه جماعة من المشايخ والفقراء وأكابر الدولة وسائر الناس وهم فى غاية ما يكون من الأدب معه ، والاتضاع له ، وإذا مشى فى المدينة يزدحم الناس عليه ، ويلتمسون منه البركة والدعاء ، ويقصدون تقبيل يده فلا يمكّن أحدا من ذلك ، بل يصافحهم .. وكانت ثيابه حسنة ، ورائحته طيبة ، وكان ينفق على من يرد عليه نفقة متسعة ، ويعطى من يده عطاء جزيلا ، ولم يكن يتسبب فى تحصيل شىء من الدنيا ، ولا يقبل من أحد شيئا. وبعث إليه السلطان الملك الكامل ألف دينار فردّها إليه ، وسأله الملك الكامل أن يجهز له ضريحا عند قبر أمه فى قبة الإمام الشافعى ، فلم يأذن له بذلك ، ثم استأذنه أن يجهز له مكانا يكون مزارا يعرف به فلم يمكّن له فى ذلك.

قال ابن الفارض : كنت فى أول تجريدى أستأذن والدى وأطلع إلى وادى المستضعفين بالجبل الثانى وآوى فيه ، وأقيم فى هذه السياحة مدة ليال والها ، ثم أعود إلى والدى لأجل بركته ومراعاة قلبه ، وكان والدى يومئذ خليفة الحكم العزيز بالقاهرة ومصر ، وكان من أكابر أهل العلم والعمل ، فيجد سرورا برجوعى إليه ، ويلزمنى بالجلوس فى مجالس الحكم ، ثم أشتاق إلى التجريد ، فأستأذنه وأعود إلى السياحة ، وما برحت أفعل ذلك مدّة إلى أن سئل والدى أن يكون قاضى القضاة ، فامتنع ونزل عن الحكم واعتزل الناس ، وانقطع إلى الله تعالى فى الجامع الأزهر ، إلى أن توفى ، فعدت إلى التجريد والسياحة وسلوك طريقة الحقيقة ، فلم يفتح علىّ بشىء ، فحضرت من السياحة يوما إلى المدرسة السيوفية ، فوجدت شيخا بقالا على باب المدرسة يتوضأ وضوءا غير مرتب ، يغسل يديه ثم يغسل رجليه ، ثم يمسح برأسه ، ثم يغسل وجهه .. فقلت : يا شيخ ، أنت فى هذه السن فى دار الإسلام ، على باب المدرسة بين الفقهاء ، وأنت تتوضأ وضوءا خارجا عن ترتيب الشرع .. فنظر إلىّ وقال : يا عمر ، أنت ما يفتح عليك بمصر ، وإنما يفتح عليك بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ فاقصدها ، فقد آن لك وقت الفتح .. فعلمت أن الرجل من أولياء الله تعالى ، وأنه يتستر بالمعيشة وإظهار الجهل ، فجلست بين يديه وقلت : يا سيدى : أين أنا وأين مكة؟ ولا أجد ركبا ولا رفيقا فى غير أشهر الحج؟ فنظر إلىّ وأشار بيده وقال : هذه مكة أمامك. فنظرت مكة

٥٤٦

صالحا ، كثير الخير على قدم (١) التجريد ، جاور بمكة زمانا فأحسن المجاورة.

وكان حسن العشرة ، محمود الصّحبة ، ولد سنة ٥٧٦ ه‍ (٢) بالقاهرة ، وتوفى بها سنة ٦٣٢ فى ثانى جمادى الأولى (٣) بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر.

وكان (٤) أبو الحسن يقول :

لم يبق صيب مزنة إلّا وقد

وجبت عليه زيارة ابن الفارض

لا غرو أن يسقى ثراه وقبره

باق ليوم العرض تحت العارض

وقال سبط ابن الفارض ـ ابن بنته الشيخ على (٥) :

جز بالقرافة تحت ذيل العارض

وقل السّلام عليك يا بن الفارض

أبرزت فى نظم السّلوك عجائبا

وكشفت عن سرّ مصون غامض

وشربت من بحر المحبّة والولا

فرويت من بحر محيط فائض

__________________

شرفها الله تعالى ـ فتركته وطلبتها ، فلم تبرح أمامى حتى دخلتها فى ذلك الوقت ، وجاءنى الفتح حين دخلتها.

وتوفى رضى الله عنه بالقاهرة بالجامع الأزهر ـ بقاعة الخطابة ، وذلك فى جمادى الأولى سنة ٦٣٢ ه‍ ودفن بالقرافة بسفح المقطم عند مجرى السيل تحت المسجد المبارك المعروف بالعارض وقد دفن تحت رجلى شيخه أبى الحسن البقال. وعمر بن الفارض كان معاصرا للموفق بن عثمان مؤلف مرشد الزوار غير أن الأخير توفى قبله ، وما هنا كتب عنه بعد وفاة المؤلف.

[انظر الكواكب السيارة ص ٢٩٧ ـ ٣٠٠ وتحفة الأحباب ص ٤٢١ وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٥٥ و ٥٦ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٤٥٤ ، والنجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، ومعجم المؤلفين ج ٧ ص ٣٠١ ، ٣٠٢ ، ومفتاح السعادة لطاش كبرى زادة ج ١ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ ، وشذرات الذهب ج ٥ ص ١٤٩ ـ ١٥٣ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥١٨].

(١) فى «م» : «قد» تحريف.

(٢) وقيل : سنة ٥٧٧. انظر تحفة الأحباب ص ٤٢٤.

(٣) فى «م» : «جماد الأول».

(٤) فى «م» : «وقال» مكان «وكان». وأبو الحسن هو أبو الحسن الجزار.

(٥) فى «م» : «وله آخر» ، وما أثبتناه هنا عن ديوان ابن الفارض ص ٢٥.

٥٤٧

وقال ابن الفارض سيد شعراء عصره ، وشعره صنع ظريف إلى الغاية العظمى ، أكثر فيه من الجناس ، فقلّ من يحسن قراءته وفهمه ، كقوله (١) :

لو ترى أين خميلات قبا

وتراءين جميلات القبى (٢)

كنت لا كنت بهم ، صبّا يرى

مرّ ما لاقيته فيهم حلى (٣)

وسمع بالقاهرة من بهاء الدين بن عساكر قليلا. قال الشيخ شمس الدين ابن خلّكان : أنشدنا غير واحد أنه قال عند موته لما انكشف الغطاء له قال :

إن كان منزلتى فى الحبّ عندكم

ما قد رأيت ، فقد ضيّعت أيّامى

أمنية وقفت روحى بها زمنا

واليوم أحسبها أضغاث أحلام (٤)

وكان يقول : عملت (٥) فى النوم بيتين وهما :

وحياة أشواقى إلي

ك وتربة الصّبر الجميل (٦)

لا أبصرت روحى سوا

ك ، ولا أنست إلى خليل (٧)

__________________

(١) البيتان من قصيدة طويلة عدد أبياتها ١٥١ بيتا ، وأولها :

سائق الأظعان يطوى البيد طى

منعما ، عرّج على كثبان طى

[انظر الديوان ص ٤٥ ـ ٦٢ بتحقيق د. عبد الخالق محمود ط دار المعارف]

(٢) خميلات : جمع خميلة ، وهى المنهبط من الأرض مكرمة للنبات ، أو رملة تنبت الشجر الكثيف الملتف ، أو الموضع الكثير الشجر. وقبا : بئر عرفت بها قرية قباء وهى قرية على بعد ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة. وقبى : أصله قباء فصغّر.

(٣) صبّا : مشتاقا.

(٤) فى الديوان : «ظفرت» مكان «وقفت». والبيتان من قصيدة مكونة من ٢٥ بيتا ، أولها :

نشرت فى موكب العشاق أعلامى

وكان قبلى بلى فى الحبّ أعلامى

[انظر المرجع السابق ص ٢٤٠ و ٢٤١].

(٥) فى «م» : «علمت» مكان «علمت» وما أثبتناه عن الديوان ص ٢٢٣ و ٢٢٤ ، وهذان البيتان مما رواه عنه الشيخ الإمام زكى الدين عبد العظيم المنذرى المحدث بالقاهرة.

(٦) فى الديوان : «وحرمة الصبر الجميل».

(٧) فى الديوان : «ما استحسنت عينى سواك».

٥٤٨

وقال بعض أصحابه : ترنّم الشيخ يوما ببيت للحريرى فى خلوته :

من ذا الّذى ما ساء قطّ؟

ومن له الحسنى فقط؟

فسمع قائلا يسمع صوته ولا يرى شخصه يقول :

محمّد الهادى الّذى

عليه جبريل هبط (١)

ولمّا [حج](٢) اجتمع بالشيخ العارف السّهروردىّ فى مكة (٣).

__________________

(١) فى الديوان : قال ولده ـ ولد ابن الفارض ـ سمعت الشيخ ـ يعنى أبيه ـ رضى الله عنه يقول : حصلت منى هفوة ، فوجدت مؤاخذة شديدة فى باطنى بسببها ، وانحصرت باطنا وظاهرا حتى كادت روحى تخرج من جسدى ، فخرجت هائما كالهارب من ذنب عظيم فعله وهو مطلوب به ، فطلعت الجبل المقطم ، وقصدت مواطن سياحتى وأنا أبكى وأستغيث وأستغفر ، فلم ينفرج مابى ، فنزلت إلى القرافة ومرغت وجهى فى التراب بين القبور ، فلم ينفرج مابى ، فقصدت جامع عمرو بن العاص ووقفت فى صحن الجامع خائفا مذعورا ، وجددت البكاء والتضرع والاستغفار ، فلم ينفرج مابى ، فغلب علىّ حال مزعج لم أجد مثله قط قبل ذلك ، فصرخت وقلت ... وذكر البيتين.

[انظر المصدر السابق ص ٣٢].

(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٣) خلط الناسخ هنا وأتى بكلام مبتور وغير تام المعنى .. وقصة اجتماع السهروردى بابن الفارض كما ذكرتها المصادر ، أنه لما حج الشيخ شهاب الدين السهروردى ، شيخ الصوفية ، وكان آخر حجه فى سنة ثمان وعشرين وستمائة ، وكانت وقفة الجمعة ، وحج معه خلق كثير من أهل العراق ، ورأى كثرة ازدحام الناس عليه فى الطواف بالبيت ، والوقوف بعرفة ، واقتدائهم بأقواله وأفعاله ، وبلغه أن الشيخ رضى الله عنه فى الحرم ، فاشتاق إلى رؤيته وبكى ، وقال فى سرّه : يا ترى هل أنا عند الله كما يظن هؤلاء القوم فىّ؟ ويا ترى هل ذكرت فى حضرة الحبيب فى هذا اليوم؟ فظهر له الشيخ رضى الله عنه وقال له : يا سهروردى :

لك البشارة فاخلع ما عليك فقد

ذكرت ثم على ما فيك من عوج

فصرخ الشيخ شهاب الدين وخلع كلّ ما كان عليه ، وخلع المشايخ والفقراء والحاضرون كل ما كان عليهم. وطلب الشيخ فلم يجده فقال : هذا إخبار من كان فى الحضرة ، ثم اجتمعا بعد ذلك اليوم فى الحرم الشريف واعتنقا ، وتحدّثا سرّا زمانا طويلا.

[انظر المصدر السابق ص ٣٦ و ٣٧ ، وانظر ابن الفارض ـ سلسلة أعلام العرب ص ٦٨ و ٧٠].

٥٤٩

وسمع ابن الفارض قصّارا (١) يقصر مقطعا ويقول فيه :

قطّع قلبى هذا المقطع

قال ما يصفو أو يتقطّع (٢)

فصرخ وبكى وناح ـ رحمه الله تعالى.

وحكى عنه بعضهم أشياء كثيرة ، وقال بعضهم : لمّا مات شعر فقال :

مدفون فى سفح المقطّم يافتى

ما زال يعرف قبر ابن الفارض

من مات بالخطّات كان مقامه

فى جنّة الفردوس تحت العارض (٣)

* * *

قبر بنان بن محمد الحمّال الواسطى (٤) :

ثم تمضى إلى تربة الشيخ الصالح أبى الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الحمّال (٥) ، رحمه الله ، واسطى الأصل نشأ ببغداد ، وسمع بها الحديث (٦) ، ثم خرج إلى ديار مصر وأقام بها ومات فيها ، وهو من جملة المشايخ المذكورين فى الرسالة (٧). صحب الجنيد وغيره ، وكان أستاذ النورى (٨) ،

__________________

(١) القصّار : المبيض للثياب ، وكان يهيّى النسيج بعد نسجه ببلّه ودقّه بالقصرة.

(٢) هكذا فى ديوان ابن الفارض .. وفى «م» وردت الشطرة الأولى هكذا : «ما حيلتى فى ذا المقطع». [انظر المصدر المذكور ص ٣٨ ط دار المعارف].

(٣) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٤) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى طبقات الصوفية ص ٢٩١ ، وحلية الأولياء ج ١٠ ص ٣٢٤ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥١٢ ، وسير أعلام النبلاء ج ١٤ ص ٤٨٨ ، وتاريخ بغداد ج ٧ ص ١٠٠ ، والكواكب السيارة ص ٢٩٠ ـ ٢٩٢].

(٥) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «بنان بن أحمد بن أحمد بن سعيد الحمّال».

(٦) هنا فى «ص» : «سكن مصر وأقام بها» وستأتى.

(٧) أى : الرسالة القشيرية [انظر ص ١٧٣ منها] وهذه الجملة لم ترد فى «ص».

(٨) فى «م» : «وهو أستاذ الثورى» والأخيرة تحريف. والنورى هو : أبو الحسين النورى.

[انظر ترجمته فى طبقات الصوفية ص ٢٩١].

٥٥٠

ويكنى بأبى الحسن ، مات سنة ٣١٦ ه‍ (١). وقبره مشهور بسفح المقطم مما يلى محمود (٢).

وكان يدخل على الأمراء ويأمرهم بالمعروف ، وله مع «تكين» مقامات ، وكان ذا منزلة عند الخاص والعام ، يضربون بعبادته (٣) المثل ، وكان لا يقبل من السّلاطين شيئا.

سئل عن أجلّ أحوال الصوفية ، فقال : «الثقة بالمضمون ، والقيام بالأوامر ، ومراعاة السّرّ ، والتّخلّى عن الكونين بالتّشبّث بالحق» (٤).

وقال : «رؤية الأسباب على الدوام قاطعة عن مشاهدة المسبّب.

والإعراض عن الأسباب جملة يؤدى بصاحبه إلى ركوب البواطل» (٥).

وتكلّم يوما بكلام عجيب فى المحبّة (٦) وقال : «من كان يسرّه ما يضرّه متى يفلح؟» (٧).

ومن كلامه : «الحرّ عبد ما طمع ، والعبد حرّ ما قنع».

وقال : «البرىء جرىء ، والخائن خائف ، ومن أساء استوحش».

__________________

(١) فى «م» و «ص» : «مات سنة ٣١٠». وما أثبتناه ذكرته المراجع السابقة جميعها.

(٢) فى الكواكب السيارة : «عدّه القضاعى من مدافن محمود» وليس فى قبره اختلاف.

(٣) فى «م» : «بعباده» تحريف.

(٤) قوله : «والتخلى عن الكونين بالتشبث بالحق» عن طبقات الصوفية .. وفى «ص» والكواكب السيارة : «والتخلى عن الكونين بالمسبّب» وكلاهما بمعنى واحد.

(٥) فى «م» : «إلى ركوبه فى البواطل» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٦) فى هذا الموضع أقحم الناسخ جملة : «ثم أنشده على أثره» وستأتى بعد ذلك .. ولم يرد هذا فى «ص».

(٧) فى «م» : «من يفلح من كان سره لا يضره» تحريف من الناسخ والتصويب من المصادر التى ترجمت له.

٥٥١

وقال : «ليس بمتحقق فى الحبّ من راقب أوقاته ، أو تحقّق (١) فى كتمان حبّه حتى يتهتّك (٢) فيه ويفتضح ويخلع العذار (٣) ، ولا يبالى عمّا يرد عليه من محبوبه (٤) أو بسببه ، ويتلذّذ بالبلاء (٥) فى الحب كما يتلذّذ الأغيار (٦) بأسباب النعم». ثم أنشد على إثره (٧) :

لحانى العاذلون فقلت : مهلا

فإنّى لا أرى فى الحبّ عارا (٨)

وقالوا : قد خلعت. فقلت : لسنا

بأوّل خالع خلع العذارا

وروى أنّه ألقى بين يدى السّبع ، فكان يشمّه ولا يضرّه (٩). وسبب ذلك أنّ «خمارويه» بن أحمد بن طولون كان قد اتّخذ له وزيرا نصرانيّا ، وكان قد نصح فى خدمته ، وبالغ فى جمع (١٠) الأموال وتحصيلها ، فأكرمه «خمارويه» على ذلك وزاد فى إكرامه ، وخلع عليه فى بعض الأيام خلعة جميلة ، وحمله على فرس عظيم جميل ، وأمر أرباب الدولة بتحميله والمضّى فى صحبته إلى داره ، فركب بتحميل زائد ، فلما مرّ على باب دار «بنان» ـ وكانت فى ناحية الصفا ـ سمع بنان الضوضاء ، فقال : ما هذا؟ فأخبر بالخبر ، فقام مسرعا إلى باب داره ، فلما رأى النصرانىّ قال : أعوذ بالله ، يحمل كافر بالله تعالى على رءوس المسلمين فى هذا الزّىّ والتعظيم؟! وتقدم إلى النصرانىّ وقال : انزل يا عدوّ الله وعدوّ الإسلام!.

__________________

(١) فى طبقات الصوفية : «أو تحمّل» .. وفى الكواكب السيارة : «أو بمحقق».

(٢) فى المصدر السابق : «ينهتك».

(٣) فى «ص» : «الزار» تحريف. والعذار : اللّوم.

(٤) فى المصدر السابق : «من جهة محبوبه».

(٥) فى «م» و «ص» : «بالنعما» مكان «بالبلاء» وما أثبتناه عن طبقات الصوفية ص ٢٩٤.

(٦) فى «م» : «الأغنياء» مكان «الأغيار» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٧) فى «م» : «ثم أنشد وقال».

(٨) لحانى العاذلون : لامنى اللائمون.

(٩) إلى هنا ينتهى ما ورد فى «ص» عن «بنان» وما بعد ذلك إلى قوله : «سؤر السباع» عن «م».

(١٠) فى «م» : «جميع» تحريف.

٥٥٢

فترجّل وقال : يا سيدى ، ما عن اختيارى ركبت ، ولكن أمرنى الأمير بذلك.

ثم مضى راجلا وتفرّق موكبه ، وبلغ «خمارويه» ذلك ، فاستشاط غضبا وقال : علىّ ببنان ... فأحضر ، وقد جلس «خمارويه» فى منظرة مشرفة على قاعة ، وأرسل فيها سبعا عظيما كبيرا ، فأدخل بنان على السّبع ، ثم قال له «خمارويه» : يا بنان ، ما حملك على أن فعلت بوزيرى ما فعلت؟!

قال : أنت حملتنى على ذلك إذ كظمت من أمر الله تعالى بإذلاله وتحقيره.

فقال ـ وقد ألقى الله هيبته فى قلبه : يا شيخ ، لاتعد .. فقال (١) : «إن عدتم عدنا».

وأقبل السبع إلى «بنان» فجعل يدور حوله ويبصبص (٢) له ويلحسه بلسانه ، وينحّيه «بنان» عنه بكمّ جبّته ، يراعى الخروج عن اختلاف العلماء فى طهارة لعابه ونجاسته ... فقال له خمارويه لمّا شاهد ذلك منه : ألك حاجة؟ قال : نعم .. ألّا تبعث إلىّ حتى آتيك!

ثم خرج ـ رحمه الله ـ فقيل له : كنّا نراك حين ألقيت إلى السبع متفكرا .. فى أىّ شىء كنت تفكّر؟ قال : كنت أفكّر (٣) فى اختلاف العلماء فى سؤر السّباع (٤)!!

__________________

(١) فى «م» : «فقال يا شيخ».

(٢) يبصبص : يحرك ذيله طمعا أو ملقا.

(٣) فى «م» : «متفكرا».

(٤) السؤر : بقية الشيء ، والمراد هنا لعاب السبع. وإلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

٥٥٣

وروى أنّ قاضى مصر سعى به إلى أن ضرب سبع درر (١) ، فدعا عليه ، فحبس سبع سنين.

وقال : كنت فى طريق مكة ومعى زاد (٢) ، فجاءتنى امرأة فقالت لى : يا بنان ، أنت حمّال تحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك؟! قال : فرميت زادى ، وأقمت ثلاثة أيام بمكة لم آكل شيئا (٣) ، فوجدت فى الطريق خلخالا ، فقلت فى نفسى : [أحمله](٤) حتى يجيء صاحبه لعلّه أن يطعمنى شيئا. فإذا أنا (٥) بتلك المرأة وهى تقول : أنت تقول : أحمله حتى يطعمنى صاحبه (٦)؟! ثم إنّها رمت لى بشىء من الدراهم وقالت : أنفقها. فاكتفيت بها (٧) إلى مصر.

وقال : بينما أنا أسير فى طريق مكة إذا بشخص قد تراءى لى ، فأمّمت نحوه (٨) ، فلما قربت منه سلّمت عليه ، وقلت له : أوصنى!. فقال : «يا بنان ، إن كان الله تعالى أعطاك من سرّ سرّه سرّا فكن مع ما أعطاك .. وإن كان الله تعالى لم يعطك من سرّ سرّه سرّا فكن مع الناس على ما هم عليه (٩) من الظاهر».

__________________

(١) فى «م» : «دروب» تحريف. والدّرر : جمع درّة ، وهى السوط يضرب به. وفى تاريخ بغداد : فدعا عليه أن يحبسه الله بكل درّة سنة ، فحبسه ابن طولون سبع سنين. [انظر تاريخ بغداد ج ٧ ص ١٠٠ ، وسير أعلام النبلاء ج ١٤ ص ٤٨٨ ، وطبقات الأولياء ص ١٢٤].

(٢) فى «م» : «وليس معى زاد». والقصة غير مكتملة فى «ص». ووردت فى شذرات الذهب ج ٢ ص ٢٧٣ ، وفيها لقّب بالحمّال لأنّه خرج إلى الحج سنة وحمل على رقبته زاده ... إلخ.

(٣) فى «م» : «ثم أتى إلىّ ثلاثة أيام لم آكل».

(٤) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٥) «أنا» عن «ص».

(٦) فى «ص» : «ما تحمله حتى يعطينى صاحبه شيئا؟».

(٧) فى «م» و «ص» : «أنفقهم ، فاكتفيت بهم».

(٨) هكذا فى طبقات الأولياء .. وفى «م» : «إلى نحوه» ولم ترد هذه الحكاية فى «ص». وأمّ الشيء : قصده.

(٩) فى «م» : «مع ما هم عليه».

٥٥٤

وقال : دخلت البرّيّة على طريق تبوك وحدى ، فاستوحشت ، فإذا هاتف يهتف (١) : «يا بنان ، نقضت العهد! لم تستوحش؟! أليس حبيبك معك؟!» (٢).

وروى أنه احتاج إلى جارية تخدمه ، فانبسط إلى إخوانه والتمس جارية ، فجمعوا له ثمنها وقالوا : إذا جاء النفر بشىء نشترى له جارية توافقه (٣). فلما جاء النفر أجمعوا رأيهم على جارية وقالوا إنها تصلح له (٤) فقالوا لصاحبها : بكم هذه الجارية؟ [فقال : إنها ليست للبيع ، فألحّوا عليه](٥) فقال : إنّها لبنان العابد أهدتها له امرأة من سمرقند ، فحملوها لبنان وذكروا له القصة.

وقال : كنت فى بعض الأوقات فلحقتنى (٦) ضرورة ، فرأيت قطعة من ذهب مطروحة فى الطريق ، فأردت أخذها وقلت : لقطة ، فتركتها ، ثم ذكرت الحديث الذي ورد عن (٧) النبي صلّى الله عليه وسلم : «لو كانت الدنيا دما غبيطا لكان للمؤمن قوته (٨) منها». فأخذتها وجعلتها فى فمى ، ومشيت غير بعيد ، فإذا حلقة فيها صبيان ، وواحد منهم (٩) على شىء مرتفع يتكلم عليهم فى التصوف ، فوقفت أسمع كلامهم ، فقال واحد منهم للمتصدّر (١٠) : تقول متى يجد العبد

__________________

(١) فى «م» : «فهتف بى هاتف».

(٢) فى «م» : «أليس الله حبيبك معك؟».

(٣) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «إذا جاء النفر نشترى له ما يوافق».

(٤) فى «م» : «فلما جاء النفر توجهوا فنظروا جارية ، وأجمعوا رأيهم على شرائها ، وقالوا : إنها تصلح له».

(٥) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٦) فى «ص» : «لحقنى».

(٧) فى «م» : «على» تحريف.

(٨) فى «م» : «قوة» .. ومعنى غبيطا : يغطى الأرض ، وهو كناية عن السعة وكثرة النعم. والحديث لم أقف عليه فى كتب الحديث الستة.

(٩) فى «م» : «فيهم».

(١٠) قوله : «للمتصدر» عن «م».

٥٥٥

حلاوة الصّدق؟ فقال : إذا رمى القطعة من الشّدق! قال : فأخرجتها ورميتها (١) من فمى.

وقال مسروق (٢) : أنشدنى بنان عند المسجد الحرام :

من دعانا فأبينا

فله الفضل علينا (٣)

فإذا نحن أجبنا

رجع الفضل إلينا (٤)

وروى عن يونس بن عبد الأعلى ، قال بسنده عن أنس بن مالك ، رضى الله عنه ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «لا يزداد الأمر إلّا شدّة ، والدّنيا إلّا إدبارا ، والناس إلّا شحّا ، ولا مهدىّ إلّا عيسى بن مريم ، ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس».

ومما نقل عنه أنه قال : «إنّ الله عزّ وجلّ خلق سبع سماوات ، فى كل سماء له خلق وجنود ، وكلّ له مطيعون (٥) ، وطاعتهم على سبع مقامات (٦) : فطاعة أهل السّماء الدّنيا على الخوف والرجاء.

وطاعة أهل السّماء الثانية على الحبّ والحزن (٧).

__________________

(١) فى «م» : «فرميتها».

(٢) فى طبقات الأولياء : أحمد بن مسروق.

(٣) الشطرة الثانية من البيت فى «م» : «كان له الفضل علينا» ، لا تصح وزنا ، وما أثبتناه عن «ص» والمصادر السابقة.

(٤) فى «م» : «أتينا» مكان «أجبنا» .. وفى «ص» : «رجعنا» وما أثبتناه عن المصادر السابقة.

(٥) فى «م» : «فى كل سماء طوائف كثيرة من الملائكة ، وكلهم طائعون». [وانظر طبقات الصوفية ص ٢٩٣].

(٦) هكذا فى «م» والمصدر السابق ، والمقام هنا بمعنى الطاعة ، ولذا ذكّر العدد «سبع» ، ولم يقل «سبعة مقامات».

(٧) هذان السطران سقطا من «م» سهوا من الناسخ ، وأيضا السطران اللذان بعد هذا. [وانظر المصدر السابق].

٥٥٦

وطاعة أهل السّماء الثالثة على المنّة والحياء.

وطاعة أهل السّماء الرابعة على الشّوق والهيبة.

وطاعة أهل السّماء الخامسة على المناجاة والإجلال.

وطاعة أهل السّماء السّادسة على الإنابة والتعظيم.

وطاعة أهل السّماء السّابعة على المنّة والقربة.

وقال : «إن أفردته بالرّبوبيّة أفردك (١) بالعناية ، والأمر بيدك : إن نصحت صافوك ، وإن خلطت جافوك» (٢).

قيل : جاء رجل إلى بنان يشكو إليه وجعا فى جوفه (٣) ، فقال له : قم فخذ من تراب القبلة فاستفّ منه قليلا تهدأ ، [ففعل ، وحصل له الشفاء](٤). ثم جاء مرّة أخرى وقال : يا سيدى ، أشكو لك من المرض عاد إليّ ، وكنت دعوت لى فشفيت (٥)! فقال : أنا دعوت لك؟ هذا التراب بين يديك!

وقيل : إن «تكين» أمير مصر أمر بحمل «بنان» إلى عامل (٦) الإسكندرية ليحمله فى المراكب إلى «أقريطش» (٧) ، [فأتى بصاحب البغال ليأتى ببغل يحمل عليه «بنان» إلى الإسكندرية ، فدخل إلى صاحب البغال (٨) ،

__________________

(١) فى «م» : «فأفرد» ، تحريف من الناسخ ، والتصويب من المصدر السابق.

(٢) «جافوك» عن المصدر السابق وسقطت من «م» سهوا من الناسخ. ولم يرد هذا فى «ص».

(٣) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «وجعا فى فؤاده».

(٤) ما بين المعقوفتين عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٥) فى «ص» : «فجاء وقت آخر فقال : يا سيدى ، ودعوت لى فهديت ..».

(٦) فى «م» : «حامل» تحريف. والمراد : حاكم الإسكندرية.

(٧) أقريطش ـ بفتح الهمزة وكسرها والقاف ساكنة ، اسم جزيرة فى البحر المتوسط ورد ذكرها فى معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٦ قال : جزيرة فى بحر المغرب يقابلها من برّ إفريقية ولوبيا» وهى جزيرة كبيرة فيها مدن وقرى ، وينسب إليها جماعة من العلماء. وهى الآن تعرف بجزيرة «كريت».

(٨) فى «م» : «حامل البغال».

٥٥٧

فلم يقدر أن يخرج منها بغلا ، حتى جاء إلى البغل الذي نفى عليه «الدينورى» فخرج معه ، فأركب عليه «بنان» (١)].

فاغتمّ من حضر من الناس ذلك المجلس. وكان فى الميناء (٢) سبع مراكب قد شحنت (٣) وهى تنتظر الريح ، فطلبوا رؤساء المراكب لحمله ، فقال كل واحد : والله لو ضرب عنقى ما حملته ، إلّا واحدا منهم ، قال : أنا أحمله.

فوجم الناس لذلك وأخذتهم كآبة عظيمة (٤). فرآهم «بنان» منكسرين فقال : قد وعدنى صاحب الريح ألّا تجرى فى هذه السنة جارية (٥)!

[قال : فو الله لقد أقامت المراكب إلى أن جاء الشتاء وحمل ما فيها وردّ إلى المخازن بالإسكندرية ، وما جرت فى تلك السّنة جارية](٦).

قال : ولمّا ولى مصر «النّوشرى» بدأ «بنان» يكثر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فقيل للنّوشرى : إنّ هذا لم يكن يجترئ أن يفعل ذلك (٧) فى الأيام الطولونية. فأرسل وقال له : لم فعلت هذا فى أيامنا ولم تفعله فى غير أيامنا (٨)؟ فقال «بنان» : فهل ترى لهم من باقية؟ فقال : اذهب وأمر بالمعروف وأنه (٩) عن المنكر وأنا من ورائك.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٢) فى «م» : «وكانت الميناء» وسقط حرف الجر «فى» منها.

(٣) فى «م» و «ص» : «أشحنت» لا تؤدى المعنى المراد.

(٤) فى «ص» : «فطلبوا ريسا من رؤسائها ليحمله ، فقال والله لو ضربت عنقى ما حملته ، فوجه خلف جماعتهم ، فقالوا مثل مقالته ، إلّا واحدا منهم ، فقال : أنا أحمله ، فوجم الناس وأخرسهم».

(٥) الجارية : السفينة أو المركب ، وكل ما يجرى على صفحة الماء.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٧) فى «ص» : «يفعل مثل هذا» وفيها «النوشرى» بالتاء فى الموضعين والصواب بالنون ، وهو عيسى بن محمد النوشرى ، من ولاة الدولة العباسية ، ولاه المكتفى إمارة مصر سنة ٢٩٢ ه‍ فلم يزل فيها إلى أن توفى بها سنة ٢٩٧ ه‍.

(٨) فى «ص» : «فدعا به وقال : لم لم تفعل هذا فى غير أيامنا؟».

(٩) فى «م» : «وانهى» لا تصح ، والصواب ما أثبتناه.

٥٥٨

وحكى رجل متعبد قال : كنت فى يوم جمعة فى شهر رجب (١) فى جامع ابن طولون ، فإذا ببنان الزاهد فى يده (٢) عصا يحملها ويدور فى الجامع ، فقلت فى نفسى : الدوران (٣) بالعصا فى الجامع عبادة وزهد ، ثم جئت إلى الصّفّ الأول فوقفت أصلى ، وجلست أتلو القرآن ، وجاء «بنان» فجلس (٤) إلى جانبى ، فختمت ختمة ، ثم أذّن المؤذن ، ورقى الإمام المنبر ، فأحرمت (٥) بالصلاة ثم جلست ، فأخذنى النعاس ، [فرأيت](٦) قائلا يقول : مالك والاعتراض [على أولياء الله تعالى]؟ لدوران «بنان» فى المسجد أفضل من ختمتك (٧)! ففتحت عينى برعب ، ثم نزل الإمام ، فأقبلت عليه (٨) لأحدّثه ، فقال : اسكت ، واكتم (٩) ما رأيت!.

وقال (١٠) «بنان» : كنت قاعدا بمكة وبين يدى شابّ ، فجاء إنسان وحمل إليه كيسا فيه دراهم ووضعه بين يديه ، فقال : لا حاجة لى فيه ، فرّقه على المساكين ، ففعل ، فلما كان وقت العشاء رأيته يطلب لنفسه ، فقلت له : لم لم (١١) تترك لنفسك شيئا؟ فقال لى : لا أعلم أنى أعيش إلى هذا الوقت!

__________________

(١) فى «ص» : «وعن رجل كان يتعبد فى رجب فى جامع ابن طولون يوم الجمعة».

(٢) فى «م» : «يدها» تحريف.

(٣) فى «ص» : «الدوران أيضا».

(٤) فى «ص» : «فوقفت ، فجاء وجلس إلى جانبى».

(٥) فى «ص» : «فجلست» مكان «فأحرمت» لا تصح معنى ، وأحرم بالصلاة : دخل فيها.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م» فى الموضعين.

(٧) فى «م» : «لدوران «بنان» فى صحن الجامع خير من قراءتك هذه الختمة».

(٨) فى «ص» : «قال : فأقبلت عليه» أى : على «بنان».

(٩) فى «ص» : «واختم» تحريف.

(١٠) من هنا إلى قوله : «من أطاع الله أطاع له كلّ شىء» عن «م» وساقط من «ص».

(١١) فى «م» : «لم تترك» وسقطت «لم» النافية سهوا من الناسخ.

٥٥٩

وحكى «بنان» قال : كنت مجاورا بمكة ، ورأيت بها إبراهيم الخواص ، ولم يكن بينى وبينه أنس ولا مجالسة ، وكنت إذا رأيته أهابه ، ووقع أنى مكثت أياما لم يفتح لى بشىء ، وكان بمكة رجل يحب الفقراء ويحجمهم (١) من غير شىء ، وكان من أخلاقه أنه إذا جاءه الفقير للحجامة أرسل غلاما له يشترى [لحما](٢) ويطبخه ، فإذا فرغ من الحجامة قال له : بسم الله ، فيتقدم ذلك الفقير ، ويطعمه ذلك الطعام.

قال : فقصدته يوما وقلت : أريد أن أحتجم ، فأرسل الغلام على عادته فاشترى لحما وطبخه ، وجلست بين يديه ، فجعلت نفسى تقول لى : ترى هل يكون استواء اللحم عند فراغى من الحجامة؟ فقلت : يا نفس ، إنما جئت (٣) للحجامة لا للأكل ، ثم عاهدت الله سبحانه أنى إذا فرغت من الحجامة أن أذهب بغير أكل ، وألّا أذوق من طعامه شيئا. قال : فلما فرغت من الحجامة انصرفت ، فقال : يا سبحان الله! أما تعرف عادتى (٤)؟ فقلت : بلى (٥) ، غير أن هناك عهدا يعفينى (٦) من الأكل.

قال : ثم جئت إلى المسجد الحرام فلم أجد شيئا آكله ، فبقيت (٧) يومى ، فلما كان فى اليوم الثانى بقيت إلى آخر النهار لم يتيسر لى ما آكله ، فلما قمت لصلاة العصر سقطت (٨) وغشى علىّ من الجوع ، فاجتمع الناس حولى

__________________

(١) يحجمهم : يشرطهم بالمشرط لاستخراج الدم الفاسد.

(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى.

(٣) فى «م» : «جئتى» خطأ إملائى.

(٤) فى «م» : «أنت ما تعرف عادتى؟».

(٥) فى «م» : «نعم».

(٦) فى «م» : «عقد معنى» تحريف من الناسخ.

(٧) فى «م» : «فى بقيت» تحريف.

(٨) فى «م» : «سطت» تحريف.

٥٦٠