مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المؤلف (١)

الحمد لله الذي شرّف الجبل المقطّم بكل مسجد شريف معظّم ، وجعل فى سفحه غراس الجنّة ، وهو بهم مكرم (٢) .. نوره لا يخفى ، ومسكه لا يتكتّم (٣) ، فهو كبستان أزهاره تتبسّم (٤) ، ونسيمه يحيى القلوب حين يتنسّم (٥) ، بل كان سفحه سماء ، وقبوره نجوما (٦) بينهما بدور لا تتغيّم ، تزيد نورا (٧) بقراءة القرآن عندها ويرحم من يرحم (٨) ، فقبور الصّالحين خيّم (٩) ، خواصّ السلطان إليها يشتكى ويتظلّم ، فترى أرباب الحوائج يطوفون فى معسكر القبور على من له جاه (١٠) ومن بحرمه يتحرّم ، فيستغيثون عنده

__________________

(١) هذا العنوان من عندنا.

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «يكرم».

(٣) لا يتكتّم : لا يخفى ولا يستتر .. وفى «ص» : «لا يكتم».

(٤) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «تتنسّم» أى : تشمّ وتلتمس.

(٥) فى «ص» : «حين تتبسّم». وما أثبتناه عن «م» هو المناسب للسياق والمعنى.

(٦) فى «م» و «ص» : «نجوم» وما أثبتناه بالنصب عطفا على «سماء» الواقعة فى خبر «كان» ، والبدور : الأقمار.

(٧) تزيد نورا : أى القبور .. وفى «ص» : «يزيد نورا» أى : الجبل.

(٨) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «وترحم من يترحّم» .. وجاء فى «ص» بعد هذه العبارة : «... كأنها أصداف فيها جواهر ، رؤاهم علت كل قبر كزجاجة فيها مصباح ، إذا رآه العاصى بكى على ظلمة قبره بين القبور وتندم ...» وهو ساقط من «م».

(٩) خيّم : أى : مقامة ثابتة. يقال : خيّم بالمكان ، أى : أقام به وفيه ، أو ضرب خيمته فيه.

(١٠) أى : من له مكانة عند الله ـ عزّ وجلّ ـ من الصحابة ، والعلماء ، والأولياء ، والصالحين ، يتوسلون بهم إلى ربهم.

٣

أن يشفع ، وألسنة الأحوال تجيب وتتكلم ، فلا تنظر إلى شعث ظواهرها (١) ، فبواطنها روضات فيها أرواح الصالحين تتنعّم .. فسبحان من أوقف الملوك عندها تتشفع بها ، وجعلها ملاذ الخلق بما سبق لها وتقدّم (٢) .. إذا أجدبت الأرض خرج الخلائق يستسقون بها (٣) ، فإذا السماء تتغيّم ، والقطر ينزل ويتقسّم ..

وتفد إليها وتقصدها الوحوش ، فتعفر وجوهها فى ترابها .. فسبحان من ألهمها وعلّم .. وإذا ركن إلى جانبها (٤) عاص وهبه الحقّ لها ، وجاد عليه وتكرّم (٥).

هكذا هكذا .. وإلى تلالها (٦) أين من يتقدّم .. وغدا (٧) يركبون من قبورهم إلى قصورهم ، ويكشف لكل واحد منهم الحجاب ويكلّم .. فترى هذا وقد توّج ، وهذا قد زوّج ، وهذا قد أدناه ربه وعليه سلّم ، فقف (٨) على قبورهم بأدب وتحشّم .. وقل : يا أحياء ، ترحّموا على ميّت .. يا أغنياء ، جودوا على مفلس .. وابك على ضياع عمرك فى البطالة وتندّم ... وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم (٩).

وبعد ... فهذا الكتاب (١٠) قد ذكرت فيه فضل زيارة القبور وآدابها ، وذكرت فيه فضل الجبل المقطّم وأوديته ، وقبور الصالحين التى فى سفحه ـ رضى الله عنهم ـ وذكرت بعض فضائلهم التى تشوّق القلوب إلى زيارتهم (١١).

__________________

(١) شعث ظواهرها ، أى : متغيرة ، لا تسر الناظر إليها.

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «ممّا سبق لها وما تقدم».

(٣) يستسقون بها ، أى : يتوسّلون بأصحابها إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى طلب السّقيا ونزول الغيث.

(٤) فى «ص» : «وإذا دفن إلى جانبها».

(٥) فى «ص» : «وتكيّف».

(٦) هكذا فى «م» ، والتلال : جمع تلّ ، وهو ما ارتفع من الأرض عمّا حوله ، وهو دون الجبل .. وفى «ص» : «وإلّا فلالا» بالفاء ، والأخيرة تصحيف من الناسخ.

(٧) غدا : يريد يوم القيامة.

(٨) فى «م» و «ص» : «قف».

(٩) فى «ص» : «وآله وسلم».

(١٠) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فصل. هذا كتاب ذكرت فيه ...».

(١١) فى «ص» : «إلى رؤيتهم».

٤

فصل

فى ذكر الجبل (١)

هذا الجبل معروف بالمقطّم ، مأخوذ من القطم [وهو القطع](٢) ، وهو أنه لمّا كان منقطع الشجر والنبات سمّى بذلك مقطّما ، ذكر ذلك الهنائىّ وغيره .. وقيل (٣) : إنّ المقطم بن بيصر بن مصر بن حام بن نوح كان عبدا صالحا ، فتعبّد فى هذا الجبل فسمى باسمه ، ذكره أبو عبد الله اليمنى .. وقيل : لم يكن فى ولد نوح من اسمه «مقطم» .. والله أعلم.

وقد روى أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم فى كتاب «فتوح مصر» قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد (٤) ، رضى الله عنه ، أنّ المقوقس سأل عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار .. فعجب عمرو من ذلك ، وكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك وبصفة السفح وما هو عليه .. فكتب إليه عمر وقال : سله لم (٥) أعطاك [به ما أعطاك] وهو لا يزرع ولا يستنبط به ماء ـ أو قال : لا ينتفع به؟!

__________________

(١) جملة «فى ذكر الجبل» وردت فى «م» كعنوان جانبى منفصل عن المتن ، وحرف الجر «فى» زيادة من عندنا.

(٢) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٣) فى «م» : «قيل» بدون عطف.

(٤) من قوله : «وقد روى أبو القاسم ...» إلى هنا عن «م» .. وفى «ص» : «وقد روى الليث بن سعد». وهو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمى ، إمام أهل مصر فى عصره حديثا وفقها ، وكان كبير الديار المصرية ورئيسها ، وأمير من بها فى عصره. ولد فى قلقشندة ـ من قرى مصر ـ سنة ٩٤ ه‍ ، وتوفى فى القاهرة سنة ١٧٥ ه‍. قال الإمام الشافعى : «الليث أفقه من مالك ، إلّا أن أصحابه لم يقوموا به». وأخباره كثيرة.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٢٤٨ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ١٢٧ ـ ١٣٢ ، وتاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣ ـ ١٤ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٤٩ ، وحلية الأولياء ج ٧ ص ٣١٨ ـ ٣٢٧ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٢٨٥ ، ٢٨٦ وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠١ ، ٣٠٢ ، وفضائل مصر للكندى ص ٤٠ وصفحات أخرى ، وميزان الاعتدال ج ٣ ص ٤٢٣].

(٥) فى «م» : «لما» وحق الألف هنا الحذف. وما بين المعقوفتين ـ بعدها ـ

٥

فسأله ، فقال : إنّا لنجد هذه البقعة وصفتها فى الكتب ، وإنّ فيها غراس الجنة (١).

فكتب عمرو إلى أمير المؤمنين (٢). فكتب له عمر : «إنّا لا نعلم غراس الجنة إلّا للمؤمنين ، فاقبر بها من مات من قبلك من المسلمين ، ولا تبعه بشىء».

ففعل له ذلك ، فغضب المقوقس من ذلك ، فقطع له عمرو قطيعا نحو الحبش تدفن فيه النصارى ، وسبّلت (٣) هذه المقبرة للمسلمين ، كما برز أمر أمير المؤمنين ، فكان أوّل من دفن بها رجل من المعافر (٤) يقال له «عامر» ، فقيل : عمرت الجبّانة (٥). ووقفت ابنته على قبره تبكى ، فقيل فى ذلك :

قامت لتبكيه على قبره

من لى من بعدك يا عامر

تركتنى فى الدّار ذا غربة

قد خاب من ليس له ناصر

وروى أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس فى «تاريخ مصر» من حديث حرملة بن عمران ، قال : حدثنى عمير بن مدرك الخولانى (٦) : قال سفيان بن وهب الخولانى : كنا (٧) مع عمرو بن العاص فى سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس ، فقال له عمرو : يا مقوقس ، ما بال جبلك أقرع ، ليس عليه نبات ولا شجر ، على نحو من جبال الشام؟! فلو شققنا فى أسفله نهرا من النيل

__________________

عن «ص» ومعجم البلدان ، ولم يرد فى «م».

(١) هكذا فى «م» .. وفى* ص» : «إنّا لنجد صفتها فى الكتب أنّ فيها غراس الجنة».

(٢) فى «ص» : «فكتب بذلك إلى عمر رضى الله عنه».

(٣) سبّلت ، أى : جعلت فى سبيل الله. ومن قوله : «ففعل له ذلك» إلى قوله : «أمير المؤمنين» عن «م» وساقط من «ص».

(٤) المعافرة : بلد باليمن.

(٥) الجبّانة : المقبرة. وهى عن «م» ولم ترد فى «ص» وانظر ذكر مقابر مصر والقاهرة فى الخطط المقريزية ج ٢ ص ٤٤٢ وما بعدها.

(٦) من قوله : «روى أبو سعيد» إلى هنا عن «م» وساقط من «ص».

(٧) فى «ص» : «بينما نحن» مكان «كنّا».

٦

وغرسنا نخلا (١). فقال : ما أدرى ، ولكن الله تعالى أغنى أهله عن ذلك بهذا النيل (٢) ولكنّا نجد تحته ما هو خير من ذلك .. قال : وما هو؟ قال : يدفن (٣) تحته قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم .. فقال عمرو : اللهم اجعلنى منهم.

قال حرملة : فرأيت أنا قبر عمرو بن العاص ، وقبر أبى بصرة (٤) الغفارىّ ، وقبر عقبة بن عامر الجهنيّ ، رضى الله عنهم. وقطع عمرو للمقوقس الحدّ الذي كان بين المقبرة وبينهم.

وقد روى فى بعض الأخبار أنّ كعب الأحبار (٥) سأل رجلا يريد مصر ، فقال : أهد لى ترابا من سفح مقطّمها ، فإنّا نجد فى الكتب أن الله قدّسه من القصير إلى اليحموم (٦). فأتاه منه بجراب ، فلما حضرت كعب الأحبار الوفاة ، أمر به أن يفرش تحت جنبه فى قبره.

__________________

(١) قوله : «فلو شققنا فى أسفله نهرا من النيل وغرسنا نخلا» عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٢) قوله : «ما أدرى ، ولكن الله تعالى أغنى أهله عن ذلك بهذا النيل» عن «ص» ولم يرد فى «م».

(٣) فى «ص» : «ليدفننّ».

(٤) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وقبرا فيه أبو بصرة».

(٥) هو كعب بن ماتع الحميرى ، أبو إسحاق ، تابعىّ ، كان فى الجاهلية من كبار علماء اليهود فى اليمن ، وأسلم فى زمن أبى بكر ، وقدم المدينة فى عهد عمر ، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيرا من أخبار الأمم الغابرة ، وأخذ هو من الكتاب والسّنّة عن الصحابة ، وخرج إلى الشام ، فسكن «حمص» وتوفى بها سنة ٣٢ ه‍ عن مائة وأربع سنين.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٢٢٨ ، وحلية الأولياء ج ٥ ص ٣٦٤ ـ ٣٩١ وج ٦ ص ٣ ـ ٤٨ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٥٢ ، ٥٣].

(٦) اليحموم : الأسود المظلم ، وجمعه «يحاميم». وهى هنا الجبال المتفرقة المطلّة على القاهرة بمصر من جانبها الشرقيّ ، وبها جبّانة ، وتنتهى هذه الجبال إلى بعض طريق الجبّ ، وقيل لها «اليحاميم» لاختلاف ألوانها.

[انظر معجم البلدان ج ٥ ص ٤٣١].

٧

قال ابن لهيعة (١) : المقطم ما بين القصير إلى مقطع الحجارة ، وما بعد ذلك فاليحموم.

وفى بعض الكتب : يحشر من تحته ثمانون ألف لواء إلى الجنة بغير حساب.

وروى القضاعىّ (٢) : أنّ عيسى بن مريم عليه السلام ، مرّ على جبل مصر هو وأمّه ، وعليه جبّة من صوف ، فقال : يا أمّاه ، يدفن هنا من أمّة محمد (٣) صلى الله عليه وسلم.

وقد روى أنّ جبل مصر كان أكثر الجبال أشجارا ونبتا وفاكهة ، وكان ينزله المقطّم بن بيصر بن حام بن نوح ، فلما كانت الليلة التى كلّم الله موسى عليه السلام فيها ، أوحى الله إلى الجبال : أنّى مكلّم عليك نبيّا ـ أو قال : على جبل منكن نبيّا من أنبيائى ـ فسمت الجبال كلها ، إلّا جبل القدس (٤) ، فإنه هبط وتصاغر ، فأوحى الله إليه : لم فعلت ذلك؟ ـ وهو به أعلم ـ فقال :

__________________

(١) هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمى المصرى ، أبو عبد الرحمن ، قاضى الديار المصرية وعالمها ومحدّثها فى عصره ، وثّقه أحمد بن حنبل وغيره. ولد سنة ٩٧ ه‍ ، وتوفى سنة ١٧٤ ه‍ ، وقيل سنة ١٦٤ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٤ ص ١١٥ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٣٨ ، ٣٩ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٢٨٣ ، ٢٨٤ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠١ ، وفضائل مصر للكندى ص ٢٠ والولاة والقضاة ص ٣٦٨ ـ ٣٧٠ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٥٠٥ ، وميزان الاعتدال ج ٢ ص ٤٧٥ ـ ٤٨٣].

(٢) هو محمد بن سلامة بن جعفر القضاعى ، أبو عبد الله ، مورّخ ، ومفسّر ، ومن علماء الشافعية ، كان كاتبا للوزير الجرجرائى (على بن أحمد) بمصر فى أيام الفاطميين ، وتولى القضاء بالديار المصرية ، روى عنه الخطيب البغدادى ، وقال عنه ابن ماكولا : كان متفنّنا فى عدة علوم. وتوفى بمصر سنة ٤٥٤ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٦ ص ١٤٦ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ٢١٢ ، ٢١٣ ، وطبقات الشافعية للسبكى ج ٤ ص ١٥٠ ، ١٥١ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، وشذرات الذهب ج ٣ ص ٢٩٣].

(٣) فى «ص» : «يدفن هاهنا أمّة محمد».

(٤) فى «ص» : «أنى مكلّم نبيّا من أنبيائى على جبل منكم ، فسمت كلها إلّا الجبل المقدس». وسمت ، أى : تطاولت وارتفعت علوّا وطموحا. والجبل المقدس هو جبل الطور الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام.

٨

إجلالا لك يا رب .. فأمر الله الجبال أن يتحفه (١) كل جبل بشىء ممّا عليه من النبت .. وجاد له المقطم بكل ما عليه ، حتى بقى كما ترى (٢) ، فأوحى الله إليه : أنّى معوّضك (٣) بشجر الجنة ، أو غرس الجنة ، يعنى المؤمنين.

وفى التوراة مكتوب : إذا فتح وادى مقدسى (٤) ـ يريد وادى موسى ـ فالمقطم عند مقطع الحجارة .. وأن موسى ، عليه السلام ، كان يناجى ربه بذلك الوادى .. ذكر ذلك القضاعى.

وروى أنّ موسى سجد فسجد معه كل شجرة من المقطم إلى «طوى» (٥). ويروى أنّ «يهوذا» (٦) أقام فى ذروة هذا الجبل (٧) فى المحل المعروف الآن بمشهد إخوة يوسف ، عليه الصلاة والسلام .. وما زال هذا الجبل

__________________

(١) فى «ص» : «أن تحبوه» أى تعطيه وتمنحه. وتتحفه بمعناها أيضا ، يقال : أتحفه بكذا ، أى جاد عليه وأعطاه شيئا له قيمة.

(٢) قوله : «حتى بقى كما ترى» عن «م» وساقط من «ص».

(٣) فى «ص» : «إنى معوّضك على فعلك».

(٤) فى «م» : «وادى مقدس».

(٥) طوى : هو الوادى المقدس الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، وهو ينوّن ولا ينوّن.

(٦) قيل : هو أكبر إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ سنّا ، وأرشدهم رأيا ، وهو الذي حكى القرآن الكريم قصته بعد أن يئس إخوة يوسف من إقناع يوسف بإطلاق سراح «بنيامين» أخيهم أو أخذ أحدهم مكانه ـ قال تعالى فى سورة يوسف من الآية الثمانين : (قالَ كَبِيرُهُمْ : أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ، وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ، فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فأقام بأرض مصر فى الموضع المذكور هنا.

[انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ، المجلد الثانى ص ٣٣٦ ، ٣٣٧ ـ وتفسير حمزة وبرانق وعلوان ج ١٣ ص ٢٢].

(٧) إلى هنا ينتهى الفصل فى «ص» ، وما ورد بعد ذلك عن «م».

٩

العظيم ، والمقام الكريم منزلا لأولياء الله الكرام ، ومنتزها لأحبابه العظام (١).

__________________

(١) انظر مادة «المقطم» فى معجم البلدان ج ٥ ص ١٧٦ ، ١٧٧ ، وانظر فضائل مصر للكندى ـ فضائل مقبرة مصر ص ٦٣ ـ ٦٥ ، ط دار الفكر ـ بيروت ، وانظر الخطط المقريزية ، ذكر جبل المقطم ، ج ١ ص ١٢٣ ـ ١٢٥ ، وانظر حسن المحاضرة للسيوطى ج ١ ص ١٣٧ ـ ١٣٩ ، وانظر مساجد مصر وأولياؤها الصالحون لسعاد ماهر ج ١ ص ٤٨ ـ ٥٠ ، وانظر الكواكب السيارة لابن الزيات ص ١٢ ـ ١٥.

١٠

فصل

فى ذكر روّاد هذا الجبل وفضل القرافة (١)

قال ذو النون المصرى (٢) : وصف لى رجل بالجبل المقطم ، فقصدته ، فمكثت معه مدة تزيد على أربعين يوما (٣) ، ثم استخرت الله فى سؤاله ، فقلت له : فيم (٤) النجاة؟ قال : فى التقوى والمراقبة (٥). قلت : زدنى. قال : فرّ من الخلق ولا تأنس بهم (٦). قلت : زدنى. قال : إنّ لله عبادا خافوه ، فسقاهم كأسا من محبته ، فهم فى شربهم (٧) عطاش ، وفى عطشهم أروياء .. قلت : زدنى. قال : هم أقوياء فى توكّلهم (٨) .. ثم تركنى ومضى. قيل : إنما سمّيت هذه البقعة المباركة «القرافة» (٩) لأن من قصد إليها يلق رأفة (انتهى).

__________________

(١) هذا السطر من عندنا ولم يرد فى أىّ من المخطوطتين.

(٢) هو ثوبان بن إبراهيم الإخميمى المصرى ، أبو الفيض ، أحد الزّهّاد العبّاد المشهورين ، نوبىّ الأصل ، وأول من تكلّم بمصر فى «ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية» ، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم ... واتهمه لدى المتوكل العباسىّ بالزندقة ، فاستحضره إليه فلمّا دخل عليه وعظه ، فبكى المتوكل ، ثم أطلقه ، فعاد إلى مصر ، وبها توفى سنة ٢٤٥ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٢ ص ١٠٢ ، وطبقات الصوفية ص ١٥ ـ ٢٦ ، وحلية الأولياء ج ٩ ص ٣٣١ ـ ٣٩٥ ، وج ١٠ ص ٣ ، ٤ ، والطبقات الكبرى للشعرانى ج ١ ص ٧٠ ـ ٧٢ ، والرسالة القشيرية ج ١ ص ٥٨ ـ ٦١ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٨ ، وتاريخ بغداد ج ٨ ص ٣٩٣ ـ ٣٩٧ ، وسير أعلام النبلاء ج ١١ ص ٥٣٢ ـ ٥٣٦ ، وطبقات الأولياء ص ٢١٨ ـ ٢٢٧ ، وميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣٣ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ١٠٧ ، ١٠٨].

(٣) فى «ص» : «فمكثت معه أربعين يوما».

(٤) فى «ص» : «فيما» لا تصح.

(٥) فى «م» : «فى التقوى والقرافة» والأخيرة تحريف.

(٦) قوله : «.. فرّ من الخلق ولا تأنس بهم ..» عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٧) فى «م» : «شربه». والشّرب : كثرة الشّرب.

(٨) فى «ص» : «بتوكّلهم».

(٩) فى «ص» : «قيل : سمّيت القرافة ..».

١١

فصل

فى ذكر المقبور فيه من الصحابة (١)

إذا أردت أن تعرف شرف الأرض ، فانظر إلى المدفونين بها .. قال الله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)(٢).

قال الإمام الجليل العالم عبد الله بن وهب (٣) رضى الله عنه : قبر فى مقبرة المقطم ممّن عرف من أصحاب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، خمسة نفر : عمرو ابن العاص السّهميّ ، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدىّ ، وعبد الله بن حذافة السّهميّ ، وأبو بصرة الغفارىّ ، وعقبة بن عامر الجهنيّ ، رضى الله عنهم ، وحشرنا فى زمرتهم تحت لواء سيد المرسلين (٤).

وقد روى التّرمذىّ فى الحديث (٥) من طريق أبى طيبة ، عن عبد الله بن

__________________

(١) هذا العنوان لم يرد فى «ص» وورد فى «م» كعنوان جانبى.

(٢) فى «ص» : «منها خلقناكم وفيها نعيدكم» ولم يكمل الآية ، وهى من سورة طه ـ الآية ٥٥.

(٣) هو عبد الله بن وهب بن مسلم الفهرى ، ولد فى مصر سنة ١٢٥ ه‍ ، وهو من أصحاب الإمام مالك ، وكان يكتب إليه : «إلى عبد الله بن وهب فقيه مصر». ولم يكتب الإمام مالك لأحد بالفقيه إلّا له ولأبى محمد المفتى.

وقد جمع ابن وهب بين الفقه والحديث والعبادة ، وله كتب ، منها : الجامع فى الحديث ، والموطّأ فى الحديث. وعرض عليه القضاء فخبّأ نفسه ولزم منزله. وكانت وفاته بمصر سنة ١٩٧ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٤ ص ١٤٤ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠٢ ، ٣٠٣ ، وفضائل مصر للكندى ص ٤٠ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٦ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٣٦ ، ٣٧ وشذرات الذهب ج ١ ص ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، والعبر للذهبى ج ١ ص ٢٥١ ، ٢٥٢].

(٤) من قوله : «رضى الله عنهم» إلى هنا ، عن «م».

(٥) فى «ص» : «وقد روى فى الحديث». ولم يذكر رجال السند.

١٢

مسلم ، عن عبد الله بن بريدة (١) ، عن أبيه ، رفعه : أنّ رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، قال : «ما من أحد من أصحابى يموت بأرض إلّا بعث قائدهم (٢) يوم الجمع» ـ وفى رواية : يوم القيامة ـ وفى رواية : قائدا ونورا (٣).

ولله درّ من قال :

هنيئا لزوّار القرافة إنهم

يزورون أرضا قد أجلّت قبورها

قبور عليها هيبة وجلالة

إذا جبتها ليلا بدا لك نورها

سقى الله من ماء الجنان ترابها

ونجّى بها من جاء قصدا يزورها

وقال آخر (٤) :

يمّمه تحيا بالهدى معمورا

ترجع بأنواع العطا مغمورا

زر بالقرافة كلّ حيىّ مشرق

تشهد بحورا إذ تزر وقبورا

سفح المقطّم روضة إن لم تنل

ثمر المنى منها نشقت زهورا (٥)

هى ساحة حلّ الجلال بأرضها

وجمالها البادى تزايد نورا

__________________

(١) فى «م» : «بهدة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه ، وهو : عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمى المروزى .. من ثقات التابعين ، ولد لثلاث سنين خلون من خلافة عمر بن الخطاب ، وتوفى سن ١١٥ ه‍.

[انظر ترجمته فى ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣٩٦ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٠٢ ، وطبقات الحفاظ ص ٤٧ ، ورجال صحيح البخارى ج ١ ص ٣٩٧ ، ورجال صحيح مسلم ج ١ ص ٣٥٤].

(٢) فى «ص» : «قائدا لهم يوم القيامة».

(٣) من قوله : «وفى رواية» إلى هنا عن «م» وساقط من «ص».

ونصّ الحديث فى الترمذى : «ما من أحد من أصحابى يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» رواه الترمذىّ فى المناقب.

[انظر صحيح الترمذى ج ١٣ ص ١٤٥ بشرح ابن العربى].

(٤) من قوله : «وقال آخر» إلى نهاية «الشعر» عن «م» وساقط من «ص».

(٥) نشقت : شممت.

١٣

وقال آخر :

نور تلألأ بالقرافة إذ أضا

وسنا بها ، عمّ الرّحاب مع الفضا (١)

بشرى غراس جناب جنّات الرّضا

ممّن يجيء ، وسابق فيما مضى

بنجاته من حرّ نيران الغضا

ونعيم خلد لا يشاب بالانقضا (٢)

وقال آخر :

سفح تقدّس بالغراس فنوره

ملأ البطاح وما له من مشبه (٣)

فترى بريه ووارديه ومن به

كلّ الهناء ، وكل ما قد يشتهى (٤)

وقال آخر :

قراف مصر صانها سفح الجبل

قد قدّس الوادى لمن قد فيه حل

يا فوز من بفناء ذيّاك المحل

حطّ الرّحال مع الرّجال وما ارتحل (٥)

وأقام يعقوب عليه الصلاة والسلام بها ثلاث سنين ، ثم حمل إلى بيت المقدس ، فدفن عند آبائه (٦). ودفن يوسف عليه السلام بها ، وبالجيزة ، وبمحل المقياس ، نقل من القرافة إلى الجيزة ، ونقل من الجيزة إلى رأس الروضة ، فى المحلّ المعروف الآن بالمقياس ... وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمّا دفن بالقرافة نبت العشب والكلأ بالجهة القبلية ، ولم ينبت بالجهة البحرية شىء ،

__________________

(١) أضا : أضاء. والفضا : الفضاء.

(٢) لا يشاب بالانقضا : لا يطرأ عليه ما يفسده مع مرور الزمن .. ونيران الغضا ، هى النيران العظيمة ، فالغضا شجر من الأثل يبقى جمره ونيرانه زمانا طويلا لا ينطفئ.

(٣) الغراس : ما يغرس من شجر ونحوه ، والمراد به هنا ما دفن فيه من الأموات .. والبطاح : المكان المتّسع يمرّ فيه السّيل.

(٤) بريه : خلقه أو ترابه.

(٥) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٦) فى «ص» : «ثم رحل إلى البيت المقدس ليجمعوا بينه وبين آبائه». وما بعد ذلك عن «م» ولم يرد فى «ص».

١٤

فنقل ودفن بالجيزة بمحلّ هناك ، فنبت العشب والكلأ على عادته بالجهة البحرية ، ولم ينبت بالجهة القبلية شىء ، فنقل ودفن فى صندوق من الرخام بمحل المقياس ، وهو وسط النيل ، لتعم بركته الجانبين ، فأقام بهذا المحل مدة ، نحوا من ثلاثمائة سنة ، إلى أن حمله موسى عليه السلام [بعد أن قال له بنو إسرائيل : إن يوسف](١) ، لمّا حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من الله ألّا نخرج حتى ننقل عظامه معنا .. قال : فأين قبره؟ قالوا : علمه عند امرأة عجوز من بنى إسرائيل .. فبعث إليها ، فأتته ، فقال لها : دلينى على قبر يوسف .. فقالت له : لا أدلّك على قبره حتى تسأل لى ربك أربعة أشياء : تسأله أن يطلق لى رجلاى ، ويردّ علىّ بصرى ، وشبابى ، وأن أكون معك فى الجنة ..

فكبر ذلك عليه ، فأوحى إليه أنّ الله أعطاها ما سألته .. ففعل ، وردّ الله عليها بصرها ، وشبابها ، وإطلاق رجليها ، فتوجهت بهم إلى المحل المذكور ليلا ، فاستخرجوا الصندوق ، فلما فتحوه طلع القمر وأضاء الأرض مثل النهار ، فحملوه معهم ، ودفن فى قبر عند آبائه بالأرض المقدسة ، وكان هذا الأمر معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام.

* * *

حكاية :

قال مالك بن دينار (٢) : مررت ببعض أودية الجبل المقطم ، فرأيت إنسانا سائحا ، فظننت أنه مجنون ، فنادانى هاتف من بين الجبال : ليس الأمر

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة السياق والمعنى.

(٢) هو مالك بن دينار البصرى ، أبو يحيى ، من رواة الحديث .. كان ورعا ، يأكل من كسبه ، ويكتب المصاحف بالأجرة ، وكانت وفاته بالبصرة سنة ١٣١ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٢٦٠ ، ٢٦١ ، وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣٥٧ ـ ٣٨٨ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ١٣٩ ، ١٤٠].

١٥

كما ظننت ، إنّما هو ولّى من أولياء الله تعالى ، عظمت زفرته ، واشتدت حسرته ، وارتفع صوته ، وعلا نحيبه .. قال مالك : فلما سمعت الهاتف الذي هتف بى هدأ روعى ، وردّت إليّ روحى ، وعدت إلى طريقى راجعا ، وإذا أنا بشابّ قد أذابته العبادة حتى عاد كالخلال (١) ، فسلمت عليه ، فردّ علّى ، فأخبرته بعطشى ، وقد لحقنى منه هيبة عظيمة ، فنظر إليّ وقال : يا مالك ، أما وجدت فى البريّة نقطة ماء؟ ثم قام إلى صخرة فى الجبل فضرب بها برجله وقال : اسقنا ماء بقدرة من يحيى العظام وهى رميم ، فإذا أنا بالماء ، فشربت حتى رويت ، ثم قلت له : أوصنى بشىء أنتفع به .. فقال : يا مولاى ، كن لمولاك فى الخلوات حتى يسقيك الماء من الصخرة فى الفلوات .. ثم أنشد وجعل يقول :

أهل المحبّة ما نالوا الذي قصدوا

حتى لمولاهم فى الخلوة انفردوا

تراهم الدّهر لا يمضون من بلد

إلّا ويبكى عليهم ذلك البلد

لا يعطفون على أهل ولا ولد

ولا ينامون إن كان الورى رقدوا

فالذّكر مطعمهم ، والشّكر مشربهم

والوجد مركبهم من أجل ذا سعدوا

لا يبرحون على أبواب سيّدهم

ولا يريدون إلّا من له عبدوا

فالشّوق يضرم نارا فى قلوبهم

ونارهم فى ظلام اللّيل تتّقد

مساجد الله مأواهم ومسكنهم

وعيشهم فى حماه طيّب رغد

حكى عن ذى النون المصرى رضى الله عنه ، أنه قال : وصفت لى جارية متعبدة ، فأحببت لقاءها ، فخرجت إلى الجبل أطلبها ، فلم أرها ، فلقيت جماعة من المتعبدين ، فسألتهم عنها ، فقالوا : تسأل عن المجانين وتترك العقلاء؟ قال ذو النون : فقلت لهم : دلّونى عليها ، فإن كانت مجنونة تركتها. فقالوا : إنّا نراها مرّة تجوز بنا تقع ، ومرة تقوم ، ومرة تصيح ، ومرة تضحك ، ومرة

__________________

(١) أى : كالعود الرفيع.

١٦

تبكى .. قال ذو النون : فدلّونى عليها .. فذهبت ، فلما أشرفت على الوادى التى هى به ، سمعت لها صوتا ضعيفا حزينا .. قال : فتتبّعته ، فإذا أنا بجارية ما تكاد تبين من الجوع والنّحول ، وهى جالسة على صخرة عظيمة ، فسلمت عليها ، فقالت : يا ذا النون ، مالك وللمجانين؟! فقلت لها : أنت مجنونة؟! قالت : لم أكن كذلك ، إنما نودى علّى بالجنون. فقال ذو النون : وما الذي جنّنك؟ قالت : يا ذا النون ، حبّه (١) جنّنى ، حبّه هيّمنى ، ووجده أقلقنى.

قال ذو النون : فقلت لها : يا جارية ، وأين محلّ الشوق منك؟ قالت : يا ذا النون ، الحب فى الحشا ، والشوق فى الفؤاد ، والوجد فى السر .. قال ذو النون : فقلت لها : يا جارية ، قالت : لبيك .. قلت : الفؤاد فى القلب؟ قالت : نعم ، الفؤاد نوره القلب ، والسر نوره الفؤاد ، فالقلب يحب ، والفؤاد يشتاق ، والسر يجد الحق .. قال ذو النون : فقلت لها : وكيف يجد الحق؟ قالت : يا ذا النون ، وجدان الحق بلا كيف .. قال ذو النون : فقلت لها : أوصينى يا أمة الله بشىء أنتفع به .. فقالت : يا ذا النون ، حبّ مولاك ولا تبتغ به بدلا .. قلت : زيدينى يرحمك الله .. قالت : يا ذا النون ، إن قدرت أن تخطو إلى الآخرة خطوة فافعل ولو أدركك فى ذلك مشقة ، فإن المنازل والدرجات لا يوصل إليها إلا بالمشقّات .. ثم قالت : يا ذا النون ، إن كنت رجلا فى محبتك صادقا (٢) ، وفى عشقك لسيدك واثقا (٣) فمت كما أموت .. ثم صرخت صرخة عظيمة وقالت : هذا موت الأخيار من المحبين الصادقين. فغشى عليها ، ووقعت على وجهها ، فتقدمت إليها ، وحرّكتها ، فإذا هى ميتة ، فطلبت شيئا أحفر به (٤) قبرا ، فلم أجد شيئا ..

__________________

(١) الضمير فى «حبه» يعود على «الله» عزّ وجلّ.

(٢) فى «م» : «صادق» بالرفع .. لا تصح ، وأصل العبارة : «إن كنت رجلا صادقا فى محبتك» فهى صفة لمنصوب.

(٣) فى «م» : «واثق» لا تصح ، والنصب هنا على العطف.

(٤) فى «م» : «بها».

١٧

قال ذو النون : فالتفتّ إليها فلم أجدها ، فبقيت متحيرا فى أمرى ، وإذا بهاتف يهتف بى : يا هذا ، اذهب راشدا ، فهو يتولى الصالحين .. فمضيت إلى حال سبيلى .. رضى الله تعالى عنها ، ونفعنا ببركاتها (١).

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

١٨

فصل

فى ذكر المساجد التى على الجبل المقطم

المسجد المعروف بالتّنّور (١) :

قيل هو تنّور فرعون ، كان يوقد عليه (٢) بالطّرفاء ، فإذا رأى النار أهل مصر عرفوا بركوبه ، فاجتمعوا واتخذوا له ما يريد. وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس ، والله أعلم (٣) .. وقيل : كان يوقد عليها بالطّرفاء ، واللّبان ، والصّندر (٤) ليرفع عن أهل مصر الوباء.

قال القضاعى : وجدت فى كتاب قديم أن يهوذا بن يعقوب أخا يوسف ، عليهم السلام ، لما دخل على أخيه يوسف مع إخوته ـ فى قصة الصّواع ـ تأخر عن إخوته ، فأقام (٥) فى ذروة الجبل المقطم فى هذا المكان ، وكان مقابلا لتنّور فرعون الذي كان يوقد له فيه النار. [ثم خلا](٦) ذلك الموضع إلى زمان أحمد بن طولون ، فأخبر بفضل الموضع وبمقام يهوذا فيه ، فقام (٧) بعمارة هذا

__________________

(١) انظر ما كتب عنه وعن سائر المساجد التى وردت فى هذا الفصل فى «الخطط المقريزية» ج ٢ ص ٤٥٥ وما بعدها ، فى «ذكر المساجد والمعابد التى بالجبل والصحراء» ومساجد مصر لسعاد ماهر ج ١ ص ٥٢ وما بعدها.

(٢) فى «م» : «عليها». وأصل التّنّور : الفرن يخبز فيه ، والمراد به هنا : وعاء من المعدن يعلّق «كالنجفة أو المشكاة» .. والطّرفاء : نبات من الفصيلة الطرفاوية.

(٣) من قوله : «وكذلك إذا ركب ..» إلى هنا .. عن «م» وساقط من «ص».

(٤) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «السندروس» بالسين .. أى : الصندل ، وهو شجر خشبه طيب الرائحة. واللّبان : نبات من الفصيلة البخورية يفرز صمغا ، ويسمّى : «الكندر».

(٥) فى «ص» : «وأقام».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٧) فى «ص» : «فأمر». والجار والمجرور «فيه» عن «ص» وساقط من «م».

١٩

المسجد والمنارة التى فيه ، وجعل فيه صهريجا يخزن فيه الماء ، وأوقف عليه «البيمارستان» (١) بمصر ، والعين التى بالمعافر (٢) ، وأنشأه أحمد فى شهر صفر بخير ، سنة ٢٥٩ ه‍ (٣).

ويقال : إن تنور فرعون لم يزل فى الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد (٤) من قواد أحمد بن طولون يقال له «وصيف» ، فهدمه ، وحفر تحته ، وقدّر أنّ تحته مالا (٥) فلم يجد شيئا تحته ، وزال رسم التنور وذهب (٦). ويقال : إن ابن طولون وجد تحته كنزا ، وأنه عمر به الجامع ، ووجد فيه العشارىّ (٧) الذي على رأس منارته.

المسجد المعروف بمقام المؤمن :

قيل : إنه أقام فيه مؤمن آل فرعون ، ولم يوجد ذلك فى كتاب (٨).

المسجد المعروف بالمحرم :

قيل : إنّ قوما كانوا فيه تطوى بهم الأرض ، كانوا يحرمون منه ثم يحجون ويعودون إليه ، وهو فى علو مغارة ابن الفارض (٩).

__________________

(١) البيمارستان : المستشفى (لفظة فارسية معرّبة).

(٢) فى «م» : «بالمعارف» تحريف من الناسخ ، والمراد بها : بئر بنى المعافر. [انظر الخطط المقريزية ج ٢ ص ٤٥٥ ، والكواكب السيارة ص ١٨٢].

(٣) قوله : «وأنشأه أحمد ..» إلى هنا .. عن «م» ولم يرد فى «ص» ، وهو مذكور فى المصدر السابق.

(٤) فى «م» : «قائدا» بالنصب .. خطأ.

(٥) فى «ص» : «أنّ فيه مالا» .. وسقطت «مالا» من «م».

(٦) جاء فى «م» بعد هذا : «وأنشأ القائد مكانه مسجدا». وهذه العبارة زيادة من الناسخ ، وهى لم ترد فى «ص» ، وساقطة أيضا من المصدر السابق ولم يذكرها المقريزى.

(*) العشارى : وعاء أو إناء يوضع فوق المئذنة أو القبة ، وتوضع فيه الحبوب للطير. وانظر ص ٢٠٣ ـ الهامش رقم (٢).

(٧) فى المصدر السابق : «وهذا بعيد من الصحة».

(٨) قوله : «وهو فى علو مغارة ابن الفارض» عن «م» وساقط من «ص».

٢٠