مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

ولمّا رأيتك فوق السّرير

ولاح لى السّتر والمسند (١)

رأيت سليمان فى ملكه

يخاطبنى وأنا الهدهد

فضحك الخليفة وأمر أن لا يعترض (٢) عليه ، وأن يبقى على عادته فى جلوسه ، فأكثر القول فى نصرة مذهب السّنّة ، فأحضره أمير الجيوش (٣) ، فلما دخل عليه ، أنشده فى وسط داره (٤) :

حبّ آل النّبيّ خالط عظمى

وجرى فى مفاصلى فاعذرونى (٥)

أنا والله مغرم بهواهم

علّلونى بذكرهم علّلونى (٦)

فأمر بإطلاقه (٧) مكرّما.

وكان ـ رحمه الله ـ مجاهدا ، مقيما بمذهب السّنّة ، مؤيّدا من الله عزّ وجلّ.

وقيل : إنه اشتد به الحال من قلّة النفقة وطلب العيال ، فخرج وجاء إلى الإطفيحى بالشرق (٨) وشكا إليه حاله ، فقال له الإطفيحى : السّاعة كان الأفضل عندى ، ودفع (٩) لى هذه الصّرّة وقال : أعطها لمستحقّها ، وأنت مستحقها ، خذها فأنفقها. فأخذها ، فوجد فيها خمسين دينارا ، فأخذها فأنفقها فى مدة ولم يبق معه شىء ، فطولب بالنفقة ، فقال : ما عندى شىء. فقالت

__________________

(١) المسند : كل ما يستند عليه.

(٢) فى «م» : «يتعرض».

(٣) فى «ص» : «فأحضره ... مرة ثانية».

(٤) فى «م» : «فلما دخل عليه وسط داره أنشده يقول شعر».

(٥) فى «ص» : «حبّ صحب النبي».

(٦) فى «م» : «بعرم» مكان «مغرم» .. وفى «ص» : «مفيد من» وكلاهما تحريف ، والصواب ما أثبتناه.

(٧) فى «ص» : «بإصرافه».

(٨) هكذا فى «م». وإطفيح : بلد بالصعيد الأدنى من أرض مصر ، وينسب إليه بعض العلماء [انظر معجم البلدان ج ١ ص ٢٨٧].

(٩) فى «م» : «ودع».

٣٠١

له زوجته : اخرج (١) وتسبّب لنا. فخرج حائرا ، فجاء إلى الإطفيحى ، فسلّم عليه ، وسأله عن حاله ، فأخبره بما هو فيه من الضائقة ، وسأله أن يكلّم السلطان. فقال له : يا سيدى يا أبا الفضل (٢) امض لسبيلك ، أنا ما جرت (٣) عادتى أن أبتديه بالكلام ، وما (٤) أكلّمه إلّا جوابا ، فخجل ، ومضى إلى بيته بلا شىء. فقالت له زوجته : ما عملت؟ فقال : إنّ سيدى وعدنى (٥) بكل خير. فبات تلك الليلة وقام فى السّحر ، فمضى إلى قبر أبيه «بشرى» فصلّى ودعا ، وجلس عند القبر متحيّرا (٦) لا يدرى ما يصنع ، فأخذه النوم فنام ، فلم يشعر إلّا وهو يوقظ ، فقام من نومه ، فوجد إنسانا راكبا ملثّما وإنسانا ماشيا ، فقال له الماشى : ما اسمك؟ فقال : أبو الفضل. فقال : وما اسم صاحب هذا القبر؟ قال : «بشرى». فقال : إى والله ، فناولاه (٧) صرّة ومضيا ، ففتحها ، فوجد فيها خمسين دينارا ، فمضى وقضى حاجته منها ، وأخذ بقيتها وجاء إلى (٨) الإطفيحى ، فقال له الإطفيحى : أقول كما قال يوسف عليه السلام لإخوته : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ)(٩) ، الذي دفع لك الصّرّة هو والله «الأفضل» ، وقد جاءنى وقال : سهرت البارحة سهرا شديدا ، فأخذت سيرة ابن طولون فقرأت فيها ، فغلبنى النوم ، فنمت ، فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو يقول لى : إذا (١٠) كان غدا فى السّحر امض إلى القرافة وفتّش فى

__________________

(١) فى «م» : «زوجتها خرج» تحريف.

(٢) فى «ص» : «يا شيخ أبو الفضل».

(٣) فى «ص» : «أنا جرت» وسقطت «ما» سهوا من الناسخ.

(٤) فى «م» : «ولا».

(٥) فى «م» : «قد وعدنى».

(٦) فى «م» : «متحير» خطأ ، والصواب بالنصب.

(٧) فى «م» : «فقال : الله ، فناوله ...».

(٨) فى «م» و «ص» : «إلى عند».

(٩) سورة يوسف ـ من الآية ٩٢.

(١٠) هكذا فى «ص» ـ وفى «م» : «يقول : إذا».

٣٠٢

القبور فإنك ترى ـ أو قال : تجد (١) ـ رجلا لله ، به عناية ، قاعدا عند قبر رجل له به عناية (٢) ، ادفع إليه ما ينفق ، فإنه بات البارحة بلا شىء ، فدفع لى خمسمائة دينار وقال : ادفعها له قليلا قليلا لئلا ينفقها مرة واحدة ، وقال : إنه دفع لك صرّة فيها خمسون دينارا ، وأقسم علىّ بالله أنى أعلمك بها إذا فرغت ، أعلمته بذلك.

وحكى ابن العربى فى كتاب «سراج المريدين» قال : جلس أبو الفضل ابن الجوهرى (٣) يوما على المنير ، فقال القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال : والله ما منعتها (٤) أبدا. وأقبلت القلوب على كلامه ، فتعجبت من قوله هذا!

وروى عن محمد بن واسع أنه قال : خرجت يوما من المسجد ، فلقيت الشيطان فى طريقى ، فقال : يا محمد بن واسع ، إنّى كلّما رمتك وجدت بينى وبينك حجابا لا أستطيع أن أبلغ إليك منه. قال : إنى أقول كل يوم إذا أصبحت :

«اللهمّ ، إنّك سلّطت علّى عدوّا بصيرا بعيوبى ، مطّلعا على عوراتى ، اللهم فآيسه منّى كما آيسته من رحمتك ، وقنّطه منّى كما قنّطّه من عفوك ، وباعد بينى وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب ، واطرده عنى كما طردته عن بابك ، يا أرحم الرّاحمين» (٥). فقال له الشيطان : بالله لا تخبر بها أحدا أبدا ، فقال : والله ما منعتها من أحد أبدا.

__________________

(١) فى «ص» : «فإنك تجد».

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «لله به عناية».

(٣) قوله : «ابن الجوهرى» عن «ص».

(٤) فى «ص» : «لا منعتها».

(٥) فى «ص» : «برحمتك يا أرحم الراحمين».

٣٠٣

والده أبو عبد الله الحسين بن بشرى الجوهرى ـ رحمة الله عليه (١) :

كان من الأجلّاء الفضلاء ـ وكان من المكاشفين ، وله كلام على الخاطر ، ولم يكن فى وقته مثله زهدا وعبادة وورعا ، ولم يأت بعده مثله ، وله حكايات عن نفسه وعمّا شاهد ، وخوطب به.

قيل : إنه اجتمع مع الشيخ أبى القاسم الحسين بن الأنبارى ، قال ابن الأنبارى : سمعته يقول ذات يوم ، وقد ذكر عنده من يطلب الكيمياء ، فقال : العجب كل العجب أن ترى هذه الطريقة بعمل الكيمياء ، الله يعلم أنّ قوما تعرض عليهم مفروغة فما يأخذونها ، يا سبحان الله ، إذا وقف العبد بين يدى الله سبحانه يتناثر عليه البرّ ، فإن وقف عند شىء منه (٢) أوقف عند ذلك ، وإن لم يقف وكان ناظرا إلى المعطى كان المزيد على قدر ذلك!

وذكر عنده رجل ذات يوم كان يسير فى السّحاب فقال : إنى أعرف رجلا فى جامع مصر علا حتى رآه رجل (٣) ، وارتفع من الأرض وسار إلى السماء ، فقلت له : يا سيدى ، ما كان عليه؟ قال : كان عليه قباء بياض ، والشفاشف (٤) بين رجليه يلعب بها الريح ، فعلمت أنه هو الذي نظره.

وقال ابن الأنبارى أيضا : بتّ ليلة فى طارمة (٥) فى القرافة وحدى ، فجاء فى فكرى خاطر ، فقلت : فلان له ألف ركعة ، وفلان له كذا وكذا ، وقلت : يا نفس ، ما أعظم مصيبتك ، لم لا تكونى مثل هؤلاء؟! فقلت : والله

__________________

(١) فى «ص» : «المعروف بالجوهرى ، رحمه الله تعالى».

(٢) فى «م» : «عندى منه». والبرّ : الخير.

(٣) فى «ص» : «رجلا» بالنصب ، لا تصح.

(٤) القباء : ثوب يلبس فوق الثياب ، أو القميص ، ويتمنطق به. والشفاشف : الزيادة والفضل من الثياب ، أو الرقيق منها. وفى «م» : «والسقاسق» لا معنى لها.

(٥) الطّارمة : بيت من خشب ، كالقبة ، معرّبة من اللفظة الفارسية (طارم).

٣٠٤

لأصلّينّ ما أقدر عليه من الصلاة (١). ثم قمت فصلّيت ركعتين ، وتركت (٢) حصاة عن يمينى ، [وكلّما صليت ركعتين جعلت حصاة عن يمينى](٣).

ثم نمت ، فلما صليت الصّبح مضيت إلى أبى عبد الله بن بشرى الجوهرى ، فتبسّم (٤) وقال لى : ليس العمل بكثرة العدد (٥) ، وإنّما العمل فى الإتقان ، قال الله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(٦) [ولم يقل أكثر عملا].

وخرج أبو عبد الله الحسين بن بشرى ، رضى الله عنه ، ذات يوم فى جنازة ، فصلّى عليها ، ثم جلس هو وجماعته فى قبة عند مصلّى «خولان» التى بالقرب من مشهد «طباطبا» ، وهم ينتظرون الجماعة حتى يدفن الميت (٧) ، فقعدوا ساعة (٨) ، ثم قال لمن معه : قوموا بنا من هذا الموضع ، فخرجوا منه ، وعند خروج آخرهم وقعت القبة ، قال : فسئل الشيخ أبو عبد الله عن ذلك ، فقال : حصلت (٩) فى المصلّى ، فاضطرب سرّى ، فقلت : حادثة فى الجامع ، فلم يسكن ، فقلت : فى الصحراء ، فلم يسكن ، فقلت : فى البيت ، فلم يسكن ، فنظرت فإذا سرّى لم يخرج من الموضع الذي أنا فيه ، فقلت : حادثة (١٠) ، فخرجت وقلت : قوموا بنا ، فقمنا ، فكان ما عرفتم.

قال أبو القاسم الحاكى : وقال لى الفقيه أبو عبد الله : ولم تبن (١١) القبة.

__________________

(١) فى «ص» : «على الصلاة».

(٢) فى «م» : «جعلت».

(٣) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٤) فى «م» : «فلمّا تبسم».

(٥) فى «م» و «ص» : «فى كثرة العدد».

(٦) سورة الملك ـ من الآية الثانية. وما بين المعقوفتين ـ بعد ذلك ـ عن «م».

(٧) فى «ص» : «عند المصلى وهم ينتظرون الجنازة حتى تدفن».

(٨) فى «ص» : «زمانا».

(٩) حصلت ، أى : الحادثة.

(١٠) إلى هنا ينتهى الجزء الأول من المخطوط «ص».

(١١) فى «ص» : «نبنى».

٣٠٥

ودخل عليه ذات يوم رجل ومعه جام (١) زجاج صاف ، فقال : أرجو أن تصفوا قلوبكم ونيّاتكم حتى تروا الأشياء قبل ورودها.

وحكى عنه ، رضى الله عنه ، قال : كنت يوما مع والدتى فى القرافة عند قبر والدى ـ رحمه الله تعالى ـ فقالت : يا بنىّ ، سمعت صاحبى هذين القبرين يتحادثان (٢) ، ثم مشينا فجزنا (٣) على قبرين ، فقالت : يا بنىّ ، سمعت من قبر هاهنا وصاحبه يقول : أوّاه ، أوّاه ، أوّاه! فقلت : أىّ قبر تشيرين إليه؟ فقالت : يا بنىّ ما أريك إيّاه ، أن يقلّدك الله هذا الأمر (٤) ، فاستر ما قدرت.

وحكى أيضا قال : دخلت ذات يوم إلى منزلنا وأنا صغير ، [مقدار عمرى نحو سبع سنين](٥) ، فرأيت فيه شيئا (٦) من الفاكهة ، فجعلت أنظر إليها ، فقالت لى أمّى : يا حسين ، بقى للعشاء قليل ، ما تسوى الدنيا كلها هذه النظرة! وقال : جئت يوما من جنازة ومعى جماعة من الناس ، فصعدت إلى والدتى ، وكانت فى غرفة لنا ، وكانت رأتنى من الطاق (٧) والناس معى ، فقالت لى : ما هذه الشهرة ، تمشى والناس خلفك؟ ثم شالت طرف الحصير ، وأخذت بأصابعها شيئا من التراب ثم ذرّته (٨) فى وجهى وقالت : من هذا خلقت ، فلا تكبّر نفسك!

__________________

(١) الجام : إناء للطعام والشراب ، وغلب استعمالها فى قدح الشراب.

(٢) فى «ص» : «يتحدثان».

(٣) فى «م» : «فخرجنا».

(٤) هكذا فى «ص» .. وقد وردت هذه الجملة فى «م» محرّفة.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٦) فى «م» : «شىء» لا تصح.

(٧) الطاق : النافذة.

(٨) فى «ص» : «ردّته».

٣٠٦

وجاءه ذات يوم رجل يقال له ابن خريطة ، فقال : جئتك من عند أبى محمد الخطيب. فقال : اذهب احفر له! فمضى ، فوجده قد مات ، فلما أخبر الشيخ بذلك قال : إنى رأيت عند وجه الصبح (١) كأن خادما دخل علىّ وعزّانى فى أبى محمد الخطيب ، فأوّلته ملك الموت.

قيل : ومات ابن أخيه بمصر ، وكان هو بمكة ، وابنته على المائدة ـ وهى بنت ستّ سنين ـ فقالت : مات ابن عمى عبد الرحمن ، نعم نعم نعم نعم نعم (٢). فقالت أم عبد الرحمن : ما الذي قلت؟ قالت الصبيّة : ما قلت شيئا. فقال الشيخ رضى الله عنه : اكتبوا هذا الوقت. فكتبوه. وجاء الحاجّ من مصر ، فقالوا : مات فى الوقت الذي قالت الصبيّة. فقال له رجل : قبل مجىء الحاج. قالت : يا سيدى ، أنا أعرف من غسّله ، وأين غسّل (٣) ، غسّل فى الموضع الفلانى ، وغسّله فلان.

وروى أنه قلّ ما بيده يوما ، فخرج يتسبّب فى شىء ، فوجد ورقة من مصحف مقطعة ، لم يبق فيها سوى قوله [تعالى] : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ)(٤) فرجع إلى بيته ، فجاء شخص ومعه ثلاثمائة دينار.

قال (٥) : وكنت معه ليلة بمكة فى شهر رمضان ، فقال : هل رأيتم ما أرى؟ فقال له بعض أصحابه : لعلّك تريد أنك رأيت ضوءا صعد من الأرض إلى السماء؟ فقال : نعم.

وكان بمكة رجل يقال له أبو بشير الحلاوى ، سمع بذكره ، فجاء فجلس إليه ، فتكلم الشيخ على خاطر أبى بشير ، ثم على خواطر الحاضرين ، فصعق

__________________

(١) فى «ص» : «عند الصبح».

(٢) وردت هكذا مكررة فى «م» و «ص» خمس مرات.

(٣) قوله : «وأين غسّل» عن «ص».

(٤) سورة يوسف ـ من الآية ٥٠.

(٥) من هنا إلى قوله : «نراه مشاهدة» عن «م» وساقط من «ص».

٣٠٧

أبو بشير ، فلما أفاق قال : أيها الشيخ ، إنّا كنّا نسمع هذا حديثا ، والآن نراه مشاهدة (١).

قال الشيخ أبو القاسم : قال لى «على الحمّال» وكان ثقة ، وحلف لى بطلاق زوجته التى أعرفها ، أنه رأى الشيخ أبا عبد الرحمن بن الجوهرى فى جنازة «عبد الرحمن» (٢) بمصر ، فأسرع فى طلبه فلم يدركه.

وقال لأصحابه ذات يوم : إنى لأعرف من كلّمه : الكرام الكاتبون.

قال : وقال بعض أصحابنا : خرجت يوما إلى القرافة ومعى جارية لا تعرف الطريق ، وكنت راكبا وهى ماشية ، فشغلنى إنسان بالحديث ، ومشت الجارية فتاهت عن الطريق فلم أجدها ، فدخلت على الشيخ وعرّفته ذلك ، فقال : ما اسمها؟ فقلت : فلانة. فقال : وما جنسها؟ فعرّفته. فقال : «اللهمّ إن كان عدا عليها عاد فحل بينها وبينه ، وإن كانت قد ضلّت فضيّق عليها السبيل حتى ترجع (٣) إلى مخرجها ، يا قيوم». ومضيت من عنده وقد بئست من الجارية بسبب ما كان عليها ، وجئت إلى بيتى مغموما ، فلما جلست إذا بالباب يدق ، فخرجت ، فوجدت الجارية ، فقلت : ما بالك؟ قالت : إنك غبت عن عينى فلم أرك ، فبقيت حائرة ، فمشيت ، فرأيت زقاقا (٤) من جديد ، فمشيت فيه إلى أن وصلت إلى هاهنا.

وذكر ـ رحمه الله ـ أنه رأى والدته فى النوم بعد موتها ، وعليها ثياب من حرير أبيض وأخضر وأصفر ، وهى فيها تخطر ، وحولها شماريخ (٥) ، وهى

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) عبد الرحمن : ابن أخيه.

(٣) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فضيّق عليها الطريق والسبيل ثم ترجع».

(٤) فى «ص» : «رواقا» أى : بيتا أو سقيفة أو غيرهما ، والزقاق : الطريق الضيق ، نافذا أو غير نافذ.

(٥) فى «م» و «ص» : «شماريخ لولو» هكذا .. والشماريخ جمع شمراخ ويطلق على العثكال عليه بسر ، أو العنقود عليه عنب. وهو غصن دقيق ينبت فى أعلى الغصن الغليظ.

٣٠٨

على شاطىء نهر ، فقيل لى : انظر إلى وجه لم يعص الله قط ، ما أحسنه وأزهره وأنضره!

وقال أبو الحسن (١) الشيرازى : خرجت مع أبى عبد الله إلى مكة ، فركبنا البحر (٢) ، فلما وصلنا إلى البر لم يكن عندنا من الزيارة للمدينة خبر (٣) بفساد الطريق ، فخطر فى سرّ الشيخ أبى عبد الله الزيارة ، وكان مقدّما ومؤخّرا (٤) ، فرأى فى المنام قائلا يقول له : «إن زرت حفظت ، وإن سرت سلمت ، زر تسلم ، أو سر تغنم ، لا تعترض تندم».

قال : فلما استيقظت فكرت فى نزولى وكثرة من ينزل معى ، وخوف الناس فى الطريق ، فتحولت إلى جنبى الآخر ، وإذا بقائل يقول لى : «إنما هو قذف من الحق بالحق ، فى قلوب أهل الحقّ من الخلق ، تصديقا للخلق بالحق من الحق (٥) ، تفضّلا من الحقّ على الخلق». قال أبو الحسن : فاكتريت له (٦) فى تلك العشية ، ونزل معنا جماعة كثيرة ، وسرنا سالمين إلى أن وصلنا إلى المدينة (٧) فى السّحر ، فقال لى الشيخ : رأيت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، مفتوحة (٨) يداه كالمستقبل لى ، قال أبو الحسن (٩) : فشممت فى الوقت رائحة (١٠) طيبة ، ما شممت قطّ مثلها. ودخلنا إلى المدينة ، وجلس هو فى

__________________

(١) فى «ص» : «أبو الحسين» خطأ.

(٢) فى «ص» : «فى البحر».

(٣) فى «ص» : «من الزيارة خبر».

(٤) مقدّما ومؤخرا ، يعنى : متردّدا.

(٥) فى «م» : «تصديقا للحق الحق».

(٦) «له» عن «م». واكتريت ، أى : استأجرت له ما يلزمه.

(٧) فى «م» : «وصلنا المدينة».

(٨) فى «م» : «منفوخة» تحريف من الناسخ.

(٩) فى «ص» : «قال : يا أبا الحسن».

(١٠) فى «ص» : «روائح».

٣٠٩

المسجد يتكلم ، واجتمع إليه جماعة ، وكان بعض الأشراف تكلّم ، فلما كان من الغد قال : رأيت البارحة فى المنام إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وقد ناولنى سيفا وقال لى : تكلّم فى أمان الرحمن. واستشاره بعض أصحابه فى الخروج مع بعض الأمراء إلى مكة ، فقال : ما أقول شيئا ، من شاء أن يخرج فليخرج ، ومن شاء أن يقعد فليقعد (١). فخرج معه قوم وتخلّف آخرون ، فلما وصلوا إلى بدر مضى ذلك الأمير وتركهم ، فخرج عليهم العرب فأخذوهم وجميع ما كان معهم ، فلما بلغ الشيخ ذلك قال : كذا من ركن إلى المخلوقين ونسى الخالق.

قال : ومن كلام الشيخ أبى عبد الله : «هذه الأمّة رجلان ، أحدهما تقيّ والآخر مذنب ، فالتّقّى فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والمذنب شفيعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فأىّ الرجلين يخاصم غدا؟».

ومن مواعظه : «اتّق الله أيها الرجل ، وخف من يوم لا بد من حضوره ، قال الله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(٢). أنت [تريد](٣) عبدك إذا دعوته يقول : لبّيك ، وإذا لم يجبك قلت : عبد سوء ، تريده يطيعك ولا يعصيك ، متى أطعت الله بما تريده من عبدك ، أما تستحى من سوء رأيك (٤)؟ ستقدم غدا ، وينكشف الغطاء ، أما سمعت قول الله تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)» (٥).

وقال بعض أصحابه : رأيته بالجحفة (٦) مرارا يختلف إلى حاجة

__________________

(١) فى «ص» : «من شاء فليخرج ، ومن شاء فليقعد».

(٢) سورة هود ـ من الآية ١٠٣.

(٣) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٤) فى «ص» : «ما تستحى ، ما أسوأ رأيك!».

(٥) سورة «ق» ـ من الآية ٢٢.

(٦) الجحفة : قرية على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل ، وهى ميقات أهل الشام.

٣١٠

الإنسان ، فقلت : يا سيدى ، أراك تختلف (١) ، فقال لى : يا جعفر ، لم أحلّ سراويلى من «القلزم» (٢) إلى هاهنا.

قال : وسمعته يقول : لو تجوّع كافر لتقدّح (٣) من خاطره الحكمة.

وتوفى عبد الله بأيلة (٤) عند منصرفه من الحج فى صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة (٥) ، وحمل إلى مصر ، وقبره مشهور ، وهو الذي عند رأسه لوح رخام ، وحجر كدان ، مكتوب فيه منام رآه بعض المتقدمين (٦) ، وحكاه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، يتضمن زيارته. والدعاء عند قبره مستجاب ، وقد درست (٧) هذه الكتابة إلّا أقلّها.

* * *

قبر أبى العباس الدّيبلىّ (٨) :

وعند رجليه قبر به أبو العباس (٩) أحمد بن محمد الدّيبلىّ الخياط ، الشافعى ، الزاهد ، رحمه الله تعالى ، كان مقيما بمصر ، ظلّ (١٠) معتكفا بمسجد

__________________

(١) أى : تذهب وتجىء.

(٢) القلزم : بلد قديم ، بنى فى موضعه «السويس» الآن. وبحر القلزم : البحر الأحمر.

(٣) تجوّع : تعمّد الجوع. وفى «ص» : «يجوع» .. وتقدّح : خرج. وفى «م» : «لقدح».

(٤) أيلة : مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلى الشام.

(٥) فى «م» : «سنة ثمانية وثلاثين» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٦) فى «ص» : «المقدمين» .. والمنام : ما يراه النائم أثناء نومه (الحلم).

(٧) فى «م» : «ذهبت» وهى بمعناها.

(٨) العنوان من عندنا. والدّيبلىّ نسبة إلى «دبيل» بلدة من بلاد ساحل البحر من بلاد الهند ، قريبة من السند.

[انظر ترجمته وما كتب عنه فى طبقات الشافعية الكبرى ج ٣ ص ٥٥ و ٥٦ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٣].

(٩) فى «ص» : «قبر أبى العباس الخياط» وكلاهما صحيح.

(١٠) فى «م» و «ص» : «قام» مكان «ظلّ».

٣١١

ثلاثين سنة ، وكان قوته وكسوته من خياطته ، وكان يخيط قميصا فى جمعة بدرهم ودانقين ، طعامه وشرابه وكسوته منها فى غلاء السعر ورخصه ، ما طلب من أحد شربة ماء قطّ (١) ، وكان يرجع إلى أحوال حسنة من الزهد والتقشف ، ولبس الخشن ، وحفظ اللسان ، ولم ينقل عنه أنه اغتاب أحدا قط ، وكان سليم القلب ، كثير الاجتهاد فى الطّاعة ، مع ملازمة الصوم ، وكان لا يفتر لسانه من تلاوة القرآن ، وكان فقيها جيدا على مذهب الشافعى رضى الله عنه ، وكان مكاشفا ، وربّما أخبر بأشياء فتوجد كما قال. وكان صادقا مقبولا عند المخالف والمؤالف ، يستسقى به الغيث ، ويتبرّك بدعائه ، قال خادمه : توليت خدمته فى مرضه ، فقال لى : حضرت الملائكة عندى وقالوا لى : تموت ليلة الأحد ، فكان كما قال ، فلما كان ليلة الأحد قعدت عنده ، وما كان يصلّى إلّا جماعة ، فصليت به المغرب ، فقال لى : تنحّ ، فإنى أريد أن أجمع بين صلاتين ، ما أدرى ما يكون منّى ، فجمع بين صلاتين ، وشفع وأوتر (٢) ، ثم أخذ فى السّياق وهو حاضر معنا إلى نصف الليل ، فقمت فأرحت نفسى ساعة ثم جئت ، فقال : أىّ وقت هو؟ قلت : قريبا من الصّبح ، فقال : حوّلونى (٣) إلى القبلة ، فحوّلناه ، فأخذ يقرأ مقدار خمسين آية ، فخرجت نفسه ونحن ننظر إليه ، وذلك فى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، وقيل سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ، وهو الصحيح. وكانت له جنازة (٤) عظيمة جدّا ، مشهورة ، لم يتأخر عن حضورها أحد من الناس.

وفى بحرى قبر الدّيبلىّ قبر الشيخ الإمام العالم فخر الدين المدرس بمدرسة

__________________

(١) «قط» عن «ص».

(٢) أى : صلّى الشفع والوتر.

(٣) فى «م» : «حوّلنى».

(٤) فى «ص» : «وكانت أخباره عظيمة ..» وما بعد ذلك عن «م» وساقط من «ص» إلى نهاية ترجمة العالم فخر الدين المدرس بمدرسة «يازكوج».

٣١٢

«ياز كوج» الكائنة بسوق أمير الجيوش بدر الجمالى بالقاهرة. كان من أهل العلم والعفاف والديانة ، مع حداثة السن (١).

قبر المباحى (٢) :

وبجانب قبره من حيث القبلة «قبر المباحى» رحمه الله تعالى ، كان رجلا صالحا ، يحتطب فى كل يوم حزمة حطب يبيعها ويتقوّت (٣) بثمنها ، وكان له حال عظيم (٤) ، يقال إنه رآه إنسان يمشى وبين يديه صرّة فيها نفقة ، فقال له : يا شيخ ، خذ هذه الصرّة من تحت رجليك ، فقال : يا ولدى ، إنّ لى مدّة أجوز عليها ما مسكتها قطّ ، ولا أعرف ما فيها (٥) ، وإنّ لله تعالى عبادا إذا قالوا لهذه الحزمة الحطب التى على رأسى : صيرى ذهبا بإذن الله تعالى صارت ، فصارت الحزمة ذهبا ، فصعق الرجل ، فلمّا أفاق قال له الشيخ : يا أخى لعلّك رأيت ما لم تره قط (٦). فنظر فإذا الحزمة عادت حطبا كما كانت.

قبر أبى الفضل السايح (٧) :

وبجانبه قبر الشيخ أبى الفضل (٨) السايح رحمه الله ، وهو على يسارك وأنت خارج (٩) من تربة «المباحى». قيل : إنه لقيه رجل قاطع طريق على

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) العنوان من عندنا.

(٣) فى «م» : «ويتقوتون».

(٤) فى «ص» : «عظيم حال».

(٥) فى «ص» : «إيش فيها» أى : أىّ شىء فيها.

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «ما لا رأيت قط ..».

(٧) العنوان من عندنا.

(٨) فى «م» : «أبو الفضل».

(٩) فى «ص» : «على يسارك خارجا» وكلاهما صحيح.

٣١٣

فرس ، فقال له : انزع (١) القماش ، فخلع ثيابه وأبقى السّراويل ، فقال له : انزع السراويل (٢) ، قال : فخلعه ورمى به وقال : خذه وامض فى اليم ، فأخذه فهرب به الفرس حتى أدخله اليمّ ، وخاف على نفسه الهلاك ، فقال فى نفسه : ما أوتيت إلّا من قبل الذي أخذت ثيابه (٣) ، فعقد مع الله توبة خالصة ، فرجعت الفرس وطلع سالما ، فجاء إلى القرافة وطلب الشيخ (٤) ، فوجده ، فلما رآه الشيخ أبو الفضل تبسّم وقال له : اترك القماش وامض.

قبر أبى الطيب الهاشمى (٥) :

وبجانبه إلى البحرى قبر الشيخ أبى الطيب الهاشمى (٦) ، المعروف بابن بنت الشافعى ، رضى الله عنه. كان من الزهاد العلماء ، صحب أبا بكر أحمد ابن نصر الزّقّاق وغيره من مشايخ القوم (٧) ، وكان من السالكين للطريق (٨) ، فسمع الحديث الكثير (٩) ، وروى عن المشايخ ، وكان يقول : «الصلاة تبلغك نصف الطريق ، والصوم يبلغك باب الملك ، والصّدقة تدلك عليه».

__________________

(١) فى «ص» : «اقلع» مكان «انزع» فى الموضعين ، وهى بمعناها.

(٢) السراويل : لباس يغطّى السّرّة والركبتين وما بينهما. يذكّر ويؤنّث.

(٣) فى «ص» : «قماشه». يعنى : أن ما حدث لى لم يكن ليصيبنى إلا بسبب الرجل الذي أخذت ثيابه.

(٤) فى «ص» : «الرجل».

(٥) العنوان من عندنا.

(٦) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «أبى الطيب وأبى العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل ابن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمى القرشى.

(٧) فى «م» : «من المشايخ» يعنى المتصوفة. وفيها «الدقاق» مكان «الزقاق» وما أثبتناه هو الصحيح ، نسبة إلى بيع الزق.

(٨) فى «ص» : «السالكين الطريق» أى الطريق إلى الله سبحانه وتعالى. والطريق عند الصوفية هو اتباع السّنّة المباركة. وللطريق آداب ، منها : ترك شهوات النفس ، والتخلق بأخلاق الله عز وجل ، وعدم المجاوزة لأوامر الله ، وترك الانتصار للنفس حياء من الله. وأول الطريق إلى الله مداومة الذكر والتزام العمل الصالح.

(٩) قوله : «فسمع الحديث الكثير» عن «ص» وساقط من «م».

٣١٤

وله ـ رضى الله عنه ـ شعر (١) :

أتدرى يا بن آدم ما أبحت

وما أعطاك ربّك إن شكرت

إذا ما شئت قمت إلى الصّلاة

فناجيت الإله بما أردت

وقيل : إنه سأل الله تعالى أن تصيبه الحمّى لما فيها من الأجر لمن صبر عليها (٢) ، فكانت الحمّى تأتيه ساعة من النهار فى كل يوم ، فيحمى لها جسمه ، ويتغير لها لونه ، فإذا غربت الشمس زالت عنه ، فلم تزل كذلك حتى توفى ـ رحمه الله تعالى ـ فى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ، وصلّى عليه صاحبه الحدّاد.

قبر البزاز ، رحمه الله تعالى (٣) :

تجده على مصطبة ، كان من خيار الناس (٤) ، وكان إذا باع واستفتح وجاءه زبون آخر قال له : امض إلى جارى ، فإنى قد استفتحت.

قال الرّاوى : قال لى رجل أعرفه (٥) ، ونحن عند قبره نزوره : يا سيدى ، أخبرك بأعجوبة؟ قلت : ما هى؟ قال : كنت يوما ليس لى شىء (٦) ، وقد دخل الشتاء ، فجئت إلى قبر هذا الرجل فزرته ثم قلت : يا صاحب هذا القبر ، أنت ما سمّيت بزّازا سدى ، وأنا أشتهى عليك ما ألبسه ، فإننى فقير ولا شىء لى (٧) ، وقد تعرّيت. ثم عدت إلى بيتى ، فلما كان الغد

__________________

(١) قوله : «وله ... شعر» عن «م» وساقط من «ص».

(٢) فى «م» : «عليها وعلى ألمها».

(٣) العنوان عن «ص». [وانظر الكواكب السيارة ص ١٣٢ و ١٣٣].

(٤) فى «ص» : «من خيار المسلمين».

(٥) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «قال لى من أثق به ، رجل أعرفه. صادق فى قوله».

(٦) فى «ص» : «مالى شىء».

(٧) فى «م» : «لا مال لى».

٣١٥

جاءتنى والدتى بقميص وسراويل وقالت : مضيت إلى أصحاب لى فقالوا : ألك ولد؟ فقلت : نعم. قالوا : فادفعى هذا له (١). ثم قلت فى نفسى : بقى كساء أرقد فيه ، فلما أصبحت مضيت إلى قبره وزرته (٢) ، وحدّثته حديث والدتى ، وقلت : يا شيخ ، جزاك الله عنى خيرا (٣) ، بقيت أشتهى كساء أرقد فيه ، ثم دعوت الله عنده ورجعت ، فبينما أنا فى الطريق إذا إنسان ناولنى كساء ، فأخذته وحمدت الله تعالى وشكرته ، وما انقطعت عن زيارته.

قبر الشيخ أبى الحسن القرافى (٤) :

وبجانبه قبر الشيخ أبى الحسن على بن قيصر بن عمر القرافى ، رحمه الله تعالى. كان شيخ وقته فى زمانه فى التصوف ، يرجع إلى أنواع من العلم ، وكان مذهبه الزهد فى الدنيا ، وأدرك جماعة من العلماء والمحدّثين وحدّث عنهم.

قال ـ رحمه الله : «كنت مع أبى الحسن علىّ بن حيّان الدينورىّ فى مركب ، فوجد البرد ، فغطّاه إنسان جندى بكسائه ، فقلت : يا سيدى ، تتغطّى بكساء جندى!؟ فقال : أترى أن أبخل عليه أن يغفر الله ـ عزّ وجلّ ـ له!؟».

وتجىء (٥) وأنت مشرّق تجد على يمينك قبرا ، كتب عليه «السيد الشريف الزفتاوى سمسار السكر ، كان يفعل الخير».

__________________

(١) فى «م» : «فادفعى له هذا القميص وهذا السروال».

(٢) فى «م» : «إلى زيارة قبره».

(٣) فى «م» : «جزاك الله خيرا».

(٤) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ١٣٣].

(٥) من قوله : «وتجىء» إلى نهاية الفقرة عن «م» وساقط من «ص».

٣١٦

قبر دينار العابد (١) :

وإلى جانبه من البحرى قبر الشيخ دينار العابد ، بجانب ضريح «الفقاعى» رحمه الله تعالى.

كان من كبار الزهاد الصالحين ، وله كرامات كثيرة ، من جملتها أنه اشتهر عنه أنه كان إذا قدّم إليه طعام فيه حرام يرى فيه ثعبانا (٢) يريد أن ينهش يده فيتركه.

وحكى (٣) عنه أنه قال : اجتمعت أنا و «عتبة الغلام» و «صالح المرّى» ومعنا جماعة من الصّالحين ، ومضينا إلى بيت «أبى جهير» الضرير ، فطرقنا عليه الباب ، فكلّمتهم ابنته وقالت : ما تريدون (٤)؟ فقالوا : نريد زيارة الشيخ ، فقالت : ادخلوا. قال : فدخلنا فسلّمنا عليه ، فتقدم عتبة فسلّم عليه ، فقال : من أنت يرحمك الله؟ قال : أنا «عتبة الغلام». قال : أنت الذي جئت آخرا فصرت أولا. ثم تقدّمت ، فقال : من أنت؟ فقال «عتبة» : هذا «دينار» العابد ، فقال : أنت دينار؟ قلت : نعم ، قال : «إيّاك أن يراك على ما نهاك فتسقط من عينه». ثم تقدّم «المرّى» فسلّم عليه ، فقال : من أنت؟ قال : أنا «صالح المرّى» ، قال : أنت الذي تقتل المحبّين بقراءتك؟! أما كان فى كتاب الله آية تقتلك وتريح المحبّين منك؟ اقرأ علىّ من كتاب الله تعالى. قال : فخفت أن أقرأ عليه آية فى ذكر النّار فيتخوّف ويموت ، أو فى ذكر الجنّة فيشتاق إليها. قال : فقرأت عليه (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)(٥). فزعق ووقع وقال :

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ١٣١].

(٢) فى «م» : «ثعبان» خطأ ، والصواب بالنصب.

(٣) من هذا الموضع إلى نهاية الترجمة عن «م» وساقط من «ص».

(٤) فى «م» : «ما تريدوا».

(٥) سورة النحل ـ الآية ٦٨.

٣١٧

يا صالح ، زدنى. قال : فقرأتها عليه ثانيا ، فقال : يا صالح ، إذا كان دابّة فهمت على الله خطابه ، اقرأ علىّ! فقرأت عليه ، وإذا به شهق شهقة مات فيها ، فقلنا : يا صغيرة ، مات أبوك! فقالت : هل فيكم «صالح المرّى»؟ فإنى سمعته يقول : إنى سمعت صالحا المرّى يقرأ من أربعين سنة ، وسألت الله ألّا يقبضنى حتى يسمعنيه مرة ثانية ، فتولّوه ، ما عندى من يتولّاه ـ رضى الله عنه (١).

وبجواره قبر أبى عبد الله بن الوشاء ، يزار أيضا ، رحمه الله تعالى.

قبر الشيخ العالم الزاهد المعروف بابن الفقاعى :

وهو أبو الحسن على بن أبى الحسن ، رحمه الله (٢). وكان من كبار مشايخ مصر ، صحب الشيخ أبا الحسن (٣) الدّينورىّ ، وغيره. وكان يقول : «والله ما أدّبنى أبواى قطّ ، ولا احتجت إلى تأديبهم ، وإنّما أنا مؤدّب من الله تعالى».

وقال رحمه الله : قال لى الشيخ أبو الحسن الدّينورى : امض (٤) معى إلى الحمّام. فقلت : حتى أستأذن والدتى (٥). فمضى إليها واستأذنها ، فقالت : امض مع الشيخ وقم فى خدمته. فدخل الشيخ الحمّام ، فلم يزل ابن الفقاعى قائما (٦) ، فقال الشيخ له : اجلس. فقال : إنّ أمّى لم تأمرنى بالجلوس (٧). فما جلس حتى خرج من الحمّام.

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) من أول الفقرة إلى هنا عن «م».

(٣) فى «م» : «أبى الحسن».

(٤) فى «م» : «امضى» خطأ ، والصواب بحذف الياء.

(٥) فى «ص» : «أمى».

(٦) فى «م» : «واقفا».

(٧) فى «م» : «لا يمكننى أن أجلس ، لأن أمّى لم تأمرنى بالجلوس».

٣١٨

وقال : رأيت ليلة من الليالى كأنّ القبور مفتّحة ورجل موكّل بها ، فقلت : كيف حال هؤلاء فى قبورهم؟ فقال : نادمين ، أيديهم على خدودهم ، وجعل يده تحت خدّه.

وقال أيضا : كنّا (١) بكهف السودان عشيّة عرفة وقد اجتمعنا للدعاء ، وطابت النفوس ، وخشعت القلوب (٢) ، وإذا بشابّ حسن الشّباب والوجه ، على فرس حسن (٣) ، فجعل يلعب تحت المكان ، فلما رآه الجماعة شغلوا به عن الدعاء والذّكر ، فقلت : يا أصحابنا ، إنّى أخاف أن يكون هذا الشاب «إبليس» فقد جاءكم يقطعكم عن الله تعالى. فو الله ما أتممت كلامى (٤) حتى غاص فى الأرض هو والدّابّة.

وروى عنه أيضا أنّ بعض أصحابه أصابه وجع فى ركبته ، فجاء إليه وقال : يا شيخ ، أنا أسألك الدعاء لى ، وشكا إليه ما يجد من الألم ، فقال له : امض إلى الجبل تجد اثنى عشر رجلا ، من وجدت منهم اسأله أن يدعو لك. قال : ففعلت ، فوجدت رجلا وهو قائم يصلى ، فوجدت عليه هيبة عظيمة (٥) ، فجلست خلفه حتى فرغ ، فسلّمت عليه وشكوت إليه ما أجد من ألم الوجع (٦) ، وسألته الدعاء ، قال : فوضع يده على ركبتى ، فوجدت العافية من ساعتى. ثم قال : من دلّك علىّ؟ فقلت : الشيخ أبو الحسن الفقاعى.

فقال (٧) : إذا وصلت إليه فسلّم عليه وقل له : أنت باق على شهوتك. فجئت

__________________

(١) فى «م» : «كنت». وكهف السودان بالجبل المقطم.

(٢) فى «م» : «وطابت القلوب وخشعت».

(٣) فى «م» : «والفرس الذي تحته مليحة».

(٤) فى «ص» : «ما استتممت الكلام».

(٥) قوله : «فوجدت عليه هيبة عظيمة» عن «م» وساقط من «ص».

(٦) فى «م» : «وشكوت له ما أجد من الوجع».

(٧) فى «م» : «فقال لى».

٣١٩

إليه فأخبرته بذلك ، فبكى بكاء شديدا ثم قال : والله لو علمت أنه يقول لك ذلك ما دللتك عليه. فقلت له : يا سيدى [عرّفنى](١) ما السبب؟ فقال لى : قم إلى شغلك. فقلت : والله ما أقوم حتى تحدّثنى. فقال لى : هؤلاء كانوا اثنى عشر رجلا يعبدون الله تعالى فى ذلك الموضع ، وكانوا كلّ ليلة ينزوى كل واحد منهم فى مكان ويجيء بطبق فيه اثنا عشر (٢) رغيفا وحوت سمك ، فجلست معهم حتى جاءت نوبتى ، فقالوا لى : قم ، فلعلّ الله تعالى أن يأتيك بالرزق. فقمت وجلست فى زاوية ، ورفعت طرفى إلى السماء وقلت : اللهم لا تخجلنى بينهم ، فلم أشعر إلّا وإلى جانبى طبق فيه ثلاثة عشر رغيفا وحوت سمك. فقلت فى نفسى : لقد اشتهيت ، لو كان معه قليل ملح تذهب به حلاوة السمك! وإذا بالملح قد وضع على الطبق ، فجئت بالطبق إليهم وعليه ملح زائد.

فقالوا لى : من أين هذا الملح؟ فسكتّ ، فقالوا لى : قل لنا ما سبب هذا الملح؟

إن كنت اشتهيته فليس بجيّد ، وإن كان بغير الشهوة (٣) فجيد. فقلت : [إنما] اشتهيته. فقالوا : نحن (٤) فى هذا المكان لا نشتهى شيئا ، وأنت متعرّض فلا تصحبنا ، فمضيت وتركتهم.

وله فضائل كثيرة وسياحات وعبادات. [وتوفى ـ رحمه الله تعالى ـ لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة ، كما على قبره مكتوب ، وقبره مشهور](٥) ، وهو فى فناء مسجده (٦) المعروف به فى الجبّانة ، وبنى مساجد فى غير هذا الموضع (٧) من البلد وعمّرها ، وله كرامات يطول شرحها ، وكان

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٢) فى «م» : «اثنى عشر» لا تصح.

(٣) فى «ص» : «أو أتاك بغير شهوة». وما بين المعقوفتين بعده عن «م».

(٤) فى «م» : «نحن قوم».

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٦) فى «ص» : «وقبره فى فناء مسجده».

(٧) فى «ص» : «فى غير موضع».

٣٢٠