مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

وعن أبى سعيد الخدرىّ ، رضى الله عنه ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «إنّ الميّت يعرف من يغسله ، ومن يحمله ، ومن يدليه فى قبره». رواه أحمد فى المسند.

وقد حكى أن امرأة كانت تخرج لقبر زوجها ومعها أولادها ، فتخليهم فى المقبرة ، فيكشفون وجوههنّ .. قيل (١) : فرأته فى المنام وهو يقول لها : لا تكشفى وجوه بناتى على أهل المقابر .. أما تعرفين أنهم حولى كالأحياء؟!

وروى أنّ رجلا أراد أن يقضى حاجته فى المقبرة ، فكشف عورته ، فصاح به إنسان : استتر .. أما تستحى أن تكشف عورتك بين أهل القبور (٢)؟!

* * *

__________________

(١) فى «م» : «قال» .. ومن قوله : «وقد حكى ...» إلى نهاية هذا الفصل ، عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

١٢١

فصل

فيمن ظهر عذاب الله له فى القبر

عن عبد الله بن محمود (١) قال : كنت عند ابن عباس ، رضى الله عنهما ، فأتاه رجل فقال : أقبلنا حجّاجا ، حتى إذا كنا بالصّفاح (٢) توفّى صاحب لنا ، فحفرنا له قبرا ، فإذا فيه أسود (٣) قد أخذ اللّحد كلّه ، ثم حفرنا قبرا آخر ، فإذا فيه أسود قد أخذ اللحد كله ، فتركناه وآتيناك نسألك فيما تأمرنا به (٤) .. قال : ذلك عمله الذي كان يعمل به ، فادفنوه فى بعضها ، فو الله لو حفرتم الأرض كلها لوجدتم ذلك .. قال : فألقيناه فى قبر منهما (٥) ، فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته ، فسألناها عنه ، فقالت : كان يبيع الطعام فيأخذ قوت أهله كل يوم ، ثم ينظر مثله من الشعير والقصب فيقطّعه فيجعله فى طعامه.

وقال عمرو بن دينار (٦) : كان لرجل من أهل المدينة أخت فماتت ،

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «عبد الحميد بن محمود». وكلاهما لم يرد لهما ذكر فى تراجم المحدّثين ، ولعله يريد «عبد الله بن حنين» مولى العباس بن عبد المطلب ، وهو مدنىّ ثقة ، وقد روى عن ابن عباس ، وأبى أيوب الأنصارى والمسور بن مخرمة وغيرهم.

[انظر رجال صحيح البخارى ج ١ ص ٤٠١ ، ورجال صحيح مسلم ج ١ ص ٣٥٨].

(٢) الصّفاح : موضع بين حنين وأنصاب الحرم ، على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش. [انظر معجم البلدان ج ٣ ص ٤١٢ مادة صفاح].

(٣) الأسود : العظيم من الحيّات.

(٤) فى «ص» : «فما تأمرنا؟».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «منها» وهى تدل على أنهم حفروا له أكثر من قبرين.

(٦) هو : عمرو بن دينار ، الجمحى بالولاء ، أبو محمد الأثرم ، فقيه ، كان مفتى أهل مكة ، وهو فارسى الأصل ولد بصنعاء سنة ٤٦ ه‍ ، وتوفى بمكة سنة ١٢٦ ه‍. قال شعبة : ما رأيت أثبت فى الحديث منه. وقال النسائى عنه : ثقة ثبت ، وله خمسمائة حديث.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٧٧ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١١٣ و ١١٤ ، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص ٥٠ ، وفيه تاريخ وفاته سنة ١٢٥ ه‍ ، وميزان الاعتدال ج ٣ ص ٢٦٠].

١٢٢

فدفنها ورجع ، فذكر أنّ كيسا سقط منه فى القبر (١) ، فاستعان برجل من أصحابه ونبشا القبر ، فوجد الكيس ، فقال للرجل : تنحّ (٢) حتى أنظر على أى حال أختى .. فرفع بعض ما كان على اللّحد ، فإذا القبر يشتعل نارا ، فردّه وسوّى القبر ورجع إلى أمّه ، فقال : أخبرينى ما كانت تصنع أختى (٣) ـ أو قال : ما كان حال أختى؟! قالت : كانت أختك تؤخر الصلاة ولا تصلى ، وتأتى أبواب الجيران إذا ناموا فتجعل أذنها فى أبوابهم لتسمع حديثهم.

وقال عبد المؤمن بن عبد الله القرشى : قيل لنبّاش ، وقد تاب (٤) : ما أعجب ما رأيت؟! قال : نبشت قبر رجل (٥) فإذا هو مسمّر بالمسامير فى سائر جسده ، ومسمار فى رأسه ، وآخر فى رجليه .. وقيل : ما أعجب ما رأيت؟ قال : رأيت جمجمة إنسان مصبوب فيها الرصاص.

وقيل لآخر (٦) : ما كان سبب توبتك؟ فقال : عامّة من كنت أنبشه كنت أراه محوّل الوجه عن القبلة.

وقال أبو المصرخّى : خرجت غازيا ، فمررت ببعض حصون الشام ليلا ، فوجدت باب الحصن مغلقا ومقبرة على الباب ، فجئت بجنب المقبرة بالقرب من

__________________

(١) فى «ص» : «فذكر أنه نسى كيسا كان معه فى القبر».

(٢) فى «ص» : «تنحّ عنى» أى : ابتعد ومل إلى ناحية.

(٣) فى «ص» : «ما كان حال أختى» وستأتى.

(٤) فى «م» : «ثاب». وكلاهما بمعنى واحد ، يقال : ثاب إلى الله ، أى : تاب ورجع إليه. والنّبّاش : هو الذي يفتش القبور عن الموتى ليسرق أكفانهم وحليّهم.

(٥) فى «ص» : «نبشت رجلا».

(٦) من هنا إلى قوله : «.. ومن ظلمة القبور علينا» عن «ص» وساقط من «م».

١٢٣

بئر محفورة ونمت ، وإذا بهاتف من القبر يقول : «.. عجبا! ما عجبت من ثقل الترب ومن ظلمة القبور علينا؟» (١).

وقال محمد بن خلف : حدّثنى صديق لى قال : رأيت فى منامى كأننى مجتاز بمقبرة ، ورأيت صديقا لى جالسا عند قبره (٢) ، فقلت : يا فلان ، ما خبرك؟ .. فأخرج يده فإذا أثر كتاف (٣) فيها ، فقلت : ما هذا؟ .. فقال : كنت مكتوفا فاجتاز فلان فوقف على المقبرة وقرأ إحدى عشرة مرة (٤)(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وجعل ثوابها لأهل المقبرة ، فأصابنى ما حلّ كتافى ، وهذا أثره.

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «م».

(٢) فى «ص» : «عند قبر».

(٣) الكتاف : ما شدّ به من حبل ونحوه.

(٤) فى «م» و «ص» : «أحد عشر مرة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

١٢٤

فصل

فى مغفرة (١) الله تعالى للوالد يحفّظ ولده القرآن

يروى بريدة (٢) قال : كنت عند رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فسمعته يقول : «إنّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة كالرجل الشّاحب (٣) ، فيقول له : هل تعرفنى؟! فيقول : ما أعرفك .. فيقول : أنا صاحبك الذي أظمأتك فى الهواجر (٤) ، وأسهرت ليلك (٥) .. قال : فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ، ويوضع تاج الوقار على رأسه ، ويكسى والداه (٦) حلّتين لا يقوّم لهما

__________________

(١) فى «م» : «فى معرفة».

(٢) هو بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمى .. من أكابر الصحابة ، أسلم قبل بدر ولم يشهدها ، وشهد خيبر وفتح مكة ، واستعمله النبي صلّى الله عليه وسلم على صدقات قومه ، وسكن المدينة ، وانتقل إلى البصرة ، ثم إلى مرو فمات بها سنة ٦٣ ه‍. وله ١٦٧ حديثا.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٢ ص ٥٠ ، وأسد الغابة ج ١ ص ٢٠٩ و ٢١٠ ، ورجال صحيح البخارى ج ١ ص ١٢٢ ، ورجال صحيح مسلم ج ١ ص ٩٧ ، وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٦٩ ـ ٤٧١ ، وطبقات ابن سعد ج ٤ ص ٢٤١ ـ ٢٤٣ ، وكتاب الجرح والتعديل ج ٢ ص ٤٢٤ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٧٠ ، وفيها توفى سنة ٦٢ ه‍].

(٣) فى «م» : «الصاحب». تصحيف ، والتصويب من نص الحديث الذي رواه الدارمى فى سننه ، فى كتاب فضائل القرآن ج ٢ ص ٤٥٠ و ٤٥١ ط دار إحياء السّنّة النبوية ، ولفظ الحديث : «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر كالرجل الشاحب ..».

(٤) فى الدارمى : «أنا صاحبك القرآن ..». والهواجر : جمع هاجرة ، وهى نصف النهار عند اشتداد الحرّ.

(٥) بعد هذا فى «ص» : «إنّ كل تاجر من وراء تجارته ، وإنّى اليوم من وراء كل تجارة». وفى الدارمى : «وإنّك اليوم من وراء كل تجارة».

(٦) فى «م» و «ص» : «والده» وما أثبتناه مطابق لنص الحديث.

١٢٥

أهل الدنيا ، فيقولان : بم كسينا هذا؟ فيقال لهما : بأخذ ولدكما القرآن .. ويقال له : اقرأ وارق (١) واصعد فى درج الجنة وغرفها .. فهو فى صعود ما دام يقرأ حدرا أو ترتيلا» (٢).

وقد أثبت فى هذا الحديث أنه بمجرد تعليم ولدهما (٣) القرآن يحصل لوالديه من تعلّمه هذا الثواب الجزيل ، فإذا قرأه (٤) قاصدا وصول الثواب إليهما ، كان من طريق التنبيه ، كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما)(٥). وحصول بعمومه أن يلحقهما ثواب تعلّمه القرآن ، وإن كان التعليم بعد موتهما ، إذ لم يخصّ (٦) حال الحياة دون الممات ، بل عمومه (٧) شامل لجميع الحالات.

__________________

(١) فى «م» : «وارقى» خطأ ، والصواب حذف الياء.

(٢) فى «م» : «هدرا» تصحيف ، والحدر : الإسراع فى القراءة. وفى «ص» : «هذّا» وهى بمعنى الحدر .. وفى الدارمى : «ما دام يقرأ هذّا كان أو ترتيلا». والهذّ فى القراءة غير محمود أو مستحبّ.

(٣) فى «م» : «ولدكما».

(٤) فى «م» : «قرأت».

(٥) سورة الإسراء ـ من الآية ٢٣.

(٦) فى «م» : «إذ لم يحصل فى حال الحياة».

(٧) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «بعد عمومه».

١٢٦

فصل

فيمن أجيزت وصيته بعد مماته

لمّا كان يوم اليمامة (١) خرج ثابت بن قيس (٢) مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة (٣) ، فلما لقوا العدوّ وانكشفوا ، قال ثابت وسالم مولى أبى حذيفة :

__________________

(١) فى «م» و «ص» : «يوم القيامة» تصحيف من الناسخ.

(٢) هو ثابت بن قيس بن شمّاس الخزرجىّ الأنصارى ، صحابىّ كان خطيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، شهد أحدا وما بعدها من المشاهد .. وعن أنس بن مالك ، أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، افتقد ثابت بن قيس ، فقال : «من يعلم لى علمه؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله ، فذهب فوجده فى منزله منكّسا رأسه. فقال : ما شأنك؟ قال : شرّ ، كنت أرفع صوتى فوق صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقد حبط عملى ، وأنا من أهل النار! فرجع الرجل إلى رسول الله فأعلمه ـ فرجع إليه ببشارة عظيمة ـ فقال رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم للرجل : اذهب فقل له : لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة».

واستشهد ثابت يوم اليمامة فى خلافة أبى بكر الصّدّيق سنة ١٢ ه‍.

[انظر الأعلام ج ٢ ص ٩٨ ، وأسد الغابة ج ١ ص ٢٧٥ و ٢٧٦].

(٣) فى «م» : «مسلمة». وفى «ص» : «مسيلة» وكلاهما تحريف.

وهو مسيلمة الكذّاب ابن ثمامة بن حبيب الحنفى الوائلى ، متنبّئ ولد ونشأ باليمامة ، وهو من المعمرين. ويضرب بكذبه المثل فيقال : «أكذب من مسيلمة». وقد جاء فى وفد من بنى حنيفة فأسلموا ـ وذلك بعد فتح مكة ـ ولما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم : «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنى قد أشركت فى الأمر معك ، وإنّ لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكنّ قريشا قوم يعتدون» .. فأجابه : «بسم الله الرّحمن الرّحيم : من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين». وكان ذلك فى أواخر سنة ١٠ ه‍ ، وتوفى النبي صلّى الله عليه وسلم قبل القضاء على فتنته ، فلما انتظم الأمر لأبى بكر انتدب له أعظم قواده «خالد بن الوليد» على رأس جيش قوى ، هاجم ديار بنى حنيفة ، وصمد هؤلاء ، فكانت عدّة من استشهد من المسلمين ـ على قلّتهم فى ذلك الحين ـ ألفا ومائتى رجل ، منهم أربعمائة وخمسون صحابيّا .. وانتهت المعركة بظفر المسلمين ومقتل مسيلمة سنة ١٢ ه‍ .. ولا تزال إلى اليوم آثار قبور الشهداء من الصحابة ظاهرة فى قرية «الجبيلة» بقرب «العيينة»

١٢٧

ما هكذا (١) كنا نقاتل مع رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فحفر كل واحد منهما حفرة وثبتا فيهما ، وقاتلا حتى قتلا ، وعلى ثابت يومئذ درع ثمين (٢) ـ أو قال : نفيس ـ فمر به رجل من المسلمين فأخذه ، فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت فى منامه فقال : إنى موصيك بوصية ، فإيّاك أن تقول إنه حلم (٣) .. إنى لمّا قتلت أمس مرّ بى رجل من المسلمين فأخذ درعى ، ومنزله فى أقصى الناس ، وعند خبائه فرس يستنّ فى طوله (٤) ، فأت خالد بن الوليد فمره أن يبعث درعى فيأخذه منه ، فإذا قدمت (٥) المدينة على خليفة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فقل (٦) له إنّى علّى من الدّين كذا وكذا ، وفلان من رقيقى عتيق ، وفلان .. فأتى الرّجل خالدا (٧) وأخبره ، فبعث إلى الدرع وأتى به (٨) ، وحدّث أبا بكر برؤياه .. فلا يعلم أحد (٩) أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، واستشهد باليمامة.

__________________

حيث كانت الواقعة.

[انظر الأعلام ج ٧ ص ٢٢٦ ، ونسب قريش ص ٣٢١ ط دار المعارف ، وفتوح البلدان للبلاذرى ص ٩٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٩ وصفحات أخرى متفرقة ، وتاريخ الطبرى ج ٣ ص ٢٨١ ـ ٣٠١ وصفحات أخرى متفرقة ، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٦ ص ٣٢٨ ـ ٣٣١ وصفحات أخرى متفرقة ، وفيها عدد ما قتل من أتباع مسيلمة من عشرة آلاف قتيل إلى واحد وعشرين ألفا ، ومن المسلمين من خمسمائة إلى ستمائة شهيد ، والله أعلم بذلك. وشذرات الذهب ج ١ ص ٢٣].

(١) هنا اضطراب فى السياق فى «م». والتصويب من أسد الغابة و «ص».

(٢) فى «ص» : «درع له نفيس» وستأتى. وفى أسد الغابة : «درع نفيسة» والدرع مؤنثة فى الغالب ، وقد تذكّر. وهى قميص من حلقات من الحديد متشابكة ، يلبس وقاية من السلاح.

(٣) فى أسد الغابة : «فإيّاك أن تقول هذا حلم فتضيعه».

(٤) هكذا فى «ص» والمصدر السابق .. وفى «م» : «يبين». تصحيف. واستنّ الفرس : عدا لمرحه ونشاطه شوطا أو شوطين ولا راكب عليه. والطّول : الحبل الطويل يشدّ أحد طرفيه فى وتد أو غيره ، والطرف الآخر فى يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه.

(٥) فى «ص» : «قدم». أى «خالد».

(٦) فى «ص» : «فيقل».

(٧) فى أسد الغابة : «فاستيقظ الرجل فأتى خالدا فأخبره».

(٨) فى «ص» : «وأخذه».

(٩) فى «ص» : «فلا نعلم أحدا».

١٢٨

فصل

فى صلاة الأنبياء فى قبورهم

وفيمن فتح قبره من الشهداء فلم ير تغيّرا

فى جسمه ، ووجد لم يبل ودمه يسيل

روى أنس بن مالك قال ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «مررت على موسى عليه السلام ليلة أسرى بى فى الكثيب الأحمر وهو قائم يصلى فى قبره ..» وقد ذكرنا فيما تقدّم حديث ثابت البنانى أنه رئى فى قبره وهو يصلى .. فالحمد لله الذي جعل من أمّة محمد ، صلّى الله عليه وسلم ، كنبىّ.

وقال جابر بن عبد الله : كتب معاوية إلى عامله بالمدينة أن يجرى عينا إلى «أحد» (١). وكتب إليه عامله أنها لا تجرى إلّا على قبور الشهداء ، فكتب إليه أن أنفذها (٢) ، قال : فسمعت جابر بن عبد الله ، رضى الله عنه ، يقول : فرأيتهم يخرجون علىّ أرطاب الرجال (٣) كأنهم رجال نوّم ، حتى أصابت المسحاة (٤) قدم

__________________

(١) أى : جبل أحد .. وفى «م» : «أن يجرى عينا إلّا على قبور الشهداء» وقد سقطت منها كلمات سهوا من الناسخ.

(٢) أى : احفرها.

(٣) أى : رجال أجسادهم رطبة كأنهم ماتوا بالأمس ولم تبل أجسادهم : وفى «م» و «ص» : «رقاب» مكان «أرطاب». وما أثبتناه عن أسد الغابة ج ٢ ص ٥٥ (ترجمة حمزة بن عبد المطلب». وهو الأوجه.

(٤) فى «م» : «المساحة» تصحيف .. والمسحاة : المجرفة التى يسحى بها الطين أو التراب ، اى : يجرف.

١٢٩

حمزة بن عبد المطلب (١) ، فانبعثت دما ، وكان له مقدار أربعين سنة (٢).

وجماعة فى (٣) جبانة مصر من الصالحين حفر عليهم بعد سنين ، فوجدوا لم يبلوا ، وفاح من قبر أحدهم مسك أعبق الجبّانة (٤) .. وبعضهم وجدت أكفانه جديدة وحكى لنا بعض الحفّارين بمصر ، قال : حفرت على فقيه بعد سبعين سنة ، فوجدت جسده (٥) أبيض لم يبل .. وقيل إنه الشافعى ، رضى الله عنه.

وكان بعض الصالحين [يقول](٦) : لو حفروا علىّ بعد مائة سنة لوجدت لم أبل ، فاتفق أنه مات ولد ولده بعد مائة سنة ، فحفر عليه فوجد لم يبل .. وحفر على ابن شمعون الواعظ بعد أربعين سنة ، وكان دفن فى بيته ، وحوّل إلى مقبرة أحمد بن حنبل ، رضى الله عنهما ، وأكفانه تقعقع (٧) .. ولمّا دفن أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ رأى رجل (٨) فى النوم كأنّ قائلا يقول : هذا ثواب «أحمد» قد فرّق على أهل المقابر.

__________________

(١) هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو عمارة ، عم النبي صلّى الله عليه وسلم ، وأخوه من الرضاعة ، أرضعتهما «ثويبة» مولاة أبى لهب ، وهو أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسنتين ، وقيل بأربع ، والأول أصح ، ولد سنة ٥٤ قبل الهجرة بمكة ، وكان أحد صناديد قريش وسادتهم فى الجاهلية والإسلام .. شهد بدرا ، وكان يقاتل فيها بسيفين ، واستشهد يوم أحد ، سنة ٣ ه‍.

[انظر الأعلام ج ٢ ص ٢٧٨ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٥١ ـ ٥٥].

(٢) فى «ص» : «فانبعث دما بعد أربعين سنة» .. والرواية فى أسد الغابة : «قال جابر : استصرخنا على قتلانا يوم أحد ، يوم حفر معاوية العين ، فوجدناهم ـ أى الشهداء ـ رطابا يثنون ـ زاد عبد الرحمن : وذلك على رأس أربعين سنة ـ وزاد جرير بن حازم ، عن أيوب : فأصاب المرّ (أى المسحاة ، أو مقبضها) رجل حمزة ، فطار منها الدم». [المصدر السابق ص ٥٥]

(٣) فى «م» : «عن».

(٤) أى : ملأها برائحة الطّيب والمسك.

(٥) فى «ص» : «خدّه».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص» ولم يرد فى «م».

(٧) أى : جديدة يصدر منها صوت ، أو لم تبل أو تتأثر بمرور الزمن. وأصل القعقعة : صوت السلاح ونحوه.

(٨) فى «م» : «رجلا» خطأ ، والصواب بالرفع.

١٣٠

ذكر قبور الصحابة والقرابة والتابعين

والعلماء والأولياء الصالحين والأقطاب العارفين بالقرافة ...

وذكر ما ورد من أحوالهم ، وذكر إيابهم ، رضى الله عنهم أجمعين (١)

عمرو بن العاص (٢) :

هو أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد ـ بضم السين وفتح العين ـ بن سهم (٣) بن عمرو (٤) بن كعب بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان السّهمى القرشى ، أحد أمراء رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، يكنى أبا عبد الله ، وقيل أبا محمد ، وأمّه النابغة (٥) بنت حرملة ـ وقيل حريملة.

__________________

(١) فى «م» : «قبر» مكان «قبور» .. وقد كرر الناسخ لفظ «العلماء» و «الأولياء» سهوا منه.

(٢) هذا العنوان من عندنا. [وانظر ترجمة عمرو بن العاص فى الأعلام ج ٥ ص ٧٩ ، وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٤٤ ـ ٢٤٨ ، وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٥٤ ـ ٧٧ ، وطبقات ابن سعد ج ٤ ص ٢٥٤ ـ ٢٦١ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٢٨٥ و ٢٨٦ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٢٢٤ ، والحلّة السيراء ج ١ ص ١٣ ـ ١٧ ط دار المعارف ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٥٣ ، ووفيات الأعيان ج ٧ ص ٢١٢ ـ ٢١٥ ، ونسب قريش ص ٤٠٩ ـ ٤١١ ، وجمهرة أنساب العرب ص ١٦٣].

(٣) فى «م» : «سعيد بن سعد بن سعد بن سهم». وما أثبتناه عن أسد الغابة ونسب قريش وجمهرة أنساب العرب. وسعيد وسعد أخوان. وجاء ذكر عمرو بن العاص ونسبه فى «ص» مختصرا عما ورد فى «م».

(٤) فى «م» : «عمر» وقد سقطت الواو سهوا من الناسخ. وفى أسد الغابة : «سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب».

(٥) لم يرد لها ذكر فى «ص» .. وفى «م» : «النابتة» تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، وهى : سلمى بنت حرملة ، وتلقّب بالنابغة ، من بنى عنزة ، أصابتها رماح العرب وأخذت سبيّة ، فبيعت بعكاظ ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة ، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان ، ثم صارت إلى العاص بن وائل ، فولدت له فأنجبت.

[انظر أسد الغابة ج ٤ ص ٢٤٤ ، وجمهرة أنساب العرب ص ١٦٣ ، ونسب قريش ص ٤٠٩ ، وغيرها من المراجع المذكورة بالهامش رقم «٢»].

١٣١

قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم فى سنة ثمان قبل الفتح بأشهر مع خالد بن الوليد ، وسلمان بن طلحة ـ كما سيأتى بيانه ـ مسلما ـ وقيل : بل أسلم بين الحديبية وخيبر .. واختلف فى قبره ، فذكر حرملة (١) صاحب الشافعى أنه فى قبر عقبة ابن عامر (٢) .. وذكر قوم أنه غربى الخندق وشرقى المشهد .. ولم يبلغنا فى تاريخ مصر (٣) أن عمرو بن العاص خرج من مصر بعد أن وليها لمعاوية ، رضى الله عنهما ..

وكان عمرو بن العاص تاجرا (٤) فى الجاهلية ، وكان يختلف بتجارته إلى مصر من الأدم (٥) والعطر .. فقدم مرّة بذلك ، فأتى الإسكندرية ، فوافق عيدا لهم يجتمعون فيه ويلعبون ، فإذا همّوا (٦) بالانصراف اجتمع أبناء الملوك وأحضروا كرة لهم (٧) فتراموا بها بينهم ، وكان من فعالها (٨) المتعارف عندهم : من وقعت فى حجره ملك الإسكندرية ، أو قالوا : ملك مصر .. فجعلوا يترامون (٩) بها وعمرو فى النّظّارة (١٠) إذ طارت

__________________

(١) هو حرملة بن يحيى التّجيبىّ بالولاء ، نسبة إلى قبيلة «تجيب» ـ وقيل اسم امرأة نسب إليها أولادها ـ كان إماما جليلا رفيع الشأن ، ولد فى مصر سنة ١٦٦ ه‍ ، وكان حافظا للحديث ، روى عن الإمام الشافعى ، وعبد الله بن وهب ، وغيرهما ، وتوفى فى مصر سنة ٢٤٣ ه‍.

[انظر الأعلام ج ٢ ص ١٧٤ ، وطبقات الشافعية ج ٢ ص ١٢٧ ـ ١٣١ ، ووفيات الأعيان ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥ ، وميزان الاعتدال ج ١ ص ٤٧٢ و ٤٧٣].

(٢) هو الصحابى الجليل عقبة بن عامر الجهنى ، وستأتى ترجمة مفصلة له.

(٣) فى «ص» : «فى تاريخ من تواريخ مصر».

(٤) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «وكان عمر تاجر». لا تصح.

(٥) الأدم : الجلود. وبضم الهمزة والدّال : جمع إدام ، وهو ما يستمرأ به الخبز ، وما يؤتدم به.

(٦) فى «م» : «هو» ، تصحيف.

(٧) فى «م» و «ص» : «أحضروا أكرة لهم عملها حكما» هكذا ـ والأكرة هى الكرة أيضا. وقد تكررت بهذا اللفظ الأخير مرتين فى «م» و «ص» وأيضا فى حسن المحاضرة للسيوطى.

(٨) فى «ص» : «من شأنها».

(٩) فى «م» : «يتراموا» خطأ لغوى.

(١٠) فى «م» : «فى العطارة» تصحيف من الناسخ. والنّظّارة : القوم ينظرون إلى الشيء.

١٣٢

الكرة (١) فسقطت فى حجره ، فعجبوا من ذلك وقالوا : ما كذبتنا هذه الكرة قطّ إلّا هذه المرة .. وأنّى لهذا الأعرابىّ أن يملك الإسكندرية؟! هذا مالا يكون (٢).

فلما فتح المسلمون الشام ، خلا (٣) عمرو بأمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ، رضى الله عنهما ، واستأذنه فى المسير إلى مصر ، وقال : إنّى عالم بها وبطرقها ، وهى أقل شىء منعة ، وأكبر أمرا .. فكره أمير المؤمنين عمر الإقدام على من فيها من جموع الروم ، وجعل عمرو يهوّن أمرها ، وقد أمر أصحابه أن يتسلّلوا (٤) فى الليل ، ثم اتبعهم ، فبعث إليه عمر أن كن قريبا منى (٥) حتى أستخير الله تعالى ، وذلك سنة ١٨ من الهجرة النبوية (٦).

__________________

(١) فى «م» : «غارت الأكرة» .. وفى «ص» : «عادت» والأخيرة صواب.

(٢) فى «م» : «وأنّى لهذا الرجل الأعرابى بملك الإسكندرية؟ هذا ما يكون». والصواب : «هذا مالا يكون». وقد أثبتناه عن «ص» .. وهذه القصة انفرد بها السيوطى ـ فى حسن المحاضرة ـ وحده من دون المؤرخين ، وتناقلتها بعض كتب التاريخ الحديثة على أنها قصة صحيحة ، وهى لا تثبت للنقد والتحليل العقلى والمنطقى ، وليس لها أصل صحيح ، وعدّها بعض الكتّاب حديث خرافة من خرافات المؤرخين الأولين ، وهى من وضع القصّاصين والوضّاعين الذين حشروها وحشروا الكثير غيرها بين ثنايا التاريخ الإسلامى لغاية فى نفوس أعداء الإسلام.

[انظر حسن المحاضرة للسيوطى ج ١ ص ٩٤ و ٩٥ ، وفضائل مصر للكندى ص ٥٠. وانظر «عمرو بن العاص» لصابر عبده إبراهيم من ص ١٤ ـ ٢١ سلسلة أعلام الصحابة].

(٣) فى «م» : «فلما مضيت» .. وفى «ص» : «فلما مضت فتح المسلمين للشام فخلا ..».

(٤) فى «م» : «يتسلسلوا». تحريف.

(٥) فى «م» : «فبعث إليه عمرك قريبا منى». قوله «عمرك» تصحيف.

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «سنة سبع وعشرين» ولا يصح ذلك ، وقد اختلفت الروايات فى فتح مصر ، فابن كثير وابن الأثير يقولان سنة ٢٠ ه‍ ، والبلاذرى ذكر مسير عمرو إلى مصر فى سنة ١٩ ه‍ ، والطبرى ما بين ١٩ ـ ٢٥. وأصح الروايات أنه اخترق صحراء سيناء حتى وصل إلى العريش ، وصادف يوم وصوله العاشر من ذى الحجة سنة ١٨ ه‍. وهو الموافق للثانى عشر من ديسمبر سنة ٦٣٩ م.

[انظر فتوح البلدان للبلاذرى ص ٢١٩ وما بعدها ـ فتوح مصر والمغرب. وانظر عمرو بن العاص لصابر عبده إبراهيم ص ٧٣].

١٣٣

وروى راشد ، مولى حبيب بن أوس الثقفى (١) قال : حدثنى عمرو بن العاص (٢) قال : لمّا انصرفنا يوم الأحزاب نحو الخندق ، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون برأيى ، ويسمعون منى ، فقلت لهم : تعلمون والله أنّى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّا كبيرا (٣).

وأنّى قد رأيت أمرا ، فما تأمرون فيه؟ قالوا : وما ذا رأيت؟ قال : رأيت أنّ ألحق بالنّجاشىّ (٤) ـ أو قال : نلحق بالنجاشى ـ فنكون عنده ، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشى ، فإن نكون تحت يده أحبّ إلينا من أن نكون تحت يد محمد ، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا بأن يأتينا منهم خير (٥). قالوا : إنّ هذا [هو](٦) الرأى .. قلت : فاجمعوا له أدما (٧) كثيرا ، فجمعوه ، فخرجنا حتى قدمنا عليه ، فو الله إنّا لعنده إذ جاء عمرو بن أميّة الضّمرىّ (٨) وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد بعثه (٩) إليه فى شأن جعفر والصحابة ، فدخل عليه ومعه كتابان (١٠) ، يدعوه فى أحدهما

__________________

(١) هو راشد بن جندل اليافعى ، محدّث مصرى ، روى عن مولاه حبيب بن أوس ، وعن أبى أيوب. فى بركة الطعام مع التسمية ، وروى عنه يزيد بن أبى حبيب .. وثّقه ابن حبّان. وقال : يروى المراسيل.

[انظر ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣٥ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٢٦٧].

(٢) فى «م» و «ص» : «حدثنى .. من فيه» أى : من فمه شفاهة.

(٣) فى «م» : «علوّا منكرا».

(٤) فى «ص» : «رأيت بأن نلحق بالنجاشى» وستأتى.

(٥) فى «م» : «خيرا» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٦) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٧) فى «م» : «واجمعوا أدما» والأدم : الجلود المدبوغة ، وقد مرّت.

(٨) هو عمرو بن أميّة بن خويلد الضّمرىّ ، صحابىّ ، أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وأول مشاهده «بئر معونة» .. وأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى النجاشىّ يدعوه إلى الإسلام سنة ستّ ، وكتب على يده كتابا ، فأسلم النجاشىّ ، وأمره أن يزوّجه أمّ حبيبة ويرسلها ويرسل من عنده من المسلمين .. وعاش عمرو بن أمية أيام الخلفاء الراشدين ، وشهد وقائع كثيرة علت بها شهرته. وكانت وفاته بالمدينة فى خلافة معاوية ، نحو سنة ٥٥ ه‍.

[انظر الأعلام ج ٥ ص ٧٣ ، وأسد الغابة ج ٤ ص ١٩٣ و ١٩٤].

(٩) فى «م» : «وكان دعاه رسول الله وبعثه».

(١٠) فى «م» : «كتابين» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه. ومن قوله : «ومعه كتابان ..»

١٣٤

إلى الإسلام ويتلو عليه القرآن ، فأخذ النجاشى كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوضعه على عينيه ، ونزل عن سريره فجلس على الأرض ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وشهد شهادة الحق وقال : لو كنت أستطيع أن آتيه لآتيته .. وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإجابته وتصديقه ، وإسلامه لله ربّ العالمين على يد جعفر بن أبى طالب. وكان جعفر ممّن هاجر إلى الحبشة .. وفى الكتاب الثانى يأمره أن يزوّجه بأمّ حبيبة ، بنت أبى سفيان ، وكانت قد هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش الأسدىّ ، فتنصّر هناك ، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من قبله من أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة ، وأن يحملهم ، ففعل ، وزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمّ حبيبة ، وأصدقها أربعمائة دينار ، وأمر بجهازها وما يصلحهم ، وحملهم فى سفينة مع عمرو بن أميّة ، وجعل كتابى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى حقّ من عاج وقال : لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها.

فلما دخل عمرو بن أمية عند النجاشى لم نكن عنده ، ولم ندر ما وقع كما ذكر ، ثم خرج من عنده لمحل الضيافة كعادة الرّسل (١) ، فقلت لأصحابى : هذا عمرو بن أمية قد خرج من عند النجاشى (٢) ، فلو دخلت على النجاشى فسألته إيّاه فأعطانيه فضربت عنقه ، فإذا فعلت ذلك رأت (٣) قريش أنّى قد أجزأت عنها حين قتلت (٤) رسول محمد صلّى الله عليه وسلم .. قال : فدخلت على النجاشى فسجدت له كما كنت أصنع ، فقال : مرحبا بصديقى .. أهديت (٥) لى من بلادك شيئا؟ قال : قلت : نعم أيها الملك ، أهديت لك أدما كثيرا .. قال : ثم قربته إليه ، فأعجبه واشتهاه ، ثم قلت له : أيها الملك ، إنى قد رأيت رجلا

__________________

إلى قوله : «كعادة الرسل» عن «م» وساقط من «ص».

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) قوله : «قد خرج من عند النجاشى» عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٣) فى «م» : «رأيت» تصحيف.

(٤) فى «م» : «قلت» لا تصح.

(٥) فى «م» : «هديت».

١٣٥

خرج من عندك ، وهو رسول رجل عدوّ لنا (١) ، فأعطنيه لأقتله!! فغضب .. ثم مدّ يده وضرب بها أنفه ضربة (٢) ظننت أنه كسره (٣) ، فلو انشقت (٤) الأرض لدخلت فيها خوفا منه (٥) .. فقلت : أيها الملك ، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك عنه (٦) .. قال : أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه النّاموس الأكبر الذي كان يأتى (٧) موسى لتقتله؟! فقلت : كذلك هو؟! قال : ويحك يا عمروا! أطعنى واتّبعه (٨) ، فإنه .. والله ـ لعلى الحق ، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى عليه السلام على فرعون وجنوده .. قال : فقلت : أفتبايعنى على الإسلام؟ قال : نعم .. فبسط يده ـ أو قال : يديه ـ فبايعته على الإسلام ، ثم خرجت إلى أصحابى. وقد حال رأيى عمّا (٩) كنت عليه ، وكتمت إسلامى عن أصحابى (١٠) ، وخرجت عامدا إلى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فلقيت خالد بن الوليد ، وذلك قبيل الفتح ، وهو مقبل من مكة ، فقلت : إلى أين يا أبا سليمان؟ فقال : والله لقد استقام القسم (١١) ، وإنّ الرجل لنبّى ، اذهب والله فأسلم ، فحتى متى (١٢)؟ قال : قلت : والله ما جئت إلّا لأسلم.

__________________

(١) فى «ص» : «هو عدو لنا».

(٢) فى «م» : «ضرة» ، تصحيف.

(٣) فى «ص» : «قد كسره».

(٤) فى «ص» : «اتسعت».

(٥) فى «ص» : «فرقا منه» وهى بمعناها.

(٦) فى «ص» : «فيه».

(٧) فى «م» : «كايأتى» ، تصحيف.

(٨) فى «م» : «أعطنى واتيه» ، تصحيف.

(٩) فى «م» : «كما» تحريف. وحال : تغيّر.

(١٠) فى «ص» : «وكتمت أصحابى إسلامى».

(١١) القسم : الرأى.

(١٢) فى «ص» : «لأسلم». وحتى متى ، أى : حتى متى تظل على الشّرك.

١٣٦

قال : فقدمنا على رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، المدينة ، فتقدّم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ، ثم دنوت فقلت : يا رسول الله ، إنى أبايعك أن يغفر لى ما تقدّم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر .. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «يا عمرو ، بايع ، فإن الإسلام يجبّ ما قبله (١) ـ وفى رواية محمد بن إسحاق : يهدم ما كان قبله ـ وإنّ الهجرة تجبّ ما كان قبلها». قال : فبايعته ثم انصرفت.

وروى عن عمرو بن العاص ، رضى الله عنه ، أنه قال : بعث إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : «خذ عليك ثيابك وسلاحك» .. قال : فأخذت علىّ ثيابى وسلاحى ، ثم أقبلت إلى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فوجدته يتوضّأ ، فصوّب النظر ثم طأطأه ، ثم قال : «يا عمرو ، إنى أريد أن أبعثك على جيش يغنمك الله ويسلمك (٢) ، وأرغب إليك رغبة من المال صالحة». فقلت : والله يا رسول الله ما أسلمت للمال ، ولكن أسلمت رغبة فى الإسلام ، وأن أكون معك .. فقال : «يا عمرو (٣) ، نعم المال الصّالح مع الرجل الصالح» (٤).

فوجّهه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السلاسل (٥) من بلاد قضاعة فى ثلاثمائة ، فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستمدّه ، فأمدّه بجيش فيه مائتا فارس من المهاجرين والأنصار من أهل الشرف ، منهم أبو بكر وعمر ، رضى الله عنهم.

__________________

(١) «ما قبله» عن «م». ويجبّ : يقطع ويمحو.

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «وسلمك». تصحيف.

(٣) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فقال عمرو» والقائل هنا الرسول.

(٤) قوله : «مع الرجل الصالح» عن «ص» ولم ترد فى «م».

(٥) السلاسل : ماء بأرض جذام ، وبذلك سمّيت غزاة «ذات السلاسل» .. وقال أبو حاتم ابن حبّان : غزوة «السلاسل» كانت فى أيام معاوية ، وغزوة «ذات السلاسل» كانت فى أيام النبي صلّى الله عليه وسلم .. وفى غزوات الرسول وسراياه لابن سعد أن «ذات السلاسل» وراء وادى القرى ، وبينها وبين المدينة عشرة أيام ، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

[انظر غزوات الرسول وسراياه لابن سعد ص ١٣١ سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل ، وانظر معجم البلدان ج ٣ ص ٢٣٣ مادة «السلاسل»].

١٣٧

وروى عن عمرو بن العاص ، رضى الله عنه ، أنه كان يقول : يا أيها الناس ، ما أبعد هديكم من هدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم!! كان نبيكم صلّى الله عليه وسلم أزهد الناس فى الدنيا ، وأنتم أرغب الناس فى الدنيا .. وكان يقول : من عاتب رجلا بأكثر من عقله فقد ظلمه.

وروى عقبة قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : «أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص» .. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه إذا رأى الرّجل يتلجلج فى كلامه قال : خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد.

وفاة عمرو بن العاص ـ وقبره :

ولمّا حضرت عمرو بن العاص الوفاة دمعت عيناه ، فقال له ولده عبد الله : يا أبت ، أجزع من الموت يحملك على هذا؟! قال : لا ، ولكن ممّا بعد الموت .. وذكر له عبد الله مواطنه التى كانت مع رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، والفتوح التى كانت بالشام ، فلما فرغ عبد الله من ذلك ، قال : قد كنت على طباق (١) ثلاثة ، لو متّ على بعضها علمت ما تقول .. بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم وكنت أكره الناس لما جاء به ، أتمنّى لو أنى قتلته (٢) ، فلو متّ على ذلك لقال النّاس مات عمرو مشركا (٣) ، عدوّا لله ورسوله ، من أهل النار ، ثم قذف الله الإسلام فى قلبى ، فأتيت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فبسط إليّ يده يبايعنى ، فقبضت يدى (٤) ثم قلت : أبايعك على أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى ، وأنا أظن حينئذ أنّى لا أحدث حدثا فى الإسلام. [فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : إنّ الإسلام](٥)

__________________

(١) طباق : أحوال .. وفى طبقات ابن سعد ج ٤ ص ٢٥٨ : «كنت على أطباق ثلاث» وهى بمعناها ، والحال تذكّر وتؤنّث.

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «وكنت أكره الناس إليه [الصواب : له] فلو أنى قللته ..» والأخيرة تصحيف من الناسخ.

(٣) فى «م» : «مشكرا» ، تصحيف.

(٤) فى «م» : «يده» ، تصحيف.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

١٣٨

يجبّ ما قبله من خطيئة ، وإنّ الهجرة تحبط [ما](١) بينها وبين الإسلام ، فلو متّ على هذا الطريق لقال الناس : أسلم عمرو وجاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، نرجو لعمرو عند الله كثيرا ، ثم أصبت إمارات ، وكانت فتن ، وأنا مشفق من هذا الطّبق (٢) ، راج لرحمة الله ، فإذا أخرجتمونى فأسرعوا بى ، ولا تتبعنى نائحة ، ولا ناد ، وشدّوا علىّ إزارى فإنى مخاصم ، وسنّوا علىّ التراب سنّا (٣) ، فإن يمينى ليست بأحق بالتراب من شمالى ، ولا يدخلن القبر خشبة ولا طوب ، ثم إذا دفنتمونى (٤) فامكثوا عندى قدر نحر جزور وتقطيعها [فإنّى](٥) أستأنس بكم.

وكان عمرو بن العاص أول أمير على مصر فى الإسلام من حين افتتحها سنة عشرين إلى مقتل عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، وولى أيضا لعثمان حين فتحت الإسكندرية ، وولى أيضا لمعاوية بن أبى سفيان من ذى القعدة الحرام سنة ثمان وثلاثين إلى أن توفى بمصر ليلة الفطر ، سنة ثلاث وأربعين [وقيل سنة إحدى وخمسين](٦) ، ذكره ابن يونس فى تاريخه ، وصلّى عليه ولده عبد الله [صبيحة الفطر قبل أن يصلى صلاة العيد ، وكان أبوه استخلفه على الصلاة ، وروى له النّسائى ، والتّرمذىّ ، وابن ماجه ، وأبو داود](٧) .. ودفن بالمقطم من ناحية الفج (٨) وكان طريق الناس يومئذ إلى الحجاز ، فأحب أن يدعو له

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص». وتحبط : تبطل.

(٢) أى : من هذا الحال.

(٣) أى : صبّوا علىّ التراب صبّا سهلا.

(٤) فى «م» : «دفنتونى».

(٥) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا .. والجزور : ما يصلح للذبح من الإبل ، ولفظه أنثى ، يقال للبعير : هذه جزور سمينة.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٧) ما بين المعقوفتين عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٨) فى «م» : «نايحة الفتح» تصحيف من الناسخ ، وما أثبتناه عن «ص» وحسن المحاضرة للسيوطى ج ١ ص ٢٢٤. وعن وفاته قال ابن الجوزى : «إنه دفن بالمقطم فى ناحية الفج ، وكان طريق

١٣٩

كلّ من يمر (١) به.

قال أبو عبد الله محمد بن جعفر القضاعى ، قاضى مصر ، فى كتابه : لا يعرف لواحد منهم (٢) قبر ، يعنى الخمسة الذين ماتوا بمصر ، غير قبرين ، أحدهما (٣) : قبر عمرو بن العاص ، رضى الله عنه ، ذكر قوم أنه غربى الخندق ، وشرقى المشهد ، والآخر عقبة بن عامر الجهنى ، ذكر أنّ أبا حفص ابن غزال الحضرمى (٤) دلّ عليه الناس ، وذكر أنه قبل (٥) قبر ذى النون المصرى مما يلى الشرق ، وهو أشهر من قبر عمرو بن العاص ، رضى الله عنهما ، ولم يبلغنا فى تاريخ من تواريخ مصر أن عمرو بن العاص خرج من مصر بعد أن وليها لمعاوية بن أبى سفيان ، رضى الله عنهما. وذكر أنّ ثلاثة (٦) فى قبر واحد.

وقد روى أنه لمّا ذكر (٧) «المقوقس» جبل المقطم وقال ليدفن تحته ما هو خير من الشجر .. ليقبرنّ قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم ، فقال عمرو : «اللهمّ اجعلنى منهم» قال حرملة : فرأيت أنا قبر عمرو بن العاص ،

__________________

الناس إلى الحجاز». وفى وفيات الأعيان ج ٧ ص ٢١٥ اقتصر على أنه دفن بسفح المقطم ولم يحدد المكان الذي دفن فيه من هذا السفح. وفى كتاب كنز الجوهر فى تاريخ الأزهر ص ١٥ ذكر أنه مدفون بحوش أبى علىّ ، بقرب الإمام اللّيث. وفى كتاب عمرو بن العاص لصابر عبده ص ١٢٤ أنه ـ أى عمرو بن العاص ـ دفن بجوار المقطم ، قريبا من قبر الإمام الشافعى ، فى مكان لا يزال مجهولا إلى الآن .. وانظر ما بعده.

(١) فى «ص» : «مرّ».

(٢) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وما يعرف لواحد من هؤلاء».

(٣) فى «م» : «إحداهما» خطأ لغوى.

(٤) فى «م» : «أبا جعفر» تصحيف. وهو العالم العلّامة المقرئ ، شيخ مصر أبو حفص ابن غزال بن عمر الحضرمى. [انظر الكواكب السيارة ص ٢٨٧].

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «قبلى».

(٦) فى «ص» : «الثلاثة». وهم : عمرو بن العاص ، وأبو بصرة الغفارى ، وعقبة بن عامر ، رضى الله عنهم ، وسيأتى هذا بعد قليل.

(٧) فى «ص» : «وعن عمرو بن العاص أنه لمّا مدح ...».

١٤٠