مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

الماء ويشرب منه ، فعجبت من ذلك ودنوت منه وقلت : اسقنى من هذا ـ رحمك الله ـ فناولنى ، فشربت ، فإذا هو سويق (١) وسكّر ، وسرت معه إلى أن دخلنا مكة ، فسألت عنه وقلت : من يكون هذا الشاب؟

فقيل لى : هذا موسى الكاظم بن جعفر الصادق. ومات ببغداد. وهذه آمنة ابنته تعرف بأمّ المؤمنين.

وحكى عنها خادمها أنه كان يسمع فى كل ليلة قراءة القرآن من قبرها.

وجاءه رجل بعشرين رطلا من الزيت الطيب ، وعاهده أن يقد ذلك عليها ، فجعله فى القناديل جميعا ، ثم أشعل النار فلم تشتعل فى شىء من القناديل ، ولم يقدر على إيقاد مصباح ، فتعجّب من ذلك ، وأوقد قنديلا لها من غير ذلك الزيت ، ونام تلك الليلة فرآها فى المنام فقالت له : ردّ على الرجل ما جاء به من الزيت ، فإنّا لا نقبل إلّا طيبا. قال : فلما أصبحت أخذت الزيت ، فقال لى : إنه مكّاس (٢).

* * *

وتخرج من التربة تجد قبر القمّاح ، كان رجلا صالحا كثير الخير (٣).

* ثم [مشهد السيد على بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن جعفر الصادق](٤).

* ثم مشهد السيد محمد بن هاشم بن محمد الباقر بن على زين العابدين ابن الحسين عليهم السلام.

__________________

(١) السّويق : طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة والشعير ، سمّى بذلك لانسياقه فى الحلق.

(٢) المكّاس : من يقدّر الضريبة على التّجّار ويجبيها.

(٣) من قوله : «شقيق البلخى» إلى هنا ، عن «م».

(٤) ما بين المعقوفتين عن «ص».

٤٢١

* ثم مشهد السيدة زينب ابنة يحيى المتوّج (١) المعروف بأخى نفيسة.

مشهد آسية بنت مزاحم (٢) :

ثم تمضى إلى مشهد آسية ابنة مزاحم بن أبى الرضا بن سهيون بن خاقان (٣) وكيل أحمد بن طولون رحمها الله تعالى ، وكانت من المتعبدات.

وفى هذا المشهد «محراب» ابن الجوهرى أبو الفضل الواعظ ، وعظ فيه مدّة ، وفيه حائط على اليسار يعرف بالمصلّى القديم ، بناه بن أبى السّرح الصحابىّ سنة ٣٥ من الهجرة فى ولايته مصر من جهة أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، وصلّى فيه عمرو بن العاص ، وجدّد بناءه أحمد بن طولون (٤).

قبر مالك بن سعيد الفارقى (٥) :

تخرج منه على يمينك وأنت مشرّق إلى باب السّور الجديد على يسارك قبل

__________________

(١) فى «ص» : «يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب عليهم السلام».

(٢) العنوان من عندنا .. وآسية بنت مزاحم هذه كانت من المتعبدات الزاهدات ، اعتزلت عن أبيها وإخوتها واشتغلت بالعبادة وزيارة القرافة ، وكان غالب إقامتها بمشهد السيدة نفيسة ، واشتهرت عند الناس بالخير والصلاح ، وكانت وفاتها سنة ٢٥٩ ه‍. وقد اختلف المؤرخون فى نسبها. [انظر ترجمتها فى تحفة الأحباب للسخاوى ص ١١٧ و ١١٨ ، والكواكب السيارة ص ٤٢].

(٣) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «آسية ابنة زرزور بن خمارويه. وقيل : إنها آسية ابنة مزاحم بن أبى الرضا مطر بن سمنون بن خاقان». والصحيح أنها ابنة مزاحم ، والله أعلم.

(٤) من قوله : «وفى هذا المشهد» إلى هنا ، عن «م» وساقط من «ص».

(٥) العنوان من عندنا. وهو : مالك بن سعيد بن مالك الفارقى ، أبو الحسن من قضاة مصر ، ولّاه الحاكم العبيدى بعد عزل عبد العزيز بن محمد بن النعمان سنة ٣٩٨ ه‍. وعلت منزلته عند الحاكم حتى صار يجالسه ويسامره. وكان فصيحا ، بليغا ، متأنيا ، وقورا ، مساعدا على الخير ، استمر فى القضاء ست سنين وتسعة أشهر ، ووشى به إلى الحاكم وشاية باطلة فضرب عنقه سنة ٤٠٥ ه‍. وفى تحفة الأحباب أن الحاكم أحضره عنده وأمره أن يكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد. فلم يكتب على المساجد

٤٢٢

أن تخرج من الباب (١) تجد قبرا تحت السور ، هو قبر مالك بن سعيد بن مالك الفارقى ، يكنى أبا الحسن ، ولى القضاء من قبل الحاكم [أبى على المنصور فى النصف من رجب سنة ٣٩٨ ه‍ قضاء جامعا ، فلما كان فى اليوم الخامس من ذى القعدة سنة أربع وأربعمائة (٢) انتزعت منه المظالم وأعيدت إلى ولّى عهد المسلمين. وفى يوم السبت لأربع بقين من شهر ربيع الآخر (٣) سنة خمس وأربعمائة (٤) ضرب عنقه بأمر الحاكم](٥). وبقيت مصر بغير قاض ثلاثة أشهر (٦) ، وكان يتوسط فى هذه المدة بين الناس أبو يوسف يعقوب ، وأبو منصور بن المحتسب.

وكان مالك محمودا فى ولايته ، عفيفا عن أموال المسلمين ، منصفا (٧) للخاص والعام (٨).

__________________

إلّا قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) ، ثم عاد إليه ، فقال الحاكم : فعلت ما أمرتك به؟ قال : نعم ، فعلت ما يرضى الرّبّ عزّ وجلّ وفقال له : ما هو؟ فقرأ الآية ثم انصرف ، فأمر الحاكم بضرب عنقه. وكان رحمه الله محمودا فى ولايته ، عفيفا عن أموال الناس ، لا يخاف فى الله لومة لائم. [انظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٢٦٢ ، والولاة والقضاة ص ٦٠٣ ، ٦٠٨ ، وتحفة الأحباب ص ١١٥ و ١١٦ ، والكواكب السيارة ص ٤١].

(١) فى «م» : «تخرج منه على يمينك ـ وقيل : على يسارك ـ قبل أن تخرج من الباب».

(٢) فى «م» : «سنة أربعة وأربعين» خطأ. والصواب ما أثبتناه.

(٣) فى «م» : «الآخرة» لا تصح.

(٤) فى «م» : «سنة خمسة وأربعين» تحريف من الناسخ. والصواب ما ذكرناه.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م» وسقط من «ص» سهوا من الناسخ. وذكر فيها أنه ولى القضاء من قبل الحاكم ، وصرفه ، وضرب عنقه.

(٦) فى «م» : «ثلاث شهور» لا تصح لغة ، والصواب ما أثبتناه.

(٧) فى «م» : «متيقظا» مكان «منصفا».

(٨) من قوله : «وكان مالك محمودا ..» إلى هنا عن «م». والفقرة التالية أيضا عن «م».

٤٢٣

ثم تخرج من باب السور الجديد إلى الخارج ، وتمشى وأنت مشرّق تجد قبّة بها قبر الشريفة زينب. وعلى يمينك وأنت مشرّق تجد حائطا (١) تحته قبر يقال : إنه للحسن بن الحسين ابن ولد جعفر الصادق. وبجانبه قبر «فاطمة» ابنة العبّاس. ثم تمشى وأنت مبحّر تجد قبر محمد بن الفضل ، من بنى برمك.

وفى تلك الناحية قبور أشراف. وتجد على الطريق قبور أولاد أبى هريرة ، رضى الله عنه (٢).

قبر ميمونة العابدة (٣) :

وتمشى وأنت رائح إلى قبر «أشهب» تجد قبر ميمونة العابدة ، أخت رابعة فى العبادة.

حكى أنّ ذا النون (٤) المصرى رضى الله عنه قال : وصفت لى جارية فى الجبل المقطم تتعبّد به يقال لها «ميمونة» العابدة ، فانطلقت إليها لأزورها ، فلقينى بعض العبّاد فقال لى : إلى أين يا ذا النون؟ فقلت : إلى زيارة ميمونة.

فقال لى : إنها امرأة مجنونة. فأردت أن أرجع ، فقلت : وما علىّ منها ، لعلّى أراها ، فعدت فرأيتها ، فقالت لى : سلام عليك يا ذا النون! فقلت لها : من أين عرفتينى؟ فقالت : جالت روحى وروحك فى الملكوت ، فعرّفنى بك الحىّ الذي لا يموت ، والله ياذا (٥) النون لست مجنونة ، وإنما أنا بحبّه مفتونة! فقلت

__________________

(١) فى «م» : «حائط» لا تصح ، والصواب بالنصب.

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) وتعرف بميمونة السوداء .. وهذا العنوان عن «ص» ولم يذكر بعده فى «ص» سوى أنها «أخت رابعة فى العبادة ـ رحمة الله عليهما» وما أثبتناه هنا عنها عن «م» [وانظر الكواكب السيارة ص ٤١ و ٤٢].

(٤) فى «م» : «أنّ ذو النون» لا تصح ، والصواب ما أثبتناه.

(٥) فى «م» : «يا ذو النون ، لا تصح.

٤٢٤

لها : أوصينى. فقالت : يا ذا النون ، اجعل التّقوى (١) زادك ، والزّهد شعارك ، والورع دثارك ، لا يبعد عليك المطلوب ، ولا يغلق فى وجهك باب المحبوب.

يا ذا النون ، إنّ لله أحبابا عرّفهم [به](٢) فعرفوه ، وأطلق ألسنتهم بذكره فنزّهوه ، لو احتجب عنهم طرفة عين لتقطّعوا من ألم البين.

وحكى عنها أنها كانت تناجى ربها فى بعض الأيام فقالت : «يا سيدى ، هل تحرق قلبى بحبك؟». فإذا النداء : يا ميمونة ، لا تظنّى (٣) بنا إلا خيرا فإنّا لا نفعل ذلك أبدا. فقالت : وا شوقى إليك ، وإن قرّبتنى! واحيائى منك ، وإن غفرت لى!

وأنشدت تقول شعرا (٤) :

ما بقا دمع فأبكى

ها فؤادى فتّشوه (٥)

إن وجدتم غير ربّى

فدعونى ودعوه

* * *

قبر أشهب ـ صاحب مالك بن أنس (٦) :

وإلى جانبها من الشرق تربة بها قبر الفقيه الإمام العالم أبو عمر أشهب

__________________

(١) فى «م» : «جعل الله التقوى» وما أثبتناه عن المصدر السابق ، وهو المناسب للسياق ، فالمقام ليس مقام دعاء ، بل مقام «توصية».

(٢) ما بين المعقوفتين عن الكواكب السيارة.

(٣) فى «م» : «لا تظنين» لا تصح.

(٤) فى الكواكب السيارة : «وكان مكتوبا على عكازها» وذكر البيتين.

(٥) بقا : بقى. وكتبت هكذا لضرورة الوزن.

(٦) هو صاحب الإمام مالك ، وفقيه الديار المصرية فى عصره ، ولد سنة ١٤٠ ه‍ ، وقيل ١٤٥ ه‍ وتوفى سنة ٢٠٤ ه‍ .. والترجمة التى معنا كلها عن «م» أيضا ـ مثل سابقتها ـ ولم ترد فى «ص».

[انظر ترجمة أشهب فى الأعلام ج ١ ص ٣٣٣ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ١٢ ، والعبر للذهبى ج ١ ص ٢٧٠ ، وطبقات الفقهاء للشيرازى ص ١٥٥].

٤٢٥

ابن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسيّ العامرىّ الجعدىّ ، من ولد جعد ابن كلاب بن ربيعة بن عامر المالكى. أحد فقهاء مصر ، من أصحاب مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، وعبد الله بن لهيعة ، وغيرهم. وروى عنه هارون ابن سعيد ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الحكم ، وسليمان بن أبى طيبة ، وبجبير ابن سابق الخولانى ، وغيرهم.

يقال : اسمه مسكين ، ويقال : هو لقبه ، وقيل : أشهب لقبه ، والله أعلم.

أثنى عليه الإمام الشافعيّ وقال : ما رأيت أفقه من أشهب لو لا طيش فيه.

ولى الشّرطة ، وانتهت إليه الرياسة فى زمنه ، وكان يصحب ابن القاسم (١) ومنه شىء فى نفسه ، فحلف ابن القاسم بالمشى إلى مكة (٢) ألّا يكلم أشهب.

وكان أشهب إذا ناظر فى الفقه يهدر كالأسد ، وكان له كلمة وجاه ، قرأ على الإمام مالك بن أنس. وكانت له حلقة عظيمة بالجامع العتيق تحت الحائط البحرى.

قال بعض المالكية : لما حلف ابن القاسم بالمشى إلى مكة ألّا يكلم أشهب [أرسل](٣) يطلب رضا ابن القاسم لما يعلم فيه من الزهد والورع ، قال سحنون : فلم أزل بابن القاسم وأنا أتلطف معه وأرضيه حتى رضى عن أشهب وقال : أمشى إلى مكة وأكلمه (٤).

__________________

(١) هو الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقى. كان عابدا زاهدا ورعا ، وكان يختم فى كل يوم وليلة ختمتين ، وكان كثير الصيام ، حتى رئى بياض عظمه من شدة نحوله ، وكان مجاب الدعوة ، وسيأتى بعد قليل. [انظر الكواكب السيارة ص ٣٩ و ٤٠].

(٢) أى : أثناء سيره إلى مكة.

(٣) ما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى.

(٤) فى «م» : «امش إلى مكة». وما أثبتناه عن المصدر السابق ص ٤٠.

٤٢٦

ثم تجهز ابن القاسم وخرج إلى مكة ماشيا ، وخرج أشهب ماشيا ، وخرج معه عبد الله بن وهب ، وخرج معه سحنون. وكان أشهب يمد سماطا عظيما بطول الطريق ، وكان ابن وهب يمد سماطا دونه ، فيطعمون الناس ، وكان ابن القاسم لا يحضر من ذلك شيئا. فقال ابن وهب لأشهب : هل لك أن تحضر ابن القاسم طعامك؟ فقال : افعل ما بدا لك من الأمر إن قدرت على ذلك ، فجئت إلى ابن القاسم وقلت له : هل لك أن تحضر بنا على طعام أشهب؟

فسكت ، فما زلت به حتى أنعم بالمجىء ، فجاء وجلس ، وجلس أشهب إلى جانبه ، وجلست أنا ، فلما قدّم الطعام نظر ابن القاسم إلى الملح ، وجعل أصبعه فيه ثلاثا ثم قام وانصرف ، ولم يجسر عليه منا أحد (١). فلما خلوت به قلت له : لم اقتصرت على الملح وحده ولم تأكل غيره؟ فقال : إنى لا أعلم فيه شبهة.

وقال ابن النحوى : كان الإمام أشهب فقيها ، عالما ، زاهدا ، ورعا ، محدّثا ، خطيبا ، يعدّ من الفقهاء والمحدّثين والمتصدرين للخطابة ، وكان إذا خطب تصدع خطبته القلوب لفصاحته وبلاغته.

وحكى عنه الجوهرى الواعظ قال : كان إنسان من طلبته ، وكان من الفضلاء ، وكان له والد ، فمات وخلف مائة دينار ، وكانت نفسه تتوق إلى النساء ، فاستشار رجلا من أصحابه فى الزواج ، فقال له : عليك بشراء جارية ، فذهب إلى سوق الرقيق فوجد جارية كأنها البدر ، وينادى عليها بمائة دينار ، فاشتراها بما معه من المال وجاء بها إلى منزله ، ولم يكن معه ما ينفق عليها ، فأقامت عنده عشرة أيام فشاهدت ضيقا عظيما ، وافتتن هو بحبها ، فطلبت منه [أن يبيعها فى] السوق (٢) ، فنزل بها على كره وباعها ، ورجع إلى منزله ، فبات

__________________

(١) أى : لم يجرؤ منا أحد أن يكلمه فى ذلك.

(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا ، ولم يرد فى «م» .. وفى الكواكب السيارة فقالت له : «إمّا أن تعيدنى إلى السوق أو أقتل نفسى».

[انظر المصدر السابق ص ٣٨].

٤٢٧

تلك الليلة فوجد لفراقها ألما عظيما ، ولزم الوساد من ألم فراقها ، فلما كان بعد أيام قلائل تفقده الإمام أشهب فى الحلقة فلم يجده ، وكان الإمام محبّا له ، فسأل عنه فقيل : هو مريض ، فقام وجاء إلى منزله فطرق الباب ، فلم يجبه أحد ، فعالج الإمام الباب حتى فتحه ، ثم دخل إليه فوجده قد أشرف على الموت ، فسأله عن سبب مرضه ، فلم يجبه بشىء ، فلم يزل به حتى أخبره وقصّ عليه القصة. فقال له : ومن الذي شراها (١)؟ فقال له. الأمير محمود بن سالم وهو صاحب الجامع (٢) الذي بسفح الجبل. فقام الإمام إلى الأمير (٣) محمود هو وجماعته من الطلبة فدخل عليه ، وسلّم عليه وعظّمه ، واستعرض حوائجه وسأله عن سبب حضوره عنده ، فأخبره خبر الفقيه وما وجد من فراق الجارية ، فقال له الأمير : إنّ جميع ما يراه الشيخ لها ، وإنّ ولدى يدخل عليها فى هذه الليلة. فقام الشيخ وأراد الانصراف ، وإذا بولد الأمير قد دخل ، فلما رأى الشيخ أخبره أبوه خبر الجارية ، وكان الولد من أهل الخير والصلاح ، فقال الصّبّى للشيخ : إنّ الجارية وما جهّزت به ، الجميع للفقيه كرامة لمجىء الشيخ. ثم حملت وما معها إلى بيت ذلك الفقيه ، فأصبح كأنّما نشط من عقال.

قال الفقيه أبو بكر بن عربى المالكى : كان أشهب فصيحا ، حافظا ، ذكيّا ، وكان إذا خطب يسمع لصوته دوىّ.

وذكره القاضى عياض فى طبقات الفقهاء وأثنى عليه. وكان أكثر الناس معرفة بأقوال مالك. وقال سليمان بن أبى طيبة : نهانا أشهب أن نتخطّى الكتب التى فيها حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وقال : إيّاكم وأصحاب البدع. قيل له : وما أصحاب البدع؟ قال : الذين يتكلمون فى أسمائه وصفاته وقدرته وعلمه ولا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة والتابعون.

__________________

(١) شراها : اشتراها.

(٢) فى المصدر السابق : «اشتراها ابن محمود صاحب الجامع».

(٣) فى «م» : «الإمام» مكان «الأمير» تحريف.

٤٢٨

ولد أشهب سنة أربعين ومائة ، وتوفى سنة أربع ومائتين (١).

ولم يدرك الشافعى (٢) ـ رحمه الله تعالى ـ بمصر من أصحاب مالك ـ رضى الله عنه ـ سوى أشهب وابن عبد الحكم. وقال ابن عبد الحكم : سمعت أشهب يدعو على الشافعى بالموت ، فذكرت ذلك للشافعى ، فقال متمثّلا (٣) :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد (٤)

فقل للّذى يبغى خلاف الذي مضى

تزوّد لأخرى غيرها فكأن قد (٥)

وقد علموا لو ينفع العلم عندهم

لأن متّ ما الدّاعى علىّ بمخلد

ثم توفى الشافعى عن قرب ، ومات أشهب بعده بثمانية عشر يوما (٦).

* * *

قبر الشيخ عبد الرحمن بن القاسم (٧) :

وإلى جانب قبر أشهب (٨) صاحب مالك بن أنس ، رضى الله عنه ،

__________________

(١) فى تاريخ ولادته اختلاف. وفى «م» : «توفى سنة أربعين ومائتين» وهذا خطأ ، والصواب ما أثبتناه وأجمعت عليه المصادر التى ترجمت له [انظر المصادر الواردة فى ص ٤٢٥ ، الهامش رقم ٦].

(٢) وردت فى «م» بعض العبارات الآتية وفيها اضطراب فى سياقها وبعض الكلمات التى سقطت سهوا من الناسخ ، وقمت بتصويبها بالرجوع إلى المصادر السابقة .. وجملة : «لم يدرك الشافعى» سقطت من «م» سهوا من الناسخ.

(٣) هكذا العبارة فى وفيات الأعيان ج ١ ص ٢٣٩ .. وفى «م» : «فلما قيل له ذلك ، أنشد يقول شعرا» وهذا الشعر ليس له ، وإنما يتمثل به.

[انظر المصدر السابق ، وانظر ديوان الشافعى ص ٦٨ بتحقيق عبد المنعم خفاجى].

(٤) فى «م» : «فتلك طريق» وهى بمعناها.

(٥) فى «م» : «يبقى» مكان «يبغى» تحريف.

(٦) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٧) العنوان من عندنا. [انظر ترجمته فى الأعلام ج ٣ ص ٣٢٣ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢٩ و ١٣٠ ، والعبر للذهبى ج ١ ص ٢٣٨ ، وطبقات الفقهاء للشيرازى ص ١٥٥ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣٥٦ و ٣٥٧ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠٣ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٣٢٩ ، والكواكب السيارة ص ٣٩ ، ٤٠].

(٨) فى «م» : «من بحريّه» أى : من بحرى قبر أشهب .. وقد وردت ترجمة ابن القاسم فى «ص» مختصرة ، لا تتعدى ستة أسطر.

٤٢٩

قبر الشيخ الإمام العالم المفتى ، ابن القاسم ، وقيل : كنيته أبو عبد الله عبد الرحمن ابن القاسم بن خالد العتقيّ المالكى ، صاحب المدوّنة. ويكنى أيضا أبا عبد الله مولاهم المصرى ، والعتقى ، والطّلقى. والعتقى قوم عتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح ، والطّلقاء قوم أطلقهم الله ، فسمّوا هؤلاء العتقاء ، وهؤلاء الطّلقاء.

كان ابن القاسم [رجلا صالحا ، نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام](١) وكان من كبار العلماء والزّهّاد ، وأخذ العلم عن جماعة ، منهم الإمام مالك ، وسفيان بن عيينة ، والزهرى. وروى عنه الحارث بن مسكين وجماعة ، منهم الإمام البخارى ، والنّسائى ، وغيرهما ، كأبى موسى عيسى بن إبراهيم الغافقى.

ومن مرويّات الحارث بن مسكين عنه حديث عمر بن الخطّاب ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم ، أنه قال : «إنّما الأعمال بالنّيّات ، وإنّما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

وروى عنه أبو الحسن بن سعيد ، عن النّبى صلّى الله عليه وسلم : «أنه أتى إليه بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابىّ ، وعن يساره أبى بكر رضى الله عنه ، فشرب النّبى صلّى الله عليه وسلم ، ثم أعطى الأعرابىّ وقال : الأيمن».

وقال أبو الفتح محمود : سمعت الشيخ عبد الرحمن بن القاسم يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : «ليس العلم بكثرة الرّواية ، إنّما هو نور يضعه الله تعالى فى القلوب». وإلى تلك الإشارة يقول الشافعى رضى الله عنه : «ليس العلم ما حفظ ، إنما العلم ما نفع».

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص».

٤٣٠

قال أبو العباس أحمد : سمعت الحارث بن مسكين يقول : كان ابن القاسم كثير العلم والزّهد والسخاء والشجاعة ، وكان مجاب الدعوة ، وأحد الأعلام القائمين بمذهب مالك. أنفق أموالا جمّة فى طلب العلم.

وقال النسائى : ثقة مأمون ، وأحد الفقهاء.

وعن مالك أنه ذكر عنده عبد الرحمن بن القاسم ، فقال : «عافاه الله ، مثله كمثل جراب فيه مسك». وصحب مالكا عشرين سنة ، وانتفع به أصحابه بعد موته. وكان مالك شيخه فى العلم ، وشيخه فى الورع والعبادة سليمان (١).

وقال الحارث : سمعت ابن القاسم يقول : رأيت فى المنام كأنّ قائلا يقول : إنّ الله يصلّى عليك وعلى سعيد بن زكريا ، يعنى سعيد الأدم (٢).

وحكى عنه ـ رحمه الله ـ أنّ رجلا من التّجّار أودع عنده مائتى دينار ، فأخذها الشيخ وخبّأها فى مكان عنده فى داره ، فجاءت زوجته وأخذتها ، وجهّزت ابنته بها وزوّجتها ، فجاء صاحب المال وطلبه ، فدخل الشيخ ليأتيه به فلم يجده ، فقال لزوجته : أين مال الرجل؟ فقالت له : قد جهزت به ابنتك.

فقال لها : كيف العمل؟ فقالت له : علىّ ردّها إن شاء الله تعالى. فقال لها : من أين؟ فقالت له : من كنز لا ينفد ، فقل لصاحبها أنظرنى (٣) إلى الغد! فجاء ابن القاسم إلى الرجل وقال : أنظرنى إلى الغد ، فإنّ هناك ضرورة (٤).

__________________

(١) يعنى سليمان بن القاسم الزاهد المصرى.

(٢) هو سعيد بن زكريا الأدم المصرى ، أبو عثمان ، كان له عبادة وفضل ، وتوفى بإخميم سنة ٢٠٧ ه‍. [انظر حسن المحاضرة ج ١ ص ٢٨٥].

(٣) أنظرنى : أمهلنى.

(٤) فى «م» : «فإنّ ثمّ هناك ضرورة» وثمّ بمعنى هناك ، فهو تكرار.

٤٣١

ثمّ لمّا جنّ الليل قامت زوجته وتوضّأت وجعلت تصلى وتدعو وتسأل الله تعالى ، فرأى «أشهب» رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم ، فى المنام وهو يقول له : إنّ صاحبك ابن القاسم محتاج إلى مائتى دينار ، فلا تصلى الصبح إلّا وهى عنده. فانتبه من منامه وقت الفجر ، ثم أخذ مائتى دينار وأتى بها إلى دار ابن القاسم ، وطرق عليه الباب ، فخرج إليه ابن القاسم ، فسلّم عليه «أشهب» وأعطاه الذهب (١) ، فبينما هو يحدّثه فى تلك القضية إذا بصاحب المال قد أقبل وقال له : يا سيدى لا تأخذ منه شيئا ، فقد اشتريت بها البارحة قصرا من ربّى فى الجنّة. فردّ ابن القاسم المال إلى «أشهب» ، فقال : والله لا رجوع لى فيما خرجت عنه. وقال ابن القاسم : وأنا لا حاجة لى بها ، فتصدّق بها أشهب وابن القاسم فى وقت واحد ، رضى الله عنهم.

وحكى زيد بن أبى يزيد قال : سمعت أبى يقول : سمعت ابن القاسم يقول : كنت بالإسكندرية فرأيت أنّى اصطدت طيرا بازيّا فقصصته ، فإذا هو مملوء جوهرا ، قال : فجئت إلى ابن أبى شعيب ففسرته عليه ، فقال : لعلّك حدّثت نفسك بشىء من طلب العلم. قال : فقلت هو ذاك. قال : من ذا الذي ذكرت؟ فقلت : مالك (٢). فقال : هو بازك صدته.

وقال ابن القاسم : رجلان أقتدى بهما فى دينى : سليمان فى الورع ، ومالك بن أنس فى العلم.

وقال محمد بن يحيى : سمعت عبد الرّحمن بن القاسم رضى الله عنه يقول : «ما أظن أحدا تعلّم من الناس كعلمى فأفلح ، لقد كنت أحضر مجلس مالك وأسمع منه ، فإذا لم يحضر أصحابى أخبرهم إذا سألونى عن جميع ما سمعت ، وكنت إذا غبت وسألتهم لم يخبرونى ولم يلتفتوا إلىّ ، فأفلحت وخابوا ـ أو علمت وجهلوا».

__________________

(١) هكذا فى «م».

(٢) أى : الإمام مالك.

٤٣٢

قال : وكان من دعاء ابن القاسم : «اللهمّ امنعنى من الدنيا وامنعها منى ما منعت به عبادك الصالحين».

وقال أسد : قال لى ابن القاسم : كنت أختم كل يوم وليلة ختمتين ، فلما جئتنى نزلت لك عن ختمة رغبة منى فى إحياء العلم.

قال بعض أصحاب ابن القاسم : صليت معه صلاة عيد الفطر والأضحى ، ثم دخل المسجد ودخلت معه ، فصلى ثم سجد فأطال السجود حتى خفت فوت الغداء مع أهلى ، فدنوت منه ، فسمعته يقول : «إلهى ، انقلب عيدك إلى ما أعدّوه له لهذا اليوم ، وانقلب عبد الرّحمن إليك يرجو أن تغفر له فى هذا اليوم العظيم ، فإن كنت فعلت فبخ بخ (١) ، وإن لم تفعل فيا خجلته ، ويا معصيته ، ويا حسرته!». قال الرجل : فمضيت إلى أهلى فتغديت معهم ونمت هنيهة وجئت إلى المسجد فوجدت ابن القاسم على هيئته كما تركته.

وقال يحيى بن عمر : خرج ابن القاسم فى بعض صحارى مصر ، فعطش ؛ وكان قد خرج أمير مصر متنزها بتلك الصحارى ، فبينما هو سائر إذ وقفت دوابّه وجماله ولم تنطلق ، فضربت فلم تنهض. فقال لإخوانه وخدمه : انظروا ما الذي أوجب ذلك؟ فما حبسنا إلّا الله سبحانه.

فنظروا إلى شخص يلوّح ، فإذا هو ابن القاسم ، فجاء إليهم ، فسألوه عن خبره ، فأخبرهم بالعطش ، فجاءوا له بالماء ، فشرب إلى أن روى ، فسارت دوابّهم ، فعلموا أنّ تلك الوقعة كانت بسببه.

وقال الحارث ـ يعنى ابن مسكين : قال سحنون : رأيت ابن القاسم فى النوم فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : وجدت عنده ما أحببت.

__________________

(١) بخ : كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء ، أو المدح ، أو الفخر ، وكثيرا ما تستعمل مكررة.

٤٣٣

وكان ابن القاسم فى الزهد شيئا عجيبا. وتوفى سنة إحدى وتسعين ومائة.

ويقال : إنه دفن بالقرب من قبر أبى الحسن الدّينورىّ من جهة الباب البحرى على يسار الدّاخل فى تربة هناك ، والصحيح أنه بهذه المقبرة (١).

قال سحنون : لو لم يكن من أصحاب مالك إلّا ابن القاسم لكفاه.

وكان سحنون من خواص أصحابه. وهو سحنون أبو سعيد عبد السلام ابن سعيد التنوخى ، يكنى أبا سعيد ، وكان عالم القيروان فى مذهب الإمام مالك ، خبيرا بالمذهب ، عالما بالآثار ، وألّف كتابه المشهور جمع فيه العلم والفقه ، وهو المسمى بالمدوّنة ، وكتاب السير ، وهو عشرون مجلدا ، وكتاب التاريخ ، وهو فى ستة أجزاء ، وكتاب الرّدّ على الشافعى وأهل العراق ، وكتاب الزهد والأمانة. وله تصانيف كثيرة. ولد ـ رضى الله عنه ـ سنة ستين ومائة ، وتوفى سنة اثنتين (٢) وأربعين ومائتين [وقيل](٣) : توفى فى شهر رجب سنة أربعين ومائتين. وكان من أصحاب مالك ، نزل مصر وأقام بها ، ومات بالمغرب ، وكان زاهدا ورعا. وكان يقول : العلم حجة الله على عباده ، والعلماء مع الأنبياء ، وخير الناس علماؤهم.

وقال عبد الوهاب : ركبت مع سحنون البحر المالح فهاج علينا ريح ، فخفت ، فنمت من شدة خوفى ، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال لى : أتخاف ـ أو يخاف أهل السفينة وفيهم سحنون؟ فاستيقظت فإذا البحر قد سكن ، ووجدت سحنونا يصلى ، فلما انتقل من صلاته قال لى : اسكت ، لا تخبر أحدا من أصحاب السفينة. فقال : فلم أتكلم.

__________________

(١) أى بمقبرة أشهب. [وانظر الكواكب السيارة ص ٤٠].

(٢) فى «م» : «اثنين» لا تصح.

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة لاستقامة المعنى والسياق.

٤٣٤

وقال بعض العلماء : تفقّه سحنون على ابن القاسم ، وابن وهب ، وأشهب ، وانتهت إليه الرياسة فى العلم بالمغرب.

وكان يقول : قبّح الله الفقر ، أدركنا مالكا ، وقرأنا على ابن القاسم.

وولى القضاء بالقيروان وعوّل على قوله (١) بالمغرب ، كما عوّل على قول ابن المواز بمصر. وحصل له من الأصحاب والتلامذة ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك. وكان فى طبقة يحيى بن بكير ـ رضى الله عنهم.

وقدم سحنون من بلاد المغرب للمدينة الشريفة يقصد القراءة على مالك ، فوجده ـ لمّا قدم المدينة ـ توفى ، فقيل : إنّ ابن القاسم فى مصر ، وهو مالك الصغير ، فجاء إلى مصر وطلب من ابن القاسم أن يقربه ، فوجده قد تعبّد وترك الإقراء ، فجاء سحنون يوم الجمعة إلى الجامع العمرى ، وصبر إلى انقضاء الصلاة ، وشكى حاله إلى الناس ، فأشاروا عليه برجل بزّاز ، وكان يقوم بمصالح ابن القاسم ، وكان ابن القاسم يقرأ عليه القرآن ، فجاء سحنون إلى البزاز وكلّمه ، فكلّم البزّاز ابن القاسم فى إقراء سحنون ، فأنعم له (٢) لأجل البزّاز. وكانت له وظيفة فى القراءة ، فاختصرها لأجل إقراء سحنون ، وكان مع سحنون ـ ممّا فضل من نفقته ـ ثلاثمائة دينار ، فدفعها للبزّاز وقال له : اتّجر لى فيها بما يحصل لى منه القوت ، فأخذها منه وجعل له أن يأخذ منه كلّ يوم ما يحتاج إليه فى مصالحه.

ومكث سحنون ثلاثة أعوام يقرأ على ابن القاسم حتى تعلّم ما علمه ابن القاسم من مالك ، ثم عزم على السفر إلى بلاده ، فطلب من البزّاز ماله ، فحاسبه البزّاز على الرّبح المتحصل له ، فإذا هو ثلاثمائة دينار ، فدفع إليه ستّمائة دينار ، فقال : ألم تكن تدفع لى فى كل يوم كذا وكذا من الدّراهم؟ فقال البزّاز :

__________________

(١) عوّل على قوله : اعتمد عليه.

(٢) أنعم له : قال له : نعم.

٤٣٥

من يحصل لى (١) مثل سحنون ، يقرأ على ابن القاسم وأقوم؟ والله لا آخذ شيئا من ذلك!

وحكى أنّ أمير مصر قال لعبد الرحمن بن القاسم : إنّى أريد أن أزوّجك ابنتى وأقوم عنك بجميع لوازمها. فقال : حتى أشاور معلمى سليمان ـ يعنى الزاهد ـ فشاوره ، فقال له سليمان (٢) : أتحبّ أن تلبس الخزّ؟ قال : لا والله. قال : أتحبّ أن تركب الخيل؟ قال : لا والله. قال : أتحبّ أن تخدمك الصقالبة؟ قال : لا والله. قال : أفتحبّ أن يراح عليك بالجفان غدوة وعشية؟

قال : لا والله. قال : أفتحب أن يشار لك بالأصابع؟ قال : لا والله. قال : فما تريد بمصاهرة هذا؟ ارجع عن ذلك تلقى الخير إن شاء الله تعالى.

وقيل لابن القاسم : متى يكون العالم عالما؟ قال : إذا لم يكن بينه وبين الله رياء.

وكان يداوم الصوم حتى يرى كالشّنّ البالى.

وقال الشيخ عبد الوهاب البغدادى : كان ابن القاسم قد محل من العبادة (٣) والصوم حتّى كان يرى باطن عظمه.

وقال الجوهرىّ : الوعّاظ (٤) ثلاثة ، كانت ترى خضرة البقل من تحت جلودهم ، وهم : ابن الوردى ، وعتبة الزاهد ، وابن القاسم.

وقال ابن القاسم لابن الماجشون (٥) ـ وقد قال له : أوصنى ـ قال :

__________________

(١) أى : من يكون لى ، أو من يجلب لى.

(٢) فى «م» : «فقال له : يا سليمان» لا تصح. فالقائل هنا هو سليمان ، والموجّه إليه القول هو ابن القاسم.

(٣) محل من العبادة : ذهبت نضارته ورقّ جلده.

(٤) فى «م» : «الواعظ».

(٥) هو أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، من أصحاب الإمام مالك ، كان فصيحا مفوّها ، وعليه دارت الفتيا فى زمانه بالمدينة ، وتوفى سنة ٢١٣ ه‍.

٤٣٦

حقّق عملك ، واعمل لما بين يديك ، وإن قدرت على عزلة فافعل ، وأغضب الدنيا ترى الأخرى ، واترك ما عند الناس تجد ما عند الله.

قال القاضى عياض : مات والد عبد الرحمن بن القاسم وخلف عشرة آلاف دينار ، فلم يأخذ منها شيئا تورّعا.

قبر صاحب الإبريق (١) :

يقال عنه : إنّ ركبا (٢) مرّ عليه وقد أدركهم العطش ، فسقاهم جميعا من إبريق له. وقيل : بات عنده قوم فلم يجدوا ماء ـ سوى إبريق فيه ماء ـ فأرادوا الانصراف ، فقال لهم : اشربوا وتوضّئوا وقولوا : بسم الله ، يكفيكم إن شاء الله تعالى ، ففعلوا ذلك ، فلم ينقص الإبريق شيئا.

وإلى جانب قبر ابن القاسم من جهة القبلة فى الركن قبر السيد الشريف بدر الدين أبى محمد حسن بن محمد بن عبد الله الحسينى ، الشهير بالعريان ، له كرامات وخوارق.

وإلى جانبه قبر ولده محمد ، وهذه التربة مشهورة به.

__________________

[انظر وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٦٦ و ١٦٧ ، وطبقات الفقهاء للشيرازى ص ١٥٣ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٢٨].

(١) العنوان عن «م» ، واسم صاحب الإبريق : الشيخ أبو الحسن ، كما ورد فى الكواكب السيارة ص ٢٩٠ .. ومن هنا إلى صفحة ٤٨٢ عن «م» وساقط من «ص» ، وأغلب الظن أنه من وضع من جاء بعد مؤلف الكتاب ، حيث وردت بعض التراجم التى لم يدركها مؤلف الكتاب موفق الدين بن عثمان ، وجاءت بعد وفاته ، وقد أشرنا إلى ذلك فى موضعه.

(٢) فى «م» : «راكبا» تحريف من الناسخ.

٤٣٧

وبهذه التربة قبر محمد بن يحيى [بن](١) الإمام مالك بن أنس ، وكانت وفاته بمصر. وبها قبر أبى الأزهر عبد الصمد بن الإمام عبد الرحمن بن القاسم ، كان يروى عن أبيه وعن سفيان بن عيينة ، توفى سنة مائتين وواحد وثلاثين فى شهر رجب ، وكان فقيها فاضلا يقرأ القرآن على الإمام ورش ، ومن أجله اعتمد أهل الأندلس على قراءة ورش.

وإلى جانبه قبر أخيه موسى بن عبد الرحمن ، توفى سنة مائتين وواحد وأربعين. وبها قبر الفقيه أبى رجاء محمد ابن الإمام أشهب ، توفى فى ذى الحجة سنة مائتين وتسع وأربعين.

ثم تخرج من التربة إلى مسجد أشهب ، إلى الجهة الشرقية من قبره ، تجد قبرا به «التّالى لكتاب الله» شرف الدين يحيى ، المكنى بأبى زكريا ، والملقب بالتّلا ، قبره داثر ، وكان من عبّاد الله الصالحين ، كثير التلاوة لكتاب الله تعالى.

ثم تمضى من قبره إلى قبلة المشهد تجد قبر الفاضل أبى الحسن على التمار ، كان من ذوى الأسباب ، عرف بزيارة الحسين ، وكان محافظا على زيارته.

وإلى جانبه من الغرب تربة بها قبر أبى عبد الله محمد بن إبراهيم بن على الواسطى المحدّث ، روى عن مجاهد أنه لقى فى كنز لوحا من ذهب ، على إحدى وجهيه مكتوب : «لا إله إلّا الله الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد». وعلى الوجه الآخر : «عجبا لمن رأى الدنيا وتنقّلها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟».

جسم على البرّ ليس يقوى

ولا على أيسر الحراره

فكيف يقوى على جحيم

وقودها النّاس والحجارة

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من عندنا ولم ترد فى «م» ، وقد كان للإمام مالك من الأولاد يحيى ومحمد وحمّاد ، وله ابنة واحدة تدعى : فاطمة.

٤٣٨

ومن غربّى هذه التربة قبر «ميمونة» المذكورة ، ثم تجىء إلى قبر الفضل ابن بحر التاجر ، كان له صدقة ومعروف.

حكى عنه قال : بينما أنا أسير فى الجبل المقطم رأيت شابّا عليه أثر العبادة ودموعه تتحدّر على خدوده ، فسلّمت عليه وقلت : من أنت؟ قال : عبد أبق من مولاه. فقلت له : يعود ويتعذّر ، فقال : العود يحتاج إلى إقامة حجّة ، ولا حجّة للمفرط ، فقلت له : هل لك فيمن يشفع لك عند مولاك؟ فقال : مولاى ربّانى صغيرا فعصيته كبيرا ، ثم صاح صيحة عظيمة وقع منها ميتا ، فخرجت لى عجوز من مغارة وقالت : من ذا الذي أعان على قتل هذا البائس الحيران؟ ثم بكت ، فقلت لها : هل لك فى المعاونة على دفنه؟ فقالت : دعه دليلا بين يدى مولاه ، فعسى أن يراه بعين عفوه فيرحمه ، فولّيت عنها وانصرفت فسمعتها تنشد وتقول :

لا عدت أركب ما قد كنت أركبه

جهدى فخذ بيدى يا خير من رحما

هذا مقام ظلوم خائف وجل

لم يظلم النّاس إلّا نفسه ظلما

فاصفح بفضلك عمّا جاء معترفا

بزلّة سبقت منه وقد ندما

مالى سواك ولا علم ولا عمل

فامنن بعفوك يا من عفوه عظما

* * *

وبهذه الحومة قبر زينب بنت الأباجلى ، كان على قبرها قبّة حسنة. حكى عنها أنه كان بجوارها رجل ، وكان مسرفا (١) على نفسه ، مدمنا للخمر ، وكان يؤذيها فى الليل من كثرة «عياطه» (٢) ، فلما مات سألت الله تعالى أن تراه

__________________

(١) فى «م» : «وكان مسرف» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) أى : صياحه وجلبته.

٤٣٩

فى منامها ، فرأته بعد موته وهو يرفل فى حلّة خضراء ، فقالت له : ما فعل الله بك؟ فقال لها : أوقفنى بين يديه وحاسبنى حسابا شديدا ، وأمر بى إلى النار ، فضربت بكل شريفة ألف ضربة. فقالت له : بأى وسيلة حصل لك هذا الأمر؟ فقال : كانت زوجتى ـ لمّا متّ ـ حاملا ، فوضعت بعد موتى ، فلما ولدت وربّته وكبر تكلّم فقال : «لا إله إلّا الله» فأعتقنى الله بها من النار ، فلمّا دخل «الكتّاب» لقّنه الفقيه «بسم الله الرحمن الرحيم» فأدخلنى الله بها الجنة ، وأعطانى فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

شعر :

ذنوبى كثير لا أطيق احتمالها

وعفوك يا ذا العرش أعلى وأكبر

وقد وسعتنى رحمة منك هاهنا

وإنّى لها يوم القيامة أفقر

* * *

ثم تمشى إلى قبر ، قيل : إنه عنتر النّجّار ، يقال : هو نجار النبي صلّى الله عليه وسلم ، وكان عليه رخامة أنّه ابن أبى جعفر فقيه مصر وعالمها ، انتهت إليه الرياسة فى العلم والفتوى ، وكان عظيم الشأن ، جليل القدر ، كثير الصّمت ، وكان يقول : لسان ابن آدم سبع ضار ، إن أطلقه ندم ، وإن أمسكه سلم. ذكره ابن يونس فى تاريخه.

[وبالقرب من](١) الحومة قبر المرأة الصالحة «فاطمة» من ذرّيّة العباس ابن مرداس السّلمى الصحابى. وبالقرب منها قبر الرجل الصالح أبى القاسم الفوطى ، كان يصنع الفوط الحمّامية ويتصدق بأجرتها ، ويتقوّت بشىء يسير.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد فى «م».

٤٤٠