مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

فقال : سمع أبا عبد الله بن العسكرى ، وعمر بن محمد بن سنبك (١) ، ولم تلق فى المالكية أفقه منه. وكان حسن النّظر ، جيد العبارة ، وتولى القضاء بباذرايا وباكسايا. وخرج فى آخر عمره إلى مصر فمات بها.

وذكره ابن بسّام فى كتاب الذخيرة فقال : كان ثقة ، وكان بقية الناس ، ولسان أصحاب القياس ، وقد وجدت له شعرا معانيه أجلى من الصّبح ، وألفاظه أحلى من الظّفر بالنجح (٢) ، ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوى فضلها ، وعلى حكم الأيام فى محسنى أهلها ، فخلع أهلها ، وودّع ماءها وظلّها ، وحدّثت أنه شيّعه ـ يوم فصل عنها ـ من أكابرها ، وأصحاب محابرها جملة موفورة ، وطوائف كثيرة ، وأنه قال لهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كلّ غداة وعشيّة ما عدلت عن بلدكم بلوغ أمنية ، وفى ذلك يقول :

سلام على بغداد منى تحية

وحقّ لها منّى السّلام مضاعف (٣)

فو الله ما فارقتها عن قلى لها

وإنّى بشطّى جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت علىّ بأسرها

ولم تكن الأرزاق فيها تساعف

وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه

وأخلاقه تنأى به وتخالف (٤)

ثم توجّه إلى مصر فحمل لواءها ، وملأ أرضها علوما ، واستتبع ساداتها وكبراءها ، وتناهت عليه الغرائب ، وانثالت (٥) فى يديه الرغائب ، فمات لأوّل

__________________

(١) فى «م» : «سبيل» والتصويب من وفيات الأعيان ج ٣ ص ٢١٩.

(٢) فى «م» : «بالحج» تصحيف.

(٣) البيت فى فوات الوفيات :

سلام على بغداد فى كل موطن

وحقّ لها منّى سلام مضاعف

(٤) كخلّ : كصديق وخليل .. وفى «م» : «كنخل» تصحيف.

(٥) تناهت : بلغت نهايتها وسكنت ـ وانثالت : تتابعت وكثرت وانهالت.

٤٦١

وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها ، وزعموا أنه قال وهو يتقلّب ونفسه تتصعّد وتتصوّب : «لا إله إلّا الله ، إذا عشنا متنا».

وله أشعار رائقة ، فمن ذلك قوله :

ونائمة قبّلتها فتنبّهت

وقالت : تعالوا فاطلبوا اللّصّ بالحدّ

فقلت لها : إنّى فديتك غاصب

وما حكموا فى غاصب بسوى الرّدّ

خذيها وكفّى عن أثيم ظلامة

وإن أنت لم ترضى فألفا على العدّ

فقالت : قصاص يشهد العقل أنّه

على كبد الجانى ألذّ من الشّهد

فباتت يمينى وهى هميان خصرها

وباتت يسارى وهى واسطة العقد

فقالت : ألم أخبر بأنّك زاهد

فقلت لها : ما زلت أزهد فى الزّهد

وله أيضا شعر :

متى تصل العطاش إلى ارتواء

إذا استقت البحار من الرّكايا

ومن يثنى الأصاغر عن مراد

وقد جلس الأكابر فى الزّوايا

وإنّ ترفّع الوضعاء يوما

على الرّفعاء من إحدى الرّزايا (١)

إذا استوت الأسافل والأعالى

فقد طابت منادمة المنايا (٢)

وله أيضا :

بغداد دار لأهل المال طيّبة

وللمفاليس دار الضّنك والضّيق

ظللت حيران أمشى فى أزقّتها

كأنّنى مصحف فى بيت زنديق

__________________

(١) البيت فى «م» :

وإن ترفع يد الوضعاء يوما

على الرّفعاء من إحدى البلايا

وما أثبتناه عن الوفيات.

(٢) فى «م» : «والأدانى» مكان «والأعالى» وما أثبتناه عن المصدر السابق هو الأوجه فى المعنى.

٤٦٢

وله أيضا :

أيا من قوله نعم

وكلّ فعاله نعم

تقول لقد سعى الواشو

ن بالتّحريش لا سلموا

وقد راموا قطيعتنا

فقلت : بلى أنا لهم

وله أيضا :

أتذكر إذ نهاية ما تمنّى

ملاحظة بما منه تثور

فحين نسجت بينكما التّصافى

دخلت ، وصرت منبوذا أجور

وذكر صاحب الذّخيرة أنه ولى القضاء بمدينة «اسعرد» ، وسئل عن مولده فقال : يوم الخميس السابع من شوال سنة ٣٦٢ ه‍ ببغداد ، وتوفى ليلة الاثنين فى الرابع عشر من صفر سنة ٤٢٢ ه‍ بمصر. وقيل إنه توفى فى شعبان من السنة المذكورة ـ رحمه الله تعالى ـ ودفن بالقرافة الصّغرى ، وزرت قبره ما بين قبة الإمام [الشافعى](١) ، رحمه الله ورضى عنه ، وباب القرافة بالقرب من ابن القاسم وأشهب ـ رحمهما الله تعالى.

وكان أبوه من أعيان الشهود المعدّلين ببغداد ، وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علىّ بن نصر أديبا فائقا فاضلا ، صنّف كتاب «المفاوضة» (٢) للملك العزيز جلال الدولة (٣) أبى منصور بن أبى طاهر بهاء (٤) الدولة بن عضد الدولة ابن بويه ، جمع فيه جميع ما شاهده ، وهو من الكتب العظيمة ، فى ثلاثين كرّاسة.

وله رسائل ضمن ديوان. ومولده فى بغداد فى إحدى الجمادين سنة ٣٧٢ ه‍ ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

(٢) فى «م» : كتاب «المعارف» وما أثبتناه عن المصدر السابق وغيره.

(٣) فى «م» : «جلال الدين» تصحيف.

(٤) من «م» : «بن عباد» مكان «بهاء» تصحيف.

٤٦٣

وتوفى يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ٤٣٧ ه‍ بواسط ، وكان قد صعد إليها من البصرة فمات بها. وتوفى أبوهما أبو الحسن يوم السبت ثانى شهر رمضان سنة ٣٩١ ه‍.

انتهى كلام العلّامة ابن خلكان ـ رحمه الله تعالى.

* * *

قبر القاضى سرىّ الدين أبى الوليد المالكى (١) :

ومعه فى الحوش من جهة قبره البحرية قبر الشيخ الصالح سرى الدين المالكى ، وهو : سرىّ الدّين أبو الوليد إسماعيل ابن الفقيه بدر الدين بن عبد الله محمد اللّخمى الأندلسى الغرناطى المالكى النحوى ، نزيل حماة.

كان فاضلا ، حجّة نبيلا ، يوازى الشيخ عبد الوهاب فى المذهب ، توفى سنة ٧٧١ ه‍. ولى القضاء بحماة مدّة ، وكان متصديا بالإقراء لإيضاح علم البيان والبديع ، وولى القضاء بدمشق مدة ، ثم عاد إلى حماة متوليا أمر النقض والإبرام ، ثم عزل وقدم مصر لشغل عرض له ، فأدركه الموت وحال بينه وبين حاجته التى قدم بسببها.

قبر الفقيه عتيق بن بكار (٢) :

وإلى جانبه قبر الشيخ الإمام العالم الفقيه ، عتيق بن بكّار (٣) يكنى أبا القاسم ، كان من أكابر العلماء ، وكان يقول : ما أذّن المؤذّنون قطّ إلّا وأنا على وضوء. وتوفى ليلة الاثنين الثانى والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ٤٢٠ ه‍.

__________________

(١) العنوان من عندنا والجدير بالذكر أن مؤلف مرشد الزوار كانت وفاته سنة ٦١٥ ه‍ ، كما ذكرنا فى المقدمة ، وعليه فإنه لم يدرك القاضى سرى الدين هذا ، حيث إن وفاة القاضى المذكور كانت سنة ٧٧١ ه‍.

(٢) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ٧٧].

(٣) فى «م» : «عتيق بكار» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

٤٦٤

قبر العابدة الناسكة أم الفضل (١) :

وهناك قبور أصحاب الحانوت ، وقبلى هذا الحوش تربة بها قبر المرأة الصالحة أم الفضل فاطمة بنت الحسين بن على بن الأشعث بن محمد البصرى ، من ذرّيّة الأشعث بن قيس الكندى.

كانت من العابدات الصّالحات النّاسكات ، ملازمة لزيارة قبور الغرباء ، وقبرها عرف بإجابة الدعاء.

وشرقيّها فى حد باب التربة قبر الشيخ الصالح شرف الدين الأخفافى ، من أرباب الأسباب ، ومن فعلاء الخير ، يعرف «بغطّى يدك».

قبر الفقيه أبى جعفر الطحاوى (٢) :

ومن قبليّه بخطوات حوش داثر ، به قبر الشيخ الفقيه ، الإمام المحدّث أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدى الطحاوى الحنفى الحافظ ، أحد الأعلام ، سمع جماعة ، وخرج إلى الشام سنة ٢٦٧ ه‍ (٣) ، ولقى قاضيها أبا حازم ، فتفقّه به وبغيره.

وكان ثقة نبيلا ، تقيّا ، فقيها ، عاقلا ، لم يخلق بعده مثله ، يكنى أبا جعفر ، اشتغل فى أول عمره على خاله أبى إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزنى الشافعى ، ثم غضب منه فقال له : والله لا أفلحت ولا جاء منك. فغضب

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر تحفة الأحباب ص ١٧٨].

(٢) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ١ ص ٢٠٦ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٧١ و ٧٢ ، والعبر للذهبى ج ٢ ص ١١ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٢٨٨ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٥٠ ، وتحفة الأحباب ص ١٧٨ ـ ١٨٠].

(٣) فى الأعلام سنة ٢٦٨ ه‍.

٤٦٥

الطحاوى من ذلك ، وانتقل إلى أبى جعفر بن أبى عمران الحنفى واشتغل عليه بمذهبه ، وصار رأسا فيه.

كان يقول : رحم الله خالى ـ يعنى أبا إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزنىّ ـ لو كان حيّا لكفّر عن يمينه ـ يعنى قوله : والله لا أفلحت ـ قال بعض المشايخ : ما أراه كان يكفّر عنه ، إذ المعتقد أنه انتقل من الصواب إلى الخطأ لمن يعتقد ذلك فيه ، ولم تجب الكفّارة لمن حلف على عدم ذلك.

وكان يلبس الصوف على جلده ، فقال له بعض تلامذته : يا إمام ، لم لا تلبس ثيابا فاخرة؟ فقال : يا بنىّ ، هذا كثير فيمن يموت. وكان مجاب الدعوة. وكان كثيرا ما يقول : من طهّر قلبه من الحرام فتحت لدعوته أبواب السماء.

وكان «تكين» الجبّار يحبه محبة عظيمة ، فأرسل إليه فى وقت وقال له : هل لك فى أن أزوّجك ابنتى؟ قال : لا. قال له : فاسألنى أرضا أقطعكها.

قال : لا. قال : فاسألنى ما شئت. قال : وتسمع؟ قال : نعم. قال : احفظ دينك كيلا ينفلت منك كما تنفلت (١) الإبل من عقالها ، واعمل فى فكاك نفسك ، وإيّاك ومظالم العباد ، فإن الله تعالى يقول : «اشتدّ غضبى على من ظلم من لم يجد غيرى ناصرا». فاحذر أن يشتد غضبه عليك.

وكان للطحاوى نظم رائق ونثر فائق ، فمنه ما كان جوابا عن سؤال وردّ صورة السؤال :

أبا جعفر ما ذا تقول فإنّه

إذا نابنا خطب عليك نعوّل (٢)

ولا تنكرن قولى وأبشر برحمة

من الله فى الأمر الذي عنه تسأل

أفى الحبّ من عار أم العار تركه

وهل من لحا أهل الصّيانة يجهل (٣)؟

__________________

(١) فى «م» : «ينقلب» مكان «ينفلت» فى الموضعين.

(٢) الخطب : الأمر الشديد ينزل .. ونعوّل : نعتمد ونتكل.

(٣) لحا : لام وقبّح وعذل.

٤٦٦

وهل بمباح فيه قتل متيّم

يهاجره أحبابه ويواصل؟

فرأيك فى ردّ الجواب فإنّنى

بما فيه تقضى أيّها الشّيخ أفعل

فأجابه على ظهر الرّقعة التى فيها السؤال (١) :

سأقضى قضاء فى الذي عنه تسأل

وأحكم بين العاشقين فأعدل

فديتك ، ما بالحبّ عار علمته

ولا العار ترك الحبّ إن كنت تعقل

ومهما لحا فى الحبّ لاح فإنّه

لعمرك عندى من ذوى الجهل أجهل

ولكنّه إن مات فى الحبّ لم يكن

له قود عندى ولا عقل يعقل (٢)

ووصلك من تهوى وإن صدّ واجب

عليك ، كذا حكم المتيّم يفعل

فهذا جوابى ، فيه عندى قناعة

لما جئت عنه أيّها الشّيخ تسأل

* * *

ولد الطحاوى سنة ثمان وثلاثين ومائتين (٣) وتوفى مستهل ذى القعدة الحرام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وهو منسوب إلى «طحا» وهى بلدة بصعيد مصر.

* * *

قبور الصالحين من بنى الأشعث (٤) :

وبالحوش المذكور (٥) قبر الشيخ الصالح عمر بن الحسين بن على بن

__________________

(١) فى «م» : «الرقعة الواصلة فيها السؤال يقول».

(٢) قود : قصاص.

(٣) فى «م» : «وستمائة» وهذا خطأ من الناسخ ، قال أبو سعد السمعانى : ولد سنة تسع وعشرين ومائتين. وهو الصحيح. [انظر وفيات الأعيان ج ١ ص ٧٢].

(٤) العنوان من عندنا. [وانظر تحفة الأحباب ص ١٨٠].

(٥) أى : الحوش المدفون فيه العلامة أبو جعفر الطحاوى.

٤٦٧

الأشعث بن محمد البصرى ، من أعيان العلماء ، وحوله جماعة من ذرّيّته ، ومعه أخوه عبد الله بن الحسين.

وكان على قبر عمر المذكور لوح من الرخام مكتوب فيه : هذا قبر من أكثر قراءة القرآن فى الدّياجى ، وعمل عمل الأبرار فيما هو إليه صائر ، ولم يزل يترقى فى ذروة الفلاح حتّى عدّ من الأكابر الأبرار.

والدعاء مجاب عند هذه المقبرة ، كما حكى عن بعض مشايخ الزيارة قال : كنت كثير الزيارة لهذه المقبرة ، وكنت كثير القراءة لهذا اللّوح الرخام ، فجئت للزيارة على جارى العادة ، ففقدت اللّوح ، فتألّمت لفقده ، فلما كان الليل رأيت فى منامى رجلا جميلا ذا هيبة حسنة ، فقلت له : من أنت؟ فقال : أنا عمر بن الأشعث ، وإنّى سألت الله فى إزالة تلك الرخامة من على قبرى ، ففعل ، فاسأل عند قبرى ما شئت.

وبهذه التربة قبر الحسين بن الأشعث ، والد عمر المذكور. وعبد الله توفى فى شهر رمضان سنة ٢٩٦ ه‍. وإلى جانبه قبر ولد ولده عبد الله ، يقال له إبراهيم ، توفى سنة ٣١٠ ه‍. وإلى جانبهم قبر الفقيه العارف محمد بن محمد ابن عبد الله بن الأشعث ، يكنى أبا بكر ، توفى فى المحرم لإحدى عشرة ليلة خلت منه سنة ٢٩٢ ه‍. وإلى جانبهم قبر الفقيه يحيى بن الحسين بن على بن الأشعث ، يكنى أبا العباس ، أحد شهود القاضى أبى محمد عبد الله بن أحمد ابن زين ، توفى سنة ٣٣٥ ه‍ ، وهو معروف بصاحب الدار ، وهو غير صاحب الدار الذي عند المفضل بن فضالة ، والذي عند «سماسرة الخير». ولقّب بصاحب الدّار لأن داره كان ينزل فيها من ورد من القضاة على مصر (١).

وعلى باب تربتهم القبلى قبر الشيخ الصالح جمال الدين عبد الله بن يحيى ابن إسماعيل بن محمد بن الأشعث ، توفى سنة ٢٦٠ ه‍ (٢).

__________________

(١) فى التحفة : كان ينزل فيها القضاة وغيرهم.

(٢) هكذا فى التحفة. وفى «م» : سنة ٢٠٦ ه‍. والأول هو الصحيح.

٤٦٨

ولبنى الأشعث مقابر أخرى سوى هذه المقبرة.

وبهذه المقبرة قبر الفقيه الإمام الأصيل أبى عبد الله محمد بن أحمد بن محمد ابن عبد الله بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشى المطّلبى ، يجتمع مع الشافعى فى العباس بن عثمان. كان من أجلّاء العلماء ، روى عنه أبو بكر بن أحمد.

قبر الفقيه الزاهد أبى الفدا رشيد الدين الدمشقى (١) :

ومن شرقى تربة الطحاوى المذكور قبر الشيخ الصالح ، الفقيه المعتقد ، المفتى الكبير ، أبى الفضل إسماعيل بن عثمان بن محمد بن عبد الكريم بن تمّام القرشى اليمانى الدمشقى الحنفى ، يلقّب برشيد الدين ، ويكنى أبا الفدا ، ويعرف بابن المعلم ، مولده فى شهر رجب الفرد سنة ٦٢٣ ه‍ ، وقرأ القرآن بالسبع على العالم السخاوى ، شارح الشاطبية ، وتفقه على الحضرى وغيره ، وقرأ النحو على الشيخ جمال الدين بن مالك (٢) ، وروى الحديث عن الحسين الزبيدى (٣) ، وعن شيخه السخاوى ، وابن الصلاح ، وابن خليل ، والعزّ النّسّابة ، وبرع فى الفقه وفى العربية ، ودرّس وأفتى وأفاد ، وانفرد بالرواية عن الزبيدى ، وسمع من جماعة من أعيان مصر.

وكان عنده زهد وانقطاع عن الناس ، قدم من دمشق إلى ديار مصر سنة ٦٩٩ ه‍ عند دخول التتار (٤) هو وولده الشيخ تقي الدين أبو المحاسن يوسف.

__________________

(١) العنوان من عندنا. والموفق بن عثمان مؤلف هذا الكتاب لم يدرك أبا الفدا هذا ، حيث كانت وفاة الموفق بن عثمان سنة ٦١٥ ه‍ ، أى قبل مولد أبى الفدا بثمانى سنين. [وانظر تحفة الأحباب ص ١٨٧].

(٢) فى المصدر السابق : «قرأ النحو على الإمام محمد بن مالك».

(٣) هكذا فى المصدر السابق ـ وفى «م» : «وروى الحديث عن الحسن بن الزبيدى».

(٤) أى : عند دخول التتار دمشق.

٤٦٩

وتوفى الشيخ تقي الدين هذا بعد والده فى شهر جمادى الآخرة ، فى الخامس والعشرين منه سنة ٧٢٤ ه‍. ونزل بدار بجوار الجامع الأزهر قبل موته بنحو سنتين ، وأقام بمصر بضع عشرة سنة.

وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يحبه ويعظّمه ويثنى عليه فى علمه. وكانت وفاته يوم الأربعاء خامس شهر رجب سنة ٧١٣ ه‍ (١).

قبر الشيخ الزّقّاق (٢) :

ثم ترجع إلى قبلى حوش الإمام أبى جعفر الطحاوى تجد تربة بها قبر الشيخ الصالح أحمد (٣) بن نصر الزّقّاق ، يكنى أبا بكر ، من أقران الجنيد ، ذكره الإمام أبو القاسم القشيرى فى الرسالة ، وأبو نعيم فى الحلية ، وأبو الفرج بن الجوزى فى الصفوة.

كان من أكابر مصر ، قال بعضهم : سمعت الكتّانيّ يقول لمّا مات الزّقّاق : «انقطعت حجّة الفقراء فى دخولهم مصر» ، لأن الفقراء كانوا يقصدون ديار مصر لما فيها من الأرزاق ، وكثرة الرخاء فى الأسعار ، ويزعمون أنهم إنّما قصدوا مصر لزيارته.

قال الزّقّاق : «من لم يصحبه التقى فى فقره أكل الحرام المحض» (٤).

__________________

(١) فى التحفة : سنة ٧١٤ ه‍. وكل هؤلاء لم يدركهم المؤلف.

(٢) العنوان من عندنا. [وانظر حلية الأولياء ج ١٠ ص ٣٤٤ ، وطبقات الأولياء ص ٩١ و ٩٢ ، والرسالة القشيرية ج ١ ص ١٣١ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥١٢ ، والكواكب السيارة ص ٧٩ و ٨٠ ، وتحفة الأحباب ص ١٨٢ و ١٨٣].

(٣) فى «م» : «محمد» خطأ من الناسخ ، والتصويب من المراجع السابقة.

(٤) المحض : الخالص.

٤٧٠

وقال أيضا : «تهت فى تيه بنى إسرائيل خمسة عشر يوما ، ثم وجدت الطريق ، فرأيت جنديّا فسقانى. شربة ماء ، فلما سقانى أحسست بكرب عظيم ، فأنا أجد قسوتها فى قلبى ثلاثين سنة».

وقال الرّفّاء : سألت الزّقّاق : من أصحب؟ قال : من أسقط بينك وبينه مؤنة التّحفّظ.

وقال : لا يصلح الفقراء إلّا لأقوام كنسوا بأرواحهم المزابل.

وقال الزّقّاق : كنت أبكر للجامع فى كل جمعة أجلس عند الجنيد ، فمررت فى يوم جمعة على جارى العادة ، فرأيت فى طريقى رجلين يقول أحدهما (١) للآخر : اذهب بنا للجنيد نسأله عن الزّقّاق ، فتبعتهما حتى دخلا سقاية يتطهران (٢) ، فرأيت معهما شيئا كرهته ، فقلت : لا حول ولا قوة إلّا بالله العلىّ العظيم ، إنّا لله وإنا إليه راجعون.

ثم جاءا وأنا معهما (٣) حتى وقفا على الجنيد ، فقال : أين المغتاب؟ فقلت فى نفسى : قد علم بى وتكلّم على خاطرى. ثم قال الثانية : أين المغتاب؟ اسألنا حتى نجعلك فى حلّ. فقلت : يا سيدى ، ما قلته إلّا غيرة. فقال : يا أبا بكر ، لا تتّهم أقواما أتحفهم الحقّ فى سابق علمه وأزليّته ، وطهّرهم بكرامة وحدانيته ، حتى إذا كان وقت بدئهم استخرجهم من أنوار خاصة (٤) ، وعجن أرواحهم بأنواع أنوار قدسه ، وأقامهم بين يديه ، ونظر إليهم بعين رحمته ،

__________________

(١) فى «م» : «إحداهما» خطأ من الناسخ ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) فى «م» : «حتى دخلا سياقه يتطهرون» تحريف من الناسخ والصواب ما أثبتناه من الكواكب السيارة. والسّقاية : موضع السّقى.

(٣) فى «م» : «جاءوا وأنا معهم».

(٤) فى الكواكب السيارة : «حتى إذا استخرجهم من الذّرّ عجن أرواحهم بنور قدسه».

٤٧١

وألبسهم تيجان ولايته ، فإن دعوه أجابهم ، وإن سألوه أعطاهم ، فلا تدركهم خفيات الألحاظ ، ولا تغيّرهم جمّات الأشرار (١) ، فهم ينظرون به وإليه فى جميع الأحوال ، مستغنون به عمّن سواه. ثم قال : إنى نظرت فلم أرهم.

وقال أبو علىّ الرّوذبارىّ : دخلت على أبى بكر الزّقّاق ، فرأيته بحالة عجيبة وهو غائب ، فصبرت حتى رجع ضحوة ، فقلت : مالك أيها الشيخ؟

فقال : اجتزت ببعض الخرابات فإذا بشخص ينشد (٢) :

أبت غلبات الشّوق إلّا تقرّبا

إليك ويأبى العدل إلّا تجنّبا (٣)

وما كان صدّى عنك صدّ ملالة

وما كان ذاك البعد إلّا تقرّبا

وما كان ذاك العذر إلّا نصيحة

وما كان ذا الإغضاء إلّا تعقّبا (٤)

علىّ رقيب منك حلّ بمهجتى

إذا رمت تسهيلا عليه تصعّبا (٥)

فما هو إلّا أن سمعت ذلك حتى صرت إلى ما ترى ممّا لحقنى ، فلما أفقت قال لى : [هكذا] من تحقّق فى عبوديته (٦) ، لم يخل [محبّ] من البلاء. فقمت وتركته.

والزّقاق منسوب إلى بيع الزّقّ (٧) وعمله ، وكانت وفاة الزّقّاق سنة

__________________

(١) جمّات : جماعات. وفى المصدر السابق : «ولا يغيرهم ترجمان الأسرار».

(٢) فى «م» : «ينشد وهو يقول شعرا».

(٣) فى «م» : «ونادى» مكان «ويأبى» تحريف ، والتصويب من المصدر السابق.

(٤) فى المصدر السابق : «تغيّبا» مكان «تعقّبا».

(٥) فى «م» : «إذا مت» مكان «إذا رمت» والتصويب من الكواكب السيارة. ورمت : طلبت.

(٦) فى «م» : «عبودته» تحريف ، وما بين المعقوفتين ـ فى الموضعين ـ من المصدر السابق وسقط سهوا من الناسخ.

(٧) الزّق : الوعاء. وقيل : سمّى الزّقّاق لأنه جلس يوما على باب رباطه ، وإذا بشاب أتى إليه هاربا ومعه زقّ ، وقيل إن فيه خمرا ، فقال له : أنا أستجير بك يا سيدى. قال له : ادخل .. فلما دخل الرباط جاءت الشرطة فى طلبه ، فسألوا عنه الشيخ ، فقال لهم : دخل الرباط ، فلما سمع الشاب ذلك

٤٧٢

٢٩٢ ه‍ (١) نقل ذلك من اللّوح الرّخام الذي كان على قبره.

* * *

ومن بحرىّ قبره قبر به السيدة عائشة ، عرفت بجبر الطّير (٢) ، كان الطّير كثير الإلف لها.

حكى عنها أنها مرّت على رجل شوّاء قد طلع بخروف شواء من تنّور ، فلما رأته بكت ، فظنّ أنها بكت لمّا رأت الشواء وليس لها قدرة على شرائه ، فجاء لها بشىء منه ، فقالت : لم أقصد ذلك ، ولكن نظرت إلى الحيوانات تدخل النار ميتة وأنّ الآدمىّ يدخل حيّا ، ثم بكت حتى غشى عليها ، فلما أفاقت أنشدت (٣) :

كيف الرّحيل بلا زاد إلى وطن

لا ينفع المرء فيه غير تقواه

من لم يكن زاده التّقوى فليس له

يوم القيامة عذر عند مولاه

__________________

اشتد خوفه ، وإذا بالحائط انفرجت فخرج منها ، فدخل أصحاب الشرطة الرباط فلم يجدوه ، فخرجوا وقالوا للشيخ : ما وجدنا أحدا ، ثم ذهبوا ، فجاء الشاب إلى الشيخ وقال له : يا سيدى استجرت بك فدللتهم علىّ! قال له : يا بنى ، لو لا الصدق ما نجوت! [انظر تحفة الأحباب ص ١٨٣ ، والكواكب السيارة ص ٨٠].

(١) اختلف فى تاريخ وفاته ، فقال قوم إنه توفى سنة ٢٩٠ ه‍ ، وقيل ٢٩١ ، وقيل ٣٠٠ ، وقيل ٣١٣ ه‍. [انظر المراجع السابقة ، والسخاوى ص ١٨٣ ، وطبقات الأولياء ص ٩١].

(٢) هكذا فى «م» وفى تحفة السخاوى ، واسمها فيها عائشة بنت هاشم بن أبى بكر البكرية. وفى الكواكب السيارة : عائشة المعروفة ببرء الطير ، قيل : إن الطيور تأتى إلى قبرها وهى متألمة فتبرأ بإذن الله تعالى. وذكرها ابن الزيات بعائشة بنت هشام بن محمد بن أبى بكر البكرى.

[انظر الكواكب السيارة ص ٧٩ ، وتحفة الأحباب ص ١٨٤].

(٣) فى «م» : «وأنشدت تقول شعرا».

٤٧٣

ومن بحرىّ قبرها قبر الشيخ الصالح علىّ ، يكنى أبا الحسن ، ويعرف بطبّ الوحش.

حكى عنه قال : حججت سنة من السّنين فى البحر المالح فهبّت (١) علينا ريح كسرت المركب ، فصعدت على لوح ، فما زالت الأمواج تلعب بى حتى ألقتنى على جزيرة من جزائر البحر ، فطلعت إلى الجزيرة ومشيت فيها ، فرأيت بها ما أدهش عقلى من الفواكه من غير مباشر لزرع ذلك ، ثم مشيت قليلا فرأيت قردا راقدا على ذراعه ، قال : فدنوت منه ، فوجدت يده فى شق من الأرض مشبوكة وهو يتألم منها ، فأخذت عودا وحفرت حولها حتى تخلصت وطلع بها ، فوجدتها قد انسلخت وقيّحت ، فمسحتها له ، وقطعت شريطا (٢) من خلق عمامتى وربطت به يده ، فلما رأى الإحسان منى إليه أشار إلىّ بالجلوس ، فجلست ، ومضى قليلا ثم عاد ومعه ورق على صورة ورق التفاح ، فجعل يأكل منه ويشير إلىّ أن كل منه ، فأكلت منه ، فمن ثمّ لم يصبنى ألم ، وعمرت عمرا طويلا.

* * *

قبر المقرئ إسماعيل الحداد :

ثم ترجع منحرفا إلى الغرب إلى قبر أبى محمد إسماعيل المقرئ المحدّث ، المعروف بالحدّاد ، وهو أبو محمد إسماعيل بن راشد بن يزيد بن خالد الحداد ، انتهت إليه رياسة الإقراء فى زمانه بمصر ، وكان قد قرأ القرآن على أبى أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الجبّاس ، وأبى الطيب أحمد بن محمد المعروف بابن بنت الشافعى.

__________________

(١) فى «م» : «فخرجت».

(٢) فى «م» : «شرموطا».

٤٧٤

وروى عنه أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعى : روى إسماعيل ـ المذكور ـ بإسناده عن سفيان قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «بخ بخ ، خمس ما أثقلهنّ فى الميزان : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم ، وفرط صالح يفرطه المسلم» (١).

وروى بسنده إلى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «اقرأ بالمعوذتين كلّما قمت وكلّما نمت».

وقال : لقى حكيم حكيما ، فقال : أحدهما (٢) للآخر : لا يراك الله عندما نهاك ، ولا يفقدك عندما أمرك.

وقال : جاء رجل فقال : سمعت صالح بن الحسين يبكى فى طول الليل. فجئت إليه فسمعت قراءته فى ليلة وهو يردّد قوله تعالى : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)(٣) وما زال كذلك إلى أن طلع الفجر ، فسقط مغشيّا عليه فى محرابه ، قال : فدخلت عليه فوجدته ميتا.

وكان هذا الإمام حدّادا فى شبابه (٤) ، فمرّت به امرأة فقيرة وقالت له : إنّ لى بناتا (٥) سافر أبوهنّ وما ترك شيئا. فمضى وترك حانوته واشترى طعاما وحمله معها إلى بيتها ، فخرج إليه البنات ، فقالت إحداهن : «كفاك الله نار الدّنيا ونار الآخرة». ثم مضى إلى دكّانه فحمى حديدة إلى أن صارت نارا ، ومسكها بالكلبتين (٦) ، فوقعت الحديدة على رجله وهى باردة ،

__________________

(١) وفرط صالح يفرطه المسلم ، أى : وعمل صالح يقدمه المسلم ينال عليه أجرا عظيما ويسبقه إلى الجنة.

(٢) فى «م» : «إحداهما» لا تصح.

(٣) سورة الإنسان ـ الآية ١٠.

(٤) فى «م» : «صبائه».

(٥) فى «م» : «بنات» لا تصح.

(٦) الكلبتان : أداة يأخذ بها الحدّاد الحديد المحمّى. يقال : حديدة ذات كلبتين.

٤٧٥

فقال : «لا إله إلّا الله» ، وقيل : بل قال : «سبحان الله! استجيبت الدّعوة ، وقد رأيت بعضها ، وأرجو من الله السلامة من نار الآخرة». ثم ترك حانوته وتعبّد وصار من الصالحين ، وتوفى سنة ٣٢٩ ه‍ (١).

* * *

قبر الفقيه محمد بن يحيى الأسوانى أبو الذكر «القاضى» (٢) :

ثم تمشى وأنت مستقبل القبلة منحرفا تجد قبر الفقيه القاضى الصالح محمد ابن يحيى بن مهدى بن هارون بن عبد الله بن هارون بن إبراهيم الأسوانى المالكى التّمّار ، يكنى أبا الذّكر.

ولد بأسوان فى سنة ٢٥٥ ه‍ ، وكان من أهل القرآن والسّنّة والتّعبّد. وتوفى فى يوم عيد الفطر سنة ٣٤٠ ه‍ ، وكانت مدة ولايته القضاء ثلاثة أشهر وعشرة أيام من قبل الأمير محمد بن طغج (٣).

وكان أبو الذكر من كبار المحدّثين ، سئل عن بيع التمر (٤) فقال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «العجوة من الجنة وهى شفاء من السم».

ولمّا ولى القضاء كان يحكم بين الناس إلى المغرب ، فإذا كان المساء أخذ قفّة التمر وخرج إلى السوق يبيع من ذلك بما يحصل منه القوت له ولعياله ، فأخبر الخليفة بذلك فعزله ، فحمد الله تعالى على ذلك ، فلام الناس الخليفة على عزله ، لدينه وعفّته ، فأرسل له بالولاية مرة ثانية ، فردّ التقليد ولم يقبله ، فطلب إلي

__________________

(١) انظر الكواكب السيارة ص ٧٠.

(٢) العنوان من عندنا. وانظر المصدر السابق ص ٨٠.

(٣) فى «م» : «طفيح» تصحيف.

(٤) فى «م» : «الثمر».

٤٧٦

بغداد ، فحمل إلى الخليفة ، فلما دخل عليه رحّب به وسأله عن القضاء أن يعود فيه ، فقال له : ثمّ (١) من هو أحقّ به منّى. فأكّد الخليفة عليه فى القبول ، فقال : بشرط أن أكون على حالى فى تكسّب القوت ، فأمر له الخليفة بمال جزيل ، فأبى أن يقبله ، وخرج من عنده ولم يقبل شيئا.

وحكى عنه أنه مرّ يوما فى بعض الشوارع ومعه جماعة من طلبته ، فرأى جارية خلف باب تبكى ، فقال لها القاضى : ما يبكيك؟ فقالت (٢) : إنّ لى عشرة أيام لم أستطعم بطعام. فلما سمع الشيخ كلامها رقّ لها قلبه وذهب إلى منزله ، وأرسل لها طعاما وخبزا مع بعض الطلبة ، ثم نام الشيخ ، فرآها فى تلك الليلة وهى هابطة من السماء ، فسلّمت عليه ، فعرفها ، فقال لها : من أين؟ فقالت له : من عند سيدى. فقال لها : ما الذي صنعت؟ فقالت : استوهبتك منه! فانتبه القاضى من نومه وصاح صيحة عظيمة ، وظل يفكر (٣) فى هذه القضية ، وقال : إن كان الأمر كما زعمت فهى تموت اليوم. قال الشيخ : فلما أصبحت جئت إلى بيتها فوجدتها قد ماتت ـ رحمة الله عليها.

* * *

مقابر الصدفيين (٤) :

ثم تمضى من قبره إلى قبة ، وهى أول قباب الصّدفيين ، بها قبر الفقيه الصالح محمد الصّيمرىّ ، وبها قبر الفقيه الإمام أبو العباس أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصّدفى الشافعى ، المصرى ، الحافظ ، المؤرخ ، مؤرخ مصر ، ولد

__________________

(١) ثمّ : هناك.

(٢) فى «م» : «فقالت : يا شيخ».

(٣) فى «م» : «وتفكّر».

(٤) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ٨٣ ، وتحفة الأحباب ص ٢٢٠ وما بعدها].

٤٧٧

سنة إحدى وثمانين ومائتين ، وتوفى سنة ٣٤٧ ه‍ ، ولم يرحل ، ولكن كان إماما فى فن التاريخ ، روى عنه ابن منده ، وأبو محمد النحّاس ، وعبد الواحد أبو محمد البلخى ، وجماعة من الرجال ، ومعرفته بالعلل ، وعمل تاريخين لمصر ، أحدهما (١) ـ وهو الأكبر ـ يختص بالمصريين ، والآخر ـ وهو صغير ـ يختص بذكر الغرباء الواردين على مصر ، وقد ذيّلهما (٢) أبو القاسم يحيى بن الحضرمى ، وبنى عليهما.

وهذا أبو سعيد (٣) هو حفيد يونس بن عبد الأعلى ، صاحب الإمام الشافعى. ولمّا مات أبو سعيد المذكور رثاه أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل ابن عبد الله الخولانى الخشّاب النحوى العروضىّ بقوله :

بثثت علمك تشريقا وتغريبا

وعدت بعد لذيذ العيش مندوبا (٤)

أبا سعيد ، وما نألوك أن نشرت

عنك الدّواوين تصديقا وتصويبا

ما زلت تلهج بالتّاريخ تكتبه

حتّى رأيناك فى التّاريخ مكتوبا (٥)

نشرت عن مصر من سكانها علما

مبجّلا لجمال القوم منصوبا (٦)

__________________

(١) فى «م» : «إحداهما» لا تصح.

(٢) ذيّل الكتاب : أردفه بكلام كالتتمة له.

(٣) هو أبو سعيد عبد الرحمن بن أبى الحسن أحمد بن أبى موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفى. كان محدّثا ومؤرخا ، وهو الذي جمع لمصر تاريخين ، أحدهما ـ الأكبر ـ يختص بالمصريين ، والآخر ـ صغير ـ يشتمل على ذكر الغرباء. وكانت وفاته سنة ٣٤٧ ه‍ كما مر بنا.

[انظر وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٣٧ و ١٣٨ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٣٥١].

(٤) مندوبا : يبكون عليك ويعددون محاسنك بعد موتك. والأبيات وردت فى المصدر السابق (الوفيات).

(٥) تلهج : تولع به ، وتثابر عليه. وبعد هذا البيت فى الوفيات :

أرّخت موتك فى ذكرى وفى صحفى

لمن يؤرخنى إذ كنت محسوبا

(٦) فى الوفيات : «بجمال القوم».

٤٧٨

كشفت عن فخرهم للنّاس ما سجعت

ورق الحمام على الأغصان تطريبا

أعربت عن عرب نقّبت عن نجب

سارت مناقبهم فى النّاس تنقيبا (١)

أنشرت ميّتهم حيّا بنسبته

حتّى كأن لم يمت إذ كان منسوبا

إنّ المكارم للإنسان مرحبة

وفيك قد ركّبت يا عبد تركيبا (٢)

حجبت عنّا وما الدّنيا بمظهرة

شخصا وإن جلّ إلّا عاد محجوبا

كذلك الموت لا يبقى على أحد

مدى اللّيالي من الأحباب محبوبا

قوله : «ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه ...» البيت. مأخوذ من خبر لعلّى ابن أبى طالب ، رضى الله عنه ، وهو : أنه كان رجل (٣) فى زمانه يمشى أمام الجنائز وينادى : الرحيل .. الرحيل ، لا تكاد جنازة [تمرّ](٤) منه ، فمرت يوما جنازة بعلىّ بن أبى طالب فلم يره ولم يسمع نداءه ، فسأل عنه ، فقيل : هو هذا الميت. فقال : لا إله إلّا الله ...

ما زال يصرخ بالرحيل مناديا

حتى أناخ ببابه الجمّال (٥)

وقال الأصمعى : حدّثنى أبى قال : رأيت رجلا على قصر «أو ليس» أيام الطّاعون وبيده كوز يعد الموتى فيه بالحصى ، فعدّ فى أول يوم ثمانين ألفا ، ثم عدّ فى اليوم الثانى مائة ألف ، فمرّ قوم بميّتهم فواروه ثم رجعوا وعلى الكوز رجل غيره ، فسألوا عنه ، فقال : وقع فى الكوز!

__________________

(١) فى «م» : «نخبت عن نخب» مكان «نقبت عن نجب» تحريف من الناسخ ، والتصويب من الوفيات.

(٢) الشطرة الأولى من البيت فى الوفيات : «إن المكارم للإحسان موجبة»

(٣) فى «م» : «رجل مجنون».

(٤) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة المعنى.

(٥) فى «م» «يصرح» مكان «يصرخ». وورد البيت فى «م» كأنه نثر. وأناخ بالمكان : أقام ، وحلّ ، وأناخ الدابّة : أبركها.

٤٧٩

ومثل هذا قول التّهاميّ (١) قال :

حكم المنيّة فى البريّة جار

ما هذه الدّنيا بدار قرار

بينا يرى الإنسان فيها مخبرا

حتّى يرى خبرا من الأخبار

* * *

وعلى باب هذه القبّة [قبر](٢) الفقيه أبى عبد الله محمد بن بشّار ، إمام حرم المصطفى صلّى الله عليه وسلم. روى الحديث الكثير وسمع ، ومن رواياته التى رواها عن أبى ذرّ ، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال : «يا أبا ذرّ ، جدّد السفينة فإنّ البحر عميق ، وأكثر الزّاد فإنّ السّفر بعيد ، وخفّف الحمل فإنّ العقبة طويلة ، وأخلص العمل فإنّ الناقد بصير» (٣).

ومن شرقّى هذه القبّة قبر فى تربة ، هو للشيخ زكىّ الدين عبد المنعم ابن عبد الملك ، المتصدر بالجامع الأكبر.

قبر شيخ الإسلام أبى العباس بن نصر الإربلىّ (٤) :

ومن جهة القبلة من هذه القبة تربة أخرى تعرف بتربة بنى عقيل ، بها قبر شيخ الإسلام الفقيه العالم المحدّث أبى العباس الخضر بن نصر بن عقيل بن نصر الإربلىّ الفقيه الشافعى.

__________________

(١) [انظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج ٣ ص ٣٧٨ ـ ٣٨١].

(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٣) بعد هذا فى «م» : «قد أفلح المؤمنون».

(٤) العنوان من عندنا ـ [وانظر ترجمته فى الوفيات ج ٢ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩].

٤٨٠