مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

ويجاوره قبور السادة المعافرية ، ويقال لهم : اللّوّاحين ، قيل : إنهم كانوا يصنعون الألواح ويفرّقونها على الأيتام والأطفال فى المكاتب لتعلّم القرآن.

وإلى جانبهم قبر «أعلاهم» الشامى ، قيل : اسمه عبد الله ، وقيل : عبد الرحمن ، وقيل : عبد الحافظ ، ولقّب بذلك لأنه صحب أربعمائة ولىّ ثم قال : اللهمّ إنى أعلاهم ، فرأى فى منامه تلك الليلة قائلا يقول له : أنت أعلاهم ، فمن ثمّ كان يدعى بذلك. وقبره معروف بإجابة الدعاء.

قبر أبى يعقوب البويطى الشافعى (١) :

وبالقرب من قبره قبر يقال : هو لأبى يعقوب يوسف بن يحيى البويطى الشافعى ، وأبو يعقوب هذا منسوب إلى قرية من صعيد مصر التحتانى ، كان من أصحاب الشافعى ، وأوصى له الشافعى عند موته بأن يخلفه فى حلقة العلم ، وكان أنفع أصحابه للطلبة بعده ، وانتهت إليه الرياسة بمصر بعد الشافعى ، رضى الله عنه. وقال له الشافعى : أنت تموت فى المحنة (٢) ، وكان كذلك ، فإنه حمل إلى بغداد وسئل عن خلق القرآن ، فلم يجب بشىء ، وكان فى كل يوم يخرج من السجن مع الأعيان يرفل فى قيده فيسأل ، فيقول : هو كلام ربّى ليس بمخلوق ، فيضرب ويعاد إلى السجن.

قال أبو بكر بن ثابت : بعث ابن أبى دؤاد (٣) إلى البويطى بعض أصحابه

__________________

(١) العنوان من عندنا.

(٢) فى «م» : «المحبة» تحريف. والمحنة هى «محنة خلق القرآن».

(٣) فى «م» : «داود» مكان «دؤاد» فى كل المواضع ، وهو تحريف وقد تسهل الهمزة. وهو أحمد بن أبى دؤاد بن جرير بن مالك الإيادى ، أحد القضاة المشهورين من المعتزلة ، ورأس فتنة القول بخلق القرآن ، وكان شديد الدهاء ، محبّا للخير ، اتصل بالمأمون ثم المعتصم ثم الواثق ، وكانت له منزلة عندهم ، وتوفى مفلوجا فى أول خلافة المتوكل ببغداد سنة ٢٤٠ ه‍. [انظر الأعلام ج ١ ص ١٢٤ ، وتاريخ بغداد ج ٤ ص ١٤١ ـ ١٥٦ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٨١ ـ ٩١ ، وطبقات المعتزلة ص ٦٢ و ١٢٣ ـ ١٢٦ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٩٣].

٤٤١

إلى السجن وهو يقول له : إنه يسلم عليك ـ وكانت بينهما صداقة ـ وإذا كان الغد وأحضرت بين يدى أمير المؤمنين وسألك عن خلق القرآن فقل به ، ولك علىّ أربعون (١) حملا محمّلة ممّا تريد ، تعود بها إلى مصر. فقال للرسول : نعم فى غد نتكلم إن شاء الله تعالى.

فلما أحضر جلس الخليفة ، وجلس ابن أبى دؤاد ، فقال له البويطى : والله لا أقول ذلك ولو أعطيت وزن جبل تهامة ذهبا ، فضرب ، فكان إذا شرب الماء خرج من بين أضلاعه. وكان يقول : من قال إنّ القرآن مخلوق فهو كافر.

هكذا قال المزنىّ والربيع ، وكلّ منهما يروى ذلك عن الشافعى.

ولأبى يعقوب مختصر غاية فى الحسن ، على مذهب الإمام الشافعى ، على نظم أبواب المبسوط.

وحكى عنه صاحب جمع الجوامع ، مع القاضى تاج الدين السبطى ، عن البويطى ، عن الشافعى : أنّ الإنسان إذا مات وعليه اعتكاف واجب اعتكف عنه أولياؤه. وفى رواية : يطعم عنه أولياؤه. وفى رواية : يسقط ولا شىء عليه.

ومن اختياره أنّ الجنب إذا تيمم بنيّة الطّهارة الصّغرى لم يصح تيمّمه ، وبهذا قال الربيع. وهو قول مالك وأبى حنيفة.

قال البويطى : رأيت مكتوبا على حائط : «الزاهد من لا يجد فيزهد».

قلت : «إنّما الزّاهد من يجد فيزهد».

قال السّاجى : كان أبو يعقوب إذا سمع المؤذّن وهو فى السجن يوم الجمعة ، اغتسل ولبس ثيابه ، ويمشى حتى يبلغ باب السجن ، فيقول له السّجّان : إلى أين تريد؟ فيقول : أجيب داعى الله. فيقول : ارجع عافاك الله.

فيقول : اللهمّ إنك تعلم أنّى قد أجبت داعيك فمنعت (٢).

__________________

(١) فى «م» : «أربعين» خطأ.

(٢) هذا الفعل فعله واقتدى به أيضا القاضى «بكّار» حينما سجنه أحمد بن طولون ، فإذا

٤٤٢

وقال أبو الوليد بن أبى الجارود : كان البويطى جارى ، فما كنت أنتبه من الليل إلّا سمعته يقرأ ويصلى.

وقال الشافعى ، رضى الله عنه : ليس من أصحابى من هو أحقّ بمجلسى من يوسف بن يحيى (١) ، وليس من أصحابى من هو أعلم منه. وروى عنه أنه قال : أبو يعقوب لسانى.

وقال بعض المؤرخين : كان البويطى واسطة عقد جماعته (٢) ، وأظهرهم نجابة ، اختصّ به فى حياته ، وقام مقامه فى الدرس والفتوى بعد وفاته. سمع الحديث من عبد الله بن وهب ، ومن الشافعى ، وروى عن جماعة ، منهم أبو عيسى الترمذى ، وإبراهيم بن إسحاق الخولى ، والقاسم بن المغيرة الجوهرى ، وأحمد بن منصور الرمادى ، وغيرهم.

وقال الربيع بن سليمان : رأيت البويطى على بغل ، وفى عنقه غلّ ، وفى رجليه قيد ، بينهما سلسلة (٣) من حديد فيها طوبة ، زنتها ما يقارب الأربعين رطلا. ومات مسجونا ببغداد يوم الجمعة ، قبل الصلاة ، فى شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

قبر فاطمة بنت جعفر الصادق (٤) :

وإلى جانبه حوش لطيف به قبر السيدة الصالحة الشريفة فاطمة بنت جعفر الصادق.

__________________

كان يوم الجمعة اغتسل غسل الجمعة ولبس ثيابه ثم يخرج إلى السجان ، فيقول له السجان : إلى أين تريد؟ فيقول بكار : أريد صلاة الجمعة. فيقول له السجان : لا سبيل إلى ذلك. فيقول بكار : «الله المستعان» ، ويرجع. [انظر : الولاة والقضاة ص ٤٧٨].

(١) يعنى البويطى.

(٢) أى : جماعة الشافعى.

(٣) أى : بين الغلّ والقيد سلسلة.

(٤) العنوان من عندنا.

٤٤٣

حكى ابن عثمان ـ صاحب هذا الكتاب ـ عن المسكّى : أنها كانت متزوجة برجل من آل بيت النبوة ، من ذرّيّة الحسن ، رضى الله عنه ، فتوفى إلى رحمة الله تعالى وترك لها مالا عظيما ، فأنفقته جميعه فى وجوه الخير. وكانت كثيرة البرّ للفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمنقطعين. وافتقرت فقرا عظيما ، وجاء غلاء عظيم ، فمكثت هى وبناتها ـ وكنّ (١) ثلاثا من الشريف ـ جياعا ثلاثة أيام ، وكان زوجها تاجرا جوهريّا ، وكان من جملة متروكاته التى (٢) تركها حبّات من جوهر فى خيط من حرير ، تركها فى جانب البيت حتى تصدّت ولم تعرف بها ، فوجدتها (٣) بنت لها صغيرة من بناتها ، فقالت لأمها : يا سيدتى ، رأيت خرزا فى خيط. فقالت : أين هو (٤)؟ فجاءت لها به (٥) ، فدفعته إلى جارية لها وقالت : اذهبى بهذا (٦) إلى السوق وبيعيه (٧) بما يسّره الله تعالى ، وأتينا بما نأكل.

فأخذت الجارية الخرز ودارت به (٨) على عوام الناس ، فلم يدفع أحد فيه شيئا (٩) ، فجاءت به (١٠) إلى سوق الصّاغة ، فوجدت بشرى بن سعيد

__________________

(١) فى «م» : «وكانوا» لا يصح.

(٢) فى «م» : «الذي».

(٣) فى «م» : «تصدت ولم تعرف بهم ، فوجدتهم». وتصدت : علاها الصدأ والغبار من الإهمال.

(٤) فى «م» : «هم».

(٥) فى «م» : «بهم».

(٦) فى «م» : «بهؤلاء».

(٧) فى «م» : «وبيعيهم».

(٨) فى «م» : «بهم».

(٩) فى «م» : «فيهم شىء».

(١٠) فى «م» : «بهم».

٤٤٤

الجوهرى جالسا على باب الصّاغة ، فدفعت الخرز إليه (١) ، فأخذه ومضى ، وغاب ساعة ثم عاد إليها وقد جلى حبّة فجابت مائة دينار (٢) ، فجاء إلى الجارية وقال : لمن هذه الحبّات؟ قالت : لا مرأة شريفة من ذرّيّة جعفر الصادق.

فقال لها : قد أصلحت حبّة وناديت عليها ، فساوت (٣) مائة دينار ، فهل تقبضين (٤) فيها ذلك؟ فقالت : أتهزأ بى وبسيدتى وهى شريفة؟ فقال لها : أعوذ بالله. فقالت له : اقبض المال وامض معى إليها.

فأخذ المائة دينار وجاء إلى دارها ، فدخلت الجارية وأخبرت سيدتها ، فخرجت إليه ، فدفع لها المال وأخذ أجرته ، وشاورها فى إصلاح الباقى وبيعه (٥) ، فقالت له : افعل ما تريد ، ثم بكت ، فسمع بكاءها (٦) ، فقال لها : يا سيدتى ، ما الذي أبكاك؟ أكرهت ما كان منى؟ قالت (٧) : لا ، ولكنّى ذكرت مخلوقا أصلح حبّة كانت مجهولة القيمة فبيعت بمائة دينار ، فكيف إذا أصلح الله قلب العبد كيف يكون حاله؟!

ثم توجّه بشرى وأصلح ما بقى من الحبّات ، فطلبت زوجة الخليفة حبّتين ، فتوجّه بهما إلى دار الخليفة فعرضهما عليها (٨) ، فعجبت من حسنهما ، ودفع الخليفة ثمنهما ، وأعطاه لأجلهما بغلة وخلعة ، وولّاه رياسة الجوهريين ، فجاء للشريفة بثمن الحبتين ، وأخبرها الخبر بأمر البغلة والخلعة وولايته ، فقالت له : بارك الله لك فيما رزقك.

__________________

(١) فى «م» : «فدفعتهم له».

(٢) أى : قدّرت لدى المشترين بمائة دينار.

(٣) فى «م» : «فسويت».

(٤) فى «م» : «فهل تقبضى».

(٥) فى «م» : «وبيعهم».

(٦) فى «م» : «بكاؤها» خطأ.

(٧) فى «م» : «قال» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٨) فى «م» : «فأعرض عليهما» تحريف من الناسخ.

٤٤٥

ثم باع الباقى وجاء بالثّمن إليها ، فقالت له. هوّن الله عليك سكرات الموت ، وجعل من نسلك الصالحين ، فرزق بشرى بحسين ، الذي هو والد أبى الفضل الجوهرى ، الواعظ المصرى. وحصل الغناء لبشرى ، وللشريفة ، وسيأتى ذكر بشرى عند قبره.

قبر الشيخ أبى الحسن نور الدين (١) :

وعند رجليها قبر به الشيخ الصالح نور الدين على ، المذكور بالصلاة ، يكنى أبا الحسن. حكى عنه أنه كان لا ينام الليل من كثرة بكائه وذكره ، وكان يدور فى الليل وينادى : الصّلاة .. الصلاة قبل الرحيل.

ومن كلامه : إذا أحبّ الله العبد أيقظه لخدمته. وكان إذا أوى إلى فراشه يتقلّب كالفرخ إذا ذبح ، ويقول : اللهمّ إنّ جهنّم لا تدعنى أنام. وكان يقول : أخشى من إتيان أمره وأنا نائم.

وفى معنى ذلك روى أنّ أمّ سليمان قالت : يا نبّى الله ، لا تكثر النوم بالليل ، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرا يوم القيامة.

وقال سعيد بن المسيّب : «ما من عبد قام فى الليل فتوضّأ إلّا تبسّم الجبّار فى وجهه ويقول : يا ملائكتى ، انظروا إلى عبدى ، أشهدكم علىّ أنّى قد غفرت له ، فإن صلّى أفاض عليه الرحمة».

حكاية : قال منصور بن عمّار : بينما أنا نائم ذات ليلة إذ رأيت كأنّ القيامة قد قامت ، والصراط نصب ، والميزان قد علّق ، والجنة قد أزلفت ، والنار قد

__________________

(١) العنوان من عندنا.

٤٤٦

سعّرت ، والنداء من العليّ : أين منصور بن عمّار؟ فلما سمعت ذلك اصفرّ لونى ، وتلجلج لسانى ، ثم جئت فوقفت فى الموقف وأنا خائف وجل ، فسمعت ذلك النداء : يا منصور بن عمّار ، بماذا جئتنى؟ قلت : جئتك بثلاث (١) وثلاثين حجّة ، وثلاث وثلاثين غزوة ، وثلاث وثلاثين سنة أقوم الليل وأصوم النهار! فقال : يا منصور ، وعزّتى وجلالى ما قبلت شيئا من ذلك! فقلت : يا ربّ ، شقّى أنا أم سعيد؟ فقال : سعيد! فقلت : يا ربّ بم (٢) استوجبت عندك هذه السعادة ولم تقبل من أعمالى شيئا؟ فقال : يا منصور ، إنك جلست يوما مجلسا فشوّقت عبادى إلى الجنّة وحذّرتهم من النار ، فجال اسمى فى سرك ، فقلت فى دعائك : اللهمّ اغفر لأقسانا قلبا ، ولأجمدنا عينا (٣) ، وكان هناك ولّى من أوليائى فأمّن علىّ وعليك ، فاستجبت ذلك لأجله ، فغفرت لك ولمن حضر مجلسك!

* * *

وقيل : هذا القبر تاريخه قديم ، فيه ابن شماسة المهدى ، ويعدّ من أكابر العلماء والتابعين ، روى عن جماعة ، منهم عمرو بن العاص ، وعقبة بن عامر الجهنيّ ، وروى عن جماعة من رجال الصحيح ، وكان من الأئمة الفضلاء الحفّاظ ـ وجد هذا على القبر :

يا أيها الغافل جدّ الرحيل

وأنت فى اللهو وزادك قليل

لو كنت تدرى ما تلاقى غدا

لذبت من فطر البكا والعويل

فأخلص التّوبة تحظى بها

فما بقى فى العمر إلّا القليل

ولا تنم إن كنت ذا فطنة

فإنّ قدّامك نوم طويل (٤)

__________________

(١) فى «م» : «بثلاثة» فى المواضع الثلاثة التى هنا.

(٢) فى «م» : «بما» خطأ ، والصواب حذف ألف «ما».

(٣) المراد بجمود العين : قلة دمعها.

(٤) هكذا فى «م» لضرورة الشعر ، وهو خطأ فى اللغة ، والصواب : «نوما طويلا».

٤٤٧

قبر أبى القاسم الفريد ـ المعروف بصاحب الخيار (١) :

ثم تمضى إلى قبر السيد الشريف أبى القاسم الفريد المعروف بصاحب الخيار. حكى عنه أنّ إنسانا ورث (٢) من أبيه مالا فأذهبه (٣) ، ثم تداين دينا وذهب منه ، فطولب به ، فقال : لم يكن عندى ما أدفعه ، فلزمه (٤) صاحب الدّين إلى القاضى وطالبه بالمال ، فأقرّ به ، فأمره بدفعه ، فاعترف بالعجز ، فأمر باعتقاله. ثم أنظره صاحب الدّين مع القاصد الشّرعّى ثلاثة أيام ، فإن جاء بالمال .. وإلّا اعتقل. فلما كان فى اليوم الثالث قال فى نفسه : من أين لى ما أعطى هذا الرجل؟

ثم ذهب إلى القرافة ، ورأى كثرة المقابر ، حتى انتهى إلى هذا القبر ، وكان عليه حاجز بالطوب اللّبن ، فجلس عنده وابتهل إلى الله تعالى ، فأخذه النوم ، فرأى فى منامه كأنّ هذا الشريف صاحب القبر [ناوله](٥) خيارا ، وكان فى أيام عدمه ، فاستيقظ فوجد فى حجره الخيار ، فتعجّب من ذلك ، فبينما هو متعجب من ذلك إذا بالأمير أحمد بن طولون [واقف] على رأسه ، فقال له : من أنت (٦)؟ وما الذي أجلسك هنا؟ فذكر له قصته ، وما وقع له فى منامه ، فأعطاه الأمير أحمد مالا وقال له : اقض به دينك. وكان الأمير أحمد كثير الزيارة لقبور الصالحين والأولياء.

__________________

(١) العنوان من عندنا [وانظر الكواكب السيارة ص ٦٧].

(٢) فى «م» : «أن أناسا ثاورت» تحريف. وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٣) فى «م» : «مالا فانيا جمعه». وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٤) لزمه : تعلّق به ولم يفارقه.

(٥) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق ، وسقط سهوا من الناسخ فى «م» فى الموضعين.

(٦) فى المصدر السابق أن ابن طولون قال له : «مررت من هنا مرارا عديدة ما رأيتك إلا اليوم ...».

٤٤٨

شعر :

أخلق الذّنب والخطيئة وجهى

بعدما كنت فى الصّلاح نبيلا (١)

طردتنى الذّنوب عن باب ربّى

أورثتنى الذّنوب حزنا طويلا

أسرتنى الذنوب فاسترهنتنى

طوّقتنى الذنوب طوقا ثقيلا (٢)

ما أرى لى من العصاة نظيرا

لا ، ولا لى فى الذّنوب عديلا (٣)

نكّست رأسى الخطايا خفيضا

صيّرتنى فى العالمين عبدا ذليلا

* * *

قبر أبى عبد الله بن هامان المقرئ (٤) :

ومنه إلى قبر الفقيه المقرئ أبى عبد الله محمد بن هامان المعافرى المقرئ.

وكان على هذا القبر بخط قديم «أحمد بن زين العابدين» ، وليس بصحيح.

وكان ابن هامان من مشايخ مصر المشهورين المتبحرين فى القرآن (٥) ، قرأ على ابن غلبون ، وكان له صوت حسن إذا قرأ يكاد الإنسان أن يموت من لغة قرآنه (٦). ونقل عنه أن إنسانا سمعه يقرأ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...)(٧). فما زال يكررها إلى أن فارق الدنيا.

__________________

(١) أخلق : أبلى.

(٢) فاسترهنتنى : فحبستنى.

(٣) عديلا : مثيلا.

(٤) العنوان من عندنا.

(٥) فى «م» : «فى القرافة» تصحيف.

(٦) يعنى : من أدائه وقراءته.

(٧) سورة التوبة ـ الآية ١٠٢.

٤٤٩

قبر حمدونة العابدة (١) :

وإلى جانبه قبر المرأة الصالحة العابدة «حمدونة» ابنة الحسين ، أخت ميمونة العابدة فى العبادة. قال الهروىّ : هى معدودة عند طائفة من الأولياء بأربعين من زهّاد الرجال.

حكى عنها ابن الطوير فى أخبار الدولة الطولونية : أنّ رجلا خرج هاربا من دين لزمه لعمّال أحمد بن طولون ، وقد طولب بالمال ، فأتى إلى قبر هذه السيدة رضى الله عنها ، فقرأ عندها شيئا من القرآن ، وبكى وتوسّل إلى الله تعالى ، فأخذته سنة من النوم ، فنام ، فأيقظه وقع حافر دابّة أو جواد يضرب الأرض برجله ، فأفاق من نومه ، فرأى فارسا واقفا على رأسه ، فسلّم عليه ، ثم قال له : من أنت؟ وما الذي أجلسك هنا؟ فقال : هارب من رجل ظالم من عمّال الظّالم أحمد بن طولون ، وقصّ عليه قصته. فقال له : قم وامض معى إلى هذا الرجل أشفع لك عنده. ثم أردفه خلفه ، وسار حتى لحق بالعسكر ، وكان فارقهم فى محلّ ، فلمّا وصل ترجّلوا عن خيولهم إجلالا له ، ونزل ذلك الرجل من خلفه ، وأمره بالركوب خلف غلام ، وأوصى الغلام بحفظه. فقال الرجل للغلام : من هذا؟ فقال له : أحمد بن طولون! فخاف الرجل خوفا عظيما من قوله ، وظنّ أنّه مقتول لا محالة.

ثم وصل أحمد إلى قصره ، فلما وصل طلب الرّجل وقد تغيّر لونه ، فلمّا رآه قال له : طمئن قلبك ، لا تخف ، فو الله ما جاء بى عندك إلّا بركة هذه المرأة الصالحة التى كنت عند قبرها ، فإنى كنت نائما فرأيتها فى منامى وهى تقول : أدرك هذا المظلوم الجالس عند قبرى!

__________________

(١) جاء فى الكواكب السيارة ص ٦٧ و ٦٨ : كانت وفاتها سنة ٢٣٦ ه‍ ، وقبرها الآن دائر ، لكنه معروف بإجابة الدعاء.

٤٥٠

ثم أمر بإحضار العمّال ، فلما حضروا أمرهم بإسقاط ما على الرجل ، ثم أعطاه خمسمائة دينار.

وحكى عنها أنها لقيت عثمان الزنجانى فى طريق بيت المقدس وعلى بدنها جبّة من صوف وهى تقول : «إلهى وسيدى ، ما أبعد الطريق على من لم تكن أنت دليله. ووا وحشتاه على من لم تكن أنيسه!». قال : فدنوت منها وسلمت عليها ، فردّت علّى السّلام وقالت لى : من أنت ـ يرحمك الله؟ فقلت لها : أنا عثمان الزنجانى. فقالت : حيّاك الله يا عثمان ، إلى أين تريد؟ فقلت : أريد بيت المقدس. فقالت لى : وما تصنع؟ قلت : لحاجة. فقالت لى : يا عثمان ، أفلا أعلمت (١) صاحب الحاجة حتى يوجّه إليك بها ولا يتعبك فيها؟

فقلت : ليس بينى وبينه معرفة. فقالت : يا عثمان ، ما الذي قطعك عن معرفته؟

قلت : كثرة الذنوب. فقالت لى : والله بئس ما صنعت ، أما والله لو وصلت حبلك بحبل سيّدك لأوقفك بالباب وقضى حوائجك ، وأمر الخزنة ألّا يعصوا لك أمرا.

قبر الشيخ الزاهد يعلى بن عمران (٢) :

ومن الشرق من قبرها قبر به الشيخ الزاهد يعلى بن عمران ، عرف بحلاوة الغيب ، حكى عنه أنه كان يطعم الناس حلاوة سخنة من الهواء ، فاشتهر بذلك.

وحكى عنه أنه قال : كانت لى حجرة آوى إليها ، وكنت إذا خرجت منها أغلقتها وأخذت مفتاحها معى ، فقفلتها يوما على جارى العادة ، وتوجهت لحاجة ، ثم جئت وفتحت الباب ، فوجدت شخصا قائما يصلى ، فانتظرته حتى

__________________

(١) أعلمت : أخبرت.

(٢) العنوان من عندنا.

٤٥١

انفتل من صلاته (١). فسلّم علّى وقال : يا يعلى ، أنا الخضر. فقلت : يا سيدى ، بالذى جمع بينى وبينك ، علّمنى شيئا أقوله ينفعنى ، أو إذا قلته نفعنى. فقال لى : «استغفر الله من كلّ ذنب أذنبته ثم تبت منه ثم عدت إليه ، واسأله التّوبة ، واستغفر الله عزّ وجلّ من عهد عهدته لله على نفسك فلم توف (٢) به ، واسأله التوبة ، واستغفر الله تعالى من كلّ نعمة أنعمها عليك فى طول عمرك (٣) فاستعنت بها على معاصيه ، واسأله الحميّة والعصمة من ذلك كله ، واسأله التوبة والمغفرة ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم».

شعر :

يا ساهيا غافلا عمّا يراد به

حان الرّحيل ، فما أعددت من زاد؟

تظنّ أنّك تبقى سرمدا أبدا

هيهات أنت غدا مع من غدا غاد

* * *

قبر بشرى بن سعيد الجوهرى (٤) :

وشرقيه قبر الشيخ الصالح بشرى بن سعيد الجوهرى ، جدّ سيدى أبى الفضل الواعظ المذكور.

قال القضاعى : ملك بشرى ألف دينار ، فتصدق بها كلها ، وكان إذا جاءه بعد ذلك فقير يقترض على ذمّته ويعطيه خشية أن يردّه خائبا ، فاجتمع

__________________

(١) انفتل من صلاته : انصرف منها. وفى «م» : «انتقل».

(٢) فى «م» : «على نفسى فلم أوف» ، ولا تناسب السياق.

(٣) فى «م» : «أنعمها علىّ فى طول عمرى».

(٤) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ٦٨ و ٦٩].

٤٥٢

عليه جملة ديون ، فجاء إليه أصحاب الديون وطالبوه بدينهم ، فواعدهم يوم السبت ، وكان الطلب له فى يوم الجمعة ، فدخل إلى زوجته وأعلمها أنّ أصحاب الديون طلبوا ما عليه لهم ، فقالت له زوجته : لو كنت إذا جاء إليك رجل فقير يطلب شيئا اختفيت منه ، كان أولى بك ، ولم تحتج إلى الاستدانة ، واسترحت من طلب الناس. فقالت ابنة له صغيرة : بالله يا أبت لا تسمع كلام أمّى ، ومن له الأمر كله يوفّى عنك.

فقعد وفكّر فى الوفاء ، وحان وقت صلاة الجمعة ، فتوضّأ وذهب إلى الجامع لصلاة الجمعة ، فلما ولّى إذا بشخص يطرق الباب ، فقالت ابنته : من هذا؟ فقال : أنا ، افتحى ، ففتحت الباب ، فرمى لها كيسا من داخل الباب ، فوجدت فيه ألف دينار ، ثم قال : قولى للشيخ : اقترض ولا تخف ، فعلى الله الوفاء!

فلما عاد الشيخ من صلاته أخبرته ابنته بذلك ، فأخذ الكيس ، وأوفى ما كان عليه من الدّين ، وفضلت فضلة (١) فتصدق بها. وكان ـ رحمه الله ـ من أهل الخير ، وقد تقدمت حكايته مع ابنة جعفر الصادق.

وحكى عن رجل كان فى جواره ، وكان منصرفا على نفسه ، فلما مات سأل الله تعالى أن يريه إياه فى منامه ، فرآه بعد موته ، فقال له : ما فعل الله بك؟ فقال : لقيت من الأهوال شيئا كثيرا ، وذلك أنى لمّا سئلت فى قبرى تلجلج لسانى فلم أدر ما أقول ، فقلت فى نفسى : ألم أمت على التوحيد؟

فما ذا أتى علىّ؟ فقيل لى : إنّ هذه عقوبة فى حقّك لكثرة معاصيك فى الدنيا ، فلمّا همّ الملكان بعقوبتى حال بينى وبينهم رجل جميل الوجه (٢) ، طيب

__________________

(١) فضلة : بقية.

(٢) فى «م» : «جميلا الوجه» لا تصح.

٤٥٣

الرائحة ، فلما نظرت إليه وإلى فعله معى قلت له : من أنت يرحمك الله؟ فقال : أنا رجل خلقنى الله من كثرة صلاتك على النبي صلّى الله عليه وسلم ، وأمرت أن أنصرك فى الشدائد ، وهأنذا أنصرك فى الشدائد فى كل موضع ، ومعينك فى كل شدّة.

قبر الفقيه أبى الحسن على بن كبيش (١) :

ومن بحريّه قبر الفقيه المقرئ أبى الحسن على بن كبيش ، كان من القرّاء السادة ، العالمين بكتاب الله ، الملازمين لتلاوته.

ومن كلامه : «لو صدق قارىء القرآن لم تحرقه النار فى الدنيا. وإذا زنى قارىء القرآن اعتزله القرآن ، ولم تبق آية من كتاب الله تعالى إلّا لعنته».

وكان يقول : «أكبر الكبائر فساد العلماء ، وأشدّ المصائب زنى القرّاء».

وقال : «إنّ القرآن يأتى يوم القيامة ويأتى حوله المخلصون وهم كالنجوم ، ويدور حوله قوم آخرون ، فيقول لهم القرآن : بعدا بعدا ، سحقا سحقا ، ضيّعتمونى فى الدنيا فلا تصحبونى فى الآخرة».

وأبو الحسن هذا ليس هو شيخ الشيخ أبى الربيع المالقى الذي ذكره أبو العباس نعمة بن القسطلانى.

قبر الشيخ الصالح أبى الحسن الصّفّار (٢) :

وبحريّه قبر مسنّم بالطوب الأحمر ، به الشيخ الصالح أبو الحسن على بن عمار بن طالب الصّفّار.

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ٦٨].

(٢) العنوان من عندنا.

٤٥٤

حكى عنه المسكى وابن بصيلة : أنّ جنديّا أتى إليه وقاوله على عمل طبق من النحاس الأصفر ، فجلس ، وجلس الجندى عنده حتى فرغ ، وكان لا يفتر لسانه عن ذكر الله سبحانه وتعالى ، فلما فرغ من الطبق دفعه للجندى ، فأعطاه الجندى دينارا ، فنظر إليه ورماه وقال : ادفع إلىّ ما شارطتك عليه. فألحّ الجندى عليه فى قبوله ، فقال : إنّ لله عبادا لو قالوا لهذا النحاس الذي بين يدىّ كن ذهبا صار ذهبا!

فدفع الجندىّ إليه ما شارطه عليه ، وأخذ الطبق وسار به إلى منزله فوجده ذهبا ، فجاء إليه فوجده قد مات. وكانت وفاته فى سنة ٤٣٨ ه‍.

* * *

وبالقرب من تربته أشهب (١) ، وقبر به إنسان يقال له الشيخ أبو بكر المصفّر ، وهو على مسامته قبر الصّفّار (٢) ، لكن على بعد من جهته البحرية ، ولقّب بالمصفّر لكثرة نحوله واصفراره ، وكان مقيما برباط الفقيه نصر ، وأوصى بأن يدفن بهذا المكان ، وأنه إذا وضع فى قبره يؤخذ الكفن من عليه. وقال : أحبّ أن أخرج من الدنيا عريانا.

حكى عنه قال : حججت سنة من السنين وإذا بأعرابىّ فى الطواف يقول : «إلهى ، من أولى الناس بالتقصير منى وقد خلقتنى ضعيفا؟ ومن أولى منك بالكرم وقد تسمّيت رءوفا؟ أطعتك بمنّك ولك المنّة علىّ ، وقد عصيتك بحلمك فلك الحجّة علىّ ، فبانقطاع حجّتى ووجوب حجّتك ، وفقرى إليك وغناك عنى إلّا ما غفرت لى».

__________________

(١) هو أشهب بن عبد العزيز الفقيه ، صاحب الإمام مالك ، وقد مرّ.

(٢) على مسامتة قبر الصّفّار ، أى : يقابله ويوازيه.

٤٥٥

ثم أنشد يقول :

يا ربّ ، أنت أمرتنى ونهيتنى

وسلكت بى طرق الضّلالة والهدى

وعلمت أنّى لا أمرّ من الّذى

قدّرت لى ، إن كان خيرا أو ردى

وسلكت بى ما شئت للشّىء الذي

فى الخلق ما أخفيته عنهم سدى

ودخلت من غير اختيار تحته

والعبد محكوم عليه وإن غدا

فاقبل بفضلك توبتى لك مخلصا

وارحم فإنّى قد بسطت لك اليدا

واغفر بفضلك ما مضى حتى أرى

برضاك مسرورا على رغم العدا

واصفح عن العبد المسىء يا سيّدى

قد جاء معترفا وعاش موحّدا

* * *

وفيما بين قبر المصفر والصفّار قبر مصطبة ، به الرجل الصالح الأمير «خيثمة» ، من كبار الزّهّاد بمصر ، وكان أميرا معتبرا ، مات فى سجن أحمد ابن طولون. وكان له بنت من الصالحات بسفح المقطم ، دفنت إلى جانب خيزرانة ، من المكاشفات.

قبر القاضى الزاهد أبى محمد عبد الوهاب الفقيه المالكى (١) :

ومن بحرى قبر القاضى العالم الفقيه الإمام العلامّة أبو محمد عبد الوهاب ابن على بن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق الثعلبى ،

__________________

(١) العنوان من عندنا. [انظر ترجمته فى الأعلام ج ٤ ص ١٨٤ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٢١٩ ـ ٢٢٢ ، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٤١٩ ـ ٤٢١ ، والنجوم الزاهرة ج ٤ ص ٢٧٦ ، وتاريخ بغداد ج ١١ ص ٣١ و ٣٢ ، وشذرات الذهب ج ٣ ص ٢٢٣ ـ ٢٢٥ ، وطبقات الفقهاء للشيرازى ص ١٧٠ و ١٧١ ، وانظر الكواكب السيارة ص ٧٥ ـ ٧٧ ، وتحفة الأحباب للسخاوى ص ١٧٥ ـ ١٧٧].

٤٥٦

الفقيه المالكى البغدادى ، من ذرّيّة مالك بن طوق صاحب الرّحبة ، ذكر هذا النّسب ابن ميسّر فى تاريخه ، وأثنى عليه جماعة من علماء المالكية ، ولم يكن فى زمانه أشهر منه فى مذهب مالك ، ولا أحفظ لفقه مالك (١) ، وكانت ترد إليه الأسئلة من بلاد المغرب. وسمع الحديث كثيرا ، وحدّث عن أبى القاسم عبد الواحد بن محمد بن عثمان بن إبراهيم البلخى ، وأبى حفص عمر بن أحمد ابن شاهين ، وأبى القاسم عبد الله بن الحسين بن الجلاب الفقيه ومن فى طبقتهم.

وروى عنه جماعة من العلماء يطول شرحهم.

وكان جليل القدر ، عظيم المنزلة فى العلم ، وله من المصنّفات كتاب «المعونة» (٢) وكتاب فروض الصلاة ، وكتاب التلقين ، وهو مع صغره من خيار الكتب ، وشرح المدوّنة شرحا فائقا ، وشرح الرسالة أيضا شرحا فائقا ، قال القاضى عياض فى المدارك : مارئى كحفظ القاضى عبد الوهاب فى زمانه.

وفيه قال أبو العلاء المعرّى لمّا اجتاز الشيخ عبد الوهاب بمعرّة النّعمان وأضافه أبو العلاء المذكور ، وذلك عند توجّهه إلى مصر :

والمالكىّ ابن نصر زار بلدتنا

لمّا نأى ، فحمدنا النّأى والسّفرا (٣)

إذا تكلّم أحيا مالكا جدلا

وينشر الملك الضّلّيل إن شعرا (٤)

والملك الضّلّيل (٥) هو امرؤ القيس بن حجر كما زعموا.

__________________

(١) كانوا يسمونه : مالكا الصغير.

(٢) فى تحفة الأحباب : «المعونة لمذهب عالم المدينة». وفى الكواكب السيارة على لسانه ـ القاضى عبد الوهاب : «المعونة فى شرح الرسالة».

(٣) فى فوات الوفيات : «زار فى سفر» مكان «زار بلدتنا». و «بلادنا» مكان «لمّا نأى» فى الشطرة الثانية من البيت.

(٤) فى المصدر السابق : «إذا تفقّه» مكان «إذا تكلم».

(٥) فى «م» : «الظليل» تحريف من الناسخ فى الموضعين.

٤٥٧

وقيل له : لو وقفت للخليفة ورفعت قصّتك وعرّفته حالك أعطاك ما يحصل لك به الغنى. فقال : والله تلك العلامة على شقاوة العالم إذا وقف بباب السلطان ، لا يرانى الله تعالى واقفا أبدا (١) بباب أحد من أبناء الدنيا.

وكان ـ رضى الله عنه ـ يحب المصافحة ، لحديث أنس بن مالك ، رضى الله عنه ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم ، أنه قال : «ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلّا كان حقّا على الله تعالى أن يحضر دعاءهما ، ولا يفرّق بين أيديهما حتى يغفر لهما. وما من قوم يذكرون الله تعالى لا يريدون بذلك إلّا وجهه ، إلّا ناداهم مناد من السّماء أن قوموا مغفورا لكم ، قد بدّلت سيّئاتكم حسنات» أخرجه أحمد.

وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله تعالى واستغفراه غفر لهما».

وعن قتادة قال : «قلت لأنس بن مالك : أكانت المصافحة فى أصحاب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم؟ قال : نعم». أخرجه البخارى.

وحكى أنّ بعض الفاطميين جلس مع بعض أصحابه فتحدث معهم ، فقال لهم : هل فيكم من يعرف سبب قول القائل : «لا يفتى ومالك بالمدينة»؟

فسكتوا كلهم وقالوا : إن كان ولا بد فعلم هذا يوجد عند عبد الوهاب البغدادى. فقال الخليفة : هل هذا يوجد عنده؟ قالوا : نعم. قال : قوموا بنا إليه ولا تعرّفونى إليه. فقالوا : حبّا وكرامة.

فقام الخليفة ومن معه حتى جاءوا إلى منزل القاضى عبد الوهاب ، فطرق الخليفة الباب ، فخرج إليه الشيخ عبد الوهاب ، وأذن له ولمن معه بالدخول ، فدخلوا ، فقال له الخليفة بعد أن سلّم عليه : يا مولاى ، هل فى ذكركم لأىّ سبب قيل : لا يفتى ومالك بالمدينة؟ فقال الشيخ : نعم ، بلغنى أنّ مالكا ـ

__________________

(١) فى «م» : «قط».

٤٥٨

رضى الله عنه ـ كان شابّا ، وكان يقرأ على ربيعة ، وكانت فى زمانه غاسلة تغسّل الموتى ، فأدخلت على امرأة جميلة ماتت لتغسلها ، فعندما جرّدتها من أثوابها على دكّة المغتسل وضعت يدها على فخذها وقالت : ما كان أزناه من فخذ! فالتصقت يدها على فخذ المرأة ، ولم يقدر أحد على خلاصها ، فاستفتت الفقهاء فى ذلك ، فاختلف علماء المدينة اختلافا عظيما ، فقال بعضهم : نقطع يد الغاسلة. وقال بعضهم : يقطع من فخذ الميّتة بقدر الحاجة ، واشتد الخلاف فى ذلك ولم يبق إلّا مالك ، فأتوه فأخبروه بهذه المسألة ، فقال : تضرب الغاسلة حدّ القذف. فجاءوا إليها ، وفعلوا ذلك بها ، فخلصت يد الغاسلة عند آخر ضربة ، فتعجبوا من ذلك ، فضرب الناس المثل بقولهم : «لا يفتى ومالك بالمدينة».

ويروى أنه رئى فى المنام بعد موته ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : أثابنى بكل كتاب وضعته ، إلّا كتاب «التلقين» ، فإنّى كنت صنعته لمضاهاة كتاب إنسان على مذهب مالك (١) ، ولم أرد به وجه الله تعالى ، وانتفعت كثيرا بكتاب «المعونة» ، فإنى أردت به وجه الله سبحانه.

قيل : وله كتاب يسمى «النصرة» ، قال بعض المالكية : لو وجد هذا الكتاب لم يحتج إلى كتاب فى مذهب مالك.

وسئل عن سبب خروجه من بغداد ـ وهى دار العلم ـ فقال : لم أجد بها ما أقتأت به ، ولو وجدت ما خرجت ، ثم أنشد :

فو الله ما فارقتها عن قلى لها

وإنّى بشطّى جانبيها لعارف (٢)

__________________

(١) فى الكواكب السيارة : «فإنى جعلته مناظرة لشخص صنّف كتابا فلم ينفعنى».

(٢) قلى : بغض.

٤٥٩

ولكنها ضاقت علىّ بأسرها

ولم تكن الأرزاق فيها تساعف

وكانت كخلّ كنت أرجو دنوّه

وأخلاقه من سوء قسمى تخالف (١)

وكان له أخ بزّاز بمصر ، فبلغه قدوم الشيخ من بغداد إلى أرض مصر ، فنذر : أنّ أوّل من يبشّره بقدوم أخيه يدفع له مائة دينار ، ثم إنّه وزنها وصرّها فى صرّة ، وجعلها فى رفّ فى حانوته ، وبلغ ذلك الشيخ عبد الوهاب ، فجاء إلى القرافة ودخل إلى سوقها فوجد رجلا يضفّر الخوص (٢) ، فجلس عنده وتحدث معه ، ثم قال له : بكم تعمل كلّ يوم؟ قال : بنصف درهم. فقال : ألك عيال؟ قال : نعم. فقال له : هل أدلّك على شىء يغنيك عن هذا؟ قال : يا سيدى افعل ما أنت أهله. فقال له : قم واذهب إلى سوق البزّازين بمصر ، واسأل عن أخى عبد الوهاب البغدادى ، فإذا اجتمعت عليه سلّم عليه وقل له : إنّ أخاك وصل إلى هنا وهو يقرئك السلام وهو عندى.

فقام الرجل من وقته وساعته وتوجّه إلى مصر ، ودخل سوق البزازين ، وسأل عن أخى عبد الوهاب ، فدلّه الناس عليه ، فلما اجتمع به سلّم عليه وأخبره ، ففرح بذلك فرحا شديدا ، وأعطاه المائة دينار ، وقام معه إلى الشيخ ، واجتمع كلّ واحد منهما بصاحبه. وأقام الشيخ عبد الوهاب بمصر ، ورزق بها حظّا عظيما. وكان مولده فى سابع شوال سنة ٣٦٢ ه‍. وتوفى فى رابع صفر الخير سنة ٤٢٢ ه‍ ، وقيل بل فى شهر شعبان. وحكى عنه أنه لمّا مات أضاء البيت نورا ، وسمع أهل المنزل قائلا يقول : هذه أنوار الأعمال الصادرة عن الأبرار.

وقال العلّامة شمس الدين محمد بن أحمد بن خلّكان فى كتابه المسمّى بوفيات الأعيان فى ترجمته بعد ذكر نسبه المذكور : ذكره الخطيب فى تاريخ بغداد

__________________

(١) هكذا فى «م» .. والشطرة الثانية من البيت فى فوات الوفيات : «وأخلاقه تنأى به وتخالف».

(٢) فى «م» : «يعمل الخوص» ، واللفظ هنا للسخاوى ، ومعناه : يجعله ضفائر ، أى : ذوائب يعمل منها المكاتل ، ونحوها.

٤٦٠