مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

ثم خدم بالإسكندرية مدّة عند قاضيها محمد بن حديد (١). وكانت كتبه ترد غاية فى البلاغة (٢). ولا يزال يتنقل فى الخدم الديوانية بها أيضا ، فلما قام بوزارة مصر العادل بن رزّيك الملقّب برزّيك بن الصالح طلائع بن رزّيك [كتب](٣) إلى والى الإسكندرية بتسييره إلى الباب ، فلما حضر استخدمه بحضرته وبين يديه فى ديوان الجيش ، فلما مات الموفق بن الخلال فى سنة ٥٦٦ ه‍ ، وكان القاضى آن ذاك نائبا عنه فى ديوان الإنشاء ، عيّنه الكامل بن شاور بن مجير ، وهو والد الوزير ، وسعى له عند أبيه ، فأقرّه عوضا عن ابن الخلال ، فلما ملك أسد الدين شير كوه احتاج إلى كاتب ، فأحضره وأعجب بنفاذه وسمته ونصحته (٤) ، فاستكتبه ، إلى أن ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فاختفى قليلا لمّا قامت الفتنة بين العاضد الفاطمى والسلطان صلاح الدين ، ونهبة (٥) أمواله ، ثم أنه ذكر السلطان صلاح الدين وأثنى عليه عنده. قال : فدعاه واستخلصه وحسن اعتقاده فيه ، فاستعان به على إزالة الدولة الفاطمية.

فلما تم للسلطان ما أراد ، اتّخذ القاضى وزيرا ومشيرا ، بحيث كان لا يصدر أمرا إلّا عن مشورته ، ولا ينفّذ شيئا إلّا من رأيه ، ولا يحكم قضية إلّا بتدبيره.

فلما مات السّلطان صلاح الدين استمرّ على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان فى الرّفعة والمكانة ، فلما مات العزيز وقام من بعده ولده الملك

__________________

(١) فى «م» : «بن جرير» تصحيف ، والتصويب من المصدر السابق ص ٢٢١.

(٢) فى «م» : «فى غاية البلاغة».

(٣) ما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى.

(٤) بنفاذه : بمهارته وقضائه الأعمال وإنفاذها. وسمته : هيئته. ونصحته : إخلاص مشورته.

(٥) النّهبة : الانتهاب.

٦٢١

المنصور بالملك ، بتدبير (١) عمّه الأفضل [نور الدين ، كان أيضا على حاله ، ولم يزل كذلك إلى أن وصل] الملك العادل أبو بكر بن أيوب من الشام لأخذ ديار مصر ، وخرج الأفضل لقتاله ، [وعند دخوله القاهرة] مات القاضى [الفاضل](٢) ساكنا ، أحوج ما كان إلى الموت ، عند تولّى الإقبال ، وإقبال الإدبار ، فى سحر يوم الأربعاء ، سابع عشر ربيع الآخر سنة ٥٩٦ ه‍ ، ودفن بهذه التربة (٣).

قال بعض المؤرخين فى ترجمته : وزر القاضى الفاضل للسلطان صلاح الدين ، وتمكّن منه غاية التمكين ، وبرز (٤) فى صناعة الإنشاء ، وفاق (٥) المتقدمين ، وله فيه الغرائب مع الإكثار (٦).

وأخبرنى (٧) أحد الفضلاء الثّقات المطّلعين على حقيقة أمره أنّ مسوّدات رسائله (٨) فى المجلدات والتعليقات فى الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد ، وهو مجيد (٩) فى أكثرها.

وقال عبد اللطيف البغدادى : دخلنا عليه فرأينا شيخا ضئيلا ، كلّه رأس وقلب ، وهو يكتب ويملى على اثنين ، ووجهه وشفتاه تلعب بألوان الحركات ، لقوّة حرصه على إخراج الكلام ، وكان يكتب بجملة أعضائه ، وكان له

__________________

(١) هكذا فى الوفيات .. وفى «م» : «ودبّره بتدبير».

(٢) ما بين المعقوفتين عن الوفيات وسقط من «م» سهوا من الناسخ ـ فى المواضع الثلاثة.

(٣) أى : التربة المشار إليها بسفح المقطم فى القرافة الصغرى ، وما زالت قائمة إلى اليوم.

(٤) فى «م» : «فوز» تصحيف. والتصويب من الوفيات ج ٣ ص ١٥٨.

(٥) فى «م» : «وقال» تصحيف ، والتصويب من المصدر السابق.

(٦) فى «م» : «وله فى الغرائب من الإكثار» فيها بعض تحريف ، وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٧) هكذا الفعل فى الوفيات (ج ٣ ص ١٥٨) والمخبر هنا هو المؤلف الموفق بن عثمان ، حيث كان معاصرا له.

(٨) فى «م» : «الرسائل».

(٩) فى «م» : «جيد».

٦٢٢

غرام (١) بالكتابة وبتحصيل الكتب. وكان من الدّين والعفاف والتّقى ، والمواظبة على قيام الليل ، والصيام ، وقراءة القرآن على جانب كبير ، قيل : كان يقرأ فى اليوم والليلة ختما كاملا.

وكان قليل اللّذّات ، كثير الحسنات ، دائم التهجد ، كثير الاشتغال بعلوم الأدب وتفسير القرآن ، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو ، ولكن قوّة الدّربة توجب له قلّة اللحن. وكان لا يكاد يضيع شيئا من زمانه إلّا فى طاعة.

وسمع الحديث من جماعة ، كالحافظ السّلفى ، والحافظ ابن عساكر ، وغيرهما. وكتب فى الإنشاء ما لم يكتبه أحد ، وكان متقلّلا فى مطعمه وملبسه ومنكحه ، وكان يكثر (٢) من لباس البياض ، لا يساوى ما عليه ـ إن قوّم ـ أكثر من خمسة (٣) دنانير صلاحيّة (٤).

وكان إذا ركب كان معه غلام ، وكان لا يمكّن أحدا من صحبته ، وكان يكثر زيارة القبور ، وتشييع الجنائز ، وعيادة المرضى ، وله معروف فى السّرّ والعلانية.

وكان (٥) وزيرا صالحا ، مجتهدا ، عالما ، لم ينطق قطّ إلّا فى إيصال رزق أو معونة محتاج ، أو تجديد نعمة. وأوقف أوقافا على الفقراء والمساكين بالحرمين وغيرهما. وأنشأ مدرسته [بدرب](٦) ملوخيّا بالقاهرة ، بجوار

__________________

(١) فى «م» : «غراما» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) فى «م» : «كثير» وما أثبتناه هو المناسب مع حرف الجر «من».

(٣) فى «م» : «خمس» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٤) نسبة إلى صلاح الدين.

(٥) الفعل «وكان» سقط سهوا من الناسخ فى «م».

(٦) ما بين المعقوفتين عن الوفيات ولم يرد فى «م» .. ودرب ملوخيا هو ما يعرف اليوم بدرب القزازين ، وقد افتتحت هذه المدرسة للتدريس يوم السبت مستهل المحرم من سنة ٥٨٠ ه‍.

[انظر الخطط التوفيقية ج ٦ ص ٣١ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ١٦٢].

٦٢٣

داره ، وأوقف جميع كتبه وأقرهم بها ، ودرّس بها الشاطبى علوم القرآن ، والفقهاء (١) الفرائض. وجدّد عمارة العين الزرقاء التى بمدينة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وحصل لأهل المدينة بها نفع عظيم. وما ترك (٢) ـ رحمه الله تعالى ـ بابا من أبواب الخير إلّا وأحرز منه أوفى نصيب. [وأوقف](٣) وقفا عظيما على فكاك الأسرى من أيدى الكفّار.

وحكى أنه خرج يوما إلى صحراء القاهرة راكبا ، فلقيه لصّ وراوده على أخذ ثيابه ، فقال له الفاضل : هل تريد شيئا غير الثياب والبغلة؟ قال : لا.

فقال له : سر معى إلى دارى ، واحملنى على مروءتى. قال : نعم رضيت ذلك.

ثم سار معه وهو لا يعرفه ، إلى أن وصل إلى باب النصر ، فلما دخل القاضى من باب النصر قام له خدمه وأعوانه ، فقال لهم : احفظوا هذا الرّجل إلى الدّار.

فأيقن الرجل أنه لا محالة هالك. فلما وصل القاضى إلى داره ، واستقر فى مجلسه ، دعا بالرجل فأدخل عليه وقد ارتاع ، فقال : لا تخف يا رجل. ثم إنه دعا بطعام فأطعمه ، ثم دعا بشراب وسقاه ، ثم دفع له البغلة والثياب ، ودفع له جائزة أخرى فوق ذلك.

ونقل أيضا عنه أنّ رجلا زوّر توقيعا بخط صلاح الدين أنّه أعطاه رزقه فى مكان ، ثم كشف أمره لإنسان ، فوشى به إلى السلطان صلاح الدين ، فدعاه

__________________

(١) فى «م» : «والكلاى» لا معنى لها .. وما أثبتناه من الخطط المقريزية وفيها : «ووقفها ـ أى المدرسة المذكورة ـ على طائفتى الفقهاء الشافعية والمالكية ، وجعل فيها قاعه للإقراء ، أقرأ فيها الإمام أبو محمد الشاطبى ناظم الشاطبية و... ووقف بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب فى سائر العلوم ، يقال إنها كانت مائة ألف مجلد .. وقد ذهبت كلها لما وقع الغلاء بمصر فى سنة ٦٩٤ ه‍ ، فصار الطلبة يبيعون كل مجلد برغيف خبز ، حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب ، ثم تداولت أيدى الفقهاء عليها بالعارية فتفرقت ..».

[انظر المدرسة الفاضلية فى الخطط المقريزية ج ٢ ص ٣٦٦ و ٣٦٧].

(٢) فى «م» : «وترك» لا يصح ، وقد سقطت «ما» سهوا من الناسخ ، والسياق يستدعى وجودها.

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة المعنى.

٦٢٤

وقال : أين التوقيع الذي فى يدك؟ فأبرزه له ، فلما (١) رآه السلطان غضب غضبا عظيما وقال : كأنّه ـ والله خطّى! ثم أمر بقطع يد الرّجل. فقال القاضى : يا مولانا ، نريد من فضلكم أن تكتبوا لنا خطّكم بجانب خطّه حتى نرى ما بينهما من الفرق. فقال السلطان : نعم. ثم رقم اسمه ، فلما رآه الفاضل قال : لا إله إلّا الله!! كان باطلا فصار حقّا ، إن الله تعالى قد أذلّ قلمه وأعزّ قلمك ، وما كان لك أن تكتب شيئا ولا تمضيه.

فتبسّم السّلطان وعفا عن الرجل ، كلّ ذا بلطف من القاضى.

وقد وصفه العماد الأصفهاني فى كتاب الخريدة ، وقال فى حقه : «ربّ القلم والبيان ، واللّسن واللّسان ، والقريحة الوقّادة ، والبصيرة النّقّادة (٢) ، والبديهة المعجزة ، والبديعة المطرّزة ، والفضل الذي ما سمع من الأوائل (٣) ، فهو كالشريعة المحمدية التى نسخت الشرائع ، ورسخت بها الصّنائع ، يخترع الأفكار ، ويفترع (٤) الأبكار ، ويطلع الأنوار ، ويبدع الأزهار ، وهو ضابط الملك بآرائه ، ورابط السّلك بآلائه ، إن شاء [أنشأ](٥) فى اليوم الواحد ، بل فى السّاعة الواحدة ، مالو دوّن لكان لأهل الصّناعة خير بضاعة.

أين قسّ (٦) عند فصاحته؟ وأين قيس فى مقام حصافته (٧) ، ومن

__________________

(١) فى «م» : «فلما أن» تحريف من «فما أن».

(٢) فى «م» : «الناقدة» ، وما أثبتناه عن النجوم الزاهرة ج ٦ ص ١٥٦ ، والوفيات ج ٣ ص ١٥٩.

(٣) هكذا العبارة فى «م» ـ وفى المصدرين السابقين : «الذي ما سمع فى الأوائل بمن لو عاش فى زمانه لتعلق بغباره ، أو جرى فى مضماره».

(٤) فى «م» : «ويقترع» بالقاف ، لا تصح ، وافترع البكر : افتضها ، وهذا التعبير هنا كناية على تفوقه وبراعته ونبوغه.

(٥) ما بين المعقوفتين عن المصدرين السابقين وسقط من «م» سهوا من الناسخ.

(٦) فى «م» : «قيس» تحريف. وقس هو : قسّ بن ساعدة الإيادى ، ويضرب به المثل فى الفصاحة.

(٧) فى «م» : «خصافة» تصحيف ، والتصويب من الوفيات والحصافة : استحكام العقل وجودة الرأى.

٦٢٥

حاتم (١) وعمرو فى سماحته وحماسته؟ ..». وأطال القول فى تقريظه (٢).

ومن رسائله رسالة كتبها على يد خطيب عيذاب إلى صلاح الدين يوسف ابن أيوب يشفع عنده فى الخطيب أن يكون خطيبا بجامع الكرك (٣). صورتها بعد البسملة الشريفة : «أدام الله السلطان (٤) الملك الناصر وثبّته ، وتقبّل عمله بقبول صالح وأنبته ، وأرغم أنف عدوّه بسيفه وكبته (٥) ، خدمة المملوك هذه واردة (٦) على يد خطيب عيذاب ، ولما نبا (٧) به المنزل عنها ، وقلّ عليه المرفق (٨) فيها ، وسمع بهذه الفتوحات التى طبّق الأرض ذكرها ، ووجب على أهلها شكرها ، هاجر من هجير عيذاب وملحها ، ساريا فى ليلة أمن (٩) كلها نهار ، فلا يسأل عن صبحها ، وقد رغب فى خطابة الكرك وهو خطيب ، وتوسّل بالمملوك فى هذا الملتمس وهو قريب ، ونزع من مصر إلى الشام ، ومن عيذاب إلى الكرك ، وهذا عجيب ، والفقر سائق عنيف (١٠) ، والمذكور عائل ضعيف ، ولطف الله بالخلق بوجود مولانا لطيف (١١) ، والسلام».

__________________

(١) هو حاتم الطّائى المشهور بالكرم.

(٢) فى «م» : «واطلال» مكان «وأطال» تحريف ، وما أثبتناه عن المصدر السابق. والتقريظ : المدح.

(٣) فى المصدر السابق : «يشفع له فى توليته خطابة الكرك».

(٤) قوله : «أدام الله السلطان» عن المصدر السابق ، وسقط من «م» سهوا من الناسخ.

(٥) هكذا فى «م» .. وفى المصدر السابق : «وأخذ عدوّه قائلا أو بيته ، وأرغم أنفه بسيفه وكبته».

(٦) فى «م» : «خدمة الملوك واردة» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٧) فى «م» : «غيداب» مكان «عيذاب» فى كل المواضع وقد صوبناه بالرجوع إلى المراجع المذكورة .. و «بنا» مكان «نبا».

(٨) فى «م» : «الموقف» تحريف.

(٩) فى المصدر السابق : «أمل» مكان «أمن».

(١٠) فى «م» : «عتيق» تحريف ، والتصويب من المصدر السابق.

(١١) فى «م» : «اللطيف» وما هنا عن المصدر السابق.

٦٢٦

وقيل : إنه مرّ فى بعض الأيام فوجد العماد الكاتب ، فقال له : «دام علا العماد». فقال العماد له مجيبا : «سر (١) فلا كبا بك الفرس».

وهاتين اللّطيفتين تقرأ كلّ واحدة منهما طردا وعكسا (٢).

ومن شعره ـ رحمه الله ـ وقد تشوّق إلى نيل مصر [عند](٣) وصوله إلى الفرات فى خدمة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، رضى الله عنه ، يقول :

بالله قل للنّيل عنّى إنّنى

لم أشف من ماء الفرات غليلا

وسل الفؤاد فإنّه لى شاهد

إن كان جفنى بالدموع بخيلا (٤)

يا قلب كم خلّفت ثمّ بثينة

وأعيذ صبرك أن يكون جميلا (٥)

وكان كثيرا ما ينشد ويقول (٦) :

وإذا السّعادة لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلّهنّ أمان (٧)

واصطد بها العنقاء فهى حبائل

واقتد بها الجوزاء فهى عنان (٨)

ومن شعره (٩) :

بتنا على حال يسرّ الهوى

وربّما لا يمكن الشّرح

__________________

(١) فى «م» : «سره» تحريف.

(٢) أى : تقرأ من آخر حرف فى كل جملة ، كما تقرأ من أول حرف فيها.

(٣) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق ، وسقط من «م» سهوا من الناسخ.

(٤) الشطرة الثانية من البيت فى «م» بها تحريف ، فقد كرر الناسخ الفعل «كان» وفيها : «بالدوع بخيل» هكذا مكان «بالدموع بخيلا». وما أثبتناه عن الوفيات (ج ٣ ص ١٦٠).

(٥) فى «م» : «وأغيذ ... جميل» خطأ ، والصواب ما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٦) فى وفيات الأعيان : «وكان كثيرا ما ينشد لابن مكنسة ، وهو أبو طاهر إسماعيل بن محمد ابن الحسين القرشى الإسكندرى».

(٧) وفى بعض الروايات : «وإذا العناية لاحظتك عيونها».

(٨) فى «م» : «النقا» تحريف. والعنقاء : طائر خرافى ، لا وجود لها. والجوزاء : برج من بروج السماء.

(٩) فى «م» : «غيره» أى : غير الشعر الذي ذكر مكان «ومن شعره» ، وما أثبتناه هنا عن الوفيات.

٦٢٧

بوّابنا اللّيل ، وقلنا له :

إن غبت عنّا دخل الصّبح

وملحه ونوادره كثيرة ، وشعره فى الذّروة الخطيرة ، وكان من محاسن الدهر ، وهيهات أن يخلف الزمان مثله ، وما شىء كمثله.

قبر القاضى الأشرف ابن القاضى الفاضل (١) :

وإلى جانبه قبر ولده [القاضى] الأشرف بهاء الدين أبى العباس [أحمد](٢). كان كبير المنزلة عند الملوك ، وكان مكبّا (٣) على سماع الحديث وتحصيل الكتب. ومولده فى المحرم سنة ٥٧٣ ه‍. وسمع من القاسم ابن عساكر وابن بنان الذي يسمى الأمير ، والعماد الكاتب ، وجماعة ، وأقبل على الحديث فى الكهولة (٤) ، واجتهد فى الطلب ، وحصّل الأصول الكثيرة ، وسمع أولاده (٥) ، وكان صدرا نبيلا يصلح للوزارة.

وسمع ببغداد ودمشق ، ودرّس بمدرسة أبيه ، وكان مجموع الفضائل ، كثير الأفضال على المحدّثين (٦) ، استوزره الملك العادل ، فلما مات عرضت عليه الوزارة فأبى أن يقبلها ، وكان الملك الكامل (٧) قد سيّره برسالة إلى بغداد ، فأنشد الوزير يقول (٨) :

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٦٣ ، وشذرات الذهب ج ٥ ص ٢١٨].

(٢) ما بين المعقوفتين عن الوفيات فى الموضعين.

(٣) فى المصدر السابق : «وكان مثابرا».

(٤) فى «م» : «الهدلة» تصحيف ، والتصويب من شذرات الذهب.

(٥) هكذا فى «م» .. وفى المصدر السابق : «فسمع الكثير ، وكتب واستنسخ ، وكان رئيسا نبيلا».

(٦) أى : المشتغلين بعلم الحديث.

(٧) وهو ابن الملك العادل.

(٨) فى الوفيات : «فأنشد الوزير من نظمه».

٦٢٨

يا أيّها المولى الوزير ومن له

منن حللن من الزّمان وثاقى (١)

من شاكر عنّى نداك فإنّنى

من عظم ما أوليت ضاق نطاقى (٢)

منن تخفّ على يديك وإنّما

ثقلت مئونتها على الأعناق (٣)

ولمّا دخل بغداد أظهر من الحشمة والصّدقات والصلاة أمرا عظيما ، وما أعطاه الخليفة من جوائز فرّقه ، وحسب ما أنفقه فى تلك المدّة ستة عشر ألف دينار.

وصلّى عليه لمّا مات ولده ضياء الدّين (٤)

ومن شعره ، يقول :

قد وفد الصّبح فقم نصطبح

من الّذى لا صبر لى عنه (٥)

فنهرنا قد مزحته الصّبا

فصار شاذ رواته منه (٦)

وله أيضا :

من شرف العفّة لا كان لى

فى غيرها قسم ولا رزق (٧)

[إنّك إن رحت] بها موسرا

أحبّك الخالق والخلق (٨)

__________________

(١) فى «م» : «وقاقى» تصحيف ، والتصويب من المصدر السابق.

(٢) هكذا فى المصدر السابق .. وفى «م» : «خناقى». والندى : الكرم.

(٣) هكذا فى المصدر السابق .. وفى «م» : «منن علىّ» مكان منن تخفّ» .. وفيها : «الأقناق» مكان «الأعناق» .. والأخيرة تصحيف من الناسخ. والمنن ، جمع منّة ، وهى : الإحسان والإنعام. وتخفّ : تسرع.

(٤) كانت وفاته فى سابع جمادى الآخرة سنة ٦٤٣ ه‍.

(٥) نصطبح : نشرب شراب الصباح.

(٦) هذا البيت غير مقروء فى «م» ولم أقف عليه فيما تحت يدى من المصادر ، وقد ورد فى «الوافى بالوفيات». والصّبا ريح مهبها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار. ومزجته : خالطته.

(٧) القسم : مصدر بمعنى النصيب.

(٨) ما بين المعقوفتين غير واضح ومشطوب فى «م».

٦٢٩

وله أيضا :

أستودع الله الّذين فقدتهم

فقد العيون السّاهرات كراها (١)

وحمدت ربى حيث كان لقاؤهم

يوما على الحالين حين يراها

* * *

قبر الإمام الشّاطبى ـ القاسم بن فيّره الرّعينى (٢) :

وبالتربة المذكورة (٣) قبر الشيخ الإمام الفاضل ، العمدة القاسم ـ ويقال : أبو القاسم ، على أنّ كنيته اسمه ، والمشهور الأول ـ ابن فيّره (٤) بن أبى القاسم خلف بن أحمر الرّعينى (٥) الشاطبى ، صاحب القصيدة الموسومة بحرز الأمانى ووجه التهانى فى القراءات السّبع (٦) ولقد أبدع فيها إبداعا عظيما ، وهى عمدة قرّاء العصر.

وله قصيدة دالية أحاط فيها بمقاصد التمهيد لابن عبد البر ، والقصيدة الرّائية فى موسوم الخط ، وغير ذلك.

وسمع من جماعة ، منهم أبو الطّاهر (٧) السّلفى ، وأبو الحسن على بن محمد بن هذيل ، وغيرهما. وروى عنه ابن الجمّيزى ، والكمال الضرير ، والعلم

__________________

(١) الكرى : النّعاس والنوم.

(٢) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ١٨٠ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ٧١ ، ومعجم الأدباء ج ١٦ ص ٢٩٣ ، والكواكب السيارة ص ٣١٠ ، وتحفة الأحباب ص ٤٣٦].

(٣) أى : تربة القاضى الفاضل وابنه.

(٤) ستأتى بعد قليل.

(٥) فى «م» : «خلف الرعينى» وما أثبتناه عن المراجع السابقة.

(٦) هذه القصيدة عدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون (١١٧٣) بيتا.

(٧) فى «م» : «الظاهر» بالظاء المعجمة ، تحريف.

٦٣٠

السخاوى (١) ، وغيرهم. ذكره النووى فى طبقاته ، وغيره ، وقال ابن خلّكان فى تاريخه : «كان عالما بكتاب الله عزّ وجلّ قراءة وتفسيرا ، وبحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، مبرزا فيه ، وكان إذا قرىء عليه صحيح البخارى ومسلم والموطّأ تصحّح (٢) النّسخ من حفظه. وكان أوحد (٣) أهل عصره فى علم النحو واللغة ، عارفا بعلم الرّؤيا ، حسن المقاصد ، مخلصا فيما يقول ويفعل».

ومولده فى آخر سنة ٥٣٨ ه‍. ودخل مصر سنة ٥٧٢ ه‍ ، وكان يقول عند دخوله إليها : إنه يحفظ وقر بعير [من العلوم](٤). ورتّبه القاضى الفاضل بمدرسته للإقراء. وتوفى سنة ٥٩٠ ه‍ فى يوم الأحد بعد صلاة العصر ، الثامن والعشرين من جمادى الآخرة.

وفيّره : بكسر الفاء وسكون الياء المثنّاة من تحت ، وتشديد (٥) الراء المهملة المضمومة ، وهو بلغة اللطينى (٦) من أعاجم الأندلس ، ومعناه بالعربى : الحديد.

والرّعينى : بضمّ الراء ، وفتح العين المهملة ، نسبة إلى «ذى رعين» من أقيال اليمن (٧).

والشّاطبى : نسبة إلى «شاطبة» ، مدينة بشرق الأندلس.

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وهو الإمام علم الدين أبو الحسن على بن محمد السخاوى ، تلميذه وشارح قصيدته.

(٢) فى «م» : «وإذا قرأ على الصحيحان [هكذا] والموطأ يصح» ، وهذا خطأ وتحريف ، والتصويب من وفيات الأعيان.

(٣) فى «م» : «أحد» ، وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٤) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

(٥) فى «م» : «شديد» تصحيف.

(٦) فى «م» : «بغلة» تحريف والتصويب من المصدر السابق. ويعنى بها «لغة اللّاتين».

(٧) القيل : من ملوك اليمن فى الجاهلية. وجمعه : أقيال.

٦٣١

وكان كثيرا ما يقول هذا اللّغز .. يقول :

أتعرف شيئا فى السّماء يطير

إذا سار صاح النّاس حيث يسير (١)

فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا

وكلّ أمير يعتليه أسير

يحضّ على التّقوى ويكره قربه

وتنفر منه النّفس وهو نذير

ولم يستزر عن رغبة فى زيارة

ولكن على رغم المزور يزور (٢)

وحكى عنه قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى منامى عشر ليال متوالية بالرّوضة ، وقرأت عليه فيها القرآن ، فلما ختمت عليه ، قال لى : حماك الله من الشّبه.

وإلى جانبه قبر ولده أبى عبد الله محمد بن القاسم الشاطبى ، حدّث عن أبيه ، وتوفى بالقاهرة (انتهى).

* * *

قبر الفقيه العالم الشيخ أبى المعالى مجلّى (٣) :

ثم تخرج من التربة إلى تربة بها محراب بالحجر (٤) ، وهو على يسارك ، بها قبر الفقيه الإمام العالم مجلّى (٥) بن جميع بن نجا القرشى المخزومى ،

__________________

(١) فى «م» : «يصير» تحريف ، والتصويب من الوفيات.

(٢) لم يستزر ، أى : لم يطلب أو يسأل الزيارة ـ من الفعل : استزار ، بمعنى : سأل أن يزار. وقد ورد هذا الشعر فى وفيات الأعيان .. وفى شذرات الذهب أنه كان ـ أى الشاطبى ـ كثيرا ما ينشد هذا اللغز فى «نعش الموتى».

(٣) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٢٨٠ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ١٥٤ ـ ١٥٨ ، وطبقات الشافعية ج ٧ ص ٢٧٧ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٥ ، وتحفة الأحباب ص ٤٣٦ ، والكواكب السيارة ص ٣١٠].

(٤) فى الكواكب السيارة : لم يبق من آثار تربته إلّا محراب صغير.

(٥) فى «م» : «مجلى القرشى المخزومى».

٦٣٢

الأرسوفيّ (١) الأصل ، المصرى الدار ، المكنى أبا المعالى ، الفقيه الشافعى.

كان من أعيان الفقهاء ، [تفقه](٢) المذكور على الفقيه سلطان ، تلميذ الشيخ نصر المقدسى. قال بعضهم ، والكمال القليوبى (٣) ، قال عنه : إنه تفقّه من غير شيخ ، وسمع من أبى الحجّاج علىّ بن يوسف القضاعى ، والإمام أبى الحسن الخلعى (٤) ، وجماعة أخر ، وسواهما ، وأخذ عنه «العراقى» شارح المهذّب ، ومحفوظ بن على ، وأبى القاسم عبد الرحمن بن محمد الصّدفى ، ومحمد ابن ثابت بن فرج الجيزانى ، وغيرهم.

وكان رجلا صالحا ، عالما ، وكان يسكن «قليوب». وولّاه العادل ابن السّلار القضاء بالديار المصرية (٥) سنة ٥٤٧ ه‍ ، ثم صرف عن القضاء (٦) سنة ٥٤٩ ه‍. وقال : ما دخلت القضاء إلّا لضرورة ، [ولقد] بعد عهد أهلى باللّحم ، فأخذت لهم منه ، فما هو إلّا أن وضعوا أيديهم فيه [مرّة](٧) ثم لم يضعوها ثانية (٨).

وصنّف كتابا فى الفقه سمّاه «الذخائر» ، وهو كتاب جليل مشهور ، مبسوط ، كثير الفروع والغرائب ، عزيز الوجود ، كامل (٩) ، وقفت على

__________________

(١) الأرسوفى : نسبة إلى «أرسوف» وهى مدينة على ساحل بحر الشام.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد فى «م».

(٣) فى الكواكب السيارة : «أخبرنا القاضى كمال الدين أحمد ، عرف بابن القليوبى».

(٤) فى «م» : «الخلفى» تحريف ، والتصويب من حسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٤ ، وفى الكواكب السيارة : «روى عن أبى الحسن على الخلعى وغيره».

(٥) فى «م» : «قضاء القضاة» .. وفى وفيات الأعيان ج ٤ ص ١٥٤ : «تولى القضاء بتفويض من العادل أبى الحسن على بن السلّار».

(٦) فى «م» : «ثم عزل عنها». وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٧) ما بين المعقوفتين عن طبقات الشافعية ج ٧ ص ٢٧٨ فى الموضعين.

(٨) هكذا فى المصدر السابق .. وفى «م» : «ثم لم يضعوا لها ثانيا» .. يشير إلى كثرة العيال وقلة الطعام.

(٩) فى «م» : «كاملا» خطأ ، والصواب بالرفع.

٦٣٣

معظمه ، إلّا أنّ ترتيبه عجيب ، صعب لمن يريد استخراج المسائل منه ، وفيه أوهام (١). وقد صنّف بعض الحمويّين الواردين إلى مصر عقب موت مجلّى كتابا لطيفا ذكر فيه أوهامه ، ولم يذكر فيه شيئا طائلا ، وأبان عن مجمل وعرض.

ومنها (٢) كتاب «أدب القضاء» ، وكتاب «جوائز بعض المخالفين فى الفروع ببعض» ، صنّفه فى توجّهه إلى الحجاز الشريف. وله تصنيف فى المسألة السريحية.

وكان جيّدا ، حسن الخطّ (٣) ، حسن التعليق.

وتوفى فى شهر ذى القعدة الحرام سنة ٥٥٠ ه‍. وقيل : سنة ٥٥٥ ه‍. وقيل سنة ٥٦٥ ه‍ (٤).

ومن مرويّاته التى رواها بسنده إلى أبى الدّرداء ، عن النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، أنه قال : «المسجد بيت كلّ تقىّ ، وقد ضمن الله عزّ وجلّ لمن كانت المساجد بيوتهم الرّوح والرّاحة ، والجواز على الصّراط إلى رضوان الله عزّ وجلّ» (انتهى).

تربة الشيخ أبى عبد الرحمن رسلان (٥) :

ثم تجىء إلى تربة الشيخ الصالح الفقيه أبى عبد الرحمن رسلان بن عبد الله المقرى الشافعى ، يكنى أيضا أبا محمد ، كان فى حال حياته مقيما بزاويته.

__________________

(١) قال الأذرعى عنه : «إنه كثير الوهم ، قال : ويستمد من كلام الغزالى ويعزوه إلى الأصحاب ، قال : وذلك عادته».

[انظر شذرات الذهب ج ٤ ص ١٥٧].

(٢) أى : من تصانيفه.

(٣) فى طبقات الشافعية : «جيد الحفظ».

(٤) ذكرت أكثر المراجع التى ترجمت له أن وفاته كانت سنة ٥٥٠ ه‍.

(٥) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى كرامات الأولياء ج ٢ ص ٧٥ ، والكواكب السيارة ص ٣١١ ، وتحفة الأحباب ص ٤٣٧].

٦٣٤

وحكى عنه أنه مرّ على رجل يبيع الحنطة ، فسلّم عليه ، وسأله أن يضع يده فى حنطته ، فوضع الشيخ يده فى الحنطة ، فأقام الرجل ثلاثة أيّام يبيع بيعا كثيرا ، والقمح بحاله ، فمرّ عليه فى اليوم الرابع رجل يهودىّ فوضع يده فى الحنطة ثم مضى ، فنفد القمح فى الحال.

وحكى عنه ، رضى الله عنه ، أنّ رجلا من أقاربه جاءه زائرا من بلاد الريف وأهدى له جرّة من اللّبن ، فأخذها الشيخ منه ، وأضافه فى تلك الليلة ، فلمّا أصبح الصباح من اليوم الثانى قال الرجل : إنى أريد التّوجّه (١) ، فقال له الشيخ : اصبر. ثم عمد الشيخ (٢) إلى جرّته التى جاء بها ، فملأها ماء ، ودفع الجرّة له ، وقال له : لا تفتحها إلّا فى بلدك. فأخذ الرجل الجرّة وسافر إلى بلده ، فلما وصل إلى داره (٣) قال لامرأته : افتحى هذه الجرّة ، ففتحتها ، فوجدت عسلا صافيا من عسل النحل (٤) الجيد. وهذا من بعض كراماته.

وكانت وفاته سنة ٥٧١ ه‍ فى ثانى عشر شوال.

وممّا نقل أيضا من كراماته ـ وهو ما حكاه عبد الرّحمن السّلمىّ (٥) ـ أنه قال : كانت لنا بئر فى دارنا ، وكانت مالحة لا يقدر أحد على الانتفاع بشىء من مائها لشدّة ملوحته ، وكنت أتألم ألما شديدا لذلك (٦). قال : فنمت فى بعض الليالى فرأيت قائلا يقول لى فى المنام : إذا أصبحت فاذهب إلى

__________________

(١) أى : أريد السفر إلى بلدى.

(٢) فى «م» : «ثم إن الشيخ عمد».

(٣) فى «م» : «وصل داره».

(٤) فى «م» : «العسل النحل».

(٥) أى حكى ذلك على لسان أحد معاصرية ، أو ذكره فى كتاب من كتبه ، إذ أن عبد الرحمن السّلمى لم يدركه ، فقد كانت وفاته سنة ٤١٢ ه‍.

(٦) فى «م» : «لكونها» مكان «لذلك».

٦٣٥

الشيخ رسلان وأمره أن يتفل فيها (١). قال : فلما أصبحت جئت إليه وأخبرته بالرّؤيا التى رأيتها ، فضحك وقال : أفعل ما علىّ (٢).

ثم إنه قام معى إلى منزلى وتفل فى البئر ، فعادت للوقت (٣) حلوة. (انتهى).

* * *

قبر الفقيه أبى القاسم عبد الرحمن بن رسلان (٤) :

وإلى جانبه قبر ولده أبى القاسم عبد الرّحمن بن رسلان ، كان إماما فقيها محدّثا ، وهو الذي جدّد بناء المسجد المعروف ، بوالده ، الذي هو برأس اليانسية ، ولمّا فرغ من بنائه قال لأصحابه : بقى المسجد محتاجا إلى بئر ، وليس معنا ما نصرفه على عمارتها. ثم إنه نام تلك الليلة ، فلما أصبح وصلّى الصّبح وجد صرّة تحت السّجّادة ، ففتحها ، فوجد فيها خمسة (٥) وعشرين دينارا ، ووجد فيها رقعة ، مكتوب (٦) فيها برسم عمارة البئر. ولم يعلم من أين جاءت.

__________________

(١) أى : يبصق.

(٢) فى «م» : «وما علىّ» ويكون التقدير : وما علىّ بأس.

(٣) للوقت : فى الحال.

(٤) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ٣١١ و ٣١٢].

(٥) فى «م» : «خمسا» لا تصح.

(٦) هكذا فى «م» وفى المصدر السابق ، بالرفع ، على الابتداء ، ويصح فيها النصب على الوصفية.

٦٣٦

قبر الفقيه أبى عبد الله محمد بن رسلان (١) :

وإلى جانبه قبر أخيه أبى عبد الله (٢) محمد ، كان ملازما لتلاوة القرآن ، وكان خيّاطا. ذكر عنه أنه كان إذا خاط لأحد شيئا وجاءه بالأجرة ، فإن كان ما دفعه حلالا وجد الطّوق مفتوحا ، وإن كان حراما وجد الطّوق مسدودا إلى أن يأتى بأجود منه (٣).

وكان أبناء الدّنيا يدعون له الأموال فيأبى أن يقبلها (٤). وكانت وفاته فى سنة ٥٩١ ه‍.

قبر الإمام أبى محمد بن أبى الفتح الكتامى الشارعى (٥) :

وبجانبهم قبر الإمام أبى (٦) محمد بن أبى الفتح الكتامى الشارعى ، المقرئ المحدّث الفاضل ، سمع من البوصيرى ، والقاسم بن علىّ الدمشقى ، وعثمان ابن فرج العبدرى ، وغيرهم. وأجاز له السّهيلى وغيره. ومولده ـ ظنّا ـ فى سنة ٥٥٨ ه‍. وتوفى بالشارع ، ظاهر القاهرة ، فى ليلة الأربعاء الثانى عشر من جمادى الآخرة سنة ٦٣٩ ه‍.

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر الكواكب السيارة ص ٣١١ ، وتحفة الأحباب ص ٤٣٨].

(٢) فى «م» : «أبى عبد الرحمن» وما أثبتناه عن المصدرين السابقين. أما أبو عبد الرحمن فهو المعروف برسلان الفقيه.

(٣) هكذا فى «م» .. وفى الكواكب السيارة : «كان يخيط الثوب بدرهم ، فإن أعطاه صاحب الثوب درهما طيبا وجد الثوب مفتوحا ، وإن أعطاه درهما رديئا وجد الثوب مسدودا ، فيعود إليه فيقول : خذ درهمك فإنه ليس بجيد ، فيعطيه غيره فيجد الثوب مفتوحا». والطوق : الفتحة المستديرة فى أعلى الثوب. وفى «م» : «الطرق» بالراء ، تحريف.

(٤) فى «م» : «فيأبى عن قبول ما يدفعون».

(٥) العنوان من عندنا.

(٦) فى «م» : «أبو» لا تصح.

٦٣٧

قبر أبى المنيع رافع بن دغش الأنصارى (١) :

ثم تمشى إلى [الغرب](٢) وأنت طالب تربة الشّافعىّ ، [رضى الله عنه] تجد قبر أبى المنيع رافع بن دغش (٣) الأنصارى [رحمه الله]. سمع الحديث (٤) ، وحدّث عن أبى القاسم مكى بن عبد السلام الرّميلى (٥) وغيره من العلماء.

وروى عنه محمد بن إبراهيم بن ثابت بن فرج الكيزانى المقرئ الشافعى ، وممّا رواه عنه أن عائشة أمّ المؤمنين قالت : قال رسول الله (٦) صلّى الله عليه وسلم : «العلم علمان ، علم ثابت فى القلب ، وعلم فى اللّسان ، فذلك حجّة الله على خلقه».

ومات أبو المنيع شهيدا (٧) ، دخل عليه إنسان فى مسجده وهو جالس

__________________

(١) العنوان من عندنا [وانظر الكواكب السيارة ص ٢٠٣ ، وتحفة الأحباب ص ٣٣٧].

(٢) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٣) فى الكواكب السيارة : «دغمش».

(٤) فى «م» : «سمع الحديث كثيرا».

(٥) من هنا إلى قوله «شهيدا» عن «م» وساقط من «ص» .. وقد ورد هذا الاسم مختلفا فيه ، ففى «ص» : «أبو القاسم بن عبد السلام الرسلى». وفى تحفة الأحباب : «حدّث عن أبى مكى وابن عبد السلام الرملى» ، وهذا تحريف ووهم من الناسخ بأنه شخصان. وفى الكواكب السيارة : «حدّث عن أبى القاسم مكى وعن عبد السلام الرملى» وكل ما تقدم فيه خلط ووهم وتحريف من النساخ ، والصواب ما أثبتناه عن «م» وعن الذهبى فى تذكرة الحفاظ.

[انظر المرجع المذكور ج ٤ ص ١٢٢٩ و ١٢٣٠ ترجمة رقم ١٠٤٦].

(٦) فى «م» : «قالت يا رسول الله» تحريف من الناسخ ، والصواب ما أثبتناه.

(٧) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص». وفى الكواكب السيارة : أنه كان إذا صلّى الصبح جلس فى مكانه فى محرابه حتى تطلع الشمس ، فدخلوا عليه يوما فوجدوه مذبوحا فى محرابه. ولم يعلموا قاتله ، فاجتمع أهل مصر يبكون عليه ، ومشى الأمراء والسلطان فى جنازته ، وكان يوما مشهودا ...» إلخ الحكاية المذكورة هنا.

٦٣٨

فيه وحده ، فذبحه فى المحراب (١) ، وذلك بعد صلاة الصبح ، فاجتمع الناس ، ولم يعلم قاتله. ثم غسّل وكفّن وصلّى عليه ، وكانت له جنازة عظيمة ، فلما كان فى الجمعة التالية (٢) ذبح رجل يهودىّ إلى جانب داره (٣) ولم يعلم قاتله ، فرآه بعض أصحابه (٤) فى النوم ، فقال له : من قتلك يا فلان؟ قال : قتلنى فلان ، وهو الذي قتل الفقيه رافعا (٥) وهو فى المحل الفلانى.

فجاء الرجل الرائى (٦) إلى الحاكم وأخبره ، فأرسل خلف الرّجل ، فجىء به ، فلما وقف بين يديه سأله : أنت قتلت الفقيه رافعا (٧) وقتلت اليهودىّ؟

قال : فضرب ضربا شديدا ، فأقرّ بالقتل ، فقتل وطرحت جثّته ، فجاء كلب (٨) وولغ فى دمه ، فقال بعض العلماء : إنّى أعلم أنّ الكلب لا يلغ فى دم مسلم قطّ (٩).

وقتل رافع هذا فى يوم الأحد ، سلخ (١٠) ذى الحجة سنة ٥٣٣ ه‍.

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «كان أبو المنيع قد صلّى صلاة الصبح ثم جلس مكانه ، فلم يشعر حتى دخل عليه من ذبحه فى محرابه».

(٢) فى «ص» : «الآتية».

(٣) فى الكواكب السيارة : «بجانب مسجده».

(٤) فى «ص» : «ثم دفن ، فرآه بعض جيرانه من المسلمين».

(٥) فى «م» و «ص» : «رافع» خطأ ، والصواب بالنصب ، وما بعد ذلك عن «م» وساقط من «ص».

(٦) أى : الذي رأى ذلك فى منامه.

(٧) فى «م» : «رافع» لا تصح.

(٨) فى «م» : «الكلب». وولغ فى دمه : شرب منه بطرف لسانه.

(٩) هكذا فى «م» .. والصواب «أبدا» مكان «قطّ» التى هى لتأكيد نفى الماضى. وفى الكواكب السيارة : «فقال الإمام عبد الغنى : أشهد أن الكلب لا يلغ فى دم مسلم .. وروى القاضى عياض هذا اللفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى أمر الرجل الذي قتل حين رأى المطرود فى الطريق ، فقال : اطلبوه ، فإن الكلب لا يلغ فى دم مسلم».

(١٠) السّلخ : آخر الشهر.

٦٣٩

قبر الشيخ أبى غلبون رجاء (١) :

ثم تجد قبر الشيخ أبى غلبون رجاء ـ وقيل : أبى الزاهد ـ كان من عباد الله الصالحين ، ويذكر عنه حكايات عجيبة وكرامات. وسمع الكثير ، وحدّث عن أبى القاسم مكى بن عبد السلام الرّميلىّ وغيره.

وروى بإسناده ، أنّ النّبىّ ، صلّى الله عليه وسلم قال : «من تطهّر فى بيته ثمّ أتى المسجد فسبّح الله فيه تسبيحة فى الضّحى ، كتب الله له كأجر المعتمر المحرم ، وإذا صلّى صلاة فى إثرها لا لغو فيها كانت فى علّيّين (٢). ومن تطهّر فى بيته ثم [أتى](٣) المسجد فصلّى فيه صلاة مكتوبة فى جماعة ، كتب الله له كأجر الحاجّ المحرم».

وروى بسنده إلى أبى هريرة ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من أحد يغدو أو يروح إلى المسجد ، ويؤثره على ما سواه إلّا وله عند الله نزل يعدّه له فى الجنّة كلما غدا وراح» (٤). كما أن أحدكم إذا زار من يحب اجتهد فى كرامته.

وقد جاء (٥) أبو غلبون هذا من الشام إلى ديار مصر واستوطنها ، ومات بها ، وكان يشار إليه بالزّهد والعبادة ، وأفعال البرّ.

__________________

(١) العنوان من عندنا.

(٢) وروى أبو داود فى سننه عن أبى أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «صلاة فى إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب فى علّيّين».

[انظر سنن أبى داود ج ٢ ص ٢٧ كتاب الصلاة ، باب صلاة الضحى].

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا يستدعيها السياق ، ولم ترد فى «م».

(٤) فى «م» : «كما» مكان «كلما» تحريف. والنّزل : المنزل ، وما هيّئ للضيف يأكل فيه وينام. والحديث رواه البخارى فى كتاب الأذان ، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح ، ج ١ ص ١٦٨ طبعة دار الشعب ، ورواه غيره باختلاف يسير فى لفظه.

(٥) فى «م» : «وقد ورد».

٦٤٠