مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

اعمل وأنت صحيح مطلق فرح

ما دمت ويحك يا مغرور فى مهل

يرجو الحياة صحيح ربّما كمنت

له المنيّة بين الزّبد والعسل (١)

__________________

حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجيّ الأنصارى ، شاعر الرسول صلّى الله عليه وسلم ، وهو أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، عاش ستين سنة فى الجاهلية ومثلها فى الإسلام ، وتوفى سنة ٥٤ ه‍ بالمدينة المنورة.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٢ ص ١٧٥ و ١٧٦ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٥ ـ ٧ ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص ٣٠٥ ـ ٣٠٨ ، والأغانى لأبى الفرج الأصفهانى ج ٤ ص ١٣٤٨ ـ ١٣٨٤ ط دار الشعب].

(١) كمنت : توارت واختفت .. والمنيّة : الموت.

٨١

فصل

ورد فى الحديث المرفوع : «كسر عظم الميت بعد مماته ككسره فى حياته» (١) .. وقال زيد بن أسلم (٢) : كان يمضى فى الزمن الأول أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة .. وعن ميمون بن مهران (٣) قال : شهدت جنازة ابن عباس بالطائف ، فلما وضع ليصلّى عليه جاء طائر أبيض حتى وقع على أكفانه ، ثم دخل فيها ، والتمس فلم يوجد ، فلما سوّى عليه التراب سمعنا من نسمع صوته ولا نرى شخصه : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٤).

وقال محمد بن مهران بن مخلد :

كأنّى بإخوانى على حافتى قبرى

يهيلونها فوقى وأدمعهم تجرى

__________________

(١) هذا الحديث روى عن عائشة ، مرفوعا إلى النبي ، صلّى الله عليه وسلم [وقد أخرجه مالك فى موطّئه فى كتاب الجنائز ، باب ما جاء فى الاختفاء [يعنى نبش القبور] ج ١ ص ٢٣٨ ط الحلبى .. وأخرجه أبو داود فى كتاب الجنائز ، باب فى الحفّار يجد العظم ، هل يتنكّب ذلك المكان؟ ج ٣ ص ٢٠٩ و ٢١٠ ، وأخرجه ابن ماجه فى كتاب الجنائز ، باب النبي عن كسر عظام الميت ج ١ ص ٥١٦].

(٢) هو زيد بن أسلم العدوى ، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فقيه ومفسر من أهل المدينة ، كان مع عمر بن عبد العزيز أيام خلافته ، وكان ثقة ، كثير الحديث ، وكانت له حلقة فى المسجد النبوى ، وله كتاب فى التفسير رواه عنه ولده عبد الرحمن. وكانت وفاته سنة ١٣٦ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٣ ص ٥٦ و ٥٧ ، وتذكرة الحفّاظ ج ١ ص ١٣٢ و ١٣٣ ، وميزان الاعتدال ج ٢ ص ٩٨ ، وطبقات المفسرين للداودى ج ١ ص ١٨٢ و ١٨٣].

(٣) هو ميمون بن مهران الرّقّى ، أبو أيوب ، ولد سنة ٣٧ ه‍ ، واستوطن الرّقّة (من بلاد الجزيرة الفراتية) فكان عالم الجزيرة وسيدها. واستعمله عمر بن عبد العزيز على خراجها وقضائها ، وكان ثقة فى الحديث ، كثير العبادة ، وكانت وفاته سنة ١١٧ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٧ ص ٣٤٢ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٩٨ و ٩٩ ، وحلية الأولياء ج ٤ ص ٨٢ ـ ٩٧ ، والمحبر لابن حبيب ص ٤٧٨ ، وفيه : أنه من أشراف المعلمين وفقهائهم ، وهو مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز].

(٤) سورة الفجر ـ الآيات من ٢٧ ـ ٣٠.

٨٢

فيا أيّها المذرى علىّ دموعه

ستعرض فى يومين عنّى وعن ذكرى

عفا الله عنّى يوم أترك ثاويا

مزارا فلا أدرى ، وأجفى فلا أدرى (١)

ووجدت فى مقبرة : قال الضّحّاك بن سليمان :

ما أنعم الله على عبده

بنعمة أوفى من العافيه

وكلّ من عوفى فى جسمه

فإنّه فى عيشة راضية

والمال حلو حسنه جيد

على الفتى لكنّه عاريه

وأسعد العالم بالمال من

أدّاه للآخرة الباقية

ما أحسن الدّنيا ولكنّها

مع حسنها غدّارة فانيه

وتوفى رجل من بلدة ، فكتب على قبره :

يا واقفين ألم تكونوا تعلموا

أنّ الحمام بكم علينا قادم (٢)

لا تستعزّوا بالحياة فإنّكم

تبنون والموت المفرّق هادم

لو تنزلون بشعبنا لعرفتم

أنّ المفرّط فى التّزوّد نادم (٣)

ساوى الرّدى ما بيننا فأحلّنا

حيث المخدّم واحد والخادم (٤)

وقال الحسن بن الحسن البصرى : حقّ لمن علم أنّ الموت مورده ، ويوم القيامة مشهده ، وبين يدى الله ـ عزّ وجلّ ـ موقفه ، أن يطول فى الدنيا حزنه.

وقال شرف الدين بن أسد ، رحمه الله ورضى عنه :

يا من تملّك ملكا لا بقاء له

حمّلت نفسك آثاما وأوزارا

وما الحياة مدى الدّنيا وإن عذبت

إلّا كطيف خيال فى الكرى زارا (٥)

__________________

(١) ثاويا : ثوى بالمكان أقام فيه واستقر.

(٢) الحمام : قضاء الموت وقدره.

(٣) الشّعب : الطريق ، وقيل : الطريق بين الجبلين .. والتزوّد : ما يتّخذ من الزّاد ليستعان به عند الحاجة إليه.

(٤) الرّدى : الموت والهلاك .. والمخدّم : الثرىّ الكثير الخدم.

(٥) الكرى : النوم والنّعاس.

٨٣

وقال آخر ـ يعنى شرف الدين :

عن قليل أصير مثوى ترابى

ويقول الرّفاق هذا فلان

صار تحت التّراب عظما رميما

وجفاه الأحباب والخلّان

وقال أيضا :

وغاية هذى الدّار لذّة ساعة

ويعقبها الأحزان والهمّ والنّدم

وهاتيك دار العزّ والأمن والتّقى

ورحمة ربّ الناس والجود والكرم

ووجدت على قبر ما صورته : ابن آدم ، أين الماضون من الأوّلين والآخرين؟! أين نوح شيخ المرسلين؟! .. أين إدريس رفيع ربّ العالمين؟! .. أين عيسى روح الله وكلمته ، رأس الزاهدين ، وإمام السائحين؟! .. أين محمد خاتم النبيين؟! .. أين أصحابه الأبرار؟! .. أين الأولياء الأخيار؟! ..

أين الأمم الماضية؟! .. أين الملوك السالفة؟! .. أين القرون الخالية؟! .. أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان؟! .. أين الذين قهروا الأبطال والشجعان؟! .. أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب؟! .. أين الذين تمتعوا باللّذّات والمشارب؟! .. أين الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيّا؟! .. أين الذين راحوا فى الحلل بكرة وعشيّا؟! .. أين الذين اعتزّوا بالأجناد والسّلطان؟! .. أين أصحاب السطوة والأعوان؟! .. أين أصحاب الإمرة والولايات؟! .. أين الذين خفقت على رءوسهم الألوية والرّايات؟! .. أين الذين قادوا الجيوش والعساكر؟! .. أين الذين عمروا القصور والدّساكر (١)؟! .. أين الذين أعطوا النصر فى مواطن الحروب والمواقف؟! .. أين الذين أمّنوا بسطوتهم كلّ خائف؟! .. أين الذين ملئوا ما بين الخافقين (٢) فخرا وعزّا؟! .. أين الذين تضعضعت بهم

__________________

(١) الدّساكر : جمع دسكرة ، وهى لفظة معرّبة ، وتطلق على بناء كالقصر حوله بيوت للأعاجم ، فيها الشراب والملاهى ، تكون للملوك .. وتطلق أيضا على القرى العظيمة.

(٢) الخافقين : مثنى الخافق ، وهو الأفق ، والمراد هنا أفق المشرق ، وأفق المغرب ، أى : ما بين المشرق والمغرب.

٨٤

الأرض هيبة وهزّا؟! .. هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (١)؟! .. أفناهم ـ والله ـ مفنى الأمم ، وأبادهم مبيد الرّمم ، وأخرجهم من سعة القصور ، وأسكنهم فى ضيق القبور ، تحت الجنادل والصخور ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ، لم ينفعهم ما جمعوا ، ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا .. أسلمهم الأحبّة والأولياء ، وجهزّهم الإخوان والأصفياء ، ونسيهم القرباء والبعداء ، فأنسوا وأبعدوا ، ولو نطقوا لأنشدوا (٢) :

مقيم بالحجون رهين رمس

وأهلى راحلون بكل واد (٣)

كأنّى لم أكن لهم حبيبا

ولا كانوا الأحبّة فى السّواد (٤)

فعوجوا بالسّلام فإن أبيتم

فأوموا بالسّلام على بعاد (٥)

وإن طال المدى وصفا خليل

سوانا فاذكروا صفو الوداد (٦)

وقيل : لا فخر فيما يزول ، ولا غنى فيما لا يبقى ، وهل أهل الدنيا إلّا كما قال الأول : قدر يغلى ، وكنيف (٧) يمتلى؟

__________________

(١) الرّكر : الصّوت الخفىّ .. وفى آخر آية من سورة «مريم» يقول الله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً).

(٢) الكلام السابق والشعر أيضا ورد فى كتاب أبى بكر الطّرطوشى «سراج الملوك» فى الباب الأول ، فى مواعظ الملوك.

(٣) الحجون : جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها .. والرّمس : القبر.

(٤) السّواد ، بفتح السين : يطلق على معظم الناس. وسواد الأمير : حاشيته ، وسواد القلب : حبّته. وبكسر السين : المسارّة ، وهى المناجاة ، يقال : سارّه مسارّة ، أى : ناجاه وأعلمه بسرّه.

(٥) فعوجوا بالسّلام : أى عودوا ومرّوا علينا من أجل السلام. ويقال : عاج بالمكان : أقام به ، أو ألم به ومرّ عليه ، وأوموا ، أى أشيروا.

(٦) صفا خليل ، أى : صدق صاحب فى إخائه ومودّته. وفى رواية : جفا خليل ، أى : نبا وساء خلقه ، وكلا المعنيين له وجه.

(٧) الكنيف : المرحاض.

٨٥

وقد قال بعضهم : أيّها الشّابّ ، لا تغترّ بشبابك ، فإنّ أكثر من يموت الشباب .. أيها الشاب ، كم حمل فى التّنّور وأبوه يرعى ، وكم من طفل فى التراب وجدّه يسعى.

وروى أنّ داود ـ عليه السلام ـ بينما هو يسيح فى الجبال إذ وافى غارا عظيما ، فنظر ، فإذا فيه رجل عظيم الخلقة من بنى آدم ملقى ، وعند رأسه حجر مكتوب محفور ، يقول فيه : أنا «دوسيم» الملك ، ملّكت ألف عام ، وفتحت ألف مدينة ، وهزمت ألف جيش ، وافتضضت ألف بكر من بنات الملوك ، ثم صرت إلى ما ترى ، فصار التراب فراشى ، والحجارة وسادى ، فمن رآنى فلا تغرّه الدنيا كما غرّتنى.

ولمّا مات الإسكندر قال أرسطاطاليس الحكيم (١) : أيها الملك ، لقد حرّكتنا بسكونك .. وقال بعض الحكماء من أصحابه : لقد كان الملك أنطق منه اليوم ، وهو اليوم أعظم منه أمس ..

ونظمه أبو العتاهية فقال :

كفى حزنا بدفنك ثم أنّى

نفضت تراب قبرك من يديّا

وكانت فى حياتك لى عظات

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا (٢)

__________________

(١) الإسكندر هو الإسكندر الأكبر المقدونى ، الملقّب بذى القرنين ، ولد سنة ٣٥٦ قبل ميلاد المسيح ـ عليه السلام ـ وتوفى سنة ٣٢٤ قبل الميلاد وكان من أعظم الغزاة والفاتحين وأشجعهم .. أمّا أرسطاطاليس ، أو أرسطو ، فهو أستاذ الإسكندر الأكبر ومؤدبه ، وهو فيلسوف يونانى كبير ، ولد سنة ٣٨٤ قبل الميلاد ، وتوفى سنة ٣٢٢ قبل الميلاد .. وقد تأثرت بوادر التفكير العربى بتآليفه التى نقلها إلى العربية النّقلة السّريان ، وعلى رأسهم إسحاق بن حنين ، مؤسس مذهب المشّائين.

[انظر خبرهما فى دائرة المعارف الإسلامية ج ٢ ص ٥٨١ وما بعدها ، ومعجم البلدان ج ١ ص ١٨٢ وما بعدها «مادة إسكندرية» ، وغير ذلك من المصادر].

(٢) وفى رواية «انطق منك حيّا» مكان «أوعظ ..».

[انظر الأبيات فى ديوان أبى العتاهية ص ٤٩١ و ٤٩٢ ط دار صادر].

٨٦

وقال عبد الله بن المعتز :

نسير إلى الآجال فى كلّ ساعة

وأيّامنا تطوى وهنّ مراحل (١)

ولم أر مثل الموت حقّا كأنّه

إذا ما تخطّته الأمانىّ باطل (٢)

وما أقبح التفريط فى زمن الصّبا

فكيف به والشّيب فى الرّأس شاغل (٣)

ترحّل من الدّنيا بزاد من التّقى

فعمرك أيّام تعدّ قلائل

وقال عبد الله بن المعلم (٤) : خرجنا من المدينة حجّاجا نريد المدينة بغداد ، التى هى مدينة المنصور ، فإذا أنا برجل من بنى هاشم من بنى العبّاس ابن عبد المطلب ، قد رفض الدنيا وأقبل على الآخرة ، فجمعتنى وإيّاه الطّريق ، فأنست به ، وقلت : هل لك أن تعادل (٥) ، فإنّ معى فضلا من راحلتى؟ فجزانى خيرا وقال : لو أردت هذا لكان لى معدّا .. ثمّ أنس إلىّ ، فجعل يحدثنى ، فقال : أنا رجل من ولد العباس ، كنت أسكن البصرة ، وكنت ذا كبر شديد ، وبذخ ، وأنّى أمرت خادما إلى أن يحشو لى فراشا من حرير ،

__________________

(١) المراحل : جمع مرحلة ، وهى المسافة يقطعها السّائر فى نحو يوم ، أو هى ما بين المنزلين.

(٢) فى «م» : «ولم أر مثل الموت حتّى كأنه» مكان «حقّا كأنه» وما أثبتناه هنا عن ديوان ابن المعتز ، وعن سراج الملوك.

[انظر ديوان ابن المعتز ج ٢ ص ٤١٢ و ٤١٣ ط دار المعارف ، وانظر سراج الملوك ، الباب الأول ط الدار المصرية اللبنانية].

(٣) هكذا البيت فى «م» .. وفى الديوان : «شامل» مكان «شاغل» .. وفى سراج الملوك : «شاعل» بالعين المهملة .. وكلها تفيد معنى انتشار الشيب فى الرأس.

(٤) هو عبد الله بن محمد بن فضلويه المعلم .. محدّث وراوية ، سمع من عبد الله بن محمد بن منازل ، وعبد الله الرازى ، وأبى العباس الدينورى ، وغيرهم.

[انظر الرسالة القشيرية ج ٢ ص ٥٨٠ وغيرها من الصفحات ، وانظر طبقات الصوفية ص ١٢٧ وغيرها من الصفحات].

(٥) فى سراج الملوك : «هل لك أن تعادلنى»؟ وعادل بين الشيئين : وازن بينهما. وعادل فلانا فى المحمل : ركب معه ، وهو المراد هنا.

[انظر الحكاية فى الباب الأول من المصدر السابق].

٨٧

ومخدّة بورد نثير ، ففعل ، فبينما أنا (١) نائم إذا بقمع وردة قد نسيها الخادم ، فقمت إليه ، فأوجعته ضربا ، ثم عدت إلى مضجعى بعد إخراج القمع من المخدة ، فآتانى آت فى منامى فى صورة فظيعة ، فهزّنى وقال : أفق من غشيتك (٢) ، وانتبه من رقدتك ، ثم أنشأ يقول :

يا خلّ إنّك إن توسّد ليّنا

وسّدت بعد الموت صمّ الجندل (٣)

فامهد لنفسك صالحا تسعد به

فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل (٤)

فانتبهت من نومى مرعوبا ، فخرجت من ساعتى هاربا إلى ربّى .. فأعجبنى قوله.

وأنشد غيره يقول (٥) :

من كان يعلم أنّ الموت يدركه

والقبر مسكنه والبعث مخرجه (٦)

وأنّه بين جنّات مزخرفة

يوم القيامة أو نار ستنضجه (٧)

فكلّ شىء سوى التقوى به سمج

وما أقام عليه منه أسمجه (٨)

ترى الذي اتّخذ الدّنيا له وطنا

لم يدر أنّ المنايا سوف تزعجه (٩)

__________________

(١) فى «م» : «فأنا». وفى سراج الملوك : «وإنى لنائم» ..

(٢) فى «م» : «عيشتك» .. وما أثبتناه مطابق لما ورد فى سراج الملوك ، وهو الأنسب للمعنى هنا.

(٣) الخل : الصديق .. وفى سراج الملوك : «يا خدّ» مكان «يا خلّ» ، فهو هنا يخاطبه قائلا : إنك إن اتّخذت لك فى الدنيا وسادة ناعمة ليّنة فسوف تكون وسادتك بعد الموت حجارة صمّاء.

(٤) فامهد لنفسك صالحا ، أى : هيّئ ومهّد لنفسك فراشا من العمل الصالح فى الدنيا لتسعد به فى الآخرة.

(٥) فى «م» : «فأنشد يقول».

(٦) وفى سراج الملوك : «أن الموت مدركه».

(٧) فى المصدر السابق : «بين جنّات ستبهجه».

(٨) فى المصدر السابق : «وما أقام عليه فهو أسمجه». والسّمج : القبيح.

(٩) فى المصدر السابق : «سكنا» مكان «وطنا».

٨٨

وقال الهيثم بن عدىّ (١) : وجدوا غارا فى جبل لبنان (٢) فى زمان الوليد ابن عبد الملك بن مروان (٣) ، وفيه رجل مسجّى على سرير من ذهب ،

__________________

(١) هو الهيثم بن عدى بن عبد الرحمن الثعلى الطائى الكوفى ، أبو عبد الرحمن ، ولد فى سنة ١١٤ ه‍ ، وكان مؤرخا وعالما بالأدب والأنساب ، وأصله من «منبج» ، نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها الكثير ، واختص بمجالسة المنصور ، والمهدى ، والهادى ، والرشيد ، وروى عنهم ، وكان يتعرض لمعرفة أصول الناس ونقل أخبارهم ، فأورد فى بعض كتبه معايبهم وأظهرها ، فكره لذلك وطعن فى نسبه ، وقيل فيه :

إذا نسبت عديّا فى بنى ثعل

فقدّم الدّال قبل العين فى النّسب

ونقل عنه أنه ذكر العباس بن عبد المطلب بشىء ، فحبس عدة سنين. وقال عنه ابن قتيبة وغيره : إنه كان يرى رأى الخوارج. وهو عند بعض علماء الحديث من المدلّسين ومن غير الثقات. وله الكثير من المصنفات والتآليف ، منها : كتاب المثالب ، وكتاب المعمّرين ، وكتاب تاريخ العجم وبنى أمية ، وكتاب من تزوج من الموالى فى العرب ، وخطط الكوفة ، وطبقات الفقهاء والمحدّثين ، وتاريخ الأشراف الصغير ، وكتاب النوادر ، وغيرها. وكانت وفاته فى «فم الصلح» قرب «واسط» سنة ٢٠٧ ه‍. وقيل سنة ٢٠٩ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٨ ص ١٠٤ و ١٠٥ ، ووفيات الأعيان ج ٦ ص ١٠٦ ـ ١١٤ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٥٣٧ ـ ٥٣٩ ، وكتاب الضعفاء الصغير للإمام البخارى ص ٢٤٧ ، وكتاب الضعفاء الكبير لأبى جعفر العقيلى ج ٤ ص ٣٥٢ و ٣٥٣ ، وطبقات المدلّسين لابن حجر العسقلانى ص ٨٦ ، وطبقات المفسرين للداودى ج ٢ ص ٣٥٥ و ٣٥٦ ، والبيان والتبيين للجاحظ ج ١ ص ٥٦ و ٣٤٧ وغيرهما من الصفحات ، وتاريخ بغداد ج ١٤ ص ٥٠ ـ ٥٤].

(٢) فى «م» : «لبنيان» تحريف. والتصويب من «سراج الملوك».

(٣) هو : أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان ، من ملوك الدولة الأموية فى الشام ، ولد سنة ٤٨ ه‍ ، وتولى الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٨٦ ه‍ ، فوجّه القواد لفتح البلاد ، وكان من رجاله موسى ابن نصير ، ومولاه طارق بن زياد ، وامتدت فى زمنه حدود الدولة العربية إلى بلاد الهند والتركستان وأطراف الصين شرقا. وكان ولوعا بالبنيان والعمران ، وهو أول من أحدث المستشفيات فى الإسلام ، وجعل لكل أعمى قائدا يتقاضى نفقاته من بيت المال ، وأقام لكل مقعد ، ورتّب للقرّاء أموالا وأرزاقا ، وأقام بيوتا ومنازل يأوى إليها الغرباء. وهدم مسجد المدينة والبيوت المحيطة به ثم بناه بناء جديدا. وصفّح الكعبة والميزاب فى مكة ، وبنى المسجد الأقصى ، ومسجد دمشق الكبير المعروف بالجامع الأموى. وكان نقش خاتمه «يا وليد إنك ميت» .. توفى ـ رحمه الله تعالى ـ سنة ٩٦ ه‍ ، ودفن بدمشق ، وكانت مدة خلافته ٩ سنين و ٨ أشهر.

[انظر الأعلام ج ٨ ص ١٢١ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٢٦٥ ـ ٢٦٨ ، وتاريخ الطبرى ج ٦ ص ٤٢٣ وغيرها من الصفحات].

٨٩

وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالرومية : أنا سبأ بن نواس ، خدمت عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، خليل الرّبّ الأكبر (١) ، وعشت بعده دهرا طويلا ، ورأيت عجبا كثيرا ، ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت وهو يرى مصارع آبائه ، ويقف على قبور أحبّائه ، ويعلم أنه صائر إليهم ثم لا يتوب .. وقد علمت أنّ الأجلاف الجفاة سينزلوننى (٢) عن سريرى ، ويتولّون ذلك حين يتغير الزمان (٣) ويترأس الصبيان (٤) ، ويكثر الهذيان ، فمن أدرك هذا الزمان عاش قليلا ، ومات ذليلا.

وعن عمرو بن ميمون قال : افتتحنا مدينة بفاس ، فدللنا على مغارة فيها بيت ، فيه سرير من ذهب ، عليه رجل عند رأسه لوح مكتوب فيه : أنا بهرام ابن بهرام ملك فارس ، كنت أعتاهم بطشا ، وأقساهم قلبا ، وأطولهم أملا ، وأحرصهم على الدنيا .. قد ملكت البلاد ، وقتلت الملوك ، وهزمت الجيوش ، وأذللت الجبابرة ، وجمعت فى الدنيا ما لم يجمعه أحد قبلى ، ولم أستطع أن أفتدى به من الموت إذ نزل بى.

وروى فى الإسرائيليات أن عيسى ـ عليه السلام ـ بينا هو فى سياحة إذ مرّ بجمجمة نخرة (٥) ، فأمرها أن تتكلم ، فقالت : يا روح الله ، أنا بلوان ابن حفص (٦) ، ملك اليمن ، عشت ألف سنة ، وولد لى (٧) ألف ذكر ،

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى سراج الملوك : «الرب الدّيّان الملك الأكبر».

(٢) فى «م» : «سينزلونى». والأجلاف : جمع جلف ، ويطلق على الأحمق والغليظ الجافى.

(٣) هكذا فى «م» : .. وفى سراج الملوك : «ويتمولونه ، وذلك حين يتغير الزمان». ومعنى يتموّلونه ، أى : يفتنونه بعد موته.

(٤) يترأس الصبيان : يتولون الرئاسة ويصيرون رؤساء .. وفى المصدر السابق : «وتتأمّر الصبيان» أى : يصيرون أمراء.

(٥) نخرة : بالية مفتّتة.

(٦) هكذا فى «م» .. وفى سراج الملوك : «بلوام ..» بالميم.

(٧) فى «م» : «وولدت». وما أثبتناه عن «سراج الملوك».

٩٠

وافتضضت ألف بكر ، وهزمت ألف عسكر ، وقتلت ألف جبّار ، وافتتحت ألف مدينة ، فمن رآنى فلا يغتر بالدنيا ، فما كانت إلّا كحلم النّائم .. فبكى عيسى عليه السلام بكاء شديدا.

ووجد مكتوبا على قصر قد باد أهله ، وأقفرت ناحيته (١) :

هذى منازل أقوام عهدتهم

يوفون بالعهد مذ كانوا وبالذّمم

تبكى عليهم ديار كان يطربها

ترنّم المجد بين الحلم والكرم

وأنشد القاضى أبو العباس أحمد الجرجانى (٢) :

قد شاب رأسى ورأس الحرص لم يشب

إنّ الحريص على الدنيا لفى تعب

بالله ربّك كم قصر مررت به

قد كان يعمر باللّذّات والطّرب

طارت عقاب المنايا فى جوانبه

فصاح من بعده بالويل والحرب (٣)

وله أيضا :

أيّها الرّافع البناء رويدا

لن تذود المنون عنك المبانى

إنّ هذا البناء يبقى وتفنى

كلّ شىء أبقى من الإنسان (٤)

__________________

(١) فى المصدر السابق : «وأقفرت ساحته».

(٢) هو على بن عبد العزيز بن الحسن الجرجانى ، أبو الحسن ، قاض ، من العلماء بالأدب ، ولد بجرجان ، وولى قضاءها ، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به فى العلوم علما ، وفى الكلام عالما ، وكانت وفاته بنيسابور سنة ٣٩٢ ه‍ ـ على الأرجح ـ وهو دون السبعين. ومن كتبه : الوساطة بين المتنبى وخصومه ، وتهذيب التاريخ ، وتفسير القرآن ، وله ديوان شعر ، ورسائل مدوّنة.

[انظر نماذج من أدبه فى يتيمة الدهر للثعالبى ج ٣ ص ٢٣٨ ـ ٢٥٩ ، وسير أعلام النبلاء للذهبى ج ١٧ ص ١٩ ـ ٢١ ، ومعجم الأدباء لياقوت ج ١٤ ص ١٤ ـ ٣٥ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ٢٧٨ ـ ٢٨١ ، وطبقات المفسرين ج ١ ص ٤١٤ و ٤١٥ ، والنجوم الزاهرة ج ٤ ص ٢٥٠ ، والأعلام ج ٤ ص ٣٠٠].

(٣) العقاب : طائر من كواسر الطير ، قوى المخالب .. والحرب ، بفتح الحاء والراء المهملتين : الهلاك. يقسم الشاعر أنه مرّ بكثير من القصور التى كانت عامرة بما يلذ من الطيبات ، ويطرب الأسماع ، فإذا به الآن يراها وقد خيّم عليها الخراب والدمار بعد أن اختطف الموت ساكنيها وبادوا.

(٤) يعنى : يا من تبالغ فى رفع البناء ، تمهّل ، فإنّ ما تشيده لن يدفع عنك الموت ، وسترحل عنه وتتركه لغيرك.

٩١

وأنشد بعضهم (١) :

قف بالدّيار فهذه آثارهم

تبكى الأحبّة حسرة وتشوّقا

كم قد وقفت بها أسائل أهلها

عن حالها أو راحما أو مشفقا (٢)

فأجابنى داعى الهوى فى رسمها

فارقت من تهوى فعزّ الملتقى

وأنشد آخر :

أيّها الرّبع الذي قد دثرا

كان عينا ثم أضحى خبرا (٣)

أين سكّانك ، ما ذا فعلوا

خبرا عنهم سقيت المطرا

ولقد نادى منادى دارهم

رحلوا واستودعونى عبرا (٤)

وروى أنّ علىّ بن أبى طالب ، كرّم الله وجهه ، لمّا رجع من صفّين (٥) ودخل أوائل الكوفة ، فإذا هو بقبر ، فقال : [قبر](٦) من هذا؟ قالوا : قبر خبّاب بن الأرت (٧). فوقف عليه وقال : رحم الله خبّابا ، أسلم راغبا ،

__________________

(١) الأبيات الثلاثة وردت فى «حلية الأولياء» ج ١٠ ص ٣٤٨ فى ترجمة أبى محمد الجريرى .. وفى «تاريخ بغداد» ج ٤ ص ٤٣٣ .. وفى «طبقات الصوفية» ص ٢٦٤. وفى سراج الملوك ـ الباب الأول.

(٢) فى «م» : «مرحما» مكان «راحما». والبيت فى سراج الملوك :

كم قد وقفت بها أسائل مخبرا

عن أهلها ، أو ناطقا أو مشفقا

وفى طبقات الصوفية : «أو صادقا» مكان «أو ناطقا».

(٣) فى سراج الملوك : «ثم أضحى أثرا».

(٤) فى المصدر السابق «ولقد نادى مناديهم لنا ...».

(٥) فى «م» : «من حين» تحريف. والتصويب من «سراج الملوك».

(٦) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق ، وساقط من «م».

(٧) هو خبّاب بن الأرتّ بن جندلة التميمىّ ، أبو يحيى ، أو أبو عبد الله ، صحابىّ ، وهو عربىّ لحقه سباء فى الجاهلية ، فبيع بمكة ، وكان يعمل السيوف بها ، وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام ، كان سادس ستة فى الإسلام ، وهو أول من أظهر إسلامه .. استضعفه المشركون فعذبوه ليرجع عن دينه ، فصبر ولم يعط الكفّار ما سألوا ، إلى أن كانت الهجرة ، فهاجر ، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم .. ونزل الكوفة ، ومات بها سنة ٣٧ ه‍ ، وهو أول من دفن بظهر الكوفة

٩٢

وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلى فى جسمه آخرا ، ألا ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا .. ثم مضى ، فإذا قبور ، فجاء حتى وقف عليها فقال : السلام عليكم أهل الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، أنتم لنا سلف ، ونحن لكم تبع ، وبكم عمّا قليل لا حقون .. اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز عنا وعنهم ، طوبى لمن ذكر المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، ورضى عن الله تعالى.

ثم قال : يا أهل القبور ، أمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الديار فقد سكنت ، وأمّا الأموال فقد قسّمت .. فهذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم؟ .. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما إنهم لو تكلّموا لقالوا : وجدنا خير الزّاد التقوى.

وخطب رضى الله عنه مرة فقال : أيها الناس ، اعلموا أنكم ميتون ، ومبعوثون من بعد الموت ، وموقوفون على أعمالكم ، ومجزيّون عليها ، فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ، فإنها بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكلّ ما فيها زوال ، وهى بين أهلها دوال وسجال (١) ، لا تدوم أحوالها ، ولن يسلم من شرّها نزلها ، بينا أهلها منها فى رخاء وسرور إذ هم منها فى بلاء وغرور ، أحوال مختلفة ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتقصدهم بحمامها ، وكلّ حتف فيها مقدور ، وحظه فيها موفور ، واعلموا عباد الله ، وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ، ممّن كان أطول منكم أعمارا ، وأشدّ منكم بطشا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، فأصبحت أصواتهم خامدة ، وأجسامهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية .. استبدلوا القصور المشيدة ، والنمارق

__________________

من الصحابة.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٢ ص ٣٠١ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١١٤ ـ ١١٧ ، وحلية الأولياء ج ١ ص ١٤٣ ـ ١٤٧ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٢٧٣ و ٢٧٤].

(١) دوال وسجال ، أى : تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، تنتقل من حال إلى حال.

٩٣

الممهدة بالصخور والأحجار (١) المسندة ، فكأنكم وقد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة ، وارتهنتم فى ذلك المضجع ، وضمكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو عاينتم الأمور ، وبعث القبور ، وحصّل ما فى الصدور؟! جعلنا الله وإيّاكم عاملين بكتابه ، متبعين لأوليائه وأحبابه حتى يحلّنا وإياكم دار المقامة من فضله ، إنه حميد مجيد.

وعن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال لعلّى : «يا علىّ ، أربع خصال من الشقاء (٢) : جمود العين ، وقساوة القلب ، وبعد الأمل ، وحب الدنيا».

وروى عن ابن عباس ، رضى الله عنهما أنه قال : «يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء ، زرق أنيابها ، بادية مشوّهة الخلق ، لا يراها أحد إلا كرهها ، فتشرف على الخلائق أجمعين ، فيقال لهم : أتعرفون هذه؟

فيقولون : نعوذ بالله من معرفة هذه!! فيقال : هذه الدنيا التى تفاخرتم بها وفيها ، وتقاتلتم».

وكان يزيد الرقاشى (٣) يقول : «إخوانى ، من كان الموت موعده ، والقبر بيته ، والثّرى مسكنه ، والدود أنيسه ، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر ، كيف تكون حالته؟ ثم يبكى حتى يغشى عليه».

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وكان يجب أن يقال : «استبدلوا بالقصور .. الصخور والأحجار» فتدخل الباء على المتروك وفقا لقواعد اللغة.

(٢) فى «م» : «المشقا» تصحيف من الناسخ.

(٣) هو يزيد بن أبان الرقاشى البصرى ، أبو عمرو ، زاهد ، عابد ، بكّاء ، ومحدّث. روى الحديث عن أنس بن مالك ، والحسن ، وغنيم بن قيس .. وروى عنه أبو الزناد ، ومحمد بن المنكدر ، والأعمش ، وغيرهم. وقد ضعّف وجرّح.

[انظر حلية الأولياء ج ٣ ص ٥٠ ـ ٥٤ ، وكتاب الضعفاء الكبير للعقيلى ج ٤ ص ٣٧٣ و ٣٧٤ ، والجرح والتعديل للرازى ج ٩ ص ٢٥١ و ٢٥٢ ط حيدر آباد ، وميزان الاعتدال ج ٤ ص ٤١٨].

٩٤

فعلى العاقل أن يحاسب نفسه على ما فات (١) من عمره ، ويستعدّ لعاقبة أمره ، ويتزوّد صالح العمل ، ولا يغترّ بالأمل ، فإنّ من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ، ويوقظنا لاتباع أوامره واجتناب نواهيه.

ولمّا مات «ذرّ الهمدانىّ» المذكور آنفا فى الوظيفة الرابعة عشرة (٢) ، لكن فى ذكره الأول اختصار ، وهذا الكلام أوسع ، فلا بأس بذكره ، وكان موته ـ أى : ذرّ ـ فجأة [فجاء](٣) أبوه فوجد أهل بيته يبكون حوله ، فقال : مالكم؟! فو الله ما ظلمناه ولا قهرناه ، ولا ذهب لنا بحقّ ، ولا أصابنا فيه ما أخطأ من كان قبلنا فى مثله.

فلما وضعه فى حفرته قال : رحمك الله يا بنىّ ، وجعل أجرى فيك لك ، والله ما بكيت عليك ، وإنما بكيت لك. فو الله لقد كنت بك بارّا ، وكنت لك محبّا ، وما بى إليك من وحشة ، وما بى إلى أحد غير الله من فاقة ، وما ذهبت لنا بعزّة ، وما أبقيت لنا من ذلّ ، وقد شغلنى الحزن لك عن الحزن عليك .. يا «ذرّ» ، لولا هول المطلع لتمنّيت ما صرت إليه (٤) .. فليت شعرى ، ما ذا لقيت؟ وما ذا قيل لك؟ ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إنك وعدت الصّابرين على المصيبة ثوابك ورحمتك .. اللهم وقد وهبت ما جعلت لى من أجر على «ذرّ» له ، صلة منى له ، فلا تعرّفه قبيحا ، وتجاوز عنه ، فإنك رحيم بى وبه.

اللهم وقد وهبت له إساءته فهب لى إساءته إليك ، فإنك أجود منّى وأكرم ... اللهم إنك جعلت لك على «ذرّ» حقّا ، وجعلت لى عليه حقّا قرنته بحقّك ،

__________________

(١) فى «م» : «ما فرض» تصحيف.

(٢) فى «م» : «الرابعة عشر» خطأ ، سبق التعليق عليه.

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة السياق ، والمعنى.

(٤) فى «م» : «عليه».

٩٥

فقلت : (اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(١) .. اللهم إنّى قد غفرت لذرّ ما قصّر فيه من حقى ، فاغفر له ما قصّر فيه من حقك ، فإنك أولى بالجود وأكرم .. فلمّا أراد الانصراف قال : يا «ذرّ» قد انصرفنا وتركناك ، ولو أقمنا ما نفعناك ، والسلام.

أوحى الله إلى داود ، عليه السلام : يا داود ، لو يعلم المدبرون كيف انتظارى إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلىّ ، وتقطّعت أوصالهم من محبّتى .. يا داود ، هذه إرادتى فى المدبرين عنى .. فكيف إرادتى فى المقبلين علىّ؟!

وأنشد فى ذلك (٢) :

أسئ فيجزى بالإساءة إفضالا

وأعصى فيولينى إلهى إمهالا (٣)

فحتّى متى أجفوه وهو يبرّنى

وأبعد عنه وهو يبذل إيصالا (٤)

وكم مرّة قد زلت عن نهج طاعة

وما حال عن ستر القبيح وما زالا (٥)

__________________

(١) سورة لقمان ـ من الآية ١٤.

(٢) فى «م» : «وأنشد فى ذلك يقول شعر».

(٣) فى «م» : «فضلا» مكان «إفضالا» خطأ ، والصواب ما أثبتناه .. والإفضال : الإحسان .. والإمهال : الإنظار والتّودة والرفق.

(٤) يبرّنى : يحسن إلىّ .. إيصالا ، أى : يبذل ما يبذله من أجل الوصال وعدم الهجر.

(٥) زلت : تحوّلت وانتقلت .. وما حال : وما تغير .. والستر : الإخفاء والمداراة .. وإلى هنا ينتهى الساقط من «ص» والذي أشرنا إلى بدايته فى ص ٧٢ الهامش رقم ١ من الفصل السابق.

وأغلب الظن أن هذا الجزء المشار إليه قد أضيف إلى كتاب «مرشد الزوار» بعد وفاة مؤلفه ، الذي توفى سنة ٦١٥ ه‍ ، وقد أثبت هنا شعر لعبد العزيز الدرينى المتوفى سنة ٦٩٧ ه‍ ، ولم يدرك الموفق بن عثمان وفاته [انظر ص ٧٣ و ٧٤ ، والهامش رقم ٣].

٩٦

فصل

فى إكرام الله تعالى بعض أوليائه بدوام طاعته فى قبورهم ، وغفرانه

لآخرين بأمور لحقتهم (١) بعد وفاتهم

قال ابن عباس : ضرب بعض أصحاب النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، خباء على قبر ، وهو لا يدرى به ، فإذا هو بإنسان يقرأ سورة (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتى ختمها .. فأتى النّبيّ ، صلّى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «هى المانعة المنجية ، تنجيه من عذاب القبر» رواه الترمذى فى جامعه.

وقال سنان بن حسين ، عن أبيه : كنت فيمن أدخل ثابتا البنانيّ (٢) فى قبره ، فوقعت لبنة (٣) ، فأصلحتها ، فإذا هو قائم يصلى (٤) ، فأطبقت اللّبنة

__________________

(١) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «بالأمور التى لحقتهم».

(٢) هو الإمام العابد ، والحجّة القدوة ، ثابت بن أسلم البنانيّ البصرى ، أبو محمد ، ويقال : بنانة الذين منهم ثابت هم بنو سعد بن لؤىّ بن غالب .. كان ـ رحمه الله تعالى ـ ثقة ، كبير القدر ، قيل عنه : من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البنانيّ ، وما أدركنا أعبد منه .. وقال شعبة : كان ثابت يقرأ القرآن فى كل يوم وليلة ، ويصوم الدّهر. وقال حمّاد بن زيد : رأيت ثابتا يبكى حتى تختلف أضلاعه .. وقال جعفر بن سليمان : بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب.

وكان ـ رحمه الله ـ راوية للحديث ، روى عن أنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن أبى ليلى ، وأبى عثمان النهدىّ ، وغيرهم .. وقد وثّقه العجلّى ، والنّسائىّ ، وأبو حاتم ، وابن عدىّ ، وابن سد ، وغيرهم. وتوفى ثابت سنة ١٢٣ ه‍ ـ وقيل : سنة ١٢٧ ه‍ ـ وكان قد جاوز الثمانين.

[انظر تذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٢٥ ، ورجال صحيح البخارى ج ١ ص ١٣٠ ، ورجال صحيح مسلم ج ١ ص ١٠٩ و ١١٠ ، وميزان الاعتدال ج ١ ص ٣٦٢ و ٣٦٣ ، وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣١٨ ـ ٣٣٣ ، وكرامات الأولياء للنبهانى ج ١ ص ٦٢٢ و ٦٢٣].

(٣) اللّبنة : واحدة اللّبن ، وهو المضروب من الطين يبنى به.

(٤) فى «ص» : «فإذا ثابت فى القبر وهو قائم يصلى».

٩٧

ثم سألت أهله فقلت : أخبرونى ما كان ثابت يسأل (١) ربّه تعالى .. قالوا : «كان يقول : اللهم إن كنت أعطيت أحدا الصّلاة فى قبره فأعطنى ذلك».

وقال إبراهيم بن الصّمّة المهلّبى : حدّثنى الذين كانوا يمرّون بجنبات قبر ثابت البنانى بالأسحار ، أنهم كانوا يسمعون منه قراءة القرآن.

قال عكرمة : إذا مات المؤمن رفع له مصحف يقرأ فيه القرآن .. وقال عيسى بن محمد المكى : رأيت أبا بكر (٢) بن مجاهد فى النوم كان يقرأ القرآن ، فقلت له : يا سيدى ، إنك ميّت وتقرأ القرآن؟ قال : كنت أدعو الله عقب كلّ صلاة وختمة (٣) أن يجعلنى ممّن يقرأ القرآن فى قبره.

وحكى عبد الله الموصلى قال : رأيت فى المنام كأنّى فى الصحراء ، فرأيت بساتين وقصورا (٤) ، فقصدت إلى قصر لأدخله ، فمنعنى الحاجب على باب القصر [وقال : لا تدخل حتى أستأذن لك ، فدخل الحاجب ثم خرج](٥) فأخذ بيدى وأدخلنى إليه ، ثم أدخلنى دارا (٦) أخرى ، فإذا مالك بن أنس ، رضى الله عنه ، جالس فى البستان فى وسط الدار وفى يده مصحف ، فسلمت عليه وقلت : يا أبا عبد الله ، بم نلت هذه الكرامة؟ قال : بعفو الله وغفرانه (٧) وسعة رحمته لا بعلمى.

قال معاذ بن رفاعة : مرّ يحيى بن زكريا بقبر دانيال النبي ، صلّى الله عليه وسلم ،

__________________

(١) فى «م» : «يسائل».

(٢) فى «م» : «أبى بكر» خطأ لغوى.

(٣) فى «ص» : «عقب كل ختمة».

(٤) فى «م» و «ص» : «وقصور» خطأ ، والصواب بالنصب.

(٥) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م» سهوا من الناسخ.

(٦) فى «م» : «دار» ، خطأ ، والصواب بالنصب.

(٧) فى «ص» : «فقال : بعفو الله وتجاوزه».

٩٨

فسمع صوتا من القبر : «سبحان من تعزّز بالقدرة وقهر العباد بالموت» ... ومضى ، فسمع من السماء : «أنا الذي تعزّزت بالقدرة ، وقهرت العباد بالموت .. من قالها استغفرت له السّماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهنّ».

وقال أبو هريرة : كان لى جار ، وكان يؤذينى ، فخرجت يوما فإذا أنا بجنازة .. فقلت : [جنازة](١) من هذه؟ قيل (٢) : جنازة فلان .. قلت : بعيدة من رحمة الله .. قال : فرأيت فى منامى كأنه ذهب بى (٣) إلى الجنة ، فلما دخلت من بابها إذا أنا بالرجل ، قلت : فلان؟! قال : نعم .. قلت من أدخلك الجنة؟ قال : كلمتك يا أبا هريرة!

قال مبارك السّندى ـ وكان أحد النّسّاك : سمعت أبا محمد الضرير ـ وكان جليلا فى همذان ـ قال : كان فى جوارى مخنث مفسد فمات ، فقعدت حتى أحضر جنازته (٤) ، فمرت بى جنازته فلم أقم إليها (٥) ، فرأيته تلك الليلة فى النوم ، فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لى .. قلت : بماذا؟

قال (٦) : اعلم أننى لمّا متّ كنت من أهل النار ، وغسّلت وأنا من أهل النار ، وحملت (٧) وأنا من أهل النار ، فمرّت بك جنازتى فأنفت (٨) أن تقوم لها ، فغفر الله لى.

وحكى عن أبى عثمان الغسّال قال : دخلت على ميت لأغسله ، فلما وضعته

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٢) فى «م» : «قيل لى».

(٣) فى «ص» : «به». وما أثبتناه عن «م» هو المناسب للسياق.

(٤) فى «م» : «فقعدت فى حضور جنازته».

(٥) فى «ص» : «لها».

(٦) فى «م» : «قال لى».

(٧) فى «ص» : «وحملت على الجنازة».

(٨) أنف : استنكف واستكبر.

٩٩

على المغتسل (١) سمعته يقول : النار .. النار .. ففزعت وخرجت ، وقلت ذلك للناس .. فدخلوا ، وعدت إليه (٢) فسمعته يقول : النعيم .. النعيم .. الجنة .. فدفناه ، فلما كان فى الليل رأيته فى المنام ، فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لى وقت فضحتنى (٣) وقال : أنا لا أجمع على عبدى فضيحتين ، وأباحنى الجنة.

وقال يحيى بن معين (٤) : قال لى حفّار (٥) : أعجب ما رأيت (٦) فى هذه المقابر أننى سمعت من قبر أنينا كأنين المريض .. وسمعت من قبر : والمؤذّن يؤذّن ، وهو يجيبه (٧) من القبر.

وقال إبراهيم بن أدهم (٨) : رفعت جنازة بالسّاحل فقلت : بارك الله

__________________

(١) المغتسل : مكان الاغتسال.

(٢) فى «ص» : «وعدت إلى غسله».

(٣) فى «م» : «فضيحتى».

(٤) هو يحيى بن معين بن عون بن زياد ، من أئمة الحديث ، ومؤرخى رجاله ، نعته الذّهبي بأنه «سيد الحفّاظ». وقال عنه العسقلانى : «إمام الجرح والتعديل» .. وقال ابن حنبل : «أعلمنا بالرجال» .. ولد يحيى بن معين سنة ١٥٨ ه‍ بقرية «نقيا» قرب الأنبار ، وكان أبوه على خراج «الرّىّ» ، وخلف له ثروة كبيرة ، فأنفقها فى طلب الحديث ، وعاش ببغداد ، وتوفى بالمدينة حاجّا سنة ٢٣٣ ه‍ ، وصلّى عليه أميرها.

[انظر الأعلام ج ٨ ص ١٧٢ و ١٧٣ ، وتاريخ بغداد ج ١٤ ص ١٧٧ ـ ١٨٧ ، وتذكرة الحفاظ ج ٢ ص ٤٢٩ ـ ٤٣١].

(٥) فى «ص» : «حفار مقابر».

(٦) فى «ص» : «أريت».

(٧) فى «ص» : «وهو يجيب» أى : يردّد ما يقوله المؤذّن.

(٨) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمى البلخى ، أبو إسحاق ، زاهد مشهور ، كان أبوه من أهل الغنى فى بلخ ـ وقيل : كان من أبناء الملوك ـ فتفقّه ورحل إلى بغداد ، وجال فى العراق والشام والحجاز ، وأخذ العلم عن كثير ممن فى الأقطار الثلاثة ، وكان من أهل الزهد والورع ، صحب أبا سفيان الثورى ، والفضيل بن عياض ، وكان يأكل من عمل يده ، ولم يعبأ بمال أبيه ، وكانت وفاته سنة ١٦١ ه‍. وأخباره كثيرة.

١٠٠