مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

المدنىّ ، المكنى أبا عمرو ، صاحب الرواية ، كان من أكابر القرّاء (١). والورش جنس من اللبن ، لقّب به لشدة بياضه (٢) ، وكان كاتبا للقاضى أبى الطاهر عبد الحكم بن محمد الأنصارى ، وتوفى سنة ١٩٧ ه‍.

وحكى (٣) عنه أنّ لصّا جاء إلى بابه فوجده حصينا ، فقال : يحتمل أن يكون فى داخل هذا الباب مال كثير ، فلابد من دخولى فى داخله ، فأراد فتح الباب فلم يقدر ، فاستعان بنجار ودفع له درهما ، ففتح له الباب ، ودخل الدّار ليأخذ ما فيها ، فوجد فيها إبريقا مكسورا وجرّة مكسورة ، ولم يجد قليلا ولا كثيرا ، فقال فى نفسه : جئت أسرق [فسرقونى](٤) ، فبينما هو كذلك إذ جاء ورش فرآه جالسا فى الدار ، فقال له : من أدخلك هنا؟ فقال : أنت نصبت على الناس ببابك الوثيق ، دخلت لآخذ شيئا (٥) واستعنت على فتح الباب بدرهم كان معى ، فلما دخلت لم أجد قليلا ولا كثيرا! فقال له : هل لك فى مصاحبتى؟ قال : نعم. ثم جلس معه ، فجاء تلامذة الشيخ ، فقص عليهم قصته ، فدفعوا له شيئا كثيرا (٦) ، ثم قال له ورش : استغفر الله. فجلس واستغفر الله مائة مرّة ، ولمّا فرغ قال للشيخ : يا سيدى استغفرت الله مائة مرة ، فقال له : هل هى بصدق أو بغيره؟ فقال : بل بصدق يا سيدى ، قال : سوف ترى أثر ذلك ، فاجلس قليلا ، فجلس يتحدث مع الشيخ ، وإذا بالباب يطرق ، فقال : انظر من بالباب. وإذا بالباب غلام الخليفة ، [فسلّم

__________________

المحاكم الأهلية ، وهو يقع على شارعى الفارسى وابن حبيش ، فى اتجاه شارع ابن الجباس المحدود من الجهة البحرية بمدفن موسى باشا غالب. [انظر تحفة الأحباب ص ٣٢٣ حاشية].

(١) فى «ص» : «كان قارىء مصر ، ويعد أحد القرّاء المشهورين».

(٢) فى «ص» : «فلقّب به ، لأنّه كان شديد البياض».

(٣) هذه الحكاية وردت فى «ص» مختصرة. وفيها اختلاف فى بعض ألفاظها ولا يؤثر ذلك فى المعنى ، وما أثبتناه هنا عن «م».

(٤) ما بين المعقوفتين عن التحفة ولم ترد فى «م».

(٥) فى التحفة : «ظننت أن فى بيتك شيئا آخذه».

(٦) فى «ص» : «ودفعوا له شيئا كثيرا ، ومات عند رجليه». وانتهت الحكاية عند هذا الحد. ثم أتى بعدها بترجمة شيبان الراعى.

٥٠١

وقال : الخليفة](١) أرسل لكم هذه الصّرّة ، ويسلم عليكم ويقول لكم : ادفعوها إلى مستحقها. فقال له : سلّم عليه وقل له : قد سبقها مستحقّها ، فأعطى الصّرّة للرّجل ، وإذا بالمطر قد نزل من السماء ، فقال له : أبشر ، فإنّ زوجتك تضع ذكرا. فذهب الرجل إلى منزله فوجد زوجته قد وضعت ذكرا ، فاشترى لها ما يقوم بحالها ، ثم عاد إلى الشيخ وقال : يا سيدى ، ما تعجبت من المالية (٢) كيف حصلت ، إنّما تعجبت من قولك : زوجتك تضع ذكرا ، وقد وضعت!

فقال : يا بنّى ، أخذت ذلك من كتاب الله تعالى ، قال الله تعالى : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(٣) فلما أن حصل الاستغفار والمالية والمطر ، استدللت (٤) بهذه على الولد.

ثم تاب الرجل ولزم خدمة الشيخ إلى أن مات ، ودفن تحت رجليه.

تربة الشيخ الزاهد شيبان الرّاعى (٥) :

ثم تمضى إلى تربة الشيخ الصالح شيبان ، واسمه محمد (٦) بن عبد الله

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى.

(٢) هكذا فى «م» .. ويريد بها حكاية الصّرّة التى أرسلت إليهما من الخليفة.

(٣) سورة نوح ـ الآيات من ١٠ ـ ١٢.

(٤) فى «م» : «استدليت».

(٥) العنوان من عندنا ـ [انظر ترجمته فى حلية الأولياء ج ٨ ص ٣١٧ ، وتحفة الأحباب ص ٣٢٤ و ٣٢٥ ، والكواكب السيارة ص ١٩٢ و ١٩٣].

(٦) هكذا فى «م» والتحفة والكواكب السيارة .. وفى الحلية : «أبو محمد».

٥٠٢

المعروف بالراعى ، أحد زهّاد الدنيا ، سمع قارئا يقرأ (١)(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٢) ، فذهب فارّا على وجهه ، ثم عاد بعد عام (٣) فقيل له : لم هربت؟ قال : من هذا الحساب الدقيق.

وروى زيد بن الحبّال المقرئ عن سفيان الثورى ، قال : خرجت حاجّا أنا وشيبان الراعى ، فلما كنا فى بعض الطريق عارضنا أسد ، فقلت لشيبان : أما ترى هذا الكلب قد عرض لنا (٤)؟ فقال : لا تخف. فما هو إلّا أن سمع كلام شيبان فبصبص (٥) وضرب بذنبه مثل الكلب. فالتفت إليه شيبان وعرك أذنه [فولّى هاربا](٦) فقال له سفيان : ما هذه الشهرة؟ فقال : وأى شهرة يا ثورىّ؟ لو لا كراهة الشهرة ما حملت زادى إلى مكة إلّا على ظهره!

وقيل : إن رابعة العدوية مرّت به وقالت له : إنى أريد الحج (٧) إلى بيت الله الحرام. فأخرج لها من جيبه ذهبا وقال لها : اجعلى هذا فى مصلحتك للحج. فمدّت يدها إلى [الهواء](٨) وقالت : أنت تأخذ من الجيب ، وأنا آخذ من الغيب ، وإذا كفها مملوء ذهبا ، فمضى معها على التوكل.

ومرّ الشافعى هو وأحمد بن حنبل ـ رضى الله عنهما ـ على شيبان ، رضى الله عنه ، فأراد الشافعى أن يقصد إليه للسلام عليه ، فقال له أحمد (٩) : إنّ

__________________

(١) فى «ص» : «قرىء عليه».

(٢) سورة الزلزلة ـ الآيتان ٧ و ٨.

(٣) فى «ص» : «فذهب على وجهه ، فلم ير سنة ، فلما كان بعد السّنة رئى».

(٤) «لنا» عن «ص».

(٥) فى «م» و «ص» : «بصبص» أى : حرّك ذيله.

(٦) ما بين المعقوفتين عن السخاوى.

(٧) فى «م» : «أريد منك الحج» وما أثبتناه عن السخاوى.

(٨) ما بين المعقوفتين عن السخاوى ولم ترد فى «م».

(٩) فى «م» : «فقال أحمد والمزنى».

٥٠٣

الله لا يتخذ وليّا جاهلا. فقال له [الشافعى](١) : سله. فتقدم إليه (٢) فقال له : كم يلزمك زكاة على غنمك؟ فقال : مذهبكم فى كلّ أربعين رأس (٣).

فقال له : وهل مذهبك غير ذلك؟ قال نعم .. الكل لله (٤). قال له : ما الدليل على ذلك؟ قال : ما قال أبو بكر رضى الله عنه حين قال له صلّى الله عليه وسلم : ما خلّفت لعيالك؟ قال : الله ورسوله ... فقال : ما يلزمك إذا سهوت فى الصلاة؟ فقال : إن كان على مذهبكم فسجدتين ، وإن كان على مذهبى فأعيد الصلاة. فقال له : ما (٥) الدليل؟ فقال : قوله تعالى : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(٦). فأعيدها عقوبة لما ادعيت ، ويجب علىّ حدّ ، وهو أن أضرب بالجريد ويقال لى : هذا جزاء قلب غفل عن الله تعالى.

فقال له : ما حقيقة المعرفة؟ فقال له : نور فى القلب. ثم ولّى (٧) ، فقال أحمد : أتيت إلى من يفتى فى الشرع والحقيقة (٨).

ولمّا مات «المزنىّ» ـ رحمه الله تعالى ـ أوصى أن يدفن قريبا منه وقال : إنه كان عارفا بالله تبارك وتعالى (٩).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٢) فى «ص» : «فتقدم أحمد إلى شيبان رضى الله عنه».

(٣) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فقال : على مذهبكم؟ قال : نعم. قال : الكل لله» والسياق بهذه الصورة سقطت منه بعض العبارات ، وستأتى.

(٤) فى «م» : «الكل لله زكاة».

(٥) «ما» عن «ص».

(٦) سورة النور ـ من الآية ٣٧.

(٧) فى «م» : «ولّى وغاب فلم يره».

(٨) فى «م» : «وفى مذهب الحقيقة».

(٩) فى «ص» : «ولما مات المزنى قال : «ادفنونى قريبا منه ، فإنه كان عارفا بالله».

٥٠٤

وكانت الذئاب ترتع مع غنمه فى المرعى ، قال ابن وهبان : جئت إلى بئر فلم أجد عليها سقاء (١) ، فوقفت فإذا شيبان قد أقبل بغنمه ، فقلت : لعلّ معه السّقاء والحبل فأشرب وأنصرف. فرأيته قد بسط يديه ثم قال للغنم : اذهبى فاشربى. فأتت الغنم إلى البئر ، فارتفع الماء إلى فم البئر (٢).

وروى أنه أتى إلى برّيّة (٣) قليلة الماء ، فأخذته سنة من النوم ، فنام فأجنب (٤) ، فبقى حائرا فى الغسل ، فهمهم (٥) ، فأتته سحابة فمطرت عليه ، فاغتسل ، وعرف (٦) هذا المكان بإجابة الدعاء ، ولم يزل المشايخ يتذاكرون شيبان بهذا المكان ، وقال بعضهم : إنه بأرض الشام. وببركته يستجاب الدعاء بهذا المكان حيث كان ، والأصل فى الزيارة إخلاص النّيّة.

وفى تربته قبر سليمان اليشكرى ، ويكنى أبا الربيع ، توفى سنة ٣٢١ ه‍. وإلى جانبه قبر محمد المؤذن بالجامع الحاكمى. ثم تخرج إلى قبر الخياط (٧) ، وهو فيما بينه وبين المزنى. كان رجلا صالحا من أرباب الأسباب وأهل الحال.

قبر المزنّى صاحب الشافعى ، رضى الله عنهما (٨) :

هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزنّى (٩) ،

__________________

(١) السقاء : وعاء من جلد يكون للماء.

(٢) من قوله : «وكانت الذئاب ترتع مع غنمه» إلى هنا عن «م» وساقط من «ص».

(٣) البريّة : الصحراء. وفى «ص» : «تربة».

(٤) أجنب : صار جنبا. وفى «ص» : «فجنب» وهى بمعناها.

(٥) همهم : تكلم كلاما خفيّا يسمع ولا يفهم مدلوله.

(٦) من هنا إلى قوله : «قبر الخياط» عن «م» وساقط من «ص».

(٧) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص». وقد ورد اسم الخياط فى تحفة الأحباب ص ٣٢٤ ، واسمه «شاور الخياط».

(٨) العنوان عن «ص» .. وفى «م» : «ذكر تربة الإمام إسماعيل المزنى». وهذه التربة معروفة للآن وتقع بشارع ابن بقاء خلف مدرسة الإمامين بداخل حوش يعرف بحوش رضوان أغا ، ويعرف بالمزنى.

[انظر تحفة الأحباب ص ٣٢٥ حاشية].

(٩) [انظر ترجمته فى الأعلام ج ١ ص ٣٢٩ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢١٧].

٥٠٥

صاحب الشافعى ، نسبته إلى قبيلة من العرب تسمى مزينة (١) ، وهو مصرى ، كان من كبار العلماء ، جمع بين العلم والزهد والورع والعبادة (٢).

وروى (٣) عنه أبو جعفر الطحاوى ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأحمد بن محمد بن حسين الصابونى ، وعبد الرحمن بن أبى حاتم الدّارى ، وأحمد بن عبد الرحمن الجارود ، وغيرهم. وكان من الثقات ، وكان أنقل أصحاب الشافعى لأقواله ، وكان زاهدا ، ورعا ، محجاجا ، مجتهدا ، غوّاصا على دقائق الفقه ، عارفا بنكته.

قال الأنماطى : قال المزنى : أنا منذ (٤) خمسين سنة أنظر فى كتاب الرسالة للشافعى ، ما نظرت فيه مرة إلّا استفدت منه ما لم أستفد قبل.

وكان كثير العبادة ، ملازما للسّنّة ، من أعرف الناس بإرادات الشافعى (٥) ، بحيث يقدّم نقله عنه على كل نقل ، وذلك لعدالته وتحقيقه لمذهبه. وعنه انتشر مذهب الشافعى انتشارا كبيرا (٦) ، وذلك بإشارة الشافعى حيث قال : «المزنى صدرى .. المزنى ناصر مذهبى».

وكان المزنى قبل دخول الشافعى [مصر](٧) بليدا ، لا إلمام له بالعلم ، فلما دخل الشافعى رأى الناس يزدحمون عليه ، فقال : ما بال الناس يزدحمون على هذا الرجل الحجازىّ؟ قالوا : لعلمه. فقال : وما لى لا أقرأ العلم.

__________________

(١) فى «م» : «مزينة ، وهم جمع كثير».

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «أزهد علماء مصر ، وإمام الشافعيين فى وقته ، تفرّد عن الشافعى برواية كتاب السنن وأحاديث من المأثور ، يقال إنها ألف حديث ، يرويها عنه أبو جعفر الطحاوى.

(٣) من هنا إلى قوله : «ثم يرجع» عن «م» وساقط من «ص».

(٤) فى «م» : «من منذ».

(٥) أى : أعرفهم بطرقه وفتاويه وما ينقله عنه.

(٦) فى «م» : «كليّا».

(٧) ما بين المعقوفتين عن السخاوى.

٥٠٦

قال المزنى : فجئت إليه وصحبته وقرأت عليه ، وكنت أحفظ فى اليوم مائة سطر ، وقرأت كتاب الرسالة له عليه غير مرة ، واستفدت منه فوائد كثيرة. وكان يقول لى : عليك بالعزلة تنفقه. وكان يقول لى : يا مزنّى ، إيّاك والهوى ، فإنه يهوى بك إلى جهنم!!

وممّا نقل عن الشافعى أنه قال : «كان المزنّى بليدا تنقصه المواظبة».

وصنّف المزنّى تصانيف ، منها الجامعان : الكبير والصغير ، ومختصر المختصر ، والمنثور ، والمسائل المعتبرة (١) ، والترغيب فى العلم ، وكتاب الوثائق. وكان فى أثناء تصنيفه لكتابه «المختصر» كلما فرغ من مسألة قام إلى المحراب وصلّى ركعتين شكرا لله تعالى. وانتفع (٢) الناس بهذا المختصر انتفاعا لم يكن له نظير ، وأقام أهل مذهب الشافعى [وهم] عليه عاكفون ، وله دارسون ومطالعون ، ثم كانوا بين شارح يطوّل ، ومختصر يقلّل ، والجمع منهم معترف أنه لم يدرك من حقائقه سوى اليسير. وقال الإمام أبو العباس أحمد بن سريج (٣) : مختصر المزنى يخرج من الدنيا بكرا لم تفتض (٤). لأنه كان من أعرف الناس به ، وكان لا يفارق حمله ، وإليه أشار بقوله :

لصيق فؤادى مذ ثلاثين حجّة

وصيقل ذهنى والمفرّج عن همّى (٥)

جموع لأنواع العلوم بأسرها

حقيق على ألّا يفارقه كمّى

عزيز على مثلى إعارة مثله

لما فيه من نسج بديع ومن نظم

__________________

(١) فى «م» : «والمسائل والمعتبر» والتصويب من الوفيات ج ١ ص ٢١٧.

(٢) فى «م» : «فانتفع».

(٣) فى «م» : «شريح» والتصويب من الوفيات.

(٤) فى «م» : «يفتض».

(٥) فى «م» : «مذ ثلاثون» خطأ ، والصواب ما أثبتناه. والحجة : السنة ، وجمعها حجج. والصّيقل : الصّقّال الذي يصقل الشيء ويهذبه وينفيه.

٥٠٧

وهذا المختصر أوّل مصنّف فى مذهب الشافعى صنّفه أصحابه. وروى عن المزنى أنه قال : لو أدركنى الشافعى وقت تأليف هذا الكتاب لسمعه منّى لحسنه. ومنه قولهم : دعاء مسموع ، أى : مقبول.

وحكى أبو محمد أحمد بن عبد الله المزنىّ قال : سمعت يوسف بن عبد الأحد القمنى يقول : صحبت المزنى ليلة من ليالى الشتاء وبعينيه رمد ، فكان يجدّد الوضوء ثم يعود فيصلّى ، ثم ينعس ، فيقوم ثانيا فيجدد الوضوء ، ثم يعود فيصلى ، ثم ينعس ثالثا فيجدد الوضوء ، حتى فعل ذلك سبع عشرة مرّة ، وكان لا يتوضأ من جباب (١) أحمد بن طولون ، وكان يجدد الوضوء فيخرج من الجامع ويذهب إلى النيل ، وبين الجامع والنيل مسافة بعيدة ، فيجدد وضوءه ثم يرجع (٢).

روى عنه أنه خرج من جامع مصر فرأى عبد الله بن عبد الحكم وقد أقبل فى موكبه ، [ومعه جماعة من القضاة ، والقلانس على رءوسهم](٣) فبهره ما رأى من حسن حاله وبزّته وحسن هيبته (٤) ، فسمع قارئا يقرأ : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)(٥)؟ فقال : بلى والله ، أصبر وأرضى.

وكان (٦) يشرب فى الشتاء والصيف من كوز أصفر ، فقيل له فى ذلك ، فقال : بلغنى أنهم يستعملون السّرجين فى هذه الكيزان ، والنار لا تطهره.

__________________

(١) الجباب : جمع جبّ ، وهى البئر .. وفى طبقات الشافعية : «حباب الماء» أى : معظمه أو طرائفه. [انظر المصدر المذكور ج ٢ ص ٩٤].

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) ما بين المعقوفتين عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٤) من قوله : «فبهره» إلى هنا عن «ص» ولم يرد فى «م».

(٥) سورة الفرقان ـ الآية ٢٠.

(٦) من هنا إلى أول ترجمة «كافور الإخشيدى» عن «م» وساقط من «ص» .. وفى الوفيات ج ١ ص ٢١٨ : «وكان غاية فى الورع ، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب ـ فى جميع فصول السنة ـ من كوز نحاس ، فقيل له فى ذلك ، فقال : بلغنى أنهم يستعملون السّرجين فى هذه الكيزان ،

٥٠٨

وأخبرنا قاضى بلده نصر بن محمد بن أحمد قال : سمعت أبا علىّ الرّوذبارىّ يقول : سمعت بحرا (١) يقول : قال المزنى : خرجت [إلى](٢) «البرلس» أطلب الميرة (٣) ، فمررت بقوم يشربون النبيذ على شاطىء البحر ، والملاهى تخرج إليهم من باب دار بحذائهم ، فهممت أن أعظهم وأنكر عليهم ، فخشيت الضّرر بالرّكب ، فلما رجعت رأيت باب الدار مسدودا! فذكرت قول الشاعر :

قد شاب رأسى ورأس الحرص لم يشب

إنّ الحريص على الدّنيا لفى تعب

بالله ربّك كم بيت مررت به

قد كان يعمر باللّذّات والطّرب (٤)

طارت عقاب المنايا فى جوانبه

فصار من بعده بالويل والحرب (٥)

فقلت (٦) أنشدك ما هو أحسن من هذا؟ فقال : هات يا بحر (٧). فقلت عند ذلك :

نراع إذا الجنائز قابلتنا

ونغفل حين تبدو ذاهبات (٨)

__________________

والنار لا تطهره». وفى «م» : «السرقين» مكان «السّرجين» وهى لفظة معربة بمعنى الزبل.

(١) فى «م» : «بحر» لا تصح ، والصواب بالنصب ، وهو بحر بن نصر بن سابق [انظر ترجمته فى طبقات الشافعية ج ٢ ص ١١٠].

(٢) ما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى.

(٣) فى «م» : «الميرة التى هى الطعام».

(٤) فى «م» : «وكان يعمر» وما أثبتناه هنا عن «سراج الملوك» وفيه : «كم قصر مررت به» مكان : «كم بيت ...».

(٥) فى «م» : «دارت» مكان «طارت» وما أثبتناه عن المصدر السابق ، وفيه : «فصاح» مكان «فصار».

(٦) القائل هو بحر بن نصر.

(٧) فى «م» : «يا بن بحر» تحريف.

(٨) الشطرة الثانية من البيت فى عيون الأخبار ج ٣ ص ٧١ (المجلد الثانى): «ونلهو حين تخفى ذاهبات».

٥٠٩

كروعة ثلّة لمغار سبع

فلما مرّ عادت راتعات (١)

فلو أنّا ندين بفضل حزم

لخفنا الموت أيّام الحياة

وأخبرنا أبو الفضل بن نصر قال : سمعت عبد الرحمن غلام الزّقّاق يقول : سمعت أبا سعيد السّكّرىّ (٢) يقول : رأيت المزنّى (٣) يقول : سمعت أبا بكر محمد بن ريّان المصرى يقول : رجع خالى من جنازة المزنىّ فقال : يا بنىّ ، رأيت اليوم عجبا! رأيت طيورا بيضاء (٤) جاءت ترفرف على جنازة المزنّى ، فجعلت تلقى نفسها وتتمسّح به ، فقال الربيع بن سليمان : لا تنفّروها ، فإنا لم نرها إلّا فى جنازة ذى النون المصرى ، وأنها فعلت به مثلما فعلت بذى النون.

وروى أنه كان يقول : لا مروءة لمن لا جهل له ، ولا جهل لمن لا مروءة له. وأنشد يقول :

ولا خير فى حلم إذا لم يكن له

بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا (٥)

ولا خير فى جهل إذا لم يكن له

حليم إذا ما أورد القوم أصدرا (٦)

وروى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : قال الشافعىّ للمزنىّ وقد أقبل يوما : أهلا بمن لو ناظر الشيطان لقطعه (٧).

__________________

(١) فى «م» : «كمروع ثلة بلقاة سبع» .. والشطرة الثانية من البيت فى المصدر السابق : «فلما غاب ظلّت راتعات». الثّلّة ، بفتح الثاء : جماعة الغنم الكثيرة ، وبالضم : جماعة الناس. والراتعات من رتعت الماشية ، أى : أكلت ما شاءت.

(٢) فقيه ذكر اسمه فى طبقات الشافعية ج ٤ ص ٢٧٥ و ٢٧٦.

(٣) هذا المزنى غير المترجم له إسماعيل بن يحيى ، ولم أقف على ترجمة له.

(٤) فى «م» : «طيرا أبيضا» الصفة لا تصح ، فهى ممنوعة من الصرف (التنوين).

(٥) فى «م» : «ولا خير فى علم» وهذا البيت والذي يليه للنابغة الجعدى. انظر : أدب الدنيا والدين للمحقق ص ٣٠٨ ، الفصل الرابع فى الحلم والغضب.

(٦) فى المصدر السابق : «إذا ما أورد الأمر».

(٧) لقطعه : لغلبه.

٥١٠

وروى أيضا عن الربيع بن سليمان قال : كنّا عند الشافعى فأقبل المزنّى فقال : قد جاءكم من لو ناظر الشّيطان لقطعه ، فالتفتّ فإذا المزنّى.

وروى عن الحسن بن أحمد بن عبد الواحد قال : سمعت المزنّى يقول ـ وقد قال (١) له رجل : يا أبا إبراهيم ، إنّ فلانا يبغضك ، فقال : «ليس فى قربه أنس ، ولا فى بعده وحشة».

وقال يوسف بن عبد الأحد : سمعت المزنّى يقول : «المحبّ لمن أطاعه المنتقم ممّن عصاه».

وقال المزنّى : أخبرنا الشافعىّ عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر : «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من شهر رمضان على الناس صاعا من برّ ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، على كل حرّ وعبد ، ذكر أو أنثى من المسلمين».

وعن محمد الخلاطى قال : سمعت المزنّى يقول : سمعت الشافعى يقول : من تعلّم القرآن عظمت قيمته ، ومن نظر فى الفقه نبل قدره ، ومن كتب الحديث قويت حجّته ، ومن نظر فى اللغة رقّ طبعه ، ومن نظر فى الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم (٢) ينفعه علمه. وليس العلم ما حفظ ، إنّما العلم ما نفع.

وذكر عنده حديث النبي صلّى الله عليه وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» (٣).

__________________

(١) فى «م» : «وقال».

(٢) فى «م» : «من» مكان «لم» تحريف.

(٣) هذا الحديث رواه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء وغيره ، ومسلم فى الإيمان والفضائل ، وابن ماجه فى الفتن ، ورواه غيرهم ، ونصه : «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). واختلف السلف فى المراد بالشك هنا ، فحمله بعضهم على ظاهره وجعل سببه حصول وسوسة

٥١١

فقال المزنّى لم يشك النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا إبراهيم عليه السلام ، فإنّ الله تعالى قادر على أن يحيى الموتى ، وإنّما شكّا أن يجيبهما إلى ما سألا.

وكانت وفاة المزنى سنة ٢٦٤ ه‍ وهو ابن سبع وثمانين (١) ، وصلّى عليه العبّاس بن أحمد بن طولون ، ورثاه أحمد بن يحيى بن داود ، وكان صديقا له ، رحمه الله تعالى ، فقال :

لا تهجعى ، فبمثله لم تفجعى

واسترفدى غربى نجيعك واهمعى (٢)

ليس الدّموع وإن تتابع فيضها

فيما دهاك به الحمام بمقنع (٣)

إنّ الرّزيّة يا بن يحيى أصبحت

عمّ العشيرة والبعيد الأشسع (٤)

__________________

الشيطان ، لكنها لم تستقر ، ولا زلزلت الإيمان الثابت. وذهب آخرون إلى تأويل ذلك. وعن ابن جريج قال : «بلغنى أن إبراهيم أتى على جيفة حمار عليه السباع والطير ، فعجب وقال : ربّ لقد علمت لتجمعنها ، ولكن ربّ أرنى كيف تحيى الموتى». وفى رواية : حتى أعلم أنى خليلك وليطمئن قلبى بالخلة ، ولأعلم أنك تجيبنى إذا دعوتك.

وقيل : سأل إبراهيم ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى من غير شك منه فى القدرة ، ولكنه أحبّ ذلك واشتاق إليه ، فأراد أن يطمئن قلبه بحصول ما أراده. وقال عكرمة : ليطمئن قلبى أنهم يعلمون أنك تحيى الموتى. ثم اختلفوا فى قوله صلّى الله عليه وسلم : «نحن أحق بالشك» فقال بعضهم : نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم. وقيل معناه : إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى ألّا يشك ، أى : لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم ، وقد علمتم أنى لم أشك ، فاعلموا أنه لم يشك.

وقيل : إن سبب هذا الحديث أنّ الآية المذكورة لما نزلت قال بعض الناس : شك إبراهيم ولم يشك نبينا ، فبلغه ذلك ، فقال : نحن أحق بالشك من إبراهيم ، وأراد ما جرت به العادة فى المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئا. وهذا الذي ترون أنه شك ليس بشك ، إنما هو طلب لمزيد البيان.

[انظر فتح البارى ج ٦ ص ٤١١ ـ ٤١٣ كتاب أحاديث الأنبياء].

(١) وتذكر بعض المراجع أنه ولد فى سنة ١٧٥ ه‍.

(٢) يخاطب الشاعر نفسه أو عينه قائلا : لا تهدئى أو لا تنامى ، واذرفي دموعك الغزيرة على الفقيد ، فبمثله لم تفجعى أو تصابى.

(٣) الحمام : الموت. والمقنع : العدل يرضى بشهادته. أو ما يرضى من الآراء. وقد جاءت هذه الأبيات من قبل عند وفاة ذى النون عندما اكتنفت جنازته طيور خضر ورفرفت عليه.

(٤) عمّ العشيرة : شمل الأقارب .. والأشسع : الأكثر بعدا.

٥١٢

لهفى على المزنّى لهفة حائر

عزى الحمام به بأضيع موضع (١)

ورأيت أعجب ما رأيت ولم أكن

من قبل ذاك رأيته بمشيّع

طيرا ترفرف فوقه وتحفّه

حتّى توارى فى حجاب المضجع (٢)

ثمّ احتجبن عن العيون ولم يحط

أمر بكنه مسيرها فى المرجع

وأظنّها رسل الإله تنزّلت

والله أعلم فوق ذاك الشّرجع (٣)

وتنزّل القطر الّذى كنّا نرى

وهبوب تلك الذّاريات الوعوع (٤)

إن شئت قل : بكت السّماء لفقده

أو قل : سقته بمهذب لم يقلع (٥)

* * *

تربة الشيخ أبى عمرو عثمان بن مرزوق (٦) :

ثم تمضى إلى تربة الشيخ أبى عمرو عثمان بن مرزوق بن سلامة بن حميد القرشىّ ، رضى الله عنه ، وهو بالقرب من تربة كافور الإخشيدى رحمه الله.

وهذا الشيخ من أكابر مشايخ مصر المشهورين ، وصدور العارفين المذكورين ،

__________________

(١) لهفى : كلمة يتحسر بها على ما فات ، وعزى : صبر على ما نابه. والحمام : الموت.

(٢) تحفّه : تستدير حوله وتحدق به.

(٣) الشّرجع : النّعش.

(٤) الذّاريات : الرياح. الوعوع : ذات الأصوات المختلطة الشديدة. وفى رواية : «الزعزع» ، وهى بمعناها.

(٥) المهذب : السيل. ويقال : أهذبت السحابة ماءها ، أى : أسالته بسرعة. وفى رواية : بهيدب : وهو السحاب المتدلّى الذي يدنو من الأرض.

(٦) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى طبقات الشعرانى ج ١ ص ١٥٠ ـ ١٥٢ ، والكواكب السيارة ص ١٩٧ ، وكرامات الأولياء ج ٢ ص ٢٨٧].

٥١٣

وأعيان العلماء المحققين ، صاحب الكرامات الظاهرة ، والأحوال الفاخرة ، والأفعال الخارقة ، والأنفاس الصادقة ، والمفاخر والمعالى ، والتقدم والتّعالى. وهو أحد العلماء المتعفّفين ، والفضلاء المتعيّنين ، والأئمة البارعين ، والسادة القائمين بالسّنّة وأحكام الدّين. أفتى بمصر على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه ، ودرّس ، وناظر ، وأملى ، وقصد إليه طلبة العلم ، وروى عن غير واحد بمصر من العلماء.

وهو أحد أركان الطريق ، وأعلم العلماء بأحكامها وكشف مشكلاتها وأحوالها ، وفرد سادات أئمّتها ، وعظماء القادة إليها علما وعملا ، وحالا ومقالا ، وتحقيقا وتمكينا ، وزهدا ومجدا ، وجلالة ومهابة ، مع تدآب فى المجاهدة ، وتجوال فى المشاهدة ، وجبلّة (١) طبعت من الحلم والتّواضع ، ومزجت بالكرم والحياء.

وهو أحد من أظهره الله تعالى للخلق ، وأوقع له عندهم القبول التام ، والهيبة العظيمة ، وصرّفه فى الوجود ، ومكّنه فى الأموال ، وقلب له الأعيان ، وخرق له العوائد (٢) ، وأنطقه بالمغيّبات ، وأظهر (٣) على يديه العجائب ، وأجرى على لسانه ما عمّر به القلوب ، ونوّر به الأسرار ، وأحيا به الشريعة المطهرة ، وأقامه حجّة على المسلمين ، وقدوة للسالكين .. انتهت إليه مرتبة (٤) المريدين الصادقين بمصر وأعمالها (٥) ، وكشف مواردهم الخافية ، وانتفع بصحبته غير واحد من الأجلّاء ، وتلمذ له جماعة ممّن لهم قدم راسخة (٦) فى هذا الشّأن ، وقال بإرادته جمّ غفير من أصحاب الأحوال ، وانتمى إليه خلق

__________________

(١) تدآب : دوام ومثابرة من غير فتور. والتجوال : الطواف الكثير. والجبلّة : الخلقة.

(٢) العوائد : كل ما اعتاد عليه الناس.

(٣) فى «م» : «وأبهر» تصحيف.

(٤) المرتبة : المكانة والمنزلة الرفيعة.

(٥) أعمال مصر : ما تحت حكمها من القرى والأقاليم التابعة لها.

(٦) فى «م» : «ممن له قدم راسخ». والقدم مؤنثة. وتلمذ له ، أى : كان تلميذا له.

٥١٤

كثير من الصّلحاء ، وانعقد عليه إجماع المشايخ والعلماء بالتبجيل والاحترام ، وحكّموه فيما اختلفوا فيه ، ورجعوا إلى قوله ، وأبرزوا (١) عدالته ، واعترفوا بفضيلته.

وكان ظريفا جميلا ، مشتملا على أطيب الأخلاق ، وأكمل الآداب ، وأشرف الصّفات.

وكان له كلام على لسان أهل التحقيق ، منه : «الطريق إلى معرفة الله تعالى وصفاته الفكر ، والاعتبار بحكمه وآياته ، ولا سبيل للألباب إلى معرفة كنه ذاته ، ولو تناهت (٢) الحكم الإلهيّة فى حدّ (٣) العقول وانحصرت (٤) القدرة الرّبّانية فى درك (٥) العلوم لكان ذلك تقصيرا فى الحكمة ، ونقصا فى القدرة ، لكن احتجبت أسرار (٦) الأزل عن العقول ، كما استترت سبحات (٧) الجلال عن الأبصار ، فقد رجع معنى الوصف ، [فى الوصف](٨) ، وعمى الفهم عن الدّرك (٩) ، ودار الملك فى الملك ، وانتهى المخلوق إلى مثله ، واشتدّ الطلب (١٠) إلى شكله ، (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)(١١). فجميع المخلوقات ـ من الذّرّة إلى العرش ـ سبل متصلة [إلى

__________________

(١) فى «م» : «وبرزوا». وأبرزوا : أظهروا.

(٢) تناهت : بلغت النهاية.

(٣) فى «م» : «حدّة» وما أثبتناه عن طبقات الشعرانى ج ١ ص ١٥١.

(٤) فى «م» : «والحضرة» تحريف والتصويب من المصدر السابق.

(٥) الدّرك : الإدراك.

(٦) فى «م» : «الأسرار».

(٧) سبحات : أنوار.

(٨) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق وساقط من «م».

(٩) أى : عجز العقل عن فهم المعنى المراد.

(١٠) فى «م» : «وأسند الطب» تصحيف. وما أثبتناه عن المرجع السابق.

(١١) سورة طه ـ الآية ١٠٨.

٥١٥

معرفته](١) ، وحجج بالغة على أزليّته (٢) ، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته ، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصّرون على قدر بصائرهم» (٣).

ومنه : «إذا هبّت ريح السعادة ، وتألّق برق العناية على رياض القلوب ، وأمطرت ودق (٤) الحقائق (٥) من خلال سحائب الغيوب ، ظهرت فيها أزهار (٦) قرب المحبوب ، وأينعت ببهجة أنوار نيل المطلوب ، فوجدت ريح القرب فى لذّة المشاهدة ، واستجلاء الحضور فى التغذى بالسماع ، وآنست نار الهيبة حين أضرمها ضوء المحبة (٧) مع الشخوص عن الأنس إلى المقام (٨) إلى الفناء ، فى خلوة الوصل على بساط المسامرة بمناجاة تشبّث الكون (٩) بصفاء اتصال تعرّف (١٠) نهايات الخير فى بدايات العيان ، وتطوى حواشى الحدث فى بقاء (١١) عزّ الأزل ، فهناك رسخت أرواحهم فى غيب الغيب ، وغاصت أسرارهم فى سرّ السّرّ ، فعرّفهم مولاهم ما عرّفهم ، وأراد منهم من مقتضى الآيات ما لم يرد من غيرهم ، وخاضوا بحار العلم اللّدنّى (١٢) بالفهم

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

(٢) فى «م» : «إلى أزليته».

(٣) فى طبقات الشعرانى : «يقرأ حروفه المبصرون على قدر بصائرهم».

(٤) الودق : المطر.

(٥) فى «م» : «الدقائق». وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٦) فى «م» : «أنهار».

(٧) فى «م» : «قد أضرمها صفو المحبة».

(٨) فى «م» : «القمام» تحريف.

(٩) فى «م» : «نسبت بها الكون». وما هنا عن طبقات الشعرانى.

(١٠) فى «م» : «أفضال تفرق».

(١١) فى «م» : «يقا».

(١٢) العلم اللّدنّى : هو العلم الرّبّانى الذي يصل لصاحبه عن طريق الإلهام.

٥١٦

الغيبى (١) ، لطلب [الزيادات ، فانكشف لهم من مدخور الخزائن تحت كل ذرّة من ذرّات الوجود](٢) علم مكنون ، وسرّ مخزون ، وسبب متّصل بحضرة القدس ، يدخلون منه على سيّدهم ـ عزّ وجلّ ـ فأراهم من عجائب ما عنده مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

ومنه : «من لم يجد فى قلبه زاجرا فهو خراب ، ومن عرف نفسه لم يغترّ بثناء الناس عليه ، ومن لم يصبر على صحبة مولاه ابتلاه الله بصحبة العبيد ، ومن انقطعت آماله ـ إلّا من مولاه ـ فهو عبد حقيقة. والدّعوى من رؤية النفس ، واستلذاذه بالبلاء تحقيق بالرّضا. وحلية العارف الخشية والهيبة ، وإياكم ومحاكاة أصحاب الأحوال قبل إحكام الطّريق وتمكّن الأقدام ، فإنّها تقطع بكم [عن السّير](٣) ، ودليل تخليطك صحبتك للمخلطين (٤) ، ودليل بطالتك ركونك للبطّالين ، ودليل وحشتك أنسك بالمستوحشين.

وكان يتمثل بهذه الأبيات :

يا غارس الحبّ بين الجلد والكبد

هتكت بالصّدّ ستر الصّبر والجلد

يا من يقوم مقام الموت فرقته

ومن يحلّ محلّ الرّوح فى الجسد

قد جاوز الحبّ بى أعلى مراتبه

فلو طلبت مزيدا منه لم أجد

إذا دعا النّاس قلبى عنك مال به

حسن الرّجاء فلم يصدر ولم يرد (٥)

إن توفنى لم أرد ما دمت فى بلد

وإن تغيّرت لم أسكن إلى أحد

__________________

(١) فى طبقات الشعرانى : «العينى» مكان «الغيبى».

(٢) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق وساقط من «م».

(٣) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

(٤) فى «م» : «لصحبة المخلصين» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٥) يصدر : يرجع وينصرف. ويرد ، من ورد المكان ، أى : أشرف عليه.

٥١٧

وروى عن الشيخ العارف أبى إسحاق إبراهيم بن مزيبيل (١) الضرير أنه قال : كان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق القرشىّ ، رضى الله عنه ، من أوتادهم ، وكان سابغ الكفّ ، ظاهر الكرامات .. زاد النيل فى زمانه سنة من السنين زيادة كادت مصر أن تغرق ، فأقام الناس على الأرض حتى كاد وقت الزرع أن يفوت ، فضج الناس وجاءوا إلى الشيخ أبى عمرو بسبب ذلك ، فأتى إلى شاطىء النيل فى ذلك الوقت ، وتوضّأ فيه بإبريق كان مع خادمه ، فنقص النيل لوقته نحو ذراعين ونقص حتى انكشفت الأرض ، وزرع الناس فى اليوم الثانى (٢). وبلّغ الله سبحانه وتعالى به المنافع ، وبارك فى زرع الناس تلك السنة.

قال : وحكى لى خادمه الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن بركات السعدى المقرى ، رحمه الله تعالى : أنّ الشيخ صلّى العشاء بمنزله بمصر فى ليلة مظلمة ، وخرج ، وخرجت خلفه والأرض تطوى تحتنا كالكرة ، والأنوار تسعى بين أيدينا وعن أيماننا وشمائلنا ، ولا تنتهى إلى جبل ولا نشز (٣) من الأرض إلّا اندكّ بين يديه وكأنه لم يكن ، حتى أتينا فى أسرع وقت إلى مكة ـ شرّفها الله تعالى ـ فطاف ، وصلّى بها أكثر الليل ، حتى خرج ـ وأنا خلفه ـ يسير كذلك إلى المدينة الشريفة النبوية ، صلى الله على صاحبها وسلم ، فزار وصلّى ما شاء الله تعالى أن يصلى ، ثم خرج ـ وأنا خلفه ـ يسير كذلك إلى بيت المقدس ، فزار وصلّى ما شاء الله تعالى أن يصلى ، ثم خرج ـ وأنا خلفه ـ يسير كذلك إلى أن دخلنا مصر والمؤذن ينادى بالفجر ، فو الله لقد رجعت وأنا لا أقوى من أول الليل ، ولم أكن وجدت تعبا ولا نصبا ، وأخذ علىّ الشيخ ألّا أتكلّم بذلك فى حياته ، فما تكلمت به إلّا بعد وفاته ، رضى الله عنه.

__________________

(١) فقيه ، من أكابر الحنابلة ، وكان أكثر كلامه قوله : «أكبر الناس عيشا من ترك الدنيا لأهلها».

[انظر الكواكب السيارة ص ٣٠٤].

(٢) هذه العبارة وردت فى «م» وفيها اضطراب فى المعنى ، وما أثبتناه هنا عن كرامات الأولياء ج ٢ ص ٢٨٧.

(٣) النّشز : ما ارتفع وظهر من الأرض.

٥١٨

وقال خادمه المذكور : خدمته تسع سنين ، فكان لا يمر عليه وقت من الليل أو النهار إلّا وهو معمور بأنواع القربات : إمّا بقراءة قرآن ، أو قراءة ، أو سمع الحديث ، أو تملية ، أو يشتغل بالعلم ، أو يؤدب مريديه ، أو يتوجه إلى الله سبحانه ـ عزّ وجلّ ـ بإحكام أحوال قربه ، ومنازلات سرّه.

وشهدته يوما وقد دخل عليه شيخ أشعث أغبر ، ما رأيته من قبل ولا من بعد ، فجلس بين يدى الشيخ متأدّبا خاضعا ، فأطرق الشيخ ساعة ثم نظر إلى الرجل ، فخرّ مغشيّا عليه ، فقال الشيخ : ارفعوه. فوضعناه فى بيت ، فمكث فيه أربعة أشهر لا يتحرك ولا يفيق ، فحالته كحالة الميت إلّا أنه يتنفس ، ثم أتاه الشيخ ومسح بيده على صدره فأفاق ، فسألته عن أمره ، فقال : يا أبا العباس ، كبر سنّى ، وتتابعت مجاهداتى ، وطالت سياحاتى ، وما رأيت من أحوال هذا الشأن شيئا ، فاستغثت إلى الله تعالى بسرّى ، فنوديت : اذهب إلى سلطان هذا الوادى ، فعنده ما تريد. فقلت : ومن هو؟ فقيل لى : هو الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق (١) ، فلما جلست بين يديه ونظر إلىّ قطعت نظرته حجبى ، واخترقت فّى سرادقات الوصل ، وطويت لى مسافات البعد ، واختطفتنى عن جسمى وعالمى ، وغيّبتنى عن الوجود وما فيه ، وقمت على قدم الفناء والغيبة عن الأكوان فى مقام القرب ، ونلت مطلوبى ، ووصلت إلى محبوبى ببركة نظرته ، فمرّ بى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا على هذا الحال فى مقامى ذلك ، فنظر إلىّ وقال : مروا من حال بين هذا وبين عقله أن يضع فيه تمكينا يقهر بقوته شيطان هذا الحال ليرجع إلى تمييزه فيقوم بأحكام الشرع.

وأسرع إلىّ الشيخ أبو عمرو ، فوجدت عندى قوّة ملكت بها حالى ، ورجعت إلى وجودى كما ترى. ثم ذهب فما رأيته بعد.

__________________

(١) فى «م» : «أبو عمر مرزوق» خطأ ، وما أثبتناه هو الصحيح.

٥١٩

وقال : صحبته مرة إلى الشام على قدم التجريد ، وليس لنا ثالث ، فمكثنا ثلاثة أيّام لا نأكل ولا نشرب ، وكدت أسقط إلى الأرض ، فلما رأى الشيخ حالى عرج على كثيب من رمل فجعل يغترف منه سويقا مشوبا (١) بسكر ، فأكلت منه حتى شبعت ، ثم ضرب بيده فى الكثيب فنبعت عين ماء عذب من مياه الدنيا ، فشربت حتى رويت.

وقال : حضرت عنده يوما بمصر ، وحضر عنده رجلان ، أحدهما (٢) عربى لا يحسن (٣) بالعجمية شيئا ، وعجمّى لا يعرف بالعربية شيئا ، ولا كلمة واحدة ، فجعل كلّ منهما يتكلم ولا يفهم الآخر ما يقول صاحبه ، فقال العربى : وددت لو أنى أعرف بالعجمية! وقال العجمى : وددت لو أنى أعرف بالعربية ، وقاما وتفرقا ، ثم أتيا إلى الشيخ فى الغد ، وكل واحد منهما يتكلم بلسان صاحبه كأفصح ما يكون ، فسئلا عن ذلك ، فقال العربىّ : رأيت إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلم ومعه الشيخ أبا عمرو (٤) ، فقال الخليل صلّى الله عليه وسلم لأبى عمرو : علّمه العجمية نيابة عنى ، فتفل أبو عمرو (٥) فى فمى ، فاستيقظت ، وأنا أتكلم بالعجمية. وقال العجمى : وأنا رأيت المصطفى صلّى الله عليه وسلم [فقال](٦) لأبى عمرو : علّمه العربية نيابة عنى ، فتفل أبو عمرو فى فمى ، فاستيقظت وأنا أتكلم بالعربية.

وحكى عنه ولده أبو الخير سعد ، قال : سمعت والدى رضى الله عنه يقول : خرجت مرّة سائحا فى القرافة ، وصعدت الجبل المقطم فمكثت فيه أياما لا أرى أحدا ، فسمعت ليلة عند السّحر قائلا يقول فى مناجاته [ببكاء](٧)

__________________

(١) السويق : طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة والشعير. ومشوبا : مخلوطا.

(٢) فى «م» : «إحداهما» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) فى «م» : «لا يسمن» تحريف من الناسخ.

(٤) فى «م» : «أبى عمرو» لا يصح ، والصواب «أبا عمرو» معطوف على منصوب.

(٥) فى «م» : «أبى عمرو» خطأ ، والصواب «أبو عمرو» فاعل مرفوع بالواو. وتفل : بصق.

(٦) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا يتطلبها السياق.

(٧) ما بين المعقوفتين من عندنا ولم ترد فى «م».

٥٢٠