مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

ثم تمشى وأنت مغرّب تجد هناك قبور جماعة من الصالحين ، رحمة الله عليهم ، يعرفون بإجابة الدّعاء ، وهو مدفن مبارك.

قبر العيناء (١) :

وتجىء أيضا وأنت مغرب تجد قبر «العيناء» رحمها الله تعالى ، وعند قبرها معلّمى الكتّاب (٢) ، رحمهما الله تعالى ، على اليسار من العيناء. قيل : إنّ صغيرا عندهما فى الكتّاب قلع عين صغير ، فطلبوا قوده (٣) منهما ، فقال أحدهما (٤) : إنّ الصغير لم يصبه شىء ، ثم أخذ العين وردّها فى مكانها ، ودعا الله فعادت كما كانت.

وقيل : إنّ العيناء تعرّض لها رجل ، فقالت له : ما (٥) أعجبك فىّ؟

قال : عيناك (٦)! فاحتجبت ولم يرها (٧) بعد ذلك أحد حتى ماتت.

وعند جانبها البحرى بقليل (٨) قبر ابن حذيفة اليمانى ، ويسمّى بعبد الله (٩) ، وقيل : إنه ابن حذافة السّهمىّ ، رضى الله عنهما ، وعنده الدعاء مستجاب.

__________________

(١) العنوان من عندنا. وسميت بالعيناء لحسن عينيها وقيل : إنه كان بعينيها شبه من عين فاطمة الزهراء ، وكانت عينا السيدة فاطمة تشبه عين الحور العين. [انظر الكواكب السيارة ص ٨٨ وص ٢٤١].

(٢) فى «ص» : «معلم الكتّاب». وفى المصدر السابق : «معلمى المكتب» والكتّاب والمكتب بمعنى واحد ، وهو مكان صغير لتعليم الصبيان القراءة والكتابة وتحفيظهم القرآن. [انظر المعجم الوسيط ـ مادة كتب].

(٣) القود : القصاص.

(٤) فى «ص» : «وقال لهم أحد المعلّمين».

(٥) «له» عن «م» و «ما» عن «ص».

(٦) فى «م» و «ص» : «عينيك».

(٧) فى «م» : «يردها».

(٨) فى «م» : «وقيل : عندها بجانبها البحرى».

(٩) قوله : «ويسمى بعبد الله» عن «م».

٣٦١

قبر شقران العابد (١) :

وعند رأسه من الغرب قبر الشيخ شقران بن عبد الله المغربى ، رضى الله عنه ، وهو من [كبار](٢) مشايخ ذى النون المصرى ، رحمة الله عليه.

قال القضاعىّ (٣) فى كتابه الخطط : هو شقران العابد ، أستاذ ذى النون ، توفى قبل ذى النون ، لا أعلم فى أىّ سنة توفى ، فإنى لم أقف له على تاريخ وفاة ، وقبره شرقىّ التربة التى فيها قبر ذى النون ، بينهما تربتان : إحداهما لأبى جعفر بن حواصل ، والأخرى تلاصقها ، يصعد إليها بدرج ، وينزل إلى هذا القبر بدرج أيضا ، وهو أحد القبرين اللّذين فى ظهر محاريب ابن حولى القرقوبى ، ذات القبور التى أكثرها منكسة ، وهى ملاصقة لظهر أحد المحاريب التى بالتربة المذكورة ، إلى جانب القبر الذي عليه عمود كدان ، يعرف بأبى الربيع الزبدى (٤).

وأخذ ذو النون على شقران ، وتأدّب بأدبه ، وتوفى وهو فى صحبته. انتهى (٥).

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الكواكب السيارة ص ٢٣٧ ـ ٢٤٠ ، وتحفة الأحباب للسخاوى ص ٣٧٠ وفيها ـ حاشية ـ تذكر أن شقران العابد هذا لم يمت بمصر ، بل مات بالقيروان ، وقبره إلى الآن بباب سلم مشهور ، ومقصود بالزيارة].

(٢) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٣) من قوله : «قال القضاعى» إلى قوله : «انتهى» عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٤) فى «م» : «الزيدى» تصحيف ، والتصويب من السخاوى فى تحفة الأحباب (ص ٣٧١) لأن الناس كانوا يشمون منه رائحة الزبد. وسيأتى بعد قليل.

(٥) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

٣٦٢

قال ذو النون : [سمعت شقران يقول](١) «إنّ لله عبادا خرجوا إليه بإخلاصهم ، وشمّروا إليه بطيب أسرارهم (٢) ، فأقاموا على صفاء المعاملة فى محاريب الكدّ ، فساروا فى ميادين أنوار ملكوته (٣) ، وبادروا لاستماع كلامه بحضور أفهامهم ، فعند ذلك نظر إليهم بعين الملاحظة ، وشاهد منهم نهدات الأسف ، وفى ضمائرهم حرارات الشّغف ، فعندها أسرج لهم نجائب المواهب ، وحفّت بهم منه العطايا والتّأييد ، وأذاقهم كأس الوداد ، فطلعت فى قلوبهم كواكب مراكب (٤) القلق ، وجرت بهم فى بحار الاشتياق ، فوصلت إلى روح نسيم التّلاق ، فكيف إذا رأيت (٥) ثريّا الإيمان قد علقت فى قلوبهم ، وهلال التوحيد قد لاح بين أعينهم ، وبحار الوفاء قد تدفّقت فى قلوبهم ، وأنهار ماء الحياة (٦) قد تصادمت إلى جوارحهم ، فتنسّموا روائح الدّنوّ من قربه ، وهبّت رياح اللقاء من تحت عرشه ، فوفدت (٧) هواتف الملكوت بألسنة القدرة إلى أسماعهم وأفهامهم ، وشيّعها روح نسيم المصافاة إلى أذهانهم ، وأوقدت فى أسرارهم (٨) مصابيح الأفكار ، واشتعلت ضمائرهم (٩) ، وزّفت إلى قلوبهم أزواج القلق ، وزجّ بها الشوق فى مفاصلهم ، فتطايرت أرواحهم [إلى روح](١٠) عظيم الذخائر ، ثم نادت : لا براح وذلك أنها لمّا وصلت إلى

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص» ، والكواكب السيارة ص ٢٣٨ ، ولم يرد فى «م» ، سقط سهوا من الناسخ.

(٢) فى «ص» : «بطيب نظافة قلوبهم وأسرارهم». وفى الكواكب السيارة : «بطيب نظافة أسرارهم».

(٣) فى «م» : «ملكوت أنواره».

(٤) فى الكواكب السيارة : «مواكب».

(٥) فى «ص» : «فكيف لو رأيت».

(٦) فى «م» : «وأنوارها الحياة» تحريف من الناسخ.

(٧) فى الكواكب السيارة : «فوافت».

(٨) فى «ص» : «أسرار».

(٩) فى الكواكب السيارة : «فاشعلت ضمائرهم بالأذكار».

(١٠) ما بين المعقوفتين عن «ص». والكواكب السيارة.

٣٦٣

الحجاب الأعظم المعظم (١) أقسمت ألّا تبرح ولا تزول حتى تنعم. فكشف لها الحجاب ، وناداها : أنا الرّبّ الأعظم المعظم ، أنا علّام الغيوب ، أنا المطّلع على الضمائر ، أنا مراقب الحركات ، أنا راصد اللّحظات (٢) ، أنا العالم بمجارى الفكر وما أصغت إليه الأسماع.

ثم قال لأرواحهم : أنا طالعتك ورفعتك إلى قربى ، وقرنت ذكرى مع ذكرك ائتلافا ، وعرّفتك نفسى وصافيتك إعطافا ، وجلّلتك سترى إلحافا ، فاشكرى لى أزدك أضعافا (٣).

ثم قال : يا قلوب صفوتى التئمى ، ويا أهل محبّتى حافظوا على لزوم مودّتى.

فلما وعت القلوب كلام المحبوب وردت على بحر الفهم ، فاغترفت منه رىّ الشراب ، فهلّ عليها عارض (٤) صدر إليها من محبوبها ، فسجدت له تعظيما ، وأذن لها فكلّمته تكليما (٥) ، وأفرغ عليها من نوره فزادها تهييما (٦) ، فرجعت إلى الأبدان بطرائف الفوائد (٧) ، فظمئت وعطشت ... فهل تدرى ما أعطشها؟! كشف لها عن غيوبه (٨) فطاشت ، وشاهدت قربه فعاشت ، فى كل يوم تطالع (٩) علما جديدا ، فهو لها يزيد (١٠) ، وكيف لا يكون هذا

__________________

(١) قوله : «المعظم» عن «م».

(٢) فى «ص» : «مراصد اللحظ».

(٣) فى «م» : «فاشكرنى أذكرك إعطافا». وفى الكواكب السيارة : «فاشكرينى».

(٤) فى «م» : «سهل عليهم» تحريف من الناسخ. والعارض : المطر.

(٥) «تكليما» عن «ص» ولم ترد فى «م».

(٦) هكذا فى «م» وهى تعنى : شدة الحب. وفى «ص» : «تهيبنا» تحريف.

(٧) فى «م» : «الفرائد».

(٨) فى «ص» : «عيونه» تحريف. وفى الكواكب السيارة : «غيوبها».

(٩) فى «م» : «يطالع».

(١٠) فى «م» : «يريد» بالراء.

٣٦٤

العبد كذلك وأنوار الصدق عليه متراكمة ، ومراتب الحقائق فيه منتصبة ، وروحه قد سارت فى مواكب (١) التوفيق؟! فلو شاهدت سرائرهم وقد وصلت إليه فروّاها من نسيم قربه ، وزوّدها من طرائف علمه المكنون ، (وَفِي)(٢)(ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ).

ثم بكى طويلا وقال : يا ذا النون (٣) ، أين من أسرجت بواطنه بحبّ الله؟ أين من ظهر على جوارحه نور خدمة الله فشهد شواهد الهيبة عطاياه فحمد الله؟ أين من شهد القرب فلم يتحرك؟ أين من راقب الرّبّ فى سرائره؟ أين من دامت بمعاملته ظواهره (٤)؟ أين من نطق بعلم القرب منه (٥)؟ أين من شرب بكأس المحبة؟ أين من عرف الطريق؟ أين من نطق بالتحقيق؟ أين من أدنى فلم يبرح؟ أين من شوّق فلم يفرح؟ أين من سقى فباح؟ أين من بكى فناح؟ أين من ألف فشغل؟ أين من وصل فغنم؟ أين من لزم فأخبر؟ أين من صلح فأحضر؟ أين من رضى فقنع؟ أين من صبر فاقتنع (٦)؟ أين من بكى بعويل؟ أين من صرخ بغليل (٧)؟ أين من رضى فطاب؟ أين من شوّق فذاب؟ أين من شفّه الوداد؟ أين من جدّ باجتهاد؟ أين من همّه الحبيب؟

أين من دهره غريب (٨)؟ أين من طالع المكشوف؟ أين من أمر بالمعروف؟ أين

__________________

(١) فى «م» : «مراتب». وفى الكواكب السيارة : «مراتب التوفيق بإقلاع الإنابة ، إلى محبوبها تسير».

(٢) فى «ص» : «ففى». والآية هى الآية السادسة والعشرون من سورة المطففين.

(٣) فى هذا الموضع زيادة فى «ص» هى : «ألا لهج خدوم ، ألا بطل يدوم ، ألا حليف وداد ، ألا صحيح اعتقاد ، ألا حبيب لبيب ، ألا مطرود كئيب ، ألا شيخ مشتاق ، ألا راغب فى الجزيل ، ألا عارف بالجليل». وقد أثبت هذا ابن الزيات فى الكواكب السيارة.

(٤) فى «ص» : «أين من دامت معاملته؟».

(٥) «منه» عن «م».

(٦) هكذا فى «م» و «ص» .. وفى الكواكب السيارة «فأشبع».

(٧) أى : بحرارة .. وفى «ص» : «بعليل».

(٨) أى : أين من عاش فى دهره كالغريب؟

٣٦٥

من تألّف الهموم؟ أين خدّامه الصّيام؟ أين عمّاله القيام (١)؟ أين من ذاق ما أصف؟ أين من جدّ ملتهف (٢) ، أين من كان ذكره غذاه ، أين من قلبه مرآه؟ أين من بان واستبان؟ يا ذا النّون ، فلو رأيتهم وقد أخرجهم بعد ما أحسن تقويمهم ، وأجلسهم على كراسى الأطبّاء وأهل المعرفة ، وجعل تلامذتهم أهل الورع والتّقى ، وضمن لهم الإجابة عند النداء ، ثم قال لهم : يا أوليائى وأهل صفوتى ، إن أتاكم عليل فداووه ، أو فارّ منّى فردّوه ، أو آيس من رحمتى وفضلى فعدوه ، أو مبارز لى بالمعاصى فنادوه ، أو مستوصف نحوى فدلّوه ، أو خائف منّى فأمّنوه ، أو مسىء بعد إحسان فرغّبوه ، أو من جنا (٣) جناية وحزن فسرّوه ، وإن وهبت لكم هبة فشاطروه .. ويا أهل صفوتى من خلقى لا يفزعنّكم صوت جبّار دونى ، ولا مخلوق من خلقى.

إنه من أراد بكم سوءا (٤) قصمته ، ومن آذاكم (٥) أهلكته ، ومن عاداكم عاديته ، ومن أحبّكم (٦) أحببته.

فلما نظر القوم إلى حسن لطفه بهم اجتهدوا غاية الاجتهاد (٧) ، وألفت الجوارح منهم المسارعة إلى مرضاته ، والمبادرة إلى خدمته (٨) ، وأسقطت

__________________

(١) قوله : «أين عمّاله القيام» عن «ص» .. وفى الكواكب السيارة : «أين من عمله القيام». والصّيام : جمع صائم.

(٢) أى : أين من هو شديد اللهفة وجادّ فى عبادته لله سبحانه وتعالى.

(٣) فى «م» : «أوجنا».

(٤) فى «ص» : «من أرادكم بمكروه».

(٥) فى الكواكب السيارة : «أذلّكم».

(٦) فى «م» و «ص» : «ومن أحبّكم فىّ». وما هنا عن الكواكب السيارة.

(٧) فى المصدر السابق : اجتهدوا غاية الاجتهاد فى خدمته».

(٨) فى المصدر الأسبق : «إلى طاعته».

٣٦٦

الرّاحات ، وأزالت الآلات (١) ، فورّثهم إخلاصهم الزّفرات ، ثم تضاعفت لهم التّحف ، فإذا جاء أحدهم (٢) النّهار بكى عليه الدّجا ، ويستشرف به الفجر (٣) ، وتودّعه الكواكب ، ويصافحه النّهار ، وتساعده الأفلاك (٤).

ثمّ يصل فكره (٥) إلى العرش ، ثم تصل أنفاسه (٦) إلى الكرسى ، فعند ذلك يا أخى ترحّب به السّموت ، وتسلّم عليه الجبال ، وتأنس به الوحوش ، وتفرح به المواطن (٧) ، وتخضع له الملوك ، وتلوذ به المواشى ، وتتبرّك به الأشجار ، وتحنّ إليه البهائم ، ويأتى من أجله القطر ، ويتضاعف ببركته النبات ، وتهابه الفجّار ، وترهبه الشياطين ، وتحفّه الملائكة فى اللّيل والنهار بأجنحتها ، وتسلم عليه الحيتان (٨) فى البحار إذا مرّ بها ، وإذا نظر إلى الأرض تقلبت عن أنوار الزهر ، إذا مرّ بيده (٩) على العليل أبرأه ، وإذا وعظ سقيم الذّنوب أشفاه ، وإذا نظرت إليه شهد له قلبك بالصّدق. أنس بالوحدة بعد الاجتماع ، وخالط الجوع بعد الطعام ، وسارع إلى الظمإ بعد الشراب ، ولبس الخرق بعد الخزّ ، وركن إلى الخراب بعد القصور. (انتهى).

قال خادم شقران : دعانى شقران (١٠) ليلة فقال : أريد أن أغتسل. فلم

__________________

(١) هكذا فى «م» و «ص» .. وفى المصدر الأسبق : «وأزالت الآفات».

(٢) «أحدهم» عن «م».

(٣) فى الكواكب السيارة وفى «ص» : «ويستبشر بهم الفجر».

(٤) فى الكواكب السيارة : «تودعهم ... وتصافحهم ... وتساعدهم» بصيغة الجمع.

(٥) فى المصدر السابق : «ثم يتّصل فكرهم».

(٦) فى المصدر السابق : «أنفاسهم».

(٧) فى «ص» : «البواطن» تحريف. وقد أثبتنا هنا (واو) العطف عن المصدر السابق فى عدة جمل ، إلى قوله : «انتهى» عند نهاية الفقرة.

(٨) فى «م» : «الحيّات» تحريف.

(٩) فى «ص» : «إذا مدّ [أحدهم] يده» وما بين المعقوفتين هنا عن الكواكب السيارة.

(١٠) قوله : «شقران» عن «م».

٣٦٧

أجد ماء ، فلحظ السماء بطرفه وقال : اللهم إنى قد عجزت عن الماء ، وانقطع رجائى من غيرك ، فاعطف على قلّة حيلتى. فقمت فسمعت وقع الماء فى الإناء ، فمسّ الشيخ الماء بيده فوجده (١) باردا ، فحرّك شفتيه فسخن الماء ، ثم جاء إلى المغتسل ، وكانت ليلة باردة مظلمة ، فقال : لو كان معنا مصباح كان أمكن فى طهرى. فرأيت مصباحا قد أنفذ له فاغتسل.

وبلغ ذا النّون خبر شقران بالمغرب ، فأتاه من مصر ، فسأل عنه ، فقيل له : السّاعة قد دخل [الخلوة] ، وهو لا يخرج من بيته إلّا [من الجمعة] إلى الجمعة ، ولا يكلم أحدا إلّا بعد أربعين يوما (٢).

[قال ذو النون](٣) : فأقمت أربعين يوما على بابه ، فلما خرج قال : ما الذي أقدمك على بلادنا؟ قلت : طلبك! فوضع فى يدى رقعة قدر الدّينار ، مكتوبا فيها : «يا دائم الثّبات ، يا مخرج النّبات ، يا سامع الأصوات ، يا مجيب الدّعوات». فما سألت الله بها حاجة إلّا قضاها لى. وكانت هذه الرحلة مغبوطة بهذه الدعوات.

وأتى (٤) شقران بصغير أعمى فدعا له ، فأبصر.

وجاء له الناس مرة يسألونه (٥) أن يستسقى لهم ، وخرج من بيته والسماء صاحية ، ووقف بينهم والسماء صاحية ، وجعل يقول : اسقنى اسقنى ، السّاعة السّاعة ، فأرعدت السماء وأبرقت ، وجاء مطر عظيم كأفواه القرب (٦).

__________________

(١) فى «م» : «فمسّ الماء فوجده».

(٢) من قوله : «وبلغ ذا النون خبر شقران» إلى هنا عن «ص» وساقط من «م» وستأتى بقية الحكاية بعد ذلك فى «م». وما بين المعقوفتين عن تحفة الأحباب.

(٣) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٤) من هنا إلى قوله : «كأفواه القرب» عن «م» وساقط من «ص».

(٥) فى «م» : «يسألوه» لا يصح ، والصواب ما أثبتناه.

(٦) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

٣٦٨

وكان شقران من أجمل الناس ، فنظرت إليه امرأة فشغفت به (١) ، فذكرت شأنها لعجوز ، فقالت العجوز : أنا أجمع بينكما. فمرّ شقران يوما ، فقالت له العجوز : لى ولد [غائب] ، وقد جاءنى كتابه (٢) ، وله أخت تحب أن تسمع كتابه ، فلو جئت وقرأته على الباب لشفيت الغليل ، وأطفأت النّار (٣). فقال : نعم. ودنا من الباب ، فقالت : ادخل يسيرا ، فدخل ، فقالت : يا سيدى ، أخته تخشى أن يدخل أحد (٤) ، فهل لك أن تغلق الباب؟

فقال : نعم. فلما أغلق الباب برزت إليه (٥) امرأة جميلة قد تعطرت ، فولّى بوجهه عنها ، فقالت : كنت مشتاقة إليك. فقال لها : أين الماء حتى أتوضّأ؟

فأتته بالماء ، فقال : اللهم إنّك خلقتنى لما (٦) شئت ، وقد خشيت الفتنة ، وأنا أسألك أن تصرف شرّها عنى وتغيّر خلقتى. فخرجت إليه ، فوجدت خلقته اليوسفيّة أيّوبيّة (٧) ، فدفعته فى صدره وقالت : أخرج. فخرج وهو يقول : الحمد لله رب العالمين. ثم عاد إليه حسنه.

وجاءه (٨) رجل ومعه صغيرة قد لحقها الجنون ، فقرأ عليها شقران ، ثم أخذها أبوها ومضى بها إلى البيت ، فصرعت ، وتكلّم الجنّىّ على رأسها وقال : أمّا أنا ، فو الله لا سكنت هذه البلدة ولا عدت إليها خوفا من شقران أن يحرقنى ،

__________________

(١) فى «ص» : «فقيلت فيه». وشغفت به : أحبّته وأولعت به.

(٢) كتابه ، أى : رسالة منه. وما بين المعقوفتين عن «م».

(٣) فى «ص» : «وأطفأت نارا قدحها» هكذا.

(٤) فى «ص» : «يدخل أحد فيقف». وفى تحفة الأحباب : «فقالت له : ادخل لتسترنا عن أعين الناس».

(٥) فى «ص» : «فأغلقت الباب وبرزت إليه ...».

(٦) هكذا فى «ص» وفى تحفه الأحباب .. وفى «م» : «كما».

(٧) أى : وجدت صورته التى كانت فى جمال سيدنا يوسف صارت مثل سيدنا أيوب حينما ابتلاه ربه بالمرض.

(٨) فى «م» : «وجاء إليه».

٣٦٩

فإن مسّها غيرى فلا حرج علىّ ، وعرّفوا شقران بذلك لئلّا يعود إلى الدعاء علىّ.

قبر أبى الربيع الزّبدى (١) :

وتجد إلى جانبه من القبلة قبر الزّبدى [المعروف بأبى الربيع](٢) رحمه الله تعالى ... كان رجلا صالحا ، قيل : إنه مرّ على أناس فقالوا : إنّا نشمّ عليك روائح الزّبدة. فقال : إنّى أحبّها فأظهرها الله تعالى علىّ.

وعند (٣) رأس قبره عمود من الحجر الكدان ، عليه كتابة «الشيخ أبو الربيع». ودرست هذه الكتابة.

وكان أبو الربيع مستجاب الدعاء ، على غاية من سلامة الصدر ، وأنّ أبا الطّيّب أحمد بن على الماذرائى (٤) ، وزير الديار المصرية ، اجتهد فى الاجتماع به فلم يمكّنه ، فبذل مائة دينار لإنسان من أصحاب الشيخ بشرط أن يجمع بينهما. فقال : نعم بسم الله. ثم مضى إليه وقال له فى عيادة رجل مسلم فى غد بعد صلاة الصبح ، فقال : نعم ، وكان يصلى الصبح فى الجامع العتيق ، وكان مسكنه بالقرافة ، فلما أصبح مضى به الرجل إلى دار أبى الطّيّب ، ودخل معه ، فقرأ ودعا ، وقد كان تأمّل الدّار والآنية والفرش ، فلما خرج أقبل على الرجل وقال : ما يصنع هذا؟ فقال له الرجل : إنه يبيع القلقاس! فقال : ويربح هذا كله فى القلقاس؟ قال : نعم. وعجب الشيخ من ذلك ، فكان إذا اشتكى إليه إنسان الفقر والضّيق وقلّة المعيشة يقول له : عليك ببيع القلقاس!

__________________

(١) العنوان من عندنا. وهو الشيخ أبو الربيع سليمان الزّبدى ، ذكره القضاعى فى تاريخه ، وله حكايات مشهورة مع الوزير أبى بكر الماذرائى. [انظر تحفة الأحباب ص ٣٧١ ، والكواكب السيارة ص ٢٤٠].

(٢) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٣) من هنا إلى قوله : «بذى العقلين» عن «م» وساقط من «ص».

(٤) فى «م» : «الماردانى» تحريف ، وسبق التعليق عليه.

٣٧٠

ومنه بقليل إلى الغرب قبر الشيخ الصالح محمد الملقب بذى العقلين (١).

والحومة حومة مباركة ، ينبغى لمن وقف فى ذلك الموضع أن يبتهل إلى الله تعالى ويدعو ، فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخيّب من دعاه.

قبر ابن عبد الرحمن بن عوف (٢) :

وتمشى وأنت مغرّب تجد على يسارك تربة فيها قبر ابن عبد الرّحمن بن عوف الزهرى رحمه الله تعالى. وعلى يسارك داخل التربة قبر الشريف رحمة الله عليه. قيل : من وقف بين قبر الشريف وقبر ابن عوف ودعا الله تعالى استجاب دعاءه.

وحكى عبد السّلام بن سعيد رحمه الله قال : مرضت مرضا شديدا أشرفت فيه (٣) على الهلاك ، وعجزت الأطبّاء عن المداواة ، فيئست ، فلما كان فى بعض الليالى رأيت فى النوم قائلا يقول لى : امض إلى قبر ابن عبد الرحمن بن عوف وقف بينه وبين الشريف (٤) المدفون معه فى التربة ، والصق ظهرك بالحائط ، وابتهل إلى الله تعالى ، واسأله أن يفرّج عنك. قال : فلما أصبحت ذكرت ذلك لأهلى وقلت : لابدّ لى من المضّى إلى ذلك الموضع ، فحملونى إليه ، فدعوت الله عنده (٥) ، ففرّج عنّى وعافانى ، وما وقعت بعد ذلك فى شدّة أو عسرت علىّ حاجة إلّا ومضيت إلى ذلك الموضع ودعوت الله فيفرّج عنى (٦).

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) العنوان من عندنا. وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهرى ، ذكره القرشى فى طبقة التابعين. وحكى القضاعى أن بمصر مقبرة تعرف بمقبرة بنى زهرة ، وأن الشافعى دفن بوسطها. وذكر الضرّاب فى علماء مصر عبد الله هذا ، وليس فيه خلاف.

[انظر الكواكب السيارة ص ٢٤١ ، وتحفة الأحباب للسخاوى ص ٣٧١].

(٣) فى «م» : «منه».

(٤) اسم الشريف هذا «الفريد». [انظر المصدرين السابقين].

(٥) فى «م» : «عندهما» أى : عند عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ، والشريف الفريد.

(٦) فى «ص» : «فيفرّج الله عنى».

٣٧١

قبر صاحب الدّرّابة (١) :

وتخرج من التربة وتأتى إلى الجهة البحرية (٢) تجد على يمينك قبر صاحب «الدّرّابة» رحمه الله تعالى ، قيل : إنّ ذا النّون المصرىّ ، رضى الله عنه ، رأى فى المنام كأنّ قائلا يقول له : يا ذا النّون ، إذا كان غدا ، اجلس على شفير (٣) الخندق يجيء [إليك] ولّى من أولياء الله تعالى ، ميت محمول على درّابة ، فجهّزه وصلّ عليه (٤). قال : فلما أصبحت جئت وجلست (٥) على الموضع الذي وصف لى ، وإذا برجلين ، يحملان رجلا ميّتا على درّابة ، فقلت لهما حطّاه واذهبا (٦).

قال ذو النون : فغسّلته ، وكفّنته ، وصلّيت عليه ، ودفنته. وأوصى ذو النون (٧) إذا مات أن يدفن تحت رجليه. ففعل ذلك به (٨). قال ذو النون : فرأيت (٩) تلك الليلة فى منامى ذلك الرّجل الذي دفنته وعليه حلّة من السّندس ، فقال : يا ذا النون ، جزاك الله عنى خيرا.

__________________

(١) العنوان من عندنا ، والدّرّابة هنا بمعنى السرير الذي يحمل عليه الميت ، ولم أقف عليها فى المعاجم العربية التى تحت يدى بهذا المعنى.

(٢) فى «ص» : «وتأتى بحرى».

(٣) فى «ص» : «إذا كان من الغد اقعد». والشفير : الجانب والناحية ، وما بين المعقوفتين ـ بعدها ـ عن «م».

(٤) فى «ص» : «رجل ميت ، تجهزه فتصلى عليه».

(٥) فى «ص» : «وقعدت».

(٦) فى «م» : «فقلت لهم حطّوه واذهبوا» بصيغة الجمع ، وهذا جائز فى اللغة باعتبار من يسير خلفهما من المشيعين.

(٧) فى «م» : «ذا النون» لا تصح.

(٨) فى «م» : «أنه عند موته يدفن تحت رجليه ، ففعل به ذلك».

(٩) فى «م» : «فرأيته». و «ذو النون» قبلها عن «ص».

٣٧٢

قبر الجزرىّ (١) :

ويقابل قبر صاحب الدّرّابة (٢) قبر الجزرىّ رحمه الله تعالى ، كان رجلا صالحا من جزيرة ابن عمر (٣) ، كثير التلاوة للقرآن ، وقيل : إنه كان مجاورا بمدينة النبي صلّى الله عليه وسلم ، فاشتهى فى بعض الأيام هو وأصحابه طعاما ، فجاءوا إلى مسجد على باب المدينة لصلاة الضّحى (٤) ، وعلى الباب مملوك تركيّ ، وفى صدر المحراب رجل قائم يصلى ، فصلى [الشيخ](٥) مع أصحابه الضّحى ، ثم جلس وجلسوا ساعة يذكرون الله تعالى ، فأحضر لهم الرجل الذي كان يصلى (٦) الطعام الذي اشتهاه الشيخ وأصحابه (٧) ، ثم رأوا مع الرجل غلمانا وحشما (٨) ، فقال لهم : يأكل كلّ منكم ما اشتهاه. فامتنعوا وقالوا : من تكون؟ ومن الذي أخبرك بهذا؟ فقال : أمّا أنا فأمير هذه البلدة ، وأمّا الذي أخبرنى فإنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ليلتى هذه ، فقال لى : يا فلان ، أصلح كذا وكذا من الطعام ، فإنّ فى غداة غد جماعة يأتون إلى محلّتك يشتهون هذا الطعام (٩). فقلت : يا رسول الله ، ما الذي يوصلنى إليهم؟ فقال : هم يأتون إلى مسجدك عند الضّحى. واسم واحد كذا والآخر كذا. فأكلنا الطعام وبتنا عنده ، فلم يزل قائما يصلى إلى بكرة ، فصلينا عنده الصّبح وانصرفنا.

__________________

(١) العنوان من عندنا.

(٢) فى «ص» : «مقابل صاحب الدّرّابة».

(٣) فى «ص» : «كان من جزيرة ابن عمر».

(٤) قوله : «لصلاة الضحى» عن «م».

(٥) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٦) أى : الذي كان يصلى فى صدر المحراب.

(٧) فى «ص» : «الذي اشتهوه».

(٨) فى «ص» : «ورأوا عنده غلمان وحشم» والصواب : غلمانا وحشما ، بالنصب على المفعولية.

(٩) فى «ص» : «يأتى رجلان إلى هذه الجزيرة المجاورة لبلدك ويشتهيانه» هكذا بصيغة التثنيه إلى نهاية الحكاية.

٣٧٣

قبور الصوفية (١) :

وتدخل على يمينك تجد قبور الصّوفية رحمهم الله تعالى.

قبر أبى علىّ الرّوذبارىّ (٢) :

وتدخل على يمينك تجد تربة ذى النون المصرى رحمه الله ، على يسار من دخلها قبر الرّوذبارىّ رحمة الله عليه ، شيخ الطريقة ، وإمام الحقيقة ، [واسمه أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور بن شهريار بن مهر فاذار بن فرغدة بن كسرى أنو شروان](٣) ويكنى بأبى علّى. وكان من أولاد كسرى أنو شروان. وتوفى سنة اثنتين (٤) وعشرين وثلاثمائة ، وهو (٥) من أهل بغداد ، سكن مصر ، وكان شيخها ، ومات بها.

صحب أبا القاسم الجنيد ، وأبا الحسين النّورىّ ، وأبا حمزة البغدادى ، وحسنا المسوحىّ ، ومن فى طبقتهم من مشايخ بغداد ، وصحب بالشام أبا عبد الله ابن الجلّاء.

__________________

(١) العنوان من عندنا.

(٢) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمة الرّوذبارى فى طبقات الصوفية ص ٣٥٤ ـ ٣٦٠ ، وحلية الأولياء ج ١٠ ص ٣٥٦ و ٣٥٧ ، وطبقات الشعرانى ج ١ ص ١٠٦ و ١٠٧ ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ٣٢٩ ـ ٣٣٣ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٢٩٦ و ٢٩٧ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٠ و ٤٠١].

(٣) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٤) فى «م» و «ص» : «اثنين» لا تصح.

(٥) من هنا إلى قوله : «إبراهيم الحربى» عن «م» وساقط من «ص» وبالسياق بعض الاضطراب تم تصويبه من المصادر السابقة.

٣٧٤

وكان عالما فقيها ، حافظا للأحاديث ، عارفا بعلم الطريقة ، وكان يفتخر بمشايخه فيقول : شيخى فى التصوف : الجنيد ، وفى الفقه : أبو العباس بن سريج (١) ، وفى الأدب : ثعلب ، وفى الحديث : إبراهيم الحربى (٢).

روى عنه ابن الكاتب قال : «ما رأيت أحدا أجمع لعلم الشريعة والحقيقة منه».

وسئل أبو علّى الرّوذبارىّ [رضى الله عنه] : من الصّوفىّ (٣)؟ قال : «من لبس الصّوف على الصّفاء».

وروى أبو منصور معمر بن أحمد بن محمد بن زياد الأصبهانى قال : بلغنى عن أبى علىّ الرّوذبارىّ قال : «أنفقت على الفقراء كذا وكذا ألفا ، ما وضعت شيئا فى يد فقير ، بل كنت أضع فى يدى فيأخذ الفقير من يدى ، حتى تكون يدى تحت أيديهم ، ولا تكون فوق أيديهم».

وقال أبو علىّ الرّوذبارىّ : سمعت المحاسبى يقول : [للمخلصين عقوبات ، وللناس طهارات ، وللطاهرين درجات](٤). وسمعته يقول : من أضيق السجون معاشرة الأضداد. وكان يقول : اكتساب الدّنيا مذلّة النفوس ، واكتساب الآخرة عزّ النفوس ، فيا عجبا لمن يختار المذلّة لما يفنى ، ويترك العزّ لما يبقى!

__________________

(١) فى «م» : «أبو القاسم بن شريح» خطأ ، وما أثبتناه عن طبقات الصوفية. وهو : أحمد ابن عمر بن سريج ، أبو العباس ، القاضى ، البغدادى ، ولى القضاء ـ بشيراز ، وله مصنفات كثيرة ، وكانت وفاته سنة ٣٠٦ ه‍.

[انظر المصدر السابق ص ٣٦٠].

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) ما بين المعقوفتين عن «م» .. وفى «ص» : «فقيل له : من الصّوفى؟».

(٤) ما بين المعقوفتين عن «م».

٣٧٥

قال : وأنشدنا أبو علىّ الرّوذبارىّ لنفسه :

وددت أنّ دمى يجرى فأسفحه

من مقلتى على ما فات من زمنى

واها على أسف منّى علىّ وهل

يجدى التّأسّف إلّا علّة السّجن (١)

لو صحّ تحقيقه أنّ التّأسّف لى

لما أسفت لجمع النّوح فى الزّمن (٢)

وله أيضا ـ رضى الله عنه :

إن كان دارى نأت عن قرب داركم

فالنّفس ليس لها من بعدكم سكن

قلبى لديك وعينى غير ناظرة

[إلّا إليك] وسؤلى وجهك الحسن (٣)

ياليت لى أعينا فى كلّ جارحة

تبكى عليك بدمع جارح الوسن (٤)

وقال (٥) : «من الاغترار (٦) أن تسىء فيحسن إليك ، فتترك الإنابة والتّوبة توهّما أنّك (٧) تسامح فى الهفوات ، وترى أنّ ذلك فى بسط الحقّ لك».

وقال : «المشاهدات للقلوب ، والمكاشفات للأسرار ، والمعاينات للبصائر (٨) ، والمراعات للأبصار».

__________________

(١) هذا البيت فى «ص» ورد هكذا :

واها على أسف منى وهل يجنو

التأسّف إلّا علة السجن

وهو مكسور بهذه الصورة وبه تصحيف فى قوله «يجنو». والصواب ما أثبتناه ، وهو من بحر البسيط.

(٢) فى «م» : «بجمع» مكان «لجمع».

(٣) فى «ص» : «وعينى ناظرة» سقطت لفظة «غير» سهوا من الناسخ فى الشطرة الأولى ، ولا يستقيم الوزن والمعنى إلّا بها. وما بين المعقوفتين فى الشطرة الثانية عن «ص» وساقط من م.

(٤) فى «م» و «ص» : «ياليت لى أعين» لا تصح. وفى «م» : «علىّ» مكان «عليك» فى الشطرة الثانية.

(٥) من هنا إلى أول ترجمة ذى النون المصرى عن «م» وساقط من «ص».

(٦) فى «م» : «الاعتلال» وما أثبتناه عن طبقات الصوفية ص ٣٥٩.

(٧) فى «م» : «وترى أنك» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٨) فى «م» : «والمعاينات للأبصار» وما أثبتناه عن المصدر السابق.

٣٧٦

وقال أيضا : «لا رضا لمن لا يصبر ، ولا كمال لمن لا يشكر الله عزّ وجلّ ، وبالله وصل (١) العارفون إلى محبّته ، وشكروه على نعمته».

وقال همّام بن الحارث : سمعت أبا علّى الرّوذبارىّ يقول : «إنّ المشتاقين إلى الله سبحانه وتعالى ـ يجدون حلاوة الوقت عند وروده لما كشف لهم من فرح الوصال (٢) إلى قربه أحلى من الشهد».

وقال أيضا : «من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات : بطن جائع معه قلب خاشع (٣) ، وفقر دائم معه زهد حاضر ، وصبر كامل (٤) معه قناعة دائمة».

وقال ـ رضى الله عنه : «السعيد من عمّر أوقاته بالطّاعات ، وترفّع عن المعاصى المهلكات» (٥).

قبر ذى النون المصرى (٦) :

تجد على يمينك من قبره قبر الشيخ الإمام ، العابد الزاهد أبى الفيض ذى النون المصرى ، ذى المناقب العظيمة ، والأخلاق الكريمة ، رضى الله عنه.

قال يوسف بن الحسين : سمعت ذا النون المصرىّ يقول ، وقد سأله إنسان عن أصل توبته ، فقال : «خرجت من مصر إلى بعض القرى ، فنمت فى الطريق ،

__________________

(١) فى «م» : «وقال : وصل». وما هنا عن المصدر السابق.

(٢) فى الحلية ج ١٠ ص ٣٥٧ : «روح الوصال».

(٣) فى «م» : «قلب قانع» وما أثبتناه عن الحلية.

(٤) فى «م» : «وفقير حامل كذلك» تحريف من الناسخ ، والتصويب من المصدر السابق.

(٥) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٦) العنوان من عندنا. وقد سبقت ترجمته. [وانظر طبقات الصوفية ص ١٥ ـ ٢٦ ، وحلية الأولياء ج ٩ ص ٣٣١ ـ ٣٩٥ ، وج ١٠ ص ٣ و ٤ ، وتاريخ بغداد ج ٨ ص ٣٩٣ ـ ٣٩٧ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ١٠٧ و ١٠٨].

٣٧٧

وانتبهت وفتحت عينى وإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من شجرة على الأرض ، فانشقّت الأرض فخرج منها سكرّجتان (١) : واحدة من ذهب ، والأخرى من فضة ، فى إحداهما سمسم ، وفى الأخرى ماء ورد ، فأكلت من هذه ، وشربت من هذه ، فقلت : حسبى (٢) فتبت ولزمت الباب».

وروى أبو موسى الجيزى ، قال : «رأيت ذا النون ، وقد تقاتل اثنان ، أحدهما (٣) من أولياء السلطان [والآخر من الرّعيّة] فعدا (٤) الذي من الرعيّة عليه فكسر سنّته (٥) فتعلّق الجندىّ بالرجل وقال : بينى وبينك الأمير.

فمضوا ، وجازوا فى طريقهم على ذى النون ، فقال لهما : ما قصتكما؟

فقصّا (٦) عليه القصة ، فأخذ السّنّ ثمّ بلّها بريقه وردّها إلى فم الرجل الذي كانت فيه ، وحرّك شفته فتعلّقت السّنّ بإذن الله تعالى ، وثبتت فى مكانها ، فبقى الرجل يفتش فاه فلم يجد فيه شيئا من النقص» (٧).

وحكى أبو جعفر قال : «كنت عند ذى النون فتذاكرنا طاعة الأشياء للأولياء ، فقال ذو النون : من الطاعة أن أقول لهذا السرير الذي أنا جالس عليه : در فى زوايا البيت الأربع وعد إلى مكانك (٨) [قال : فدار السرير فى أربع زوايا البيت وعاد إلى مكانه]. وكان هناك شابّ فأخذ يبكى ، ومات للوقت».

__________________

(١) السّكرّجة : إناء صغير يؤكل فيه القليل من الأدم.

(٢) أى : يكفينى ما رأيت.

(٣) فى «م» : «إحداهما» لا تصح.

(٤) ما بين المعقوفتين عن «ص». وعدا : اعتدى.

(٥) فى «ص» : «ثنيته» وهى : إحدى الأسنان الأربع التى فى مقدم الفم ، ثنتان من فوق ، وثنتان من تحت.

(٦) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وجازوا على ذى النون فقال لهم : ما قصتكم؟ فقصوا ...».

(٧) فى «ص» : «فلم يجد الأسنان إلّا سواء».

(٨) فى «ص» : «أن أقول لهذا السرير يدور فى أربع زوايا فى البيت ثم يرجع إلى مكانه». وما بين المعقوفتين بعدها عن «م» وساقط من «ص».

٣٧٨

وقال بكر بن عبد الرحمن : «كنا مع ذى النون المصرى فى البادية ، فنزلنا تحت شجرة «أم غيلان» فقلنا : ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب! فتبسّم ذو النون وقال : أتشتهون الرّطب؟ وحرّك الشجرة وقال : أقسمت عليك بالذى ابتداك وخلقك إلّا نثرت علينا رطبا. وحرّكها ، فتناثر (١) الرّطب من عليها ، فهززنا الشجرة فنثرت علينا شوكا».

وقيل : إنّ ذا النون (٢) المصرىّ عند موته قيل له : ما تشتهى؟ فقال : أعرفه قبل موتى (٣) ولو بلحظة.

وكان ذو النون المصرى يقول : «معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى» (٤).

وقال أيضا : «أعرف الناس بالله أشدّهم تحيّرا فيه».

وقال أيضا : «الزّهّاد ملوك الآخرة ، وهم فقراء العارفين».

وقال أيضا : «علامة العارف ثلاث : لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ، ولا يفتقد (٥) باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحلم ؛ ولا يحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله عزّ وجلّ».

وقال أيضا : «كنت راكبا فى سفينة فسرقت فيها درّة ، فاتّهم بها شابّ ، فقلت : دعونى حتى أرفق به وأقرّره ، فأخرج رأسه من تحت كسائه ، فتحدثت معه فى ذلك المعنى وتلطّفت به لعلّه يخرجها ، فرفع رأسه إلى السماء وقال :

__________________

(١) فى «م» : «فتناثر علينا» وبعدها : «فأكلنا» مكان «فهززنا».

(٢) فى «ص» : «وقيل لذى النون».

(٣) فى «ص» : «قبل الموت».

(٤) هكذا فى «ص» ، وزاد فى «م» بعد ذلك : «يحملك ويحكم عندك تخلّقا بأخلاق الله سبحانه وتعالى».

(٥) فى «ص» : «ولا يعتقد».

٣٧٩

أقسمت عليك يا رب ألّا تدع أحدا من الحيتان إلّا ويأتى بجوهرة. قال : فرأيت حيتانا (١) كثيرة طافية على وجه البحر ، فى فم كل حوت جوهرة. قال : ثم ألقى نفسه فى البحر ومشى على الماء وغاب عنّا».

وقال ذو النون : «سافرت إلى الشام لعلّى أجتمع بأحد (٢) من أولياء الله تعالى ، فعبرت على مغارة ، فوجدت رجلا جالسا على باب المغارة ، فسلّم علىّ وقال لى : يا ذا النون (٣) ، رجل كان يسأل الله تعالى فى الاجتماع بك لتحضر الصلاة عليه ، فقف هاهنا. ثم دخل المغارة ، فإذا بعجوز قد خرجت من المغارة تبكى ، فقالت : يا سيدى ، الذي كلّمك هو ولدى ، وكان يسأل الله تعالى أن تحضر الصلاة عليه ، وقد مات. فدخلت فوجدته مستقبل القبلة ، وعنده آلة الغسل والكفن ، فغسلته وكفنته وصليت عليه ، وكنت أكبّر وأسمع التكبير من خلفى ، فلما فرغت من الصّلاة عليه إذا هو قد حمل من بين يدىّ ، فخرجت وأنا متعجب ، ثم استوحشت ، فإذا أنا بصوت رجل يقرأ القرآن ، فاتبعت الصّوت ، فإذا هو يخرج من مغارة أخرى ، فدخلتها ، فإذا شيخ عليه وقار ، وعليه قميص من ليف ، فقال : يا ذا النون ، صلّيت على الرّجل الصالح؟

قلت : نعم ، قد صليت عليه وسمعت تكبيرا (٤) من خلفى. فقال : أقم عندى اليوم. قال : فأقمت عنده تلك الليلة ، فإذا طائر يدخل المغارة وبين رجليه جوزة ، وفى منقاره (٥) زبيبة فيلقيها ، ثم يذهب فيعود كذلك ، فسألت عن ذلك (٦) الطائر ، فقال : سخّره الله تعالى لى ، يأتينى فى اليوم كذا وكذا مرّة ، فنظرت داخل المغارة فإذا عين تجرى وفى داخلها رجل ، وهو يدعو : اللهمّ

__________________

(١) فى «ص» : «حيتان» لا تصح ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) فى «م» : «لعلّى أجد أحدا ، أو اجتمع بأحد».

(٣) فى «م» : «يا ذو النون» لا تصح.

(٤) فى «ص» : «وأنا أسمع التكبير».

(٥) فى «ص» : «وفى فمه».

(٦) فى «م» : «عن هذا».

٣٨٠