مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

وقام واحد من الجماعة فقال : يا سيدى ، ما كان سبب قطع يدك؟ فقال : يد جنت فقطعت. فقالوا : سمعنا هذا منك مرارا (١) كثيرة ، أخبرنا كيف كان السبب. فقال : أنتم تعلمون أنّى رجل من أهل المغرب (٢) ، فوقعت فى قلبى مطالبة السّفر (٣) ، فسرت حتى بلغت الإسكندرية ، فأقمت بها اثنتى عشرة سنة (٤) ، وكان فى الناس خير. ثم سرت منها إلى أن صرت بين شطا (٥) ودمياط ، لازرع ولا ضرع ، فأقمت اثنتى عشرة سنة (٦) ، وكان فى الناس خير ، وكان يخرج من مصر خلق كثير يرابطون بدمياط ، وكنت قد بنيت كوخا على شاطىء البحر ، وكنت أجىء من الليل إلى تحت السور ، وإذا أفطر المرابطون ورموا باقى سفرهم (٧) أزاحم الكلاب على اللباب (٨) فآخذ كفايتى ، وكان هذا قوتى (٩) فى الصيف. قالوا : فما كان قوتك فى الشتاء (١٠)؟ قال : كنت بنيت حولى كوخا (١١) من البردى آكل أسفله وأعمل فى الكوخ أعلاه ، فكان هذا قوتى (١٢) إلى أن نوديت فى سرّى : يا أبا الخير ، تزعم أنك لا تشارك الخلق

__________________

(١) فى «م» : «قد سمعنا هذا منك مرار» والصواب : مرارا.

(٢) فى «ص» : «من الغرب» تصحيف.

(٣) فى «م» : «فوقعت فى مطالبة السفر».

(٤) فى «م» : «ثنتى عشر سنة» وفى «ص» : «اثنا عشر سنة» وكلاهما خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٥) شطا : بليدة ـ أو مدينة ـ على ثلاثة أميال من دمياط ، على ضفة البحر. [انظر معجم البلدان ج ٣ ص ٣٤٢ ، و ٣٤٣ مادة شطا].

(٦) فى «م» و «ص» : «اثنا عشر سنة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٧) فى «م» : «ورموا سفرهم». والسّفر : جمع سفرة ، وهو الطعام يصنع للمسافر ، أو ما يحمل فيه هذا الطعام.

(٨) اللّباب : خالص كلّ شىء.

(٩) فى «م» : «وقتى» تحريف.

(١٠) فى «م» : «قالوا : ففى الشتاء؟».

(١١) فى الكواكب السيارة : «كان ينبت حول كوخى».

(١٢) فى «م» : «وقتى» تحريف.

٤٠١

فى أقواتهم وتشير إلى التوكل وأنت فى وسط المعلوم جالس! فقلت : إلهى وسيّدى ومولاى ، وعزّتك لا مددت يدى إلى شىء تنبته الأرض حتى تكون أنت الموصل إليّ رزقى من حيث لا أكون أنا أتولاه. فأقمت اثنى عشر يوما أصلى الفرض والسّنّة ، ثم عجزت ، فأقمت اثنى عشر يوما أصلى جالسا ، ثم عجزت عن الجلوس ، فرأيت أنّى إن طرحت نفسى ذهب فرضى ، فقلت فى سرّى (١) : إلهى وسيدى ، فرضت علىّ فرضا تسألنى عنه (٢) ، وضمنت لى رزقا تقيمنى به (٣). فتفضّل علىّ برزقى ولا تؤاخذنى بما عقدته معك. وإذا (٤) بين يدىّ قرصان (٥) وبينهما شىء ـ ولم يذكر لنا ما كان (٦) ذلك الشيء ، ولم يسأله أحد من الجماعة عنه ـ قال : فكنت آخذه وقت حاجتى إليه من الليل إلى الليل (٧) ، ثم طولبت بالسّفر إلى الثغر ، حتى دخلت قرية ، فوجدت فى صحن الجامع قاصّا يقص على الناس وحوله جماعة (٨) ، فوقفت بينهم أسمع [ما يقول](٩) ، فذكر قصة زكريا عليه السلام والمنشار ، وما كان من خطاب الله تعالى له حين هرب منهم ، وأنّ الشجرة دعته وقالت : إلىّ يا زكريا (١٠) ، فانفرجت ودخلها (١١) وانطبقت عليه ، ولحقه العدوّ ، فناداهم إبليس : إلىّ ، فهذا زكريا (١٢)

__________________

(١) فى «ص» : «فنظرت إلى سرّى وقلت».

(٢) فى «م» : «أنت مسائلى عنه».

(٣) فى «ص» : «تقيمه لى». وفى التحفة : «تسوقه لى».

(٤) فى «م» : «فإذا».

(٥) فى «م» و «ص» : «قرصين» خطأ ، والصحيح ما أثبتناه.

(٦) فى «م» : «ولم يذكر ذلك الشيء ما هو».

(٧) فى «م» : «فكنت آخذ القرصين من الليل إلى الليل على دائم وقتى».

(٨) فى «م» : «وعنده خلق كثير».

(٩) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(١٠) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فنادته الشجرة : إلىّ إلىّ يا زكريا».

(١١) فى «م» : «وانفرجت له فدخل فيها».

(١٢) فى «م» : «وأنّ إبليس مسك طرف ثوبه وجعله خارج الشجرة ، وأعلم قومه بدخوله فيها».

٤٠٢

ثم أخرج لهم حيلة المنشار ، فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا ، فأنّ أنّة ، فأوحى الله تعالى إليه : يا زكريا ، إن أنّيت ثانية لأمحونّك من ديوان النّبوّة. فصبر (١) زكريا حتى نشر نصفين.

قال أبو الخير : فقلت [فى نفسى](٢) : إلهى وسيدى ، إن ابتليتنى لأصبرنّ. وسرت حتى دخلت (٣) أنطاكية ، فرآنى بعض إخوانى (٤) ، وعلم أنى أريد الغزو ، وكنت يومئذ أستحى (٥) من الله تعالى أن آوى إلى وراء سور ، فدفع لى سيفا وترسا وحربة (٦) ، فدخلت الثغر خيفة من العدو (٧) ، فجعلت مقامى فى غابة أكون فيها بالنهار ، فإذا جاء الليل خرجت إلى الساحل فأغرز الحربة وأسند الترس إليها محرابا (٨) ، وأتقلد بسيفى وأصلى إلى الغداة (٩) ، فإذا صليت الصبح عدت إلى الغابة فكنت فيها نهارى. ثم خرجت يوما فنظرت إلى شجرة كرم قد أينعت وفيها عنقود قد وقع عليه النّدى (١٠) وهو يبرق ، فاستحسنته ، ونسيت عهدى مع الله تعالى وقسمى ألّا أمدّ يدى إلى شىء مما تنبته الأرض ، فمددت يدى إلى الشجرة فقطعت منها عنقودا ، وجعلت بعضه فى

__________________

(١) قوله : «فصبر» عن «م» .. وفى «ص» : «فغصّ».

(٢) قوله : «قال أبو الخير» عن «ص» .. وما بين المعقوفتين عن «م».

(٣) فى «ص» : «دخلنا».

(٤) فى «م» : «أصحابى».

(٥) فى «م» : «أحتشم».

(٦) فى «ص» : «وحربة للسبيل».

(٧) فى «م» : «فدخلت السفر خليفة العدو» تحريف من الناسخ.

(٨) فى «م» : «وأغرز الحربة وأجعلها لمحرابى» والمحراب : مقام الإمام من المسجد.

(٩) فى «م» : «إلى الصباح».

(١٠) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فنظرت فى بعض الأيام إلى شجرة بطم قد بلغ بعضها» ، والبطم : شجرة من الفصيلة الفستقية ، وطولها من ٤ إلى ٨ أمتار ، وثمرتها حسكة مفلطحة خضراء ، تنقشر عن غلاف خشبى يحوى ثمرة واحدة ، تؤكل ببلاد الشام.

٤٠٣

فمى (١) ، فتذكرت العهد ، فرميت ما كان فى يدى ، ولفظت ما كان فى فمى ، ولكن بعد أن جاءت المحنة (٢) ، فرميت الحربة والترس وجلست فى موضعى ، ووضعت يدى على رأسى ، فلما استقر بى الجلوس جاز بى رجال كثير وفرسان (٣) وقالوا لى : قم ، وساقونى وخرجوا بى إلى السّاحل ، فإذا أمير وحوله عسكر وجماعة ، وبين يديه جماعة من السودان كانوا يقطعون الطريق فى ذلك المكان قبل ذلك اليوم ، وقد أمسكهم ، وتفرقت الخيل فى الغابة يطلبون من ذهب منهم ، فوجدونى أسود ومعى سيف وترس وحربة (٤) ، وكان الأمير تركيّا ، فقال لى : من أنت؟ قلت : عبد من عبيد الله تعالى. فقال للسودان : أتعرفون هذا؟ قالوا : لا. قال : بل هو كبيركم وأنتم تفدونه بأنفسكم. فقدّموهم فقطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ولم يبق غيرى ، فقدّمونى ثم قالوا (٥) : مدّ يدك ، فمددتها ، فقطعت ، ثم قيل لى : مدّ رجلك ، فرفعت طرفى فى السماء وقلت : إلهى وسيدى ، يدى جنت ، فما بال رجلى؟! وإذا بفارس وقف على الحلقة ونظر إلىّ (٦) ، ورمى بنفسه علىّ وصاح ، وقال للأمير : هذا الشيخ أبو الخير المناجى الرجل الصالح! فصاح الأمير : لا حول ولا قوة إلّا بالله العلى العظيم. وجعل الأمير يقبل يدى ويعتذر إلىّ ويقول (٧) : بالله عليك يا سيدى اجعلنى فى حلّ. فقلت له : أنت فى حلّ قبل أن تقطع يدى (٨).

__________________

(١) فى «م» : «ووضعت منه شيئا فى فمى».

(٢) فى «ص» : «وبصقت». مكان : «ولفظت» وهى بمعناها. وفى «م» : «فنبذت ذلك من فمى بعد أن جاءت المحنة».

(٣) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «فما استقر بى الجلوس حتى دار بى فارسان ورجّالة كثيرة». وجاز : مرّ.

(٤) هكذا فى «م» و «ص» ولها وجه فى اللغة.

(٥) فى «م» : «فتقدمت وقيل لى».

(٦) فى «م» : «فلما رآنى رمى بنفسه إلى الأرض وصاح».

(٧) فى «ص» : «ورمى الأمير بنفسه وأخذ يدى يقبلها ويبكى ويقول».

(٨) هكذا العبارة فى تحفة الأحباب. وفى «م» : «فقلت : قد جعلتك فى حلّ من قبل

٤٠٤

وبجانب قبره إلى القبلة قبر العفيف العطّار ، ويعرف بعبد الخالق ، كان رجلا جيدا ، حسن الصحبة ، من فعلاء الخير ، يحب الخير وأهله (١).

قبر الشيخ أبى موسى يونس بن عبد الله الصدفى ، صاحب الإمام الشافعى رضى الله عنهما (٢) :

وتستقبل الغرب تجد قبرا بقى عليه لوح كدان عند رأسه ، ولوح عند رجليه ، وهو قبر مسنم لطيف ، وفى آخر قباب الصدفيين والليث ، هو على يسار المارّ إليه ، وهو قبر يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة بن حفص بن جابر الصدفى ، وكيل الليث بن سعد ، وآخر أصحاب الشافعى ، يكنى أبا موسى (٣).

كان من كبار العلماء ، روى عن جماعة وروى عنه جماعة (٤).

ومن حكاياته التى رواها عن غيره (٥) أنّ إنسانا جاء إلى إنسان فقال له : أقرضنى (٦) ألف دينار إلى أجل. فقال له : من يضمنك (٧)؟ قال : الله

__________________

أن تقطع يدى». وفى «ص» : «من قبل القطع».

(١) من أول الفقرة إلى هنا عن «م» وساقط من «ص». وفيها «العصار» مكان «العطار» ، وما أثبتناه عن الكواكب السيارة ص ١٠٦ و ١١٣. واسمه «عفيف الدين».

(٢) هذا العنوان عن «ص» ويونس بن عبد الأعلى من كبار الحفاظ ، روى عن ابن عيينة ، وتفقه على الشافعى ، وقرأ على «ورش» ، وانتهت إليه رياسة العلم وعلوّ الإسناد فى الكتاب والسنة ، وكان ركنا من أركان الإسلام فى عصره ، وكان ورعا ، صالحا ، عابدا ، كبير الشأن .. ولد سنة ١٧٠ ه‍ ، وتوفى سنة ٢٦٤ ه‍. [انظر : حسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠٩ ، وانظر تحفة الأحباب ص ٢٢٣].

(٣) من أول الفقرة إلى هنا عن «م» وساقط من «ص».

(٤) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «من كبار العلماء ، محدّث أهل مصر وعالمهم بالمعانى ، وأرواهم النكت فى الفقه عن الشافعى والرواية عنه ، وهو يشاركه فى ابن عيينة وغيره من شيوخه ، روى عن جماعة».

(٥) فى «م» : «وروى عن بعض مشايخه».

(٦) فى «ص» : «أنّ رجلا جاء إلى النحاس فقال له : أسلفنى».

(٧) فى «ص» : «فقال له النحاس : من يضمن لى المبلغ؟».

٤٠٥

تعالى. فأقرضه ما طلب (١). فسافر الرجل ليتجر فيها (٢) ، فباع واشترى وحصّل مالا عظيما (٣) فلما جاء الأجل (٤) أراد الخروج والسفر لوفاء دينه ، فلم يجد مركبا ، وحبسته (٥) الريح ، والبلد الذي هو فيه بعيد عن صاحب الدّين ، فأخذ الرجل خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار (٦) ورماها فى البحر وقال : يا رب قد وفيت بضمانك فأوصلها إليه. ثم إنّ الرّجل صاحب المال خرج يوما إلى البحر وجلس يتوضأ على حافته ، فطلعت له الخشبة بين يديه ، فأخذها ومضى إلى داره ، فكسرها فرأى فيها ألف دينار وورقة مكتوبا فيها : «قد وفيت ضمان الله تعالى» (٧). ثم إنّ الرّجل جمع ألف دينار بعد ذلك (٨). [وقال : إن لم تكن وصلت تلك ، دفعت له هذه. ثم وجد مركبا](٩) وطابت له الريح ، فركب وجاء إلى بلده ، ثم جاء للمقترض منه وسلّم عليه (١٠) ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا صاحب الألف دينار ، وهذه ألّفك. فقال له الرجل (١١) : لا أقبلها منك حتى تخبرنى ما صنعت فيها. وأخبره بالذى صنع ، وأنه لم تطب له الريح. فقال له الرجل : لقد أدّى الله عنك الألف ووصلت.

__________________

(١) فى «ص» : «فأعطاه ألف دينار».

(٢) فى «م» : «وسافر الرجل المقترض ليتّجر بهذا القدر».

(٣) من قوله : «فباع ...» إلى هنا عن «م» وساقط من «ص».

(٤) فى «م» : «الرجل» تحريف.

(٥) فى «م» و «ص» : «وحبسه».

(٦) فى «ص» : «فعمل تابوتا وجعل فيه ألف دينار ، وغلقه وسمّره سدادا ..». ومن قوله : «ورماها» ـ بعد ذلك ـ إلى قوله : «ضمان الله تعالى» عن «م» وساقط من «ص».

(٧) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٨) فى «م» : «وحصّل المقترض ألفا أخرى».

(٩) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(١٠) فى «ص» : «فجاء إلى النحاس فسلّم عليه ..» .. وتكملة القصة فى «م» هكذا : «ثم جاء للمقترض وسلم عليه ، فقال له : وصلت إليك الدراهم؟ قال : نعم ، ولكن لا آخذها حتى تخبرنى ما صنعت بها ، فأخبره بالخبر من أوله إلى آخره ، فقال : والله وصلت ، ووفّى الله الضمان».

(١١) فى «ص» : «النحاس» مكان «الرجل» فى الموضعين.

٤٠٦

وقال الشافعى عند باب الجامع العمرى (١) : ما دخل من هذا الباب (٢) أعقل من يونس بن عبد الأعلى.

وكان كثير التّنسّك ، فقيرا ، وكان مقبولا عند القضاة والحكّام. وروى عن الشافعى أنه قال له : يا أبا موسى ، إنه ليس إلى الإسلام من الناس سبيل ، فخذ بما ينفعك ودع ما سوى ذلك. قال : وقال لى الشافعى : يا أبا موسى ، دخلت بغداد؟ قلت : لا. قال : [لم] تر الدنيا (٣).

وقال يونس (٤) : رأيت فى المنام قائلا يقول لى إنّ اسم الله الأعظم ـ أو قال : الأكبر ـ «لا إله إلّا الله» قال يونس : وكنت أجد مرضا ، فقلتها عليه ومسحت بيدى فأصبحت معافى.

شكى رجل إلى يحيى بن بكر الفقر ، وسأله الدعاء ، فقال : هلّا ذهبت إلى يونس الصّدفى فسألته الدعاء ، فو الله إنّى لأجد لدعائه بركة (٥).

وعن إبراهيم بن عثمان الفرّاء قال : كنت أختلف إلى يونس (٦) بمصر أسمع منه [الحديث فلما عزمت على السفر والرجوع إلى المغرب جئت لوداعه ، فسألنى عن اسمى واسم أبى وكنيتى ولقبى وشهرتى وبلدى](٧) فأخبرته ، فأخرج قرطاسا (٨) وكتب ذلك. فقلت له : ما هذا ـ أصلحك الله؟ فقال لى : فى

__________________

(١) فى «ص» : «عند الباب الأول من جامع مصر» يريد جامع عمرو بن العاص.

(٢) فى «م» : «ما دخل هذا الجامع».

(٣) من قوله : «وكان مقبولا عند القضاة والحكام» إلى هنا ، عن «م» وساقط من «ص» ، وما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة المعنى.

(٤) فى «ص» : «قال أبو موسى يونس بن عبد الأعلى».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى «ص» جاءت هذه الفقرة باختلاف يسير فى بعض ألفاظها لا يغير المعنى.

(٦) فى «م» : «كنت أتردّد إليه».

(٧) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٨) فى «ص» : «فأخرج ثلاثة قراطيس».

٤٠٧

باطن هذا القرطاس أسماء العلماء الذين أخذوا عنى العلم (١) ، وقد جعلت على نفسى ألّا أنام فى كل ليلة حتى أستغفر لجميعهم.

وتوفى يونس بن عبد الأعلى فى [شهر صفر الخير](٢) سنة أربع وستين ومائتين ، وصلّى عليه أحمد بن طولون.

قبر الفقيه الليث بن سعد (٣) :

ثم تمضى وأنت مبحّر [إلى آخر وسط قباب الصّدفيين](٤) تجد قبرا مضطبة ، هو قبر العالم العلّامة الفقيه المجتهد الليث بن سعد بن عبد الرحمن الإمام أبو الحارث الفهمى المصرى ، أحد الأعلام ، شيخ أقاليم مصر ، الأصفهانى ، مولى عبد الرحمن بن خالد ، وقيل : خالد بن ثابت بن ظاعن بن عبد الرحمن.

قال (٥) يحيى بن بكير : كان الليث يقول : دخلت على نافع مولى ابن عمر ، فقال لى : من أين أنت؟ قلت : من مصر ، مولى لبنى فهم. وقد انتهت إليه الرياسة فى زمنه فى مصر ، روى عن جماعة من العلماء ، منهم يزيد ابن أبى حبيب ، ومحمد بن أسلم الزهرى ، وأبى الزبير المكى ، وسعيد بن أبى

__________________

(١) فى «م» : «فقال فى باطنه اسم من أخذت عنه الحديث ، وفى ظاهره أسماء من أخذ عنى الحديث».

(٢) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٣) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٥ ص ٢٤٨ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ١٢٧ و ١٢٨ ، وحلية الأولياء ج ٧ ص ٣١٨ ـ ٣٢٧ ، وتاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣ ـ ١٤ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ، وميزان الاعتدال ج ٣ ص ٤٢٣ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٤٩ ، وشذرات الذهب ج ١ ص ٢٨٥ و ٢٨٦. وانظر الكواكب السيارة ص ٩٨ ـ ١٠١].

(٤) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٥) من هنا إلى نهاية الفقرة عن «م» وساقط من «ص».

٤٠٨

هلال ، وعبد الله بن أبى مليكة ، وروى عن جماعة يطول شرحهم ، منهم محمد ابن عجلان ، وهشام بن سعد ، وقيس بن الربيع ، وعبد الله بن الربيع ، وعبد الله ابن المبارك ، وعبد الله بن وهب ، وجماعة يطول ذكرهم.

وقيل : إن الليث بن سعد أدرك نيّفا وخمسين من التابعين ، قال ذلك أبو الحسن الواسطى (١).

قال يحيى بن بكير : سمعت أبى يقول : ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد ، كان فقيه (٢) النفس ، عربّى اللسان ، يحسن القرآن والنحو ، ويحفظ (٣) الشعر والحديث ، حسن الذّكر (٤). وما زال يذكر خصائله الحميدة حتى عدّ عشرا (٥).

وقال عبد الله بن وهب ـ [ويقال : إنّ ذلك من كلام يحيى بن بكير](٦) : لو لا مالك والليث بن سعد لضلّ الناس.

وقال الحسن بن سعيد : قدمنا (٧) مع الليث من الإسكندرية ومعه ثلاث سفن : سفينة فيها مطبخه ، وسفينة فيها عياله ، وسفينة فيها أضيافه (٨).

وقال الشافعى رضى الله عنه. ما فاتنى أحد كان أشدّ علىّ من ابن أبى ذئب ، والليث بن سعد. وقال الشافعى مرّة : الليث أفقه من مالك إلّا أنّ أصحابه لم يقوموا به. وقال مرّة : الليث أتبع للأثر من مالك (٩).

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) فى «م» : «فقير» تحريف.

(٣) فى «م» : «ويروى».

(٤) فى «م» : «حسن المحاضرة».

(٥) فى «ص» : «حتى عقد عشرا وقال : لم أر مثله».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «م».

(٧) فى «ص» : «قفلنا» أى : رجعنا. وفى الكواكب السيارة : «خرجنا مع الليث بن سعد إلى الإسكندرية».

(٨) هكذا فى المصدر السابق وفى «ص» .. وفى «م» : «وسفينة فيها كتبه».

(٩) من قوله : «وقال الشافعى» إلى هنا عن «م» وساقط من «ص».

٤٠٩

وقال منصور بن عمّار : قدمت مصر ، ووعظت فى الجامع العتيق يوما واحدا ، وحضر الليث رضى الله عنه فى ذلك اليوم ، فلما فرغت قال لى : من أين أنت؟ قلت : من بغداد. قال : وما تريد؟ قلت : ألف دينار. فقال : هى لك علّى. ثم أنزلنى فى داره ، فلما عزمت على السفر دفع لى الألف دينار وقال لى : صن هذه الحكمة التى آتاك الله. ثم دفع لى بنو الليث ألف دينار أخرى (١).

وقال أبو الفتح : دخلنا (٢) على مالك بن أنس فقال : من فقيهكم؟ فقلنا (٣) : الليث بن سعد. فقال : جزاه الله خيرا ، كتبنا له فى قليل عصفر (٤) نصبغ به ثياب الصغار ، فأرسل إلينا ما صبغنا منه نحن وجيراننا وأصحابنا (٥) ، وبعنا الباقى بألف دينار.

وقال أبو محمد بن أبى القاسم : قيل للّيث بن سعد (٦) : أمتع الله بك يا إمام ، إنّا نسمع منك ما ليس (٧) فى كتبك! فقال : أو كلّ ما فى صدرى فى كتبى؟ لو كان كذلك ما وسعه هذا المركب!

وقال (٨) أبو عبد الله محمد بن أحمد : قال أبو جعفر المنصور للّيث :

__________________

(١) من قوله : «وقال منصور بن عمار» إلى هنا عن «م» .. ووردت هذه الفقرة مختصرة فى «ص» هكذا : «قال منصور بن عمار : أتيت الليث بن سعد فأعطانى ألف دينار وقال لى : صن هذه الحكمة التى أعطاك الله تعالى».

(٢) فى «م» : «دخلت».

(٣) فى «م» : «قلت».

(٤) العصفر : نبات صيفى يستخرج منه صبغ أحمر.

(٥) فى «ص» : «فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثياب صبياننا وجيراننا».

(٦) فى «م» : «قال الحسن بن على للّيث بن سعد» وما أثبتناه عن «ص».

(٧) فى «ص» : «نسمع منك الحديث».

(٨) من أول هنا إلى قوله : «فصبر عليه» عن «م» وساقط من «ص».

٤١٠

هل لك أن تلى مصر؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّى أضعف عن ذلك ، وأنا رجل من الموالى. فقال أبو جعفر : ما بك من ضعف ، فإذا أبيت فدلّنى على رجل أقلّده أمر مصر. فقال : عثمان بن الحكم الخزامى ، رجل فيه صلاح وله غيرة. قال : فولّاه ذلك.

وقال ابن خلّكان : رأيت فى بعض التعاليق أنّ الليث كان حنفّى المذهب ، وأنه ولى القضاء بمصر. وكان الليث فى ابتداء أمره فقيرا لم يكن بتلك السّعة العظيمة ، بل كان له مال قليل لم يكن بالواسع ، حتى حلف هارون الرشيد بالطلاق من زوجته زبيدة بنت القاسم أنه من أهل الجنة ، ثم ندم واعتزل عنها ، وجمع كلّ فقيه فى بلده ، فأفتاه جميعهم بالوقوع (١) ، فأنفذ خلف الفقهاء المصريين ، فدخل عليه فى جملتهم الليث بن سعد ، فجلس فى آخر الناس ، وضرب الرشيد ستر «الزبيدة» وقص عليهم قصتها ، فأفتى الجميع بالحنث إلّا الليث ، فإنه أطرق ، فقال الرشيد لأستاذ : امض وادع لى ذلك الرجل ، فجاء به إليه فقال : أنت فقيه؟ قال : نعم. قال : ما تقول فيما قال أصحابك؟

قال : إن أردت الجواب فأمر بإخراج الجميع. فأخرجوا ، وبقى الرشيد والليث وزبيدة ، فدعا الليث بالمصحف الكريم فقال : سألتك بالله العظيم ، هل قدرت على معصية وتركتها قط؟ قال : نعم ، هويت امرأة ، وبذلت لها مالا عظيما حتى أذنت لى بالوصال ، ثم جاءت إلى عندى ـ وكانت ليلة جمعة ـ فلما دخلت إليها تذكرت عظمة الله تعالى ، وأنه جبّار منتقم ، وقلت : هذه ليلة جمعة ، فخرجت على فورى. فقال الليث : قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٢). ثم قال : أقسمت عليك بالله العظيم لمّا خفت ، هل كنت خائفا فى ذلك الوقت من الله تعالى ، أو كنت بخلاف ذلك؟ فقال : والله ما كنت إلّا خائفا.

__________________

(١) أى : بوقوع الطلاق.

(٢) سورة النازعات ـ الآيتان ٤٠ و ٤١.

٤١١

فقال : افتح الختمة ، ففتحها ، فوجد الليث سورة الرحمن ، فاستدلّ على صدق الرشيد ، فقال : اقرأ ، فقرأ إلى أن وصل إلى قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ)(١). فقال : هل لك كلام بعد الشاهد الأول والثانى؟ قد أثبت الله لك جنّتين!

ففرح الرشيد ودخل على زبيدة ، وفرح أهل الدار فرحا شديدا ، ثم خرج الرشيد إليه فقال : تمنّ علىّ. فقال : إنّ فى مصر عمالة (٢) بكذا وكذا من الدّنانير فى كل يوم ، أن تستعملنى بأجرة العمال. فقال الرشيد : هى لك بجميع غلّتها. ثم قال : هل تريد شيئا آخر؟ قال : نعم. قال : ما تريد؟ قال : أريد أن تدفع لى هذين الأستاذين ـ وهما على رأس الرشيد ـ فقال : خذهما.

هل بقى لك حاجة؟ قال : نعم ، تكتب لى كتابا ألّا يكون لأحد من عمّال مصر ، ولا من رؤسائها فى الديار المصرية معى كلمة. فكتب له بذلك. ثم تجهّز ورجع إلى مصر ـ رحمة الله عليه.

وكان من كرمه ما هو مشهور ، وكان يقول : سقم الأبدان بالأوجاع ، وسقم القلوب بالذنوب ، فكما لا يجد (٣) الجسد لذّة الطعام عند السّقم (٤) ، كذلك لا يجد القلب لذّة العبادة مع الذنوب. حكى ذلك عنه يحيى بن معاذ الرازى.

وقال ابن النحوى : صودر رجل فى زمنه بمصر ، ونودى على داره ، فبلغت أربعة آلاف درهم ، فاشتراها الليث ، وبعث يونس بن عبد الأعلى لأخذ المفاتيح ، قال يونس : فذهبت لآخذ المفاتيح فوجدت فى الدار أطفالا وعائلة

__________________

(١) سورة الرحمن ـ الآية ٤٦.

(٢) العمالة : أجرة العامل ، وحرفته. والمراد بها هنا ما تغله هذه العمالة من خراج ، ففى وفيات الأعيان : «فأقطعه ـ أى هارون الرشيد ـ قطائع كثيرة بمصر. [انظر الوفيات : ج ٤ ص ١٢٩].

(٣) فى «م» : «لا تجد». فى الموضعين.

(٤) فى «م» : «القسم» تحريف.

٤١٢

وأيتاما يبكون ، فقالوا لى : بالله عليك أنظرنا (١) إلى اللّيل حتى ننظر خربة (٢) نذهب إليها. قال : فتركتهم وجئت إلى الليث فأخبرته بالخبر ، فبكى وقال : عد إليهم وقل لهم : الدّار لكم ، ولكم ما يقوم بحالكم من أدم (٣) وكسوة فى كل يوم.

وقيل : وقف الشافعى على قبره فقال : لله درّك من إمام! حزت أربع خصال لم يحزهنّ عالم : العلم ، والعمل ، والزّهد ، والكرم.

وقال عبد الله بن صالح ـ كاتبه : صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدّى (٤) ولا يتعشّى إلّا مع الناس ، وكان لا يأكل إلّا لحما ، ويقول : إنه يزيد فى العقل ، إلى أن مات.

وخرج الليث راكبا ، فقوّمت ثيابه ودابّته وخاتمه وما عليه بثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفا. وكان يتصدّق كلّ يوم على ثلاثمائة مسكين.

وقال ابن صالح أيضا : كان الليث إذا غشى أهله [قال](٥) : اللهمّ اشدد لى أصله ، وارفع لى صدره ، وسهّل لى مخرجه ومدخله ، وارزقنى لذّته ، وهب لى ذرّيّة صالحة تقاتل فى سبيلك.

وقال أبو سعيد : كان الليث يصلى عندنا فى المسجد ، فلا يسأله أحد من أهل المسجد شيئا إلّا أعطاه إيّاه.

وقال ابن زولاق : أصيب اللّيث بأذى كثير بمصر ، فصبر عليه (٦).

__________________

(١) أنظرنا : أخرنا وأمهلنا.

(٢) الخربة : موضع الخراب.

(٣) الأدم والإدام : ما يستمرأ به الخبز.

(٤) فى «م» : «لا يتغذى».

(٥) غشى أهله : أتى أهله ، أو باشر أهله ، وفى «م» : «عشى» لا تصح. وما بين المعقوفتين من عندنا لاستقامة السياق.

(٦) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» والمشار إليه فى ص ٤١٠ ، الهامش رقم (٨).

٤١٣

وعن أبى الحسن قال (١) : مررت باللّيث بن سعد فتنحنح لى ، فرجعت إليه ، فدفع لى قرطاسا وقال : اكتب لى فيه أسماء (٢) من يلزم المسجد ، ومن لا بضاعة له ولا غلة. فقلت له : جزاك الله خيرا يا أبا الحارث ، وأخذت الورق (٣) وسرت إلى المسجد ، فلما صليت قدّمت السّراج وكتبت : بسم الله الرّحمن الرحيم ، فلان بن فلان ، ثم إنّ نفسى لم تدعنى أكتب شيئا ، وعسرت علىّ الكتابة ، وضاق صدرى ، فبينما أنا كذلك إذ غلبتنى عيناى (٤) فنمت ، فآتانى آت فى منامى فقال لى : ها الله يا سعيد ، تأتى إلى قوم عاملوا الله تعالى سرّا فتكشفهم لادمّى ، مات الليث بن سعد ، ومات شعيب بن الليث ، أليس مرجعهم إلى الله تعالى الذي عاملوه؟ قال : فاستيقظت ولم أكتب شيئا ، فلما أصبحت أتيت إلى الليث بن سعد ، فلما رآنى تهلل وجهه وفرح بقدومى ، فناولته [القرطاس](٥) فنشره ، فإذا فيه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم ، فلان ابن فلان ، فسألنى : لم لا تكتب؟ فأخبرته بالمنام (٦) ، فصاح صيحة عظيمة ، فاجتمع علينا الناس وقالوا : ما الخبر يا أبا الحارث؟ فقال : ما تمّ إلّا الخير. ثم قال : يا سعيد ، صدق القائل ، مات الليث بن سعد ، ومات شعيب ابن الليث ، أليس مرجعهم إلى الله سبحانه وتعالى؟!

قال (٧) علىّ بن محمد : وكان سعيد هذا من الأبدال.

__________________

(١) فى «م» : «وقال الحسن بن على».

(٢) فى «ص» : «فرجعت ، فقال لى يا سعيد ، خذ هذا العيداق فاكتب فيه».

(٣) فى «م» : «وأخذت الدّرج» .. وفى «ص» : «وأخذت منه العيداق».

(٤) فى «ص» : «فبينا أنا على ذلك إذ غلبنى النوم».

(٥) ما بين المعقوفتين من عندنا. وفى «ص» : «فناولته العيداق».

(٦) فى «ص» : «ثم ذهب ينشره ، فقلت : ما فيه شىء ، فقال لى : يا سعيد ، ما الخبر؟ فأخبرته بما كان».

(٧) من هنا إلى قوله : «وتغير المكان جميعه» عن «م» وساقط من «ص».

٤١٤

وعن أبى الحسن علىّ بن أحمد بن محمد البغدادى قال : سمعت شعيب ابن الليث يقول : قدمت المدينة مع أبى لزيارة الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد انقضاء الحج ، فأهدى مالك بن أنس لأبى طبقا من تمر ، فأهدى إليه أبى ألف دينار ، وكانت حجته سنة ١٣٣ ه‍ ، وسمع فى تلك السنة من نافع مولى ابن عمر (١) ، وقال : كان عبد الله بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمى يطلب بنى أمية ـ لمّا آل إليه الأمر ـ للقتل ، قال : فدخلت مصر فى حالة رثّة من جهة الملبس والحال ، ومعى هميان (٢) فيه مال على وسطى ، فدخلت إلى مجلس الليث وهو يحدّث ، فسمعت كلامه إلى أن قام من مجلسه ، فلما قام خرجت أنا ، فلمحنى الليث وتبعنى خادم وقال : اجلس حتى أخرج إليك ، فجلست ، فلما خرج ناولنى صرّة فيها مائة دينار وقال : يقول لك مولاى : أصلح بهذه حالك ولمّ شعثك. قال : فأخرجت الهميان من حزّتى (٣) وقلت : أنا فى غنى عنها ، ولكن أريد أن تستأذن لى على الشيخ. قال : فاستأذن ، فأذن لى ، فدخلت عليه ، فأخبرته أنّى لست محتاجا إلى مال ، واعتذرت إليه فى ردّها ، وأخبرته بما معى من المال ، فقال : هذه صلة وليست بصدقة. فقلت (٤) : أكره أن أعوّد نفسى عادة وأنا فى غنى عنها. فقال : ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممّن تراه مستحقّا لها ، فلم يزل بى حتى أخذتها وفرّقتها على جماعة. فانظر إلى كرمه ـ رحمه الله ـ فى حال الضّيق والسّعة.

__________________

(١) هو : نافع المدنى ، أبو عبد الله ، من أئمة التابعين بالمدينة ، كان علّامة فى فقه الدين ، كثير الرواية للحديث ، ثقة ، لا يعرف له خطأ فى جميع ما رواه. وهو ديلمىّ الأصل ، مجهول النّسب ، أصابه عبد الله بن عمر صغيرا فى بعض مغازيه ، ونشأ فى المدينة. وأرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلم أهلها السّنن. وكانت وفاته سنة ١١٧ ه‍.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٨ ص ٥ و ٦ ، وطبقات الحفاظ ص ٤٧ ترجمة رقم ٩٠ ، ووفيات الأعيان ج ٥ ص ٣٦٧ و ٣٦٨ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٩٩ و ١٠٠ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٤٦٠ و ٤٦١].

(٢) الهميان : كيس للنفقة يشدّ فى الوسط.

(٣) الحزّة : حجز السروال (الجيب).

(٤) فى «م» : «فقال» وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

٤١٥

وكان الليث يسكن بالحمراء ، وكان له مسجد هناك بجانب داره ، وقد خرب المسجد ، وخربت داره ، وتغيّر المكان جميعه (١).

وروى الفتح بن محمود قال : [حدثنى أبى ، قال](٢) : بنى الليث ابن سعد دارا [بقرقشندة بالريف] ، فهدمها ابن رفاعة [أمير مصر ، وهو ابن عمه](٣) فى الليل عنادا له ، ثم بناها ثانيا ، فهدمها أيضا ، فلما كان فى الثالثة أتاه آت فى منامه فقال : قم يا ليث فاسمع : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)(٤) فلمّا أصبح إذا بابن رفاعة قد لحقه الفالج (٥) ومات بعد ذلك (٦).

وقال محمد بن وهب : سمعت الليث يقول : إنى لأعرف (٧) رجلا لم يأت لله محرّما قط. قال : فعلمنا أنه أراد نفسه ، لأنّ أحدا لا يعلم هذا من أحد.

وروى محمد قال (٨) : جالست اللّيث بن سعد ، وشهدت جنازته مع أبى ، فما رأيت جنازة قط أعظم منها ولا أكثر خلقا ، ورأيت الناس وعليهم الكآبة والحزن وهم يعزّون (٩) بعضهم بعضا ويبكون ، فقلت لأبى : يا أبى ،

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» والمشار إليه فى ص ٤١٤ ، الهامش (رقم ٧).

(٢) ما بين المعقوفتين عن «ص» ولم يرد فى «م» فى الموضعين.

(٣) ما بين المعقوفتين عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٤) سورة القصص ـ الآيتان ٥ و ٦.

(٥) الفالج : شلل يصيب أحد شقّى الجسم طولا.

(٦) قوله : «بعد ذلك» عن «ص».

(٧) فى «م» : «لأعلم».

(٨) فى «م» : «وقال محمد بن وهب».

(٩) فى «ص» : «والناس يعزون».

٤١٦

كأنّ كلّ واحد من الناس صاحب الجنازة (١). فقال : يا بنىّ ، كان عالما كريما ، عزيز العقل (٢) ، حسن الفعل ، كثير الأفضال ، لا يرى مثله أبدا.

ولمّا دفن سمع الناس قائلا يقول :

قد مضى الليث فلا ليث لكم

ومضى العلم جميعا وقبر (٣)

ولد الليث بن سعد رضى الله عنه فى سنة ٩٤ ه‍ ، ومات فى ليلة الجمعة منتصف شهر رمضان المكرم فى سنة ١٧٥ ه‍.

ويحكى أنّ امرأة جاءت بإناء صغير تطلب فيه من عسل النحل (٤) ، فأمر أن يدفع لها زقّا مملوءا (٥) ، فقيل له فى ذلك ، فقال : طلبت على قدرها ودفعنا لها على قدرنا.

وقيل : إنّ غلّة ضياعه وأملاكه بمصر كانت فى كل سنة ثمانين ألف دينار ، وما وجبت عليه زكاة قط (٦).

انظر (٧) إلى ما قال بعضهم فى معنى ذلك شعرا :

ولو نلت الّذى يبغيه قلبى

لوسّعت المعاش على العباد

وما وجبت علىّ زكاة يوم

فهل تجب الزّكاة على جواد؟

__________________

(١) فى «م» : «فقلت لأبى : هذا كأنّ منهم صاحب الجنازة».

(٢) فى «ص» : «حسن العقل».

(٣) من قوله : «ولمّا دفن» إلى هنا عن «م» وساقط من «ص». والشطرة الثانية من البيت فى حسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠٢ : «ومضى العلم غريبا وقبر».

(٤) فى «ص» : «جاءته ومعها سكرّجة فطلبت عسل نحل».

(٥) فى «ص» : «مملوءا عسلا».

(٦) فى «ص» : «ولم تجب عليه فيها زكاة». وذلك لأن الحول كان لا ينقضى عنه حتى ينفقها ويتصدّق بها.

(٧) من هنا إلى قوله : «بدينارين» عن «م» وساقط من «ص».

٤١٧

وعن عبد الله بن محمد قال : سمعت منصور بن عمّار يقول : لمّا مرض (١) ابن لهيعة مرضه الذي مات فيه دخل عليه الليث بن سعد فقال : ما تشتكى؟ قال : الدّين. قال : كم عليك؟ قال : ألف دينار. قال : فدعاه الليث وأعطاه إيّاها. ولى ابن لهيعة القضاء ثلاثين سنة ما غرس ريحانة يشمها ، ولا بنى بناء.

وعن [أحد](٢) أتباع الليث قال : جاء سائل إلى الليث فأمر له بدينار ، فأبطأ الغلام ، فجاء سائل آخر فجعل يلح فى السؤال ، فقال له الأول : اسكت. فسمعه الليث فقال : ما لك وله؟ دعه يرزقه الله عزّ وجلّ. ثم أمر له بدينارين (٣).

* * *

ثم تأتى من مشهده إلى مشهد السيدة أم كلثوم ابنة القاسم بن محمد (٤) ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علّى زين العابدين (٥) بن الحسين بن علّى ابن أبى طالب ، رضوان الله عليهم أجمعين.

وإلى جانبها مشهد والدها القاسم بن محمد [بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ، صلوات الله على النبي محمد وعليهم أجمعين](٦) ومشهد السيد يحيى

__________________

(١) فى «م» : «مات». لا يصح معنى. وابن لهيعة هو : عبد الله بن عقبة بن لهيعة الحضرمى ، أبو عبد الرحمن ، الفقيه ، قاضى مصر ومسندها. روى عن عطاء ، وعمرو بن دينار ، والأعرج وغيرهم ، وروى عنه الثورى ، والأوزاعى ، وشعبة ، وماتوا قبله ، وقد وثقه أحمد وغيره. وكانت وفاته بمصر سنة ١٦٤ ه‍.

[انظر ترجمته فى حسن المحاضرة ج ١ ص ٣٠١ ، والولاة والقضاة ص ٣٦٨ ـ ٣٧٠].

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة يتطلبها السياق.

(٣) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٤) فى «م» : «القاسم الشيخ ابن محمد المأمون».

(٥) فى «م» : «على بن زين العابدين» وهذا خطأ ، فعلّى هذا هو نفسه زين العابدين ، وقد مرّ.

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

٤١٨

ابن زيد بن الحسين وقيل : بل هو يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علىّ أبى طالب ، المعروف بالمتوّج ، ويعرف بأخى نفيسة (١) رضوان الله عليهم أجمعين.

وبجواره مشهد السيد يحيى الشبيه بن القاسم الطيب الشيخ ابن محمد المأمون المذكور آنفا ، وهو مشهد كبير بناه أبو الخير وأقاربه (٢).

وتمشى على يمينك (٣) ـ وقيل : على يسارك ، وهو الصحيح ـ تجد تربة يقال : إن فيها أسماء بنت أبى بكر ، كذا مكتوب على قبرها ، ويحتمل أن تكون من ذرّيّة أسماء (٤) ، فإن أسماء لم تمت بمصر باتفاق. قال القضاعى فى كتاب الخطط : إنها أسماء بنت أبى بكر بن عبد العزيز بن مروان ، بنت أخى سيدنا عمر بن عبد العزيز ، الإمام العادل ، وهى التى وضعت المصحف بالجامع العتيق بمصر ، وهو باق على ما هو عليه (٥).

قبر الشيخ أبى الخير سلامة بن إسماعيل المقدسى (٦) :

وتخرج (٧) من التربة وأنت مستقبل [القبلة] تجد حومة بها قبر

__________________

(١) من قوله : «وقيل بل هو يحيى» إلى هنا ، عن «م» وساقط من «ص».

(٢) فى «ص» : «وفى التربة قبة بناها أبو الخير أحمد بن إسماعيل الخزرجى الطرابلسى ، تحتها قبور عدة أشراف».

(٣) فى «ص» : «تمشى على يسارك».

(٤) فى «ص» : «من بنات أسماء».

(٥) من قوله : «فإن أسماء ...» إلى هنا ، عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٦) العنوان من عندنا. [انظر ترجمته فى طبقات الشافعية ج ٧ ص ٩٩ ، والكواكب السيارة ص ٩٤].

(٧) فى «ص» : «تخرج تجد على يمينك» وما بين المعقوفتين من عندنا.

٤١٩

أبى الخير سلامة بن إسماعيل بن جمّاعة المقدسى الشافعى الضّرير ، كان فقيها عالما ، وله مصنفات فى الفقه ، وسمع الحديث ، وروى عن عبد العزيز بن محمد النصيبى الأنصارى ، وأبى الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسى.

ومن مرويّاته : عن معاوية ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يخطب : «اللهمّ لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين» الحديث.

وقال ابن الزبير : قال معاوية لأبى عامر : «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهّالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا» الحديث.

وتوفى أبو الخير سنة ٣٢٨ ه‍ ، وقبره بالقرب من قبر أبى العياش بن هاشم المقرئ (١).

* * *

[ثم] مشهد السيدين : الحسن والمحسن ابنى القاسم بن محمد المأمون المذكور آنفا (٢).

مشهد السيدة آمنة ابنة موسى الكاظم (٣) : ومشهدها على اليسار.

قال شقيق البلخى : حججت سنة من السنين ، فبينما أنا عند الكثيب الأحمر وإذا بشاب أصفر اللّون رقيق البشرة ومعه إناء يجعل فيه رملا ثم يصبّ فوق

__________________

(١) من قوله : «ومن مروياته ...» إلى هنا ، عن «م» وساقط من «ص».

(٢) فى «ص» : «القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب ، رضى الله عنهم» ، وما بين المعقوفتين من عندنا.

(٣) فى «ص» : «موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ... الخ».

٤٢٠