مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

قبر الشيخ أبى الغنائم كليب بن شريف (١) :

ثم تجىء إلى قبر الشيخ الوليّ كليب بن شريف (٢) الشامى ، يكنى أبا الغنائم ، كان من خيار مشايخ الشام وصلحائهم (٣). وله كرامات نقلت عنه واشتهرت.

حكى عن أبى محمد عبد الله بن شيبان (٤) ـ عرف بالرّدينى ـ أنه قال : «حججت سنة من السنين فى صحبة الفقيه «مجلى» وكان معنا الشيخ كليب ، فخرج على القافلة جماعة من «العربان» (٥) قال : فأشرفنا على الهلكة ، فصاح الفقيه «مجلى» : يا شيخ كليب أدركنا ، أما ترى ما نحن فيه؟ فقال : لا تخف (٦) ، فإنّ أمام القافلة من يحرسها (٧). فما برح كليب حتى جاءت جماعة إلى «مجلى» وقالوا : إن «العربان» لم يتعرضوا لأحد من الحجاج ، وهنّئوه بالسلامة. فشكرنا الله تعالى على ذلك.

فلما كان فى آخر الليل قلّ المأمن من القافلة ، واشتد الحر ، فقال الشيخ «مجلى» لإنسان : ائتنى بالشيخ كليب ، فأتاه به ، فقال له : انظر ما وقع

__________________

(١) العنوان من عندنا. وعدّه القرشى فى طبقة الفقهاء وفى طبقة الصوفية. [وانظر ترجمته فى كرامات الأولياء ج ٢ ص ٤٤٥ ، والكواكب السيارة ص ٢٠٥ ، وتحفة الأحباب ص ٣٣٩].

(٢) فى «م» و «ص» : «ابن شرف» .. وفى الكواكب السيارة وتحفة الأحباب : «شريف» مكان «شرف» ، وقال ابن عثمان : هو ابن أشرف. والأول أصح ـ يعنى : ابن شريف.

(٣) فى كرامات الأولياء وصفه النبهانى بالفقيه المصرى.

(٤) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «أبى محمد بن شيبان».

(٥) العربان لغة فى العربون ، والمراد بها هنا : الأعراب وهى غير عربية. [انظر المصباح المنير ماده : عرب].

(٦) فى «ص» : «لا تخف يا فقيه».

(٧) فى «م» : «فإن جبريل أمام القافلة».

٦٤١

بالناس من العطش! فقال : السّاعة يسقون. فما استتمّ كلامه (١) حتى أشرفوا على عين ماء ، فنزلوا وملئوا أسقيتهم ، ثم طلبوا العين فلم يجدوها (٢).

وتوفى كليب فى سنة ٥٢٢ ه‍.

* * *

قبر الشيخ عبد الله بن برّى (٣) :

ثم تجىء إلى قبر الشيخ عبد الله بن برّى بن عبد الجبّار بن برّى ، يكنى أبا محمد ، المقدسى الأصل ، المصرى الدّار (٤) ، كان نحويّا لغويّا شائع الذّكر ، مشهورا (٥) بالعلم ، لم يكن فى المصريين مثله. مات سنة ٥٨٢ ه‍ (٦).

قرأ كتاب سيبويه على أبى بكر بن عبد الملك الشّنترينى (٧) المقرئ النحوى. وتصدّر للإقراء بجامع عمرو بن العاص ، وكانت عنايته تامّة فى تصحيح

__________________

(١) استتم كلامه : أكمله وأتمّه.

(٢) من قوله : «حتى أشرفوا» إلى هنا عن تحفة السخاوى وكرامات الأولياء ـ وفى «م» : «فما استتم الشيخ كليب كلامه حتى نزلوا على ماء».

(٣) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى الأعلام ج ٤ ص ٧٣ و ٧٤ ، وإنباه الرواة على أنباه النحاة ج ٢ ص ١١٠ و ١١١ ، والنجوم الزاهرة ج ٦ ص ١٠٣ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ٢٧٣ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥٣٣ ، وإشارة التعيين ص ١٦١ ، ومعجم المؤلفين ج ٦ ص ٣٦ ، وتحفة الأحباب ص ٣٥٣ ، والكواكب السيارة ص ٢٢١ و ٢٢٢ ، وغير ذلك من المراجع].

(٤) فى الأعلام : «ولد ، ونشأ ، وتوفى بمصر».

(٥) فى «م» : «مشهور» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٦) تاريخ الوفاة ساقط من «م» وأثبتناه عن الأعلام ، وقد ولد سنة ٤٩٩ ه‍.

(٧) فى «م» : «الشنيرينى» تحريف ، والتصويب من معجم الأدباء ج ٤ ص ٢٨٩ ، ووفيات الأعيان ج ٣ ص ١٠٨].

٦٤٢

الكتب ، وكتب الحواشى عليها بالأحمر ، وله على صحاح الجوهرى حواش أخذ فيها عليه ، وشرح بعضه فيها ، وزيادات أخلّ بها ، ولو تمّت لكانت (١) عجيبة.

وكان مع علمه وغزارة فهمه ذا غفلة (٢) ، وسلامة صدر ، وكان لا يهتم بهيئته (٣).

يحكى المصريون عنه حكايات عجيبة ، منها : أنه اشترى لحما وخبزا وبيضا وحطبا وحمل الجميع فى كمّه ، فلما جاء (٤) إلى منزله وجد أهله قد ذهبوا لبعض شأنهم والباب مغلقا ، فتقدم إلى كوّة (٥) هناك تنفذ إلى داره ، فجعل يلقى منها الشيء بعد الشيء ، ولم يفكر فى تكسير البيض وأكل اللّحم والخبز إذا خلت به الدار.

وحكى أحدهم عنه أنه اشترى عنبا وجعله فى كمّه (٦) ، وجعل عليه المحفضة (٧) حتى جرى ماء العنب على رجليه ، فقال لى : أتحسّ المطر؟! فقلت : لا!

فقال : فما الذي ينقط على رجلى؟ فتأمّلته فإذا هو من العنب ، فأخبرته فخجل واستحى.

ويحكون عنه من الحذق (٨) وحسن الجواب عمّا يسأل عنه ، ومواضع المسائل من كتب العلماء ممّا يتعجّب منه ، فسبحان الجامع بين الأضداد!

__________________

(١) فى «م» : «كانت».

(٢) يعنى : فى غير العلم.

(٣) فى «م» : «وكان وسخ الثوب ، زرىّ الهيئة».

(٤) فى «م» : «وجعل يحادثنى ، وهو جاء ...».

(٥) الكوّة : الفتحة فى الجدار (كالنافذة والطاقة).

(٦) وردت هذه العبارة فى «م» هكذا : «وحكى أنه عنبا وجعل فى كمه» وهى محرفة وسقط منها الفعل (اشترى).

(٧) المحفضة : وعاء المتاع ، كالغرارة ونحوها.

(٨) الحذق : المهارة.

٦٤٣

وكان إليه التصفح (١) فى ديوان الإنشاء ، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملك من ملوك النواحى إلّا بعد أن يتصفحه ويصلح ما فيه من خلل خفّى ، كما كان يفعل ابن بابشاذ (٢).

وكان مقيما بمعرفة كتاب «سيبويه» (٣) وعلله ، قيّما باللغة والشواهد.

وقرأ عليه جماعة ، منهم : أبو العباس أحمد بن الحطيئة ، وكان ثقة ، وأبو موسى الجزولى (٤) من تلامذته ، وأجاز جماعة ممّن أدرك (٥) عصره من المسلمين. قال الشيخ شمس الدين محمد بن خلّكان : قرأت ذلك بخطّ أحمد ابن الجوهرى عن خطّ حسن بن عبد الباقى الصّقلّى ، عنه.

وله مقدمة سمّاها «اللباب» (٦) ، وحواشيه على الصّحاح فى مجلّدين ، وصل فيه إلى «قوش» من باب الشين المعجمة ، وهو ربع الكتاب ، وكمّل عليه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأنصارى البسطى إلى آخر الكتاب ، فجاءت التكملة فى ستة (٧) مجلدات ، فصار جملة المصنّف ثمانية (٨) مجلدات ، واسم هذا الكتاب : «التنبيه والإيضاح عمّا وقع فى كتاب الصّحاح» (٩). وهو جيّد للغاية.

__________________

(١) أى : القراءة والمراجعة.

(٢) فى «م» : «كما كان ابن بابشاد». وقد سقطت هذه الفقرة من الناسخ سهوا كما يوحى بذلك السياق ، وقد أثبتناها من «الوفيات» وهو المصدر الذي استمد منه الكاتب مادته [انظر المرجع المذكور ج ٣ ص ١٠٨].

(٣) فى المصدر السابق : «وكان عارفا بكتاب سيبويه».

(٤) هكذا فى الوفيات .. وفى «م» : «والجزولى».

(٥) فى «م» : «وأجاز لجماعة من أدرك» فيها تحريف.

(٦) فى كشف الظنون (ص ٧٤١) أن اسمه : «اللباب على ابن الخشّاب» ، وهو ردّ على حاشية ابن الخشاب على درّة الغواص [انظر إنباه الرواة ص ١١١ ـ حاشية].

(٧) فى «م» : «ست» لا تصح لغة.

(٨) فى «م» : «ثمان» مثل سابقتها.

(٩) هكذا الاسم فى معجم المؤلفين ، وإشارة التعيين ، وغيرهما .. وفى «م» : «التنبّه والإفصاح عمّا وقع فى حواشى الصحاح». وما أثبتناه قاله القفطىّ وغيره.

٦٤٤

وقال ابن برّى : كان سبب تعلّمى للنحو بيت من الشّعر (١) :

تكاد يدى تندى إذا ما لمستها

وينبت فى أطرافها الورق الخضر (٢)

فقيل له : وكيف ذلك؟ فذكر (٣) أنه رأى فيما يراه النائم أنّه ولد له [ولد](٤) كأنّ فى يده رمحا طويلا فى رأسه قنديل ، وقد علّقه فى صخرة بيت (٥) المقدس ، فلمّا أصبح أخبر برؤياه المعبّر (٦) ، فقيل له : إنك ترزق ابنا يرفع ذكره بعلم يتعلّمه.

فلما رزقنى وبلغ خمس عشرة سنة (٧) حضر إلى دكّانه رجل يعرف بظافر الحدّاد ، ورجل يعرف بابن أبى حصينة ، وكلاهما مشهور بالأدب ، [وكان يقرأ فى قصيدة فلما وصل](٨) إلى البيت المذكور كسر الرّاء من «ورق» فضحك الرجلان عليه للحنه.

فتذكرت تفسير منامى (٩) ، لعلّ الله يرفع به ذكرى ، فقلت له : أىّ العلوم تريد أن تقرأ؟ فقال لى : أقرأ فى النحو حتى أتعلّم (١٠).

قال : فكنت أقرأ على الشيخ أبى بكر محمد بن عبد الملك بن السراج ـ رحمه الله ـ ثم أجىء فأعلّمه (١١) (انتهى).

__________________

(١) جاء هذا البيت متداخلا مع النثر وكأنه منه.

(٢) تندى : تبتل. والنّدى كناية عن الكرم والسّخاء.

(٣) فى «م» : «فقال : ذكر لى».

(٤) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لم ترد فى «م».

(٥) فى «م» : «البيت».

(٦) المعبّر : الذي يفسر الرؤيا.

(٧) فى «م» : «وبلغت خمسة عشر سنة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٨) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا لاستقامة المعنى. ولم يرد فى «م».

(٩) فى «م» : «فقال : يا بنىّ ، منتظر تفسير منامى».

(١٠) فى «م» : «اقرأ فى النحو حتى تعلمنى».

(١١) ذكر ابن الزيات عنه حكايات ظريفة ولم ترد هنا ، [انظر الكواكب السيارة ص ٢٢١ و ٢٢٢].

٦٤٥

قبر خلف الصرفندى (١) :

ثم تأتى إلى تربة الشافعى ـ رضى الله عنه ـ تجد عند الحائط البرّانى قبر خلف الصّرفندى (٢) ـ رحمه الله تعالى.

كان رجلا صالحا ، مجاب الدّعوة ، والدّعاء عنده مجاب إن شاء الله تعالى.

وتحت رجليه قبر شيخه ، رئى فى المنام وهو يقول : زوروا شيخى ، فما أنا شىء (٣) إلّا به.

وهناك قبر الشيخ «مقدام» دليل الحاج. ومنه إلى قبر صاحب الرّمّانة.

* * *

قبر الشيخ عبد الرّحمن المصينى (٤) المقرئ.

ثم تجىء إلى قبر الشيخ الولىّ أبى عبد الله عبد الرحمن المصينى (٥) المقرئ.

أحد القرّاء الفضلاء (٦) ، مشهور بالعلم والفضل ، سمع الكثير [من الأحاديث](٧) وحدّث عن جماعة ، كأبى (٨) عبد العزيز بن عمر بن أحمد النّصيبينى ، وغيره.

__________________

(١) العنوان من عندنا. وقال عنه ابن الجباس : هو خلف بن عبد الله الصرفندى ، كان من العلماء الأخيار ، وكانوا ينقلون أنه من جملة من أرادوا نقله عند بناء حائط الإمام الشافعى ، فسمعوا من جانب قبره قائلا يقول : أتخرجون رجلا أن يقول ربى الله. وكان قد عمّر عمرا طويلا.

[انظر المصدر السابق ص ٢١٦].

(٢) فى «ص» : «البحر فندى» تحريف.

(٣) فى «ص» : «فأنا ما أنا شىء». وفى الكواكب السيارة : «زوروا شيخى قبلى ..».

(٤) انظر ترجمته فى الكواكب السيارة ص ٢١٧ و ٢١٨ ، وتحفة الأحباب ص ٣٤٩.

(٥) فى «م» : «عبد الرحمن بن أبى عبد الله محمد بن أحمد المصينى» وفى «ص» : «المسينى» بالسين ، والمشهور بالصاد ، وما أثبتناه عن المصدرين السابقين وهو الصحيح ، قاله القرشى.

(٦) فى «ص» : «أحد عبّاد الله الصالحين».

(٧) ما بين المعقوفتين عن التحفة.

(٨) من هنا إلى قوله «ورجع» عن «م» وساقط من «ص».

٦٤٦

وروى عنه أبو على الحسن بن محمد الحسين الجيليّ ، وأبو عمرو عثمان ابن أبى نصر بن سلامة المقرئ ، وغيرهما من العلماء.

وهو معروف فى الجبّانة بالدّرياق ، وأنّ من زار قبره حفظ من ذلك اليوم الذي يزوره فيه إلى مثله.

وقيل عنه : إنه قرأ على رجل ببلاد المغرب علما من العلوم ، ثم جاء إلى مصر فوجد فى مقلمته قلما من أقلام الشيخ ، فرجع ثانيا إلى بلاد المغرب ، حتى دفع القلم إلى صاحبه ورجع (١).

وكان الناس يقصدونه فى بيته ويتبرّكون بدعائه.

وحكى ولده (٢) قال : كان فى جوارنا رجل قصّاب ، فاشترى كبشا ، فمرض الكبش فى تلك الليلة ، فأيقن الجزّار بموته ، فقال : اللهم إنّى أشهدك إن عوفى هذا الكبش دفعت رأسه وجلده للشيخ عبد الرحمن ، فأصبح الكبش سالما سليما ، فذبحه الجزّار وجاء بجلده إلى الشيخ ، فقال له : وأين الرأس؟

فقال : نأتى (٣) به الساعة. فأتى به ، فقال له : أنت جارى منذ سنين ، وأريد أن تكتم عنى ما جرى بينى وبينك. فلم يتحدث بذلك حتى توفى الشيخ (٤).

وحكى (٥) عنه : أنّ رجلا كان يعمل على دابّة ، فوقعت منه فى بعض الأيام ، فقال : إن قامت دابّتى هذه فأجرتها فى هذا اليوم للشيخ عبد الرحمن.

فقامت سويّة (٦) ، فلم يذهب آخر النهار بشىء للشيخ ، فلما كان اليوم الثانى

__________________

(١) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٢) فى الكواكب السيارة : «حكى ولده عبد الله».

(٣) فى «ص» : «آتيك».

(٤) فى «ص» : «فلم يتحدث حتى مات فى سنة ثمان وخمسين ومائة» وهذا خطأ ، والصواب : «سنة ثمان وخمسين وخمسمائة». وقد وردت هذه الحكاية فى «ص» باختلاف يسير فى ألفاظها دون المعانى».

(٥) من هنا إلى آخر الترجمة عن «م» ولم يرد فى «ص».

(٦) فى «م» : «شوية» تحريف.

٦٤٧

وقفت منه ، فقال : اللهم إن قامت دابّتى دفعت أجرتها اليوم للشيخ. فلما كان اليوم الثالث وقفت أيضا ، فاستغاث بالشيخ ، وعاهد الله أن يذهب بالأجرة على العادة ، فلما كان وقت المساء أخذ الأجرة المتحصلة فى الأيام الثلاثة وجاء إلى باب الشيخ ، فطرق الباب ، فقال له الشيخ : لم لم تأت (١) من أول يوم؟ خذ ما جئت به واذهب ، بارك الله لك فيه!

فاستجاب الله تعالى من الشيخ ، وبارك له فى تلك الدراهم إلى أن صارت أضعافا مضاعفة. وكانت وفاته سنة ٥٥٨ ه‍.

* * *

قبر الشيخ أبى الفتح بن بابشاذ (٢) :

ثم تسلك من جهة القبلة إلى قبر الشيخ أبى الفتح بن بابشاذ (٣) داود بن سليمان الجوهرى الواعظ ، رحمة الله عليه ، كان من كبار العلماء المشهورين ، وسمع الحديث الكثير ، وحدّث عن أبى مسلم محمد بن أحمد الماذرائى (٤) ، وإسماعيل بن الزعفرانى ، ومن فى طبقتهما (٥). وسمع منه جماعة كثيرون. وكانت وفاته بعد الخمسمائة.

__________________

(١) فى «م» : «لم لم تأتى» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) العنوان من عندنا.

(٣) فى «ص» : «ثم تجىء من القبلة تجد قبر الشيخ ابن بابشاذ».

(٤) فى «م» : «الماردانى».

(٥) فى «م» و «ص» : «طبقتهم».

٦٤٨

قبر الأمير أحمد بن طولون (١) :

بين مشهد السيدة [نفيسة](٢) صلوات الله على جدها وأبيها ، وعلى سائر أقاربها وذرّيتها ، وبينها وبين وادى موسى عليه السلام تربة صغيرة بين الجدران (٣) بها قبر أبى العباس أحمد بن طولون أمير مصر. [وهو أبو العباس أحمد بن طولون التركى ، أمير الشام والثغور. ولّاه المعتز بالله مصر ، ثم استولى على دمشق ، والشام ، وأنطاكية ، والثغور فى مدة شغل الموفق بن المتوكل بحرب صاحب الزنج](٤).

وكان أحمد عادلا ، جوادا ، شجاعا ، متواضعا ، حسن السيرة ، صادق العزيمة (٥) ، يباشر الأمور بنفسه ، ويعمر البلاد ، ويتفقد أحوال رعاياه (٦) ، ويفحص عن أخبارهم ، ويحب أهل العلم ، ويدنى مجالسهم (٧) ، وكانت له مائدة يحضرها كل يوم العامّ والخاصّ ، ويحضرها الأكابر والعلماء ، وسائر الناس.

وكان كثير الأفضال ، وافر الإنعام ، وكان له فى كل يوم صدقة ، وفى كل شهر ألف دينار للصّدقة ، فقال له وكيله : إنى تأتينى المرأة وعليها الإزار ، وفى يدها خاتم الذهب ، وتطلب منى ، أفأعطيها (٨)؟ فقال له : من مدّ يده إليك فأعطه (٩).

__________________

(١) [انظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج ١ ص ١٧٣ و ١٧٤ ، والولاة والقضاة ص ٢١٢ وما بعدها ، وانظر الكواكب السيارة ص ٢٧٦ ـ ٢٧٩.

(٢) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٣) فى «ص» : «بين الخندق والجدران».

(٤) ما بين المعقوفتين عن «م» وساقط من «ص».

(٥) قوله : «صادق العزيمة» عن «م».

(٦) فى «ص» : «ويتفقد رعاياه» وسقط منها قوله : «ويعمر البلاد» فهو عن «م».

(٧) فى «م» : «بحالتهم» مكان «مجالسهم» تحريف.

(٨) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فأعطها» خطأ.

(٩) فى «م» : «أعطه».

٦٤٩

وبنى (١) الجامع المنسوب إليه بظاهر القاهرة. قال القضاعى فى كتاب الخطط : شرع فى عمارته سنة ٢٦٤ ه‍ ، وأنفق على عمارته مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار (٢) ، وكانت نفقته فى كل يوم ألف دينار.

وحسّن له بعض التجار التجارة ، فدفع له خمسين ألف دينار ، فرأى فى النوم كأنّه يمشّش عظما (٣) فقال له المعبّر (٤) : لقد سعت (٥) همّة مولانا بما لا يشبه خطره (٦). فأخذ الذّهب من التّاجر وتصدّق به.

وكان صحيح الإسلام [برغم](٧) أنه كان طائش السّيف ، سفّاكا للدّماء. قال القضاعى : أحصى من قتلهم (٨) جهرا فكان جملتهم مع من مات [فى حبسه](٩) ثمانية عشر ألفا.

وعن محمد بن على الماذرائى (١٠) قال : كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون فأرى شيخا يلازم القبر (١١) ، ثم إنّى لم أره مدّة ، ثم رأيته بعد ذلك ، فسألته عن ذلك ، فقال : كان له علينا بعض العدل ـ إن لم يكن الكل ، فأحببت أن أصله بالقراءة. قلت : فلم انقطعت؟ قال : رأيته فى النوم وهو يقول : أحبّ ألّا تقرأ عندى ، فما تمرّ بى آية إلّا قرعت بها وقيل لى : أما سمعت هذه؟!

__________________

(١) من هنا إلى قوله : «سبعة عشر يوما» ـ بعد ذلك ـ عن «م» وساقط من «ص».

(٢) هكذا فى «م» والوفيات ، والتحفة [انظر تحفة الأحباب ص ٩٣].

(٣) فى «م» : «يمشمش» عامية ، ومعنى يمشش العظم ، أى : يستخرج منه المخ.

(٤) فى «م» : «العابر» لا تصح. والمعبر : مفسّر الأحلام. وقد مرت.

(٥) فى «م» : «سمعت» تحريف.

(٦) أى : بما لا يناسب مكانته.

(٧) ما بين المعقوفتين زيادة لم ترد فى «م».

(٨) فى «م» : «قتله» تحريف.

(٩) ما بين المعقوفتين عن الوفيات.

(١٠) فى «م» : «الماردانى». سبق التعليق عليها.

(١١) فى الكواكب السيارة : «شيخا عند قبره يقرأ القرآن ملازما للقبر».

٦٥٠

وكان أحمد بن طولون من أطيب الناس صوتا بالقراءة ، فإنه حفظ القرآن وأتقنه ، وطلب العلم ، وتقلبت (١) به الأحوال إلى أن ملك مصر وعمره أربعون [عاما](٢) سنة ٢٥٣ ه‍ فملكها بضع عشرة سنة (٣). وخلّف من الذهب الأحمر عشرة آلاف ألف دينار ، ومن المماليك أربعة وعشرين (٤) ألف مملوك ، ومن العبيد خمسة وأربعين ألفا (٥) ، ومن الأحرار أصحاب الجرايات الخدمة (٦) سبعة آلاف وثلاثمائة ، ومن البغال الملونة ألفا (٧) وستمائة ، ومن الجمال النفريّة ألفين ومائة. وخلّف ثلاثة وثلاثين (٨) ولدا ذكرا وأنثى.

وولد بسامرّاء فى شهر رمضان سنة ٢٢٠ ه‍ ، وكان أبوه مملوكا ، أهداه نوح بن أسد السّامانّى (٩) إلى المأمون فى جملة رقيق. ومات طولون سنة ٢٤٠ ه‍. ويقال : إنّ طولون تبنّى (١٠) أحمد ، ولم يكن ابنه. وكان طولون تركيّا من جنس ظفر عز (١١).

وكان أحمد قد سأل الوزير عبيد الله بن خاقان (١٢) ، فوقّع له برزقه على

__________________

(١) فى «م» : «ونقلت» تحريف.

(٢) هكذا فى «م» .. وفى الوفيات : «دخل مصر سنة ٢٥٤ ه‍» ، وعلى هذا يكون عمره حينئذ خمسة وثلاثين عاما.

(٣) فى «م» : «بضعة عشر سنة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٤) فى «م» : «وعشرون» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه.

(٥) فى «م» : «وألف» لا تصح.

(٦) فى «م» : «والخدامة» تحريف ، والجرايات : الوكالات.

(٧) فى «م» : «ألف» لا تصح.

(٨) فى «م» : «وثلاثون» خطأ.

(٩) هو نوح بن أسد السّامانى ، عامل بخارى.

[انظر الوفيات ج ١ ص ١٧٣].

(١٠) فى «م» : «يكنا» تحريف. والتصويب من المصدر السابق.

(١١) هكذا فى «م» ولم أقف عليه.

(١٢) له ترجمة فى الأعلام ، واسمه عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وكانت وفاته سنة ٢٦٣ ه‍.

٦٥١

الثغر ، وكانت أمّه مقيمة ، فبلغه أنها باكية ، فرجع إليها مع رفقة (١) ، فخرج عليهم جماعة من الأعراب ، فقاتلهم أشدّ قتال وانتصر عليهم ، وخلّص من أيديهم أموالا حملها إلى المستعين (٢) ، فحسن مكانه عنده ، ووصله بجملة من المال ، ووهب له جارية ، هى أم ابنه «خمارويه» ، فلما خلع الأتراك المستعين أمروه بالرحيل (٣) إلى «واسط» وقالوا له : من تختار أن يكون فى صحبتك؟

فقال : أحمد بن طولون. فبعثوه ، فأحسن صحبته ، ثم كتب الأتراك إلى ابن طولون بقتل المستعين ، وقالوا : إن قتلته ولّيناك «واسطا» (٤). فقال : لا يرانى الله أقتل خليفة بايعته. فأنفذوا إلى المستعين سعيدا الحاجب فقتله ، وحمل رأسه إلى بغداد ، فدفن ابن طولون جثّته هناك بعد أن غسّلها ، وعاد إلى «سرّ من رأى» فزادت محبّته عند الأتراك ، واشتهر بحسن المذهب ، فولّوه مصر نيابة عن أميرها ، فلما دخلها قال : غاية ما وعدت على قتل المستعين ولاية «واسط» ، فتركت ذلك لأجل الله تعالى فولّانى مصر والشام.

وحكى بعض المتصوّفة أنه رأى أحمد بن طولون فى النوم بحالة حسنة وهو يقول : ما ينبغى لمن سكن الدنيا أن يحقر حسنة فيدفعها ، ولا سيئة فيأتيها ، عدل بى عن النار إلى الجنة بتثبيتى (٥) على متظلّم عىّ اللّسان ، شديد التّهيّب ، فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجّته ، وتقدمت بإنصافه ، وما فى الآخرة ـ على رؤساء الدنيا ـ أشدّ من الحجاب لملتمس الإنصاف.

وتوفى فى شهر ذى القعدة سنة ٢٧٠ ه‍. وقام بعده ولده «خمارويه».

وكان دخوله إلى دمشق لمّا غلب عليها وسار إليها من مصر فى سنة ٢٦٤ ه

__________________

(١) الرفقة : الجماعة المترافقون.

(٢) هو الخليفة العباسى أحمد بن محمد.

(٣) فى «م» : «فاحددوا» مكان «فأمروه بالرحيل» ، تحريف.

(٤) فى «م» : «واسط».

(٥) أى : بصبرى.

٦٥٢

بعد موت وال كان بها يقال له «أماجور» (١) ، وأخذ له أموالا (٢) عظيمة ، وفتحها عنوة. ثم سار إلى «طرسوس» ثم إلى «دمشق» فى هذه السّنة ، فى آخرها ، وخرج منها حتى بلغ الرّقة فى طلب غلام له هرب منه يقال له «لؤلؤ» خرج إلى أحمد الموفّق ، فتوفى بها فى التاريخ (٣) المذكور أعلاه ، وولايته ستّ عشرة سنة (٤) ، وشهر ، وسبعة عشر يوما (٥).

روى أبو الحسن الصّفّار قال : كنّا عند الشيخ الزاهد الحسن بن سفيان ، رحمه الله ، وقد اجتمع عنده طائفة من أهل الفضل ، ارتحلوا إليه من أطباق الأرض والبلاد البعيدة ، مختلفين إلى مجلسه فى الحديث وطلبه ، فقال : اسمعوا ما أقول لكم قبل أن أشرع فى الإملاء : قد علمنا أنكم طائفة من أبناء النّعم ، وأنكم (٦) هجرتم أوطانكم ، وفارقتم دياركم وأصحابكم ، وإنّى محدّثكم بما (٧) تحمّلته فى طلب العلم من المشقة والجهد ، وما كشف الله عنى وعن أصحابى ببركة العلم وصفو العقيدة ، ومن الضيق والضّنك.

واعلموا أنّى كنت فى عنفوان (٨) شبابى ، وارتحلت من وطنى لطلب العلم واستملاء الحديث ، فاتّفق حلولى (٩) بأقصى المغرب ، وحلولى بمصر فى تسعة نفر من أصحابى من طلبة العلم ، وكنا نختلف إلى شيخ كان أرفع أهل عصره فى العلم منزلة ، وأرواهم للحديث ، وأعلاهم إسنادا ، وكان يملى فى كل

__________________

(١) هكذا فى «م» ، ولعله محرّف من «أنوجور» التركى.

(٢) فى «م» : «مالا».

(٣) فى «م» : «فى تاريخ».

(٤) فى «م» : «ستة عشر سنة» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٥) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» والمشار إليه فى ص ٦٥٠ الهامش رقم (١).

(٦) فى «م» : «وأهل» مكان «وأنكم» تحريف.

(٧) فى «م» : «ما».

(٨) فى «م» : «عنوان» تحريف.

(٩) فى «م» : «حصولى» تحريف.

٦٥٣

يوم مقدارا يسيرا من الحديث حتى طالت المدّة ، وخفّت النفقة ، ودعتنا الضرورة إلى بيع ما صحبنا من ثوب وغيره ، إلى أن لم يبق معنا ما نتقوّت به يوما واحدا ، فطوينا ثلاثة أيام جوعا بشرّ حال ، ولم يبق مع أحدنا رمق ، وأصبحنا اليوم الرابع بحيث لا قوّة لأحد منّا من الجهد والجوع ، وأحوجت الضرورة إلى كشف قناع الحشمة ، وبذل الوجه إلى السّؤال (١) ، فلم تسمح نفوسنا لذلك ، ولم تطب قلوبنا به ، وأنف كلّ منّا من ذلك ، والضرورة تحوج إلى السؤال (٢) ، فوقع اختيارنا على كتب رقاع باسم كلّ واحد ، فمن ارتفع اسمه منها كان هو القائم بالسّؤال ، وتحصّل القوت له ولأصحابه ، فارتفعت الرقعة التى باسمى ، فتحيرت فى أمرى (٣) ، وعدلت إلى زاوية من المسجد فصليت ركعتين ، وقويت الاعتقاد فيهما بالإخلاص ، ودعوت الله تعالى بأسمائه العظام وكلماته الرفيعة لكشف الضّرر وسياق الفرج ، فلم أفرغ من صلاتى حتى دخل مسجدنا شابّ حسن الوجه ، طيّب الرائحة ، نظيف الثياب ، يتبعه خادم ، وفى يده منديل ، فقال : من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعت رأسى من السّجدة وسلمت وقلت : ما تريد؟ وما حاجتك؟ فقال : إنّ الأمير أحمد بن طولون يقرئكم السّلام ويعتذر إليكم (٤) فى الغفلة عن تفقّد أحوالكم ، والتقصير الواقع فى رعاية حقوقكم ، وقد بعث بما يغنى نفقة الوقت ، وهو زائركم فى غد بنفسه ، معتذر بلطفه ، ثم وضع بين يدى كل واحد منّا صرّة فيها مائة دينار.

فعجبنا من ذلك وقلنا للشّابّ : ما القصّة؟ فقال : إنّى أحد خدّام أحمد ابن طولون الأمير ـ الذين هم (٥) الخاصّة ـ دخلت عليه فى يومى هذا مسلّما

__________________

(١) فى «م» : «السواد» ومعناها : عامة الناس.

(٢) فى «م» : «السواد».

(٣) فى «م» : «أمير» تحريف.

(٤) فى «م» : «إليه» لا يصح.

(٥) هكذا فى «م» .. والضمير «هم» يعود على الخدّام.

٦٥٤

فى جملة أصحابى ، فقال لنا : إنى أحبّ اليوم أن أخلو بنفسى. فانصرفنا ، فلما عدت لم أستقرّ حتى أتانى رسوله مسرعا فى طلبى ، فوجدته منفردا فى بيت ، واضعا يمينه على خاصرته لوجع داخل أحشائه ، فقال لى : أتعرف ابن سفيان وأصحابه؟ قلت : لا. قال : فاقصد المحلّة الفلانية والمسجد الفلانى واحمل هذه الصّرر إليه وإلى أصحابه ، فإنهم منذ ثلاثة أيّام جياع بحالة ضعيفة ، ومهّد عذرى وعرّفهم أنّى الغداة زائرهم.

فسألته عن السبب الذي دعاه [إلى](١) هذا. فقال : دخلت إلى هذا البيت منفردا على أنى أستريح ساعة ، فما هدأت عينى حتى رأيت فى المنام فارسا فى الهواء (٢) متمكّنا تمكّن من يمشى على وجه الأرض ، وبيده رمح وقصبة ، فجعلت أنظر إليه متعجبا حتى نزل إلى باب البيت ، ووضع سافلة الرمح على خاصرتى وقال لى : قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه ، قم فأدركهم فإنهم منذ ثلاثة أيام جياع فى المسجد الفلانى.

فقلت له : من أنت؟ قال : أنا «رضوان» خازن الجنان ، وقد سافل رمحه خاصرتى ، وأصابنى من ذلك وجع شديد ، لا حركة لى معه. ثم قال لى : عجّل السّاعة إيصال هذا المال إليهم ليزول عنّى هذا الوجع.

قال الحسن : فتعجبنا من ذلك ، وشكرنا الله تعالى ، وأصلحنا أمورنا ، ولم تطب نفوسنا بالمقام حتى يزورنا الأمير ، ويطّلع الناس على ذلك من أسرارنا ، فيكون ذلك سبب ارتفاع اسم ، ويتصل بذلك نوع (٣) من الرّياء والسّمعة ، فخرجنا تلك الليلة من مصر ، وأصبح كلّ واحد منّا واحد عصره ورفيع دهره فى الفضل.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة من عندنا.

(٢) فى «م» : «الهوى».

(٣) فى «م» : «ويتصل من ذلك بنوع».

٦٥٥

فلما أصبح ابن طولون أتى إلى المسجد لزيارتنا وطلبنا ، فأخبر بخروجنا ، فأمر بابتياع تلك المحلة بأسرها ، وأوقفها على ذلك المنزل وعلى من ينزل فيه من الغرباء من أهل العلم والفضل [نفقة لهم ، حتى لا تختلّ أمورهم ، ولا يصيبهم من الخجل ما أصابنا](١).

وذلك كله من صفو الدّين وقوّته وصحة الاعتقاد.

* * *

قبر الشيخ عفّان بن سليمان الخياط (٢) :

قبر الشيخ عفان بن سليمان الخياط ـ رحمه الله تعالى ـ بفسطاط مصر ، فى تربة بها ، وقبره يزار ، والدّعاء عنده مستجاب. وكان له معروف للفقراء والمحتاجين ، وله وقف إلى الآن يطعم منه الحلوى وغير ذلك. ولم تعترض أحباسه كما اعترض غيرها مع قدم العهد بها (٣).

وهو أبو الحسن عفّان بن سليمان. [قيل : إنّ سبب غناه](٤) أنه رأى فى المنام هاتفا يقول له : يا عفّان ، اذهب إلى بغداد ليحصل لك الغنى (٥).

فلم يكترث بهذه الرّؤيا. ثم رأى رؤيا ثانية تدل على ذلك (٦) ، فقال حينئذ : تعيّن الذّهاب. فرحل إلى بغداد وجلس على دكّان خياط يخيط عنده (٧) ، فبقى عنده ستة أشهر ، ولم ير أثر ذلك المنام الذي رآه فى مصر (٨).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن «ص» ولم يرد فى «م».

(٢) [انظر ترجمته فى تحفة الأحباب ص ١٢٢ وما بعدها].

(٣) فى «م» : «فيها».

(٤) ما بين المعقوفتين عن «ص» وساقط من «م».

(٥) فى «ص» : «تمضى إلى بغداد تستغنى».

(٦) فى «ص» : «فرآه مرة وأخرى ، حتى رآه مرارا».

(٧) فى «م» : «ثم إنه سافر إلى بغداد وجلس عند خياط بأسوة الصنّاع».

(٨) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فلم ير لرؤياه أثرا ، فتغيّر قلبه».

٦٥٦

فتغيّر قلبه ، وضاق صدره ، وتغيّر حاله على معلّمه ، فقال له يوما : رأيتك تغيّرت عن الحالة ـ التى كنت عليها من الانبساط ـ أخبرنى ما بك؟!

قال : تغرّبت عن أهلى ووطنى بسبب منام رأيته ولم أر أثره! فقال له : وما رأيت؟ فأخبره بالمنام. فقال له المعلم : إنّما هى أضغاث أحلام ، والله إنّى أرى مثل رؤياك هذه سنين كثيرة ، أرى (١) هاتفا يقول لى : امض إلى الدّار الفلانية بمصر وخذ منها رزقك من المحل الفلانى فيها.

فلما قال المعلم لعفّان ذلك ، تأمّل عفان هذه الصّفة ، فإذا هى داره ، فودّع المعلم ورجع إلى مصر ، فحفر الموضع الذي ذكره المعلم ، فوجد فيه مالا كثيرا ، فاشترى الأملاك والرياع وعمل فيها (٢) ، وأعطى الفقراء والأرامل والمساكين ، وعمّر مسجدا عظيما يصلى فيه ، وعمل بجانب المسجد «تربة» لدفنه.

روى (٣) أنّ إماما كان بمسجده من عباد الله الصالحين ، ما وقف له فى يوم ، ولا سأل حاجة ، وما شرب من مائه قطّ ، ولا أكل عنده ولا عند أحد مطلقا ، فاتّفق أنّ الإمام (٤) أودع عنده رجل مالا فى صندوق ، قدره عشرة آلاف دينار وسافر إلى الحجاز ، وللإمام بنات ، فزوّج بعضهنّ (٥) ، فلما سمعت زوجته بوقوع العقد أخذت من المال المودع عند بعلها وجهّزت البنات ، فرآها وهى تجهّز ، فقال لها : من أين لك هذا المال الذي تصنعين به ما أرى؟ فقالت له : من وراثة (٦) ورثتها. فسكت الإمام.

__________________

(١) قوله «أرى» عن «ص».

(٢) فى «م» و «ص» : «فيهم» .. والرّياع : الأراضى الجيدة ، وهى عن «ص».

(٣) فى «م» : «وممّا نقل» .. وفى «ص» : «روى أنه كان له مسجد ، له إمام ، يصلى فيه».

(٤) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «وكان الإمام زاهدا عابدا ورعا ، ما استقضى حاجة قط». وقوله : «فاتفق أن الإمام» عن «ص» ولم يرد فى «م».

(٥) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «فخطب بعضهم منه فزوجهم» لا تصح لغة. والصواب «بعضهن» و «فزوجهن».

(٦) فى «م» : «وارثة».

٦٥٧

فلما رجع الحاجّ صاحب المال إلى الإمام وطلب وديعته ، فقال : بسم الله ، ثم دخل ليأتيه بالمال ، فلم يجد فى الصندوق شيئا! فقال لها : أين المال؟! قالت له : جهّزت به بناتك! فلطم الرجل رأسه ، وخرج إلى صاحب المال وقال له : أمهلنى إلى الغد. واعتذر إليه بعذر. فتوجّه الرجل إلى داره. وخرج الإمام من ساعته ومضى إلى دار عفّان ، وطرق عليه الباب. فخرج عفّان مسرعا ، فقال له : ما الخبر؟ فقصّ عليه قصته. فقال له : لا تخف ، وأتنى بالصّندوق. فملأ الأكياس كما كانت وربطها ، وأغلق الصندوق كما كان ، ودفعه للإمام.

فلما أصبح الصباح جاء صاحب الوديعة إليه ، فسلّم له الإمام صندوقه (١) ، ففتحه صاحبه ونظر فيه ، فاختلفت عليه العلامة ، فقال له : ما هذه علامتى! فقال له : أما تعلم وزن مالك وعدده؟ قال : نعم. قال : فانظر فإن نقص لك شىء فأخبرنى به.

فقال له الرجل صاحب المال : أخبرنى ما وقع فى هذا المال. فقال له : يا هذا ، زن المال فإن نقص شيئا دفعته لك! فقال الرجل : لا آخذ إلّا مالى بعينه أو تخبرنى بما وقع.

فحدّثه الخبر ، فقال له صاحب المال : جزاك الله عنى خيرا ، وقبّل رأسه ، وقال : اعلم أنّى أخرجت هذا لتجهيز بنت فقيرة ، أو أرملة ، أو كسوة عريان ، وما أشبه ذلك ، والآن ، فقد كفيتنى هذه المئونة وأرحتنى من هذا التعب ، جزاك الله خيرا! ثم ترك المال ومضى.

فأخذ الإمام المال وجاء به إلى عفّان وقال له : يا سيدى ، خذ مالك ، فقد سدّ الله عنى ، جزاك الله خيرا! فقال له عفّان : أنا قد خرجت لله عنه وليس لى به حاجة. فقال الإمام : جزاك الله خيرا ، ثم أخذ المال وتوجّه إلى منزله.

__________________

(١) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «حاله» مكان «صندوقه».

٦٥٨

وكان الشيخ عفّان إذا خرج لصلاة الصبح أخذ فى كمّه صررا ففرقها على الناس ، فيها (١) من عشرة دنانير إلى خمسين دينارا ، فقيل إنه خرج يوما على جارى عادته فوجد رجلا جالسا مستندا إلى الحائط مهموما ، فترك فى حجره صرّة فيها خمسون دينارا ، فانتبه الرجل فوجدها فى حجره ، فأخذها وجاء إلى حانوته ، فجاء وكيل عفّان وطالبه بمال عنده لعفّان ، فدفع الصّرّة للوكيل كما هى ، وجبا الوكيل عليها (٢) إلى آخر النهار ، وجاء بالمال لعفّان فسلّمه له ، فأخذه عفّان ونظر فوجد الصّرّة التى دفعها فى أول النهار عادت إليه ، فقال للوكيل : ممّن أخذت هذه؟ قال : من فلان الزّيّات. قال : ائتنى به. فلما حضر قال : من أين لك هذه الصّرّة؟ قال : يا سيدى حديثى فيها غريب .. انكسر علىّ مال لوكيلك ، وهو مائة دينار ، فلما كان أمس طالبنى وألحّ علىّ ، فوعدته على الغد ، فلما كان تلك الليلة بتّ مهموما ، ولمّا أصبحت صليت الصّبح ودعوت الله ـ عز وجلّ ـ وسألته أن يفرّج عنّى ، وأسندت ظهرى للمحراب ، فلم أشعر إلّا وقد استغرقت فى النوم ، فلما استيقظت وجدت هذه الصرة فى حجرى ، فأخذتها وفتحت دكّانى وجلست ، فلما جاءنى وكيلك دفعتها له ، وفرّج الله عنى. فهذا ما كان من أمرى.

فقال عفّان للوكيل : امح ما على (٣) هذا من المال فى هذه السّاعة.

ففعل. ثم إن عفّان دفع له الصّرّة وقال له : رقّع (٤) بهذه حالك. فأخذها وانصرف شاكرا.

وقيل : إنّ الحافظ الفاطمىّ رأى فى المنام قائلا يقول له : يا عبد المجيد ، لم لم تزر ابن سليمان؟! فانتبه وهو يظنّ أنه ابن سليمان بن داود ، ففسّر له بأنه عفّان هذا. فركب وجاء إلى تربته ، ودعا عنده من الشباك.

__________________

(١) فى «م» و «ص» : «فيهم».

(٢) «عليها» عن «ص». وجبا : جمع.

(٣) فى «م» : «ما كان» مكان حرف الجر «على».

(٤) أى : أصلح.

٦٥٩

وكان لعفّان مكان مرتفع يجلس فيه ، فجلس فيه فى بعض الأيام ، وجاءت له أحمال فوضعت فى الطريق وهو ينظر إليها ، فجاء رجل فقير معه إناء فيه شىء من «النيدة» فعثر بعدل (١) فسقط الإناء من يده وتبدّد ما فيه ، فبقى باهتا. فاستحضره عفّان وقال له : ما دهاك يا رجل؟ قال : يا سيدى أنا رجل فقير ، أعمل فى كل يوم بدرهم وربع درهم ، وأشترى خبزا بذلك لعيالى ، فلما كان اليوم اشتهى الصّبية شيئا حلوا ، فاشتريت لهم هذه «النيدة» التى سقطت بما عملت ذلك اليوم ، فدهشت لذلك ، فلا أنا بالذى أبقيت ثمن الخبز ، ولا أنا بالذى قضيت شهوة الصّبية.

فبكى عفان وقال له : اذهب فكلّ عدل وجدته ملوّثا بشىء من «النّيدة» فخذه. فنزل الرجل إلى الأعدال فوجد «النيدة» قد وقعت على عدل واحد. فأخذه ومضى.

وقيل : إنه بعد هذا كله ، وهذه العطايا (٢) لمّا حانت وفاته قال لصاحب له : إذا أنا متّ ، فخذ ابنتى هذه ـ ولم يكن له سواها ـ فاتركها فى المسجد وخلّ سبيلها ، فإنّها وديعتى عند الله تعالى.

فلمّا توفى فعل صاحبه كما أمر (٣) ، فاتّفق أنّ محظيّة من حظايا أمير المؤمنين الخليفة الفاطمى ، دخلت إلى الجامع متنكرة فى زىّ العوام بقصد الفرجة ، فلما رأتها جلست بإزائها طويلا ، وانتظرت من يطلبها ، فما وجدت أحدا ، فقالت لها : ألك والد أو والدة؟ قالت : لا. فأخذتها ومضت بها

__________________

(١) النيدة : نوع من الحلوى .. والعدل : الحمل.

(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «بعد هذا الإعطاء».

(٣) فى «ص» : «ففعل ذلك وتركها فى الجامع».

٦٦٠