مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

وما أحسن قول بعضهم (١) :

بكم المدائح تستلذّ وتعشق

ولنا بكم يا آل أحمد رونق

وإذا نظمت مدائحا لعلاكم

صدق الحديث ، وغيره لا يصدق

وإذا كتبت حروفها ورقمتها

قال الورى : تالله إنّك موفق

والغير إن علم الحديث لغيركم

هو كاذب فيما نحاه وأحمق

لم يخلق الرّحمن مثل محمّد

وقبيله ، وأظنّه لا يخلق

 * * *

قال الرّازى النّسّابة : لمّا بلغت السيدة نفيسة من العمر ستّ عشرة سنة (٢) رغب الناس فى خطبتها ، لما علموا من خيرها ودينها ، وما نشأت عليه من العبادة ، ووالدها الحسن يأبى ذلك .. ثم جاء رجل إلى أبيها من بنى حسن فخطبها ، فأبى والدها ، ثم جاء السيد إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن محمد بن على بن زين العابدين بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب فخطبها من أبيها ، فلم يردّ عليه جوابا ، فقام من عنده ودخل إلى حجرة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وقال عند الحجرة : يا رسول الله ، إنى خطبت نفيسة ابنة الحسن منه فلم يردّ جوابا علىّ ، وإنّى لم أخطبها إلا لخيرها ودينها وعبادتها ، فلما كان تلك الليلة رأى أبوها الحسن الأنور النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فى المنام يقول له : يا حسن ، زوّج نفيسة لإسحاق المؤتمن .. فلما أفاق دعا بإسحاق وعقد له على ابنته ، وذلك فى سنة إحدى (٣) وستين ومائة ، وهى بنت عمه.

وولى إسحاق المدينة بعد والد السيدة نفيسة من قبل أبى جعفر المنصور ، ورزقت منه ولدين : القاسم ، وأم كلثوم .. وحجّت ثلاثين حجة ، وكان الغالب

__________________

(١) فى «م» : «ما قال بعضهم فى المعنى شعر».

(٢) فى «م» : «ستة عشر سنة» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) فى «م» : «أحد».

١٦١

عليها فيهم [المشى على قدميها](١) .. وكانت تتعلق بأستار الكعبة عند الطواف وهى تبكى وتقول : إلهى وسيدى ومولاى ، متّعتنى وفرّحتنى برضاك عنى ، فلا تسبّب لى سببا يحجبنى عنك.

وحكى عن السيدة زينب بنت أخيها سيدى يحيى المتوّج [قالت : خدمت عمتى السيدة نفيسة أربعين سنة فما](٢) رأيتها نامت ليلا ولا أفطرت نهارا إلّا العيدين وأيام التشريق ، فقلت لها : أما ترفقين (٣) بنفسك؟ فقالت : كيف أرفق بها وأمامى عقبات لا يقطعها إلّا الفائزون!!

وكانت كثيرة التلاوة للقرآن وتفسيره .. وكانت تبكى وتقول : إلهى سهّل علىّ زيارة قبر خليلك ونبيّك إبراهيم ، عليه السلام ، فلما حجّت هى وزوجها ، آخر حجّها ، قصدا (٤) زيارة الخليل عليه السلام ، فلما أن زارته هو وإيّاها عزما (٥) المجىء إلى «مصر» ، وتوجّها إلى أن جاءا إليها ، وكان قدومهما إلى مصر [لخمس](٦) بقين من شهر رمضان سنة ١٩٣ ، وقيل : سنة ١٩٦ على خلاف فى التاريخ .. ولمّا سمع أهل مصر بقدومها ـ وكان لها ذكر شائع عندهم ـ تلقّتها النساء والرجال بالهوادج من «العريش» ، ولم يزالوا معها إلى أن دخلت «مصر» ، فأنزلها عنده (٧) كبير التجار بمصر ، وهو جمال الدين عبد الله بن الجصّاص ـ بالجيم ، وقيل بالحاء ، والأول أصح (٨) ـ وكان من

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أثبتناه عن المصادر التى ترجمت لها ، وساقط من «م».

(٢) ما بين المعقوفتين سقط سهوا من الناسخ فى «م» وأثبتناه عن المصادر السابقة.

(٣) فى «م» : «أما ترفقى» خطأ ، وما أثبتناه هو الصحيح فى اللغة.

(٤) فى «م» : «قصدوا».

(٥) عزم الأمر ، وعليه : أراد فعله وعقد عليه نيّته .. وفى «م» : «زعما» تحريف من الناسخ.

(٦) فى «م» : «وتوجهوا إلى أن جاءوا إليها ، وكان قدومهم ..» بصيغة الجمع ، وما بين المعقوفتين عن تحفة الأحباب للسخاوى ص ١٠٤ ولم يرد فى «م».

(٧) هكذا فى السخاوى .. وفى «م» «عند».

(٨) فى «م» : «أفصح» ، تصحيف.

١٦٢

أصحاب المعروف والبر والمحبة والصّدقة للفقراء ، والصالحين ، والعلماء ، والسادة الأشراف .. فنزلت عنده فى داره ، وأقامت بها عدة (١) شهور ، والناس يأتون إليها من سائر الآفاق يتبركون بزيارتها ودعائها.

وقيل : بل نزلت هى وبعلها بالمصاصة (٢) فى دار امرأة تعرف بأمّ هانىء فى التاريخ المذكور ، وهو سنة ١٩٣ ، بعد وفاة الإمام الليث بثمانى عشرة سنة (٣). وكان بجوار هذه الدار امرأة يهودية لها ابنة مقعدة ، فأرادت (٤) الأم أن تتوجّه إلى الحمّام ، فقالت لها : يا بنيّتى ، ما أصنع فى أمرك؟ هل لك أنّ نحملك معنا إلى الحمّام؟ قالت [البنت](٥) : يا أمّاه ، اجعلينى عند هذه الشريفة التى بجوارنا حتى تعودى. فجاءت أمّها إلى السيدة نفيسة ، وسألتها واستأذنتها فى ذلك (٦) ، فأذنت لها ، فأتت بها إليها ، ووضعتها فى جانب البيت ، ومضت ، فجاء وقت صلاة الظهر ، فقامت السيدة نفيسة فتوضّأت إلى جانب الصبية ، فجرى الماء إليها (٧) ، فألهمها الله تعالى أن أخذت من ماء الوضوء وجعلت تمرّ به على أعضائها ، فشفيت (٨) بإذن الله تعالى ، وقامت تمشى كأن لم يكن بها شىء ، فلما جاء أهلها خرجت إليهم تمشى ، فسألوها عن شأنها ، فأخبرتهم ، فأسلموا.

__________________

(١) فى «م» : «مدة».

(٢) هكذا فى «م» ، وهى غير «المصيصة». وفى الكواكب السيارة (ص ٣٢) ومساجد مصر وأولياؤها الصالحون ج ١ ص ١٢٣ (نقلا عن المقريزى): «المصوصة».

(٣) فى «م» : «بثمان سنين» وهو خطأ ، فالثابت والصحيح أن الإمام الليث توفى سنة ١٧٥ ه‍.

[انظر وفيات الأعيان ج ٤ ص ١٢٧].

(٤) فى «م» : «وكان بجوار هذه الدار رجل يهودى ولد بنت ولها أم فأرادت ...» فيها اضطراب فى سياقها ، وما أثبتناه عن المصادر السابقة.

(٥) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٦) فى «م» : «وسألتها فى ذلك». والعبارة هنا للسخاوى فى تحفته.

(٧) فى «م» : «لها».

(٨) فى «م» : «فتمت».

١٦٣

وفى رواية أخرى ، على صفة أخرى ، وهى : أنّ الصّبيّة لمّا أن تمسّحت بماء السيدة نفيسة ، رضى الله عنها ، قامت تمشى كأن لم يكن بها شىء من الأمراض ، هذا والسيدة [نفيسة] مشغولة بالصلاة لم تعلم بما جرى ، ثم أنّ البنت لمّا سمعت (١) بمجيء أمّها من الحمّام خرجت من دار السيدة نفيسة حتى أتت إلى دار أمها ، فطرقت الباب ، فخرجت الأم لتنظر من يطرق الباب ، فبادرت البنت واعتنقت أمها ، [فلم تعرفها](٢) وقالت لها : من أنت؟! قالت : أنا بنتك .. قالت لها : وكيف قصّتك؟ فأخبرتها بما فعلت ، فبكت الأم بكاء شديدا وقالت : والله هذا [هو](٣) الدين الصحيح .. ثم دخلت إلى السيدة نفيسة ، وأقبلت تقبّل قدمها وقالت : مدّى يديك ، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ جدّك محمدا (٤) رسول الله .. فشكرت السيدة [نفيسة] لها ذلك ، وحمدت الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أنقذها من الضّلال .. ثم مضت المرأة إلى منزلها ، فلما حضر أبو البنت ـ وكان اسمه أيّوب ، ولقبه صابرا ، وكنيته أبا السّرايا (٥) ، وكان من أعيان قومه ـ ورأى ابنته على تلك الحالة ، ذهل ، وطار عقله من الفرح ، وقال لامرأته : كيف الخبر والقصة؟! فأخبرته بقصتها مع السيدة [نفيسة] .. فرفع اليهودى طرفه إلى السماء وقال : سبحانك ، هديت من شئت ، وأضللت من شئت .. هذا والله هو الدّين الصحيح ، ولا دين غير دين الإسلام .. ثم أتى إلى باب السيدة [نفيسة] ومرّغ خدّيه على عتبة بابها ونادى : يا سيدتى ، ارحمى واشفعى فيمن هو فى ضلال الكفر (٦) قد تاه ، ومن دينه قد أبعده وأقصاه .. فرفعت طرفها إلى السماء ودعت له بالهداية ، فأسلم ونطق بالشهادتين.

__________________

(١) فى «م» : «لمّا أن سمعت» .. وما بين المعقوفتين ـ قبلها ـ من عندنا.

(٢) ما بين المعقوفتين عن «تحفة الأحباب ص ١٠٦».

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة يتطلبها السياق.

(٤) فى «م» : «محمد» خطأ ، والصواب بالنصب على البدل. وما بين المعقوفتين بعد ذلك من عندنا.

(٥) فى «م» : «.. صابر ، وكنيته أبو السرايا». وما أثبتناه ـ بالنصب ـ على إعمال «كان».

(٦) فى التحفة : «فى ظلام الضلال».

١٦٤

ثم شاع خبر البنت ، وخبر إسلام أمها وأبيها وجماعتهم ، فأسلم فى هذه الواقعة ما يزيد على سبعين (١) من اليهود ، وهم أهل تلك الحارة.

ثم إنّها خرجت من «المصاصة» (٢) إلى درب الكوريين فى دار أبى السرايا أيوب .. قال الحسن بن زولاق : ولمّا شاعت هذه الكرامة بين [الناس](٣) لم يبق أحد إلّا قصد زيارة السيدة نفيسة ، وعظم الأمر ، وكثر الخلق على بابها ، فطلبت عند ذلك الرحيل إلى بلاد الحجاز عند أهلها ، فشق ذلك على أهل مصر ، فسألوها فى الإقامة فأبت ذلك ، فاجتمع أهل مصر ودخلوا على السّرىّ بن الحكم أمير مصر وأخبروه أنها عزمت على الرحيل ، فاشتد ذلك عليه ، وبعث لها كتابا ورسولا يأمرها بالرجوع عمّا عزمت عليه ، فأبت ، فركب بنفسه وأتى إليها ، وسألها فى الإقامة ، فقالت : إنى كنت نويت الإقامة عندكم ، وإنى امرأة ضعيفة ، والناس قد كثروا على الإتيان إلىّ وشغلونى عن عبادتى (٤) وجمع زادى لمعادى ، ومكانى هذا صغير وضاق بهذا الجمع الكثيف .. فقال لها السّرىّ : إنى سأزيل عنك جميع ما شكوتيه .. وأمهّد لك الأمر على ما ترتضينه (٥) ، أمّا ضيق المكان فإن لى دارا واسعة بدرب السباع ، وأشهد الله أنى قد وهبتها لك ، وأسألك أن تقبليها منى ولا تخجلينى بالردّ علىّ .. قالت : قد قبلتها منك .. ففرح السّرىّ بقبولها منه ، فقالت : كيف [أصنع](٦) بهذه الجموع الوافدين علىّ؟ : قال : تقرّرين (٧) معهم أن يكون لهم يومان فى الجمعة ، وباقى أيامك تتفرغين (٨) لخدمة مولاك .. اجعلى يوم السبت

__________________

(١) فى «م» : «ما يزيد عن سبعين». وفى رواية : «تسعين».

(٢) سبق التعليق عليها ـ انظر ص ١٦٣ ـ الهامش رقم (٢).

(٣) ما بين المعقوفتين عن «التحفة» وساقط من «م».

(٤) فى «م» : «ويشغلونى عن إرادتي». والعبارة هنا للسخاوى.

(٥) فى «م» : «ترتضيه».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «التحفة».

(٧) فى «م» : «تقررى» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٨) فى «م» : «أن يكون للناس فى كل جمعة يومين ، وباقى أيامك تتفرغى فيهم». قوله : «يومين» و «تتفرغى فيهم» خطأ فى اللغة ، والصواب ما أثبتناه.

١٦٥

والأربعاء .. ففعلت ذلك فى حال حياتها ، واستمر الأمر على ذلك إلى أن توفيت بهذا المكان ـ على ما سيأتى ذكره فيه.

من كرامات السيدة نفيسة (١) :

وكراماتها كثيرة ، ومن كراماتها ما حكاه سعد بن الحسن ، قال : توقّف النيل فى زمانها إلى حين وقت الوفاء ، فجاء الناس إليها وسألوها الدعاء ، فأعطتهم قناعها ، فجاءوا به إلى البحر وطرحوه فيه ، فما رجعوا حتى ، وفى (٢) البحر ، وزاد على ذلك زيادة كثيرة ببركاتها.

وكان كلما نزل بالناس أمر جاءوا إليها وسألوها الدعاء ، فيكشف الله عنهم ذلك البلاء .. وكان الناس يزدحمون عندها ، فلما رأى ذلك زوجها قال لها : ارحلى بنا إلى الحجاز .. فقالت لا أستطيع ، لأنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المنام ، وقال لى : لا ترحلى من «مصر» ، فإن الله سبحانه وتعالى متوفّيك بها .. ففى ذلك دلالة أنها ما أقامت بمصر إلّا بإشارة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ، وعلى جميع المرسلين والأنبياء والأولياء.

قال القضاعىّ ، رحمه الله تعالى : قلت لزينب (٣) بنت أخى السيدة نفيسة ، رضى الله عنهم : ما كان قوت عمتك؟ قالت : كانت تأكل فى كل ثلاثة أيام أكلة. وكانت لها سلّة معلّقة أمام مصلّاها ، وكانت كلما طلبت شيئا للأكل وجدته فى تلك السّلة ، وكانت لا تأكل لأحد شيئا (٤) غير زوجها ،

__________________

(١) هذا العنوان من عندنا.

(٢) وفى ، أى : ثمّ وزاد.

(٣) هى زينب بنت يحيى المتوّج بن الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن حسن السبط بن على بن أبى طالب ، شريفة علوية ، كانت عابدة صالحة يتبرك بها الناس. توفيت بمصر سنة ٢٤٠ ه‍ ، ودفنت فى المشهد المجاور لقبر عمرو بن العاص ، وكان الظافر الفاطمى يأتى إلى زيارتها ماشيا [انظر الأعلام ج ٣ ص ٦٧].

(٤) فى «م» : «شىء» خطأ.

١٦٦

فالحمد لله الذي جعل لها نصيبا ممّا حصل للسيدة «مريم» ابنة عمران ، فإن الله تعالى قال فى كتابه المبين حاكيا عنها : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا ، قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١) .. وقد فعل الله ذلك بالسيدة نفيسة كما فعل ذلك بالسيدة مريم ، صلوات الله عليهما.

وما أحسن قول بعضهم (٢) :

بتقوى الإله نجا من نجا

وصار بذاك إلى ما رجا

ومن يتّق الله يجعل له

كما قال من أمره مخرجا

ويرزقه حيث لا يحتسب

وإن ضاق أمر به فرّجا

وإن كان فيما مضى مذنبا

فعفو الإله غدا يرتجى

كيف لا يكون لها ذلك وهى البضعة الشريفة المحبوبة ، صلّى الله على روح جدها وعليها.

وما أحسن ما قال بعضهم :

إليكم كلّ مكرمة تئول

إذا ما قيل جدّكم الرّسول (٣)

أبوكم خير من ركب المطايا

وأمّكم المعظّمة البتول (٤)

إذا افتخر الأنام بمدح قوم

بخدمتكم تشرّف جبرئيل (٥)

ومن كراماتها أنّ امرأة عجوزا (٦) كان لها أربع بنات أيتام كنّ يتقوّتن

__________________

(١) سورة آل عمران ـ من الآية ٣٧.

(٢) فى «م» : «ما قال بعضهم شعر».

(٣) المكرمة : فعل الخير.

(٤) فى «م» : «أباكم» خطأ ، والصواب ما أثبتناه .. والبتول من النساء : العذراء المنقطعة عن الزواج إلى الله.

(٥) الأنام : الخلق .. وجبرئيل : جبريل عليه السلام ، وحذفت الألف هنا للوزن.

(٦) فى «م» : «عجوز» خطأ.

١٦٧

من غزلهنّ (١) من الجمعة إلى الجمعة ، وفى آخرها تأخذ العجوز الغزل وتمضى به إلى السوق وتبيعه ، وتشترى منه (٢) كتّانا ، وممّا فضل تشترى ما يتقوّتن (٣) به من الجمعة إلى مثلها .. فأخذت العجوز الغزل فى خرقة حمراء وذهبت به إلى السّوق على عادتها ، فبينما هى فى أثناء الطريق إذا بطائر انقضّ على الخرقة الحمراء التى فيها الغزل واختطفها من العجوز ، فسقطت العجوز إلى الأرض مغشيا عليها (٤) ، فلما أفاقت قالت : كيف أصنع بأيتام ضعفاء قد أجهدهم الجوع والفقر (٥)؟! وشكت ، فاجتمع عليها الناس وسألوها عن خبرها ، فأخبرتهم بالقصة ، وكانت قريبة من منزل السيدة نفيسة فدلّها الناس (٦) عليها وقالوا لها : امضى إليها واسأليها الدعاء ، فإن الله يزيل عنك ما تجدينه من الهمّ .. فلما جاءت إلى السيدة [نفيسة](٧) أخبرتها بما جرى لها مع الطير ، وبكت ، وسألتها الدعاء ، فرحمتها السيدة [نفيسة] رضى الله عنها ، ورفعت رأسها إلى السماء وقالت : اللهمّ يا من علا (٨) فاقتدر ، وملك فقهر ، اجبر (٩) من أمتك هذه ما انكسر ، فإنها هى وأطفالها عيالك .. ثم قالت : اقعدى على الباب ، فإن الله على كل شىء قدير .. فقعدت المرأة عند الباب وفى قلبها لهيب النار على الأطفال ، فما كان إلّا أن جلست ساعة يسيرة ، وإذا بجماعة

__________________

(١) فى «م» : «يتقوّتون من غزلهم ، وكانوا يغزلون» خطأ فى الصياغة اللغوية ، والصواب ما أثبتناه عن «تحفة الأحباب».

(٢) أى : من ثمنه.

(٣) فى «م» : «ما يقتاتون» خطأ.

(٤) فى «م» : «غما عليها» تصحيف. والعبارة هنا للسخاوى.

(٥) فى «م» : «الجوع والقل» .. ومعنى القلّ : الشيء القليل.

(٦) فى «م» : «فدلّوها الناس».

(٧) ما بين المعقوفتين من عندنا ـ فى الموضعين.

(٨) فى «م» : «على» لا تصح بهذا الرسم الإملائى.

(٩) أى : أصلح.

١٦٨

قد أقبلوا واستأذنوا عليها (١) ، فأذنت لهم ، فدخلوا وسلّموا عليها ، وقالوا لها : قد جئناك لنخبرك بأمر عجيب ، نحن قوم تجّار ، لنا مدة فى السفر فى البحر ، ونحن بحمد الله سالمون (٢) آمنون ، فلما وصلنا إلى هذه البلدة انفتحت المركب ودخلها الماء وأشرفنا على الغرق ، وجعلنا نسدّ المكان المنفتح ، وبقيت قطعة صغيرة لم نجد لها ما نسدها به ، فاستغثنا بك ، فجاء طائر كأنه حدأة ، وألقى علينا خرقة حمراء فيها غزل ، فأخذناه ووضعناه فى المكان المفتوح ، فسدّه بإذن الله تعالى ، وقد جئناك بخمسمائة درهم شكرا لله تعالى على السلامة .. فلما سمعت السيدة [نفيسة](٣) كلامهم بكت وقالت : إلهى ، ما أرأفك وما ألطفك بعبادك!! ثم دعت (٤) العجوز وقالت لها : بكم تبيعين (٥) غزلك فى كل جمعة؟ قالت : بعشرين درهما .. فقالت لها : أبشرى ، فإنّ الله تعالى ضاعف لك الثمن أضعافا .. ثم أخبرتها بالقصة وأعطتها الدراهم ، فأخذتها (٦) المرأة وجاءت إلى بناتها وأخبرتهن (٧) بما جرى لها ، وكيف ردّ الله لهفتها ببركة هذه السيدة ، رضى الله عنها ، ونفع ببركاتها.

ومن كراماتها أنّ رجلا من أهل المعافر تزوّج بامرأة ذمّيّة فجاء منها بولد ، فأسر فى بلاد العدوّ ، فأخذت المرأة تكد فى البحث عنه ، حتى أعياها الأمر (٨) ، فقالت لزوجها : بلغنى أنّ بين أظهرنا امرأة يقال لها نفيسة بنت الحسن ، اذهب إليها لعلّها تدعو لولدى ، فإذا جاء آمنت بدينها .. فجاء (٩)

__________________

(١) أى : ليدخلوا على السيدة نفيسة.

(٢) فى «م» : «وبحمد الله سبحانه إذ نحن سالمون ...».

(٣) زيادة من عندنا.

(٤) فى «م» : «ثم إنها دعت».

(٥) فى «م» : «تبيعى» خطأ فى اللغة.

(٦) فى «م» : «فأخذتهم».

(٧) فى «م» : «إلى أولادها وأخبرتهم».

(٨) فى «م» : «وجعل يدخل البلد من الأسارى وولدها لا يأتى» مكان «فأخذت المرأة تكد ..» وما أثبتناه هنا عن المصادر التى ترجمت لها.

(٩) فى «م» : «قال : فجاء».

١٦٩

الرجل إلى السيدة نفيسة وقص عليها القصة .. فدعت له أن يردّه الله تعالى عليه (١) .. فلما كان الليل إذا بالباب يطرق ، فخرجت المرأة فوجدت ولدها واقفا بالباب [فصاحت من فرحتها واحتضت ولدها ودموع الفرح تسيل على وجنتيها .. وبعد أن فرح الجميع بهذا الجمع سألته أمّه عن أمره](٢) فقالت له : يا بنىّ ، أخبرنى بأمرك كيف كان؟ فقال : يا أمّاه ، كنت واقفا [على باب المعتقل](٣) فى الوقت الفلانى ـ وهو الوقت الذي دعت فيه السيدة نفيسة له ـ فى خدمتى ، فلم أشعر إلّا ويد وقعت على القيد ، وسمعت من يقول : أطلقوه ، فقد شفعت فيه السيدة نفيسة بنت الحسن. فأطلقت من الغل والقيد ، ثم لم أشعر بنفسى إلّا وأنا داخل من رأس محلتنا إلى أن وقفت على الباب .. ففرحت الأمّ ، وشاعت هذه الكرامة ، فأسلم فى تلك الليلة أهل سبعين دارا ببركتها ، وأسلمت أمه ووهبت نفسها لخدمة السيدة نفيسة ـ رضى الله عنها (٤).

وحكى بعض المشايخ أنه كان فى زمنها أمير ، وكان الغالب على أحواله الظلم ، وأنه طلب إنسانا ليعذبه ظلما ، فقبض على الرّجل أعوان الأمير ، فبينما هو سائر معهم إذ مرّ على السيدة [نفيسة](٥) فاستجار بها ، فدعت له بالخلاص ، وقالت له : حجب الله عنك أبصار الظالمين .. فمضى ذلك الرجل حتى وقف بين يدى الأمير ، فلم يره الأمير ، فقال لأعوانه : أين فلان (٦)؟

__________________

(١) فى «م» : «أن الله تعالى يرده عليها».

(٢) ما بين المعقوفتين عن كتاب السيدة نفيسة لتوفيق أبى علم ص ١٥٥ ، وكتاب السيدة نفيسة لمحمد شاهين ص ٨٧ نقلا عن المصادر التى ترجمت لها ، ولم يرد فى «م».

(٣) ما بين المعقوفتين عن المصدر الأخير.

(٤) فى «م» : «وأسلمت أمه وصارت من الخدام للسيدة رضى الله عنها» والعبارة هنا لأبى علم ص ١٥٦.

(٥) زيادة من عندنا.

(٦) فى «م» : «أين الرجل فلان».

١٧٠

قالوا : إنه واقف بين يديك .. فقال الأمير : والله ما أراه!! فقالوا له : إنه مرّ بالسيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد ، رضى الله عنها ، وسألها الدعاء ، فقالت : حجب الله عنك أبصار الظالمين!! فقال : أو بلغ (١) من ظلمى هذا يا رب ، إنى تائب إليك .. ثم بكى (٢) واستغفر .. فلما تاب ونصح فى توبته وأخلص فى نيته إذا به يرى الرجل (٣) وهو واقف بين يديه ، فدعاه ، وقبّل رأسه ، وألبسه أثوابا سنية ، وصرفه من عنده شاكرا ، ثم إنه جمع ماله وتصدّق ببعضه على الفقراء والمساكين .. وذهب إلى السيدة [نفيسة](٤) رضى الله عنها ومعه مائة ألف درهم وقال : خذى هذا المال (٥) شكرا لله تعالى بتوبتى .. فأخذته وصرّته صررا بين يديها ، وفرّقته عن آخره (٦) .. وكان عندها بعض النساء (٧) ، فقالت لها : يا سيدتى ، لو تركت لنا شيئا (٨) من هذه الدراهم لنشترى به شيئا نفطر عليه!! فقالت لها : خذى غزل يدى بيعيه بشىء نفطر عليه .. فذهبت المرأة وباعت الغزل ، وجاءت لها بما أفطرت به هى وإيّاها ، ولم تأخذ من المال شيئا (٨).

الإمام الشافعى والسيدة نفيسة وصحة تاريخ رابعة العدوية (٩) :

وحكى صاحب كتاب المشرق فى تاريخ المشرق أنّ «الشافعى» سمع منها الحديث .. وقيل إنه كان مع جلالة قدره كان يأتى إليها ويسألها الدعاء ..

__________________

(١) فى «م» : «وبلغ».

(٢) فى «م» : «ثم إنه بكى».

(٣) فى «م» : «ونصح فى توبته ، ونظر الرجل ...». وما أثبتناه عن المرجع السابق ص ١٥٧.

(٤) زيادة من عندنا.

(٥) فى «م» : «وقال : هذا المال».

(٦) فى «م» : «فأخذتهم وصرّتهم .. وفرقتهم على آخرهم».

(٧) أى : ممّن يخدمنها.

(٨) فى «م» : «شىء» فى الموضعين ، خطأ فى اللغة.

(٨) فى «م» : «شىء» فى الموضعين ، خطأ فى اللغة.

(٩) هذا العنوان من عندنا.

١٧١

وسماع الشافعى منها الحديث وهو (١) الصحيح ، خلافا لمن قال إنه قرأ عليها ـ وهو صاحب التحفة الأنيسة. وكان إذا أتى لزيارتها هو أو صحابه تأدّبوا معها غاية التّأدّب ، وكذلك كان الشيخ الإمام العالم سفيان الثورى مع السيدة رابعة (٢) العدوية ، رضى الله عنها ، لمّا كان يتردد إليها لسماع كلامها .. وقد ادّعى قوم أنّ رابعة العدوية والسيدة نفيسة ، رضى الله عنهما [كانتا](٣) متعاصرتين ، وليس الأمر كذلك ، فإن السيدة رابعة ، رضى الله عنها ، أم الخير ابنة إسماعيل المصرى ، وقيل البصرى ، توفيت سنة ١٣٥ ه‍ فى خلافة السّفّاح ، وكان مولد (٤) السيدة نفيسة رضى الله عنها فى سنة ١٤٥ ه‍ ، فبين مولد السيدة نفيسة (٥) رضى الله عنها ، ووفاة رابعة عشر (٦) سنين ، فبطل قول المدّعى ذلك.

واسم «رابعة» كثير ، غير أنّ الأعيان منهن ثلاثة (٧) : رابعة العدوية هذه ، والثانية رابعة ابنة إسماعيل الدمشقية القدسية ، وقد شاركت الأولى فى اسمها واسم أبيها ، والثالثة رابعة بنت إبراهيم بن عبد الله (٨) البغدادية ، وتسمى رابعة بغداد .. وقبر رابعة العدوية رضى الله عنها فى البصرة معروف هناك مشهور .. ورابعة الدمشقية توفيت بالقدس ، ودفنت على رأس جبل هناك بالطور (٩) ، وإنما عرفت بالقدسية لدفنها هناك ، وأكثر العامة يظنون أنه قبر رابعة العدوية ، فليعلم ذلك .. ورابعة البغدادية دفنت فى بغداد ، وكانت وفاتها يوم الأحد ، حادى عشر شهر ذى القعدة سنة ٥١٨ ه‍.

__________________

(١) فى «م» : «هو».

(٢) فى «م» : «ربيعة» تصحيف.

(٣) ما بين المعقوفتين عن «التحفة» وساقط من «م».

(٤) فى «م» : «ولد» تحريف من الناسخ.

(٥) فى «م» : «مولد نفيسة».

(٦) فى «م» : «عشرة» خطأ.

(٧) هنا اضطراب فى «م» والتصويب من التحفة (ص ١٠٨).

(٨) فى «م» : «عبد البر» خطأ ، والتصويب من المصدر السابق ، وفيه أن وفاتها كانت ببغداد سنة ٥١٨ ه‍.

(٩) فى «م» : «بالطوف» ، تصحيف.

١٧٢

انعطاف (١) :

وكان الشافعى رضى الله عنه إذا مرض يرسل لها ـ أى السيدة نفيسة رضى الله عنها ـ إنسانا من تلاميذه (٢) كالربيع الجيزى ، والربيع المرادى ، وغيرهما ، فيسلم المرسل عليها ويقول لها : إنّ ابن عمك الشافعى مريض ويسألك الدعاء .. فتدعو له ، فلا يرجع له القاصد إلّا وقد عوفى من مرضه .. فلما مرض (٣) مرضه الذي مات فيه أرسل لها على جارى العادة يلتمس منها الدعاء .. فقالت للقاصد : «متّعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم» .. فجاء القاصد له ، فرآه الشافعى فقال : ما قالت لك؟ قال : قالت لى كيت وكيت : فعلم أنه ميت ، فأوصى ـ وسيأتى ذكر وصيته عند ذكر قبره ، رضى الله عنه ـ وأوصى أن تصلّى على جسده ، فلما مات فى سنة ٢٠٤ ه‍ كما هو مشهور ، مرّوا به على بيتها ، فصلّت عليه مأمومة ، وكان الذي صلّى عليه بها إماما أبا يعقوب (٤) البويطى ، أحد أصحاب الشافعى ، رضى الله عنه .. وكان جواز نعش الشافعى رضى الله عنه على بيتها بأمر السّرى الأمير ، والله أعلم ذكر ذلك ، لأنها سألته فى ذلك إنفاذا لوصية الشافعى ، لأنها كانت لا تستطيع الخروج إلى جنازته لضعفها عن الحركة من كثرة العبادة.

وقد قال بعض الصالحين ممّن حضر جنازة الإمام الشافعى : سمعت بعد انقضاء الصّلاتين أن الله غفر لكل من صلّى على الشّافعى بالشّافعى .. وغفر للشافعى بصلاة السيدة نفيسة عليه ، رضى الله تعالى عنها ، ونفع ببركاتها (آمين).

__________________

(١) هكذا فى «م» ومعناه : عود إلى الحديث السابق.

(٢) فى «م» : «من خدمته».

(٣) فى «م» : «فلما أن مرض».

(٤) فى «م» : «أبو يعقوب».

١٧٣

ذكر وفاتها ـ رضى الله عنها ـ وما وقع من الكرامات بعد وفاتها ، ومن رأى قبرها من الأولياء والصلحاء والعلماء والفقهاء والأعيان ـ رضى الله عنهم ونفع ببركاتهم فى الدنيا والآخرة :

قال القضاعى ، رضى الله عنه ، ولما ذكر آنفا : إنّ السيدة [نفيسة](١) انتقلت عن المنزل الذي كانت تنزل به إلى دار أبى جعفر خالد ابن هارون السلمى ، وهى الدار التى (٢) وهبها لها أمير مصر السّرىّ بن الحكم فى خلافة المأمون ، وأقامت بهذه الدار إلى حين وفاتها ، بعد أن حفرت قبرها بيدها ، وقرأت فيه ألفى ختمة ، وقيل : ألفا (٣) وتسعمائة ختمة.

قالت زينب بنت أخيها : تألّمت عمّتى فى أول يوم من رجب ، وكتبت إلى زوجها إسحاق المؤتمن كتابا ، وكان غائبا بالمدينة ، تأمره بالمجىء إليها ، وما زالت (٤) كذلك إلى أن كان أول جمعة من شهر رمضان زاد بها الألم وهى صائمة ، فدخل عليها الأطباء الحذّاق وأشاروا بأسرهم (٥) عليها أن تفطر لحفظ القوة ، لما رأوا من الضعف الذي أصابها ، فقالت : وا عجبا! لى ثلاثون (٦) سنة أسأل (٧) الله عز وجل أن يتوفّانى وأنا صائمة وأفطر؟! معاذ الله تعالى ـ ثم أنشدت عند ذلك (٨) :

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٢) فى «م» : «الذي».

(٣) فى «م» : «ألف» وله وجه فى اللغة ، وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره : ما قرأته ألف .. أما النصب فعلى المفعولية وهو الأوجه .. وفى الكواكب السيارة (ص ٣٣) جاء على لسان القضاعى أيضا أنها «قرأت فيه ـ أى فى قبرها ـ مائة وتسعين ختمة» وليس ألفا وتسعمائة كما جاء فى «م».

(٤) فى «م» : «ولا زالت».

(٥) بأسرهم ، أى : جميعهم.

(٦) فى «م» : «ثلاثين» لا تصح ، والصواب ما أثبتناه.

(٧) فى «م» : «أسألك» ، تصحيف.

(٨) فى «م» : «ثم أنشدت تقول عند ذلك شعر».

١٧٤

اصرفوا عنّى طبيبى

ودعونى وحبيبى

زاد بى شوقى إليه

وغرامى فى لهيب (١)

طاب هتكى فى هواه

بين واش ورقيب (٢)

لا أبالى بفوات

حيث قد صار نصيبى (٣)

ليس من لام بعذل

عنه فيه بمصيب

جسدى راض بسقمى

وجفونى بنحيبى

قلت : ومن الناس من يروى هذه الأبيات لمحمد بن إبراهيم بن ثابت بن فرج الكيزانى الشيعى ، الذي دفن بقبّة الشافعى قبل بنائها ، ونقل فى زمن البناء إلى مشهد بالقرب من «تربة» أبى الفضل بن الفرات الوزير .. والله أعلم.

انعطاف :

ثم إنها بقيت كذلك إلى العشر الأواسط (٤) من شهر رمضان ، فاشتدّ بها المرض واحتضرت (٥) ، فاستفتحت بقراءة سورة الأنعام ، فما زالت (٦) تقرأ إلى أن وصلت إلى قوله تعالى : (.. قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(٧) ففاضت روحها الكريمة .. وقيل : إنها قرأت : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨) فغشى عليها .. قالت زينب : «فضممتها إلى

__________________

(١) فى «م» : «لهيبى».

(٢) فى «م» : «ورقيبى».

(٣) فى «م» : «لا أبال».

(٤) فى «م» : «الأوسط».

(٥) فى «م» : «فاحتضرت واشتد بها المرض».

(٦) فى «م» : «فلا زالت».

(٧) من الآية ١٢ من سورة الأنعام ، وأول الآية : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ..).

(٨) سورة الأنعام ـ الآية ١٢٧.

١٧٥

صدرى ، فشهدت شهادة الحق ، وقبضت ـ رضى الله عنها ـ سنة ٢٠٨ ه‍ وذلك بعد موت الشافعى بأربع سنين» .. حكى ذلك عن البويطى.

وما أحسن ما قال بعضهم فى خروج روحها ـ رضى الله تعالى عنها :

روح دعاها للوصال حبيبها

فأتت إليه مطيعة ومجيبة

يا مدّعى صدق المحبّة هكذا

فعل المحبّ إذا دعاه حبيبه (١)

وأوصت السيدة [نفيسة](٢) رضى الله عنها ألّا يتولى أمرها غير بعلها ـ وكان مسافرا كما قدمنا ـ فلما ماتت قدم فى ذلك اليوم ، فلما قدم اجتمعت الناس من البلدان والقرى ، وأوقدت الشموع فى تلك الليلة ، وسمع البكاء من كل دار بمصر ، وهيّأ لها بعلها تابوتا وقال : لا أدفنها إلّا بالبقيع عند جدها .. فتعلّق به أهل مصر وسألوه بالله أن يدفنها عندهم ، فأبى ، فاجتمعوا وجاءوا إلى أمير البلد وتوسّلوا به إليه ليدفنها عندهم وليرجع عمّا أراده .. فسأله الأمير (٣) فى ذلك وقال له : بالله لا تحرمنا مشاهدة قبرها ، فإنّا كنّا إذا نزل بنا أمر (٤) أتينا إلى دارها وهى حيّة فنسألها الدعاء ، فإذا دعت لنا رفع عنا ما نزل بنا ، فدعها تكون فى أرضنا ، إذا نزل بنا أمر أتينا إلى قبرها ، فنسأل الله عنده. فلم يرض (٥) ، فجمعوا له مالا كثيرا ، وسق (٦) بعيره الذي أتى

__________________

(١) وفى رواية : «صدق المحبّ إذا دعاه حبيبه».

[انظر السيدة نفيسة لأبى علم ص ١٨٧ ط دار المعارف].

(٢) زيادة من عندنا.

(٣) فى «م» : «قال : فسأله» وهو عبد الله بن السّرىّ بن الحكم أمير مصر. وكان السّرىّ وبنوه يجلّون السيدة نفيسة ويعظمونها ، وقد أمر عبد الله بأن يبنى لها مقام على قبرها إعلاما لعلو شأنها ورفعة قدرها.

(٤) فى «م» : «أمرا» بالنصب ، خطأ ، والصواب ما أثبتناه (فاعل مرفوع) فى الموضعين.

(٥) فى «م» : «قال : فلم يرض».

(٦) وسق : حمل.

١٧٦

عليه ، وسألوه ، فأبى ، فباتوا منه فى ألم عظيم ، وتركوا المال عنده ، فلمّا أصبحوا جاءوا إليه فوجدوا منه ما لم يروه من قبل ، فإنهم لمّا قدموا أنعم عليهم (١) بدفنها وردّ عليهم المال ، فسألوه عن ذلك ، فقال لهم : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المنام وقال لى : «ردّ على الناس أموالهم وادفنها عندهم» .. ففرحوا بذلك ، وصلّوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثيرا.

ثم إنه دفنها بمنزلها المذكور آنفا بدرب السباع بين مصر والقاهرة ، وكان يوما مشهودا ، وازدحمت الناس فيه ازدحاما عظيما ، وجعل الناس يأتون إلى قبرها من البلاد البعيدة ، ويصلّون عليه ، وصلّى عليه جماعة من علماء مصر وعوامها ورؤسائها .. وخرج زوجها رضى الله عند بعد أيّام قلائل ومعه ولداه (٢) منها ـ القاسم وأم كلثوم ـ إلى المدينة ، وماتوا بها ، وفيهم خلاف ـ أعنى الثلاثة ـ فى دفنهم بالبقيع ، وليس فى قبر السيدة [نفيسة](٣) رضى الله عنها خلاف .. ذكر ذلك الشريف أبو إسحاق إبراهيم بن بللوه النّسّابة ، والشريف محمد بن الأسعد بن على الحسينى النسابة.

قال القضاعى ـ رحمه الله تعالى : أقامت السيدة نفيسة بمصر سبع سنين (٤) ، وحفرت قبرها بيدها فى البيت الذي كانت قاطنة به ، وهو المشهد ، ولعلها لم تفعل ذلك ـ يعنى حفر القبر ـ إلا بأمر النبي ، صلّى الله عليه وسلم ، ولو لا ذلك

__________________

(١) فى «م» : «أنعم لهم».

(٢) فى «م» : «ولديه» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) من عندنا.

(٤) هكذا فى «م» وفى طبقات الشعرانى أيضا ، وهو مخالف للحقيقة ، فمن المعروف أنها أقامت بمصر خمس عشرة سنة ، حيث قدمت إلى مصر فى ٢٦ رمضان سنة ١٩٣ ه‍. وكانت وفاتها بها سنة ٢٠٨ ه‍. [انظر الأعلام ج ٨ ص ٤٤ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٥١١ ، وتحفة الأحباب للسخاوى ص ١٠٤ ـ ١١٤ ، ووفيات الأعيان ج ٥ ص ٤٢٣ و ٤٢٤ ، وشذرات الذهب ج ٢ ص ٢١ ، وطبقات الشعرانى ج ١ ص ٦٨ ، والخطط التوفيقية ج ٥ ص ٣٠٣ ـ ٣١١ ، وسير أعلام النبلاء ج ١٠ ص ١٠٦ و ١٠٧].

١٧٧

لما رأى زوجها (١) ، وربما يفهم ذلك من قوله (٢) : «إنّ الله متوفّيك بمصر» كما قدّمناه آنفا ، ولم يخالف ذلك (٣) أحد من المؤرخين إلّا من ليس له معرفة بالتاريخ ، وجاهل لا يحسن ذلك .. ومن قال إنها (٤) بالمسجد الذي بالمراغة فهو جهل من قائله .. فالمدفونة بذلك المكان هى (٥) السيدة نفيسة بنت زيد الأبلج ابن حسن السبط (٦) ، عمّة السيدة نفيسة أخت أبيها الحسن ، فإنها دخلت إلى مصر قبلها ، وكانت تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان (٧) ، ودخولها إلى مصر مشهور ، ولكن مختلف فى دفنها : هل هى هاهنا أو بالشام؟ ولعلّها (٨) هاهنا ، فلم يرد فى كتاب خروجها من مصر بعد دخولها .. فلعلّها توفيت (٩) بمصر ودفنت بهذا المشهد الذي بالمراغة .. وكانت من الصالحات ، وتوفيت قبل وفاة (١٠) بنت أخيها ـ رحمهم الله تعالى.

انعطاف :

قال بعض المؤرخين : لمّا حفرت السيدة نفيسة ـ المذكورة آنفا ـ قبرها بعد عمتها ، كانت تنزل إليه ليلا ونهارا وتصلّى فيه ، وقيل (١١) إنها قرأت فيه ستة آلاف ختمة ، والصحيح ما ذكر سابقا.

__________________

(١) أى : الرؤيا التى رآها آنفا بردّ أموال الناس ودفنها فى مصر.

(٢) أى : قول النبي صلّى الله عليه وسلم.

(٣) فى «م» : «ولم يتخلف فى ذلك».

(٤) أى : السيدة نفيسة.

(٥) فى «م» : «نعم التى مدفونة بذلك المكان فهى ...».

(٦) فى «م» : «الصبط» بالصاد ، خطأ ، والصواب ما أثبتناه ، ومعناه : ولد الابن والابنة ، والمراد به هنا الحسن بن على بن أبى طالب.

(٧) أى : كانت زوجته.

(٨) فى «م» : «ولعل أنها».

(٩) فى «م» : «توفت».

(١٠) فى «م» : «وتوفت قبل وفات». ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع ، انظر : «قبر السيدة الشريفة نفيسة بنت زيد ، فى تحفة الأحباب ص ١٠١».

(١١) فى «م» : «قيل» بدون عطف.

١٧٨

وقال بعض العلماء الأكابر من المتأخرين ـ وهو الشيخ كمال الدين الدميرى ، وكان عالما بفنون كثيرة عديدة ، منها فن التاريخ ، وأسماء الصحابة ، وأهل البيت ، وكان عالما بالأنساب : إنّ السيدة نفيسة كانت أمّيّة لا تقرأ شيئا ، إلّا أنها كانت سمعت الحديث كثيرا. وكانت من أهل الخير والصلاح ، وكانت فى آخر عمرها إذا عجزت عن الصلاة قائمة صلّت قاعدة ، وذلك من كثرة القيام والصيام وضعف قواها.

بعض من زار قبرها من الأولياء والعلماء والفقهاء والصالحين (١) :

وزار قبرها جماعة من الأولياء والصّلحاء والعلماء ، ومشايخ الرسالة ، ولم يذكر أحدهم هذا القبر.

وممّن زارها بهذا المشهد فى حياتها وبعد وفاتها الأستاذ الأكبر أبو الفيض ثوبان ذو النون بن إبراهيم المصرى الإخميمى ، أحد رجال الطريقة المعتبرين ، وأبو الحسن الدّينورى ، وأبو على الرّوذبارى ، وأبو بكر أحمد بن نصر الزّقّاق ، وبنان بن محمد بن أحمد بن سعيد الحمال الواسطى ، وشقران بن عبد الله المغربى ، وإدريس بن يحيى الخولانى ، والمفضل بن فضالة ، وبكّار بن قتيبة ، والإمام إسماعيل المزنى ، وعبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع المصرى ، وولداه الإمام محمد ، صاحب تاريخ مصر ، وأخوه عبد الرحمن ، والإمام أبو يعقوب البويطى ، والربيع بن سليمان المرادى ، وحرملة بن يحيى التجيبى الشافعى ، ويونس بن عبد الأعلى الصدفى ، والفقيه عبد الله بن وهب ابن أبى مسلم (٢) القرشى المالكى ، وأبو جعفر بن محمد بن عبد الملك بن

__________________

(١) فى «م» : الكلام مستأنف ، وهذا العنوان من عندنا.

(٢) فى «م» : «ابن أبى مسلمة» خطأ ، وقد مر التعريف به.

١٧٩

سلامة الطحاوى ، والإمام عبد الرحمن بن قاسم العتقى المالكى الزاهد ، والحسين ابن بشرى بن سعيد الجوهرى ، المتكلم على الخاطر ، وأبو جعفر النحوى المعروف بالنحاس المقرئ ، وأبو بكر المعروف بالأدفوى ، وأبو نصر سراج الدين الزاهد المعافرى ، وأبو بكر الحداد ، الفقيه الشافعى ، صاحب الفروع فى الفقه ، وأبو الحسن على الفقاعى (١) ، وابن هاشم المقرئ ، وسحنون المالكى ، وأبو القاسم حمزة بن محمد الكنانى ، والإمام أبو الحجاج الأشبيلى ، وأبو عبد الله ابن الوشاء ، والإمام يوسف بن يعقوب اللغوى ، وأبو الحسن على الكعكى (٢) ، وأبو سهل الهروى ، والإمام اليمنى ، والإمام الحافظ عبد الغنى بن سعيد الأزدى ، وأبو عبد الله بن سلامة القضاعى ، وأبو زكريا السخاوى (٣) ، وأبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبّال (٤) ، والإمام أبو الحسن بن الحسن الخلعى ، وأبو الحسن الشيرازى ، وأبو الحسين الخشاب ، وأبو الحسن الفرّاء ، وأبو صادق ابن مرشد المدنى ، وسلطان بن رشا (٥) الشافعى ، وأبو بكر محمد ابن داود الدّقّى القنالى ، والفقيه بن مرزوق المالكى ، والإمام ورش المقرئ ، والفقيه الجليل عبد الله ، وقيل عبد الرحمن بن عمر التجيبى ، والفقيه أبو الحسن على بن إبراهيم الحوفى ، صاحب التفسير ، والفقيه طاهر بن بابشاذ النحوى (٦) ، والشيخ

__________________

(١) فى بعض النسخ ورد اسم «القضاعى» مكان «الفقاعى» والثانى هو الصواب. وهو : أبو الحسن على بن محمد بن أحمد الفقاعى ، من الحفّاظ. والفقّاعى : بضم الفاء وفتح القاف المشددة ، وفى آخرها العين المهملة ، وهذه النسبة إلى بيع الفقّاع وعمله ، وهو شراب يتّخذ من الشعير ، يخمّر حتى تعلو فقّاعاته.

[انظر طبقات الشافعية ج ٤ ص ١٥٢].

(٢) فى «م» : «الحككى» ، تصحيف.

(٣) فى «م» : «السنجارى» ، تصحيف.

(٤) فى «م» : «الحيال» ، تصحيف.

(٥) فى «م» : «ذشا» ، تصحيف. والصواب ما أثبتناه. [انظر ترجمته فى طبقات الشافعية ج ٧ ص ٩٤].

(٦) فى «م» : «بابشاد» بالدال المهملة ، وله ترجمة فى الأعلام ، وشذرات الذهب ، وكشف الظنون ، وغيرها من المراجع التى تترجم للأعلام .. وانظر : «إشارة التعيين فى تراجم النحاة واللغويين ص ١٥١» وكلمة «بابشاذ» تتضمن معنى الفرح والسرور ، وهى كلمة أعجمية.

١٨٠