مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

موفق الدين بن عثمان

مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار - ج ١

المؤلف:

موفق الدين بن عثمان


المحقق: محمّد فتحي أبو بكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار المصريّة اللبنانيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-270-182-0
الصفحات: ٧٨٣

اشتغل ببغداد على الكيا الهراسى (١) ، وابن الشاشى (٢) ، ثم رجع إلى إربل ، وبنى له بها الأمير سرفتكين صاحب إربل (٣) مدرسة ، ودرّس الشيخ بها زمانا طويلا. وله التصانيف الحسنة فى التفسير والحديث والفقه وغير ذلك ، وشرح كتاب الألفية لابن مالك ، وله كتاب ذكر فيه ستّا وعشرين خطبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وكلها مسندة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به وبتصانيفه.

ذكره الحافظ ابن عساكر فى «تاريخ دمشق» وأثنى عليه. وتخرّج عليه (٤) الفقيه ضياء الدين أبو عمرو عثمان بن عيسى بن درباس شارح «المهذب» (٥) وتخرّج عليه أيضا ابن أخيه الشيخ أبو القاسم نصر بن عقيل ، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، وتوفى سنة سبع وستين وخمسمائة ، ودفن بمدرسته بإربل فى قبّة منفردة ، وقبره يزار.

ولمّا توفى الشيخ تولى التدريس فى المدرسة التى بنيت ابن أخيه ، ثم خرج إلى الموصل وسكن بظاهرها بجوار رباط المغربى ، وقرر له صاحب الموصل راتبا (٦) ، ولم يزل هناك إلى أن توفى فى ثالث عشر ربيع الآخر (٧) سنة تسع عشرة وستمائة (٨).

__________________

(١) [انظر ترجمته فى الوفيات ج ٣ ص ٢٨٦ ـ ٢٩٠].

(٢) فى المصدر السابق : وافى بها ـ ببغداد ـ عدّة من مشايخها.

(٣) فى الوفيات : «نائب صاحب إربل» [انظر المصدر السابق ج ٢ ص ٢٣٩].

(٤) فى «م» : «تخرّج به». والعبارة هنا لابن خلكان.

(٥) فى «م» : «المذهب» تحريف ، والتصويب من الوفيات ، ج ٢ ص ٢٣٨ وج ٣ ص ٢٤٢.

(٦) فى «م» : «مرتب».

(٧) فى «م» : «الآخرة» لا تصح.

(٨) أى كانت وفاته بعد وفاة مؤلف هذا الكتاب بأربع سنين ، وقد علقنا على ذلك من قبل [انظر : ص ٤٣٧ ، الهامش رقم (١) ، وص ٤٦٤ ، الهامش رقم (١) ، وص ٤٦٩ ، الهامش رقم (١).

٤٨١

قبر الفقيه أبى إسحاق المروزى (١) :

ثم تذهب من هذه التربة إلى الحوش المجاور لتربة الإمام محمد بن إدريس الشافعى. بهذا الحوش الجليل والمعظم ، والمحل الأنور المفخّم ، قبر الشيخ الإمام ، العالم العلّامة الفاضل أبى إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزىّ الشافعى.

كان إمام عصره فى الفتوى والتدريس ، تفقّه على ابن سريج (٢) ، وبرع فى الفقه ، قال ابن خلّكان فى حقه : انتهت إليه الرياسة فى الفقه بالعراق بعد ابن سريج ، وصنّف كتبا كثيرة ، وشرح مختصر المزنّى.

وقال الشيخ أبو إسحاق فى حقه : انتهت إليه رياسة الفقه ببغداد ، وصنّف فى الأصول ، وعنه أخذ الأئمة ، وانتشر الفقه عن أصحابه فى البلاد.

ومن أحسن ما ذكر عنه من شعره قوله (٣) :

لا يغلونّ عليك الحمد فى ثمن

فليس حمد وإن أثنيت بالغالى

الحمد يبقى على الأيّام ما بقيت

ويذهب الدّهر بالأيّام والمال

وخرج إلى مصر فى آخر عمره فتوفى بها لسبع (٤) خلون من رجب الفرد سنة أربعين وثلاثمائة. وقيل : ليلة الأحد الحادى والعشرين منه (٥) سنة ٣٤٠ ه‍. وقبره يزار ويتبرك به ـ رحمه الله تعالى ورضى عنه (٦).

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج ١ ص ٢٦ و ٢٧ ، وتاريخ بغداد ج ٦ ص ١١].

(٢) فى «م» : «تفقه بابن شريح» تحريف من الناسخ ، والتصويب من الوفيات فى الموضعين.

(٣) فى «م» : «يقول».

(٤) فى الوفيات : «لتسع».

(٥) هكذا فى «م» .. وفى الوفيات وتاريخ بغداد : «ليلة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب».

(٦) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» والمشار إليه فى صفحة ٤٣٧ ، الهامش رقم (١).

٤٨٢

مشهد الإمام الشافعى ـ رضى الله عنه (١) :

ثم من قبره (٢) إلى مشهد الإمام الأعظم ، والأستاذ الأفخم ، إمام الأئمة ، وناصر الكتاب والسّنّة أبى عبد الله محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان ابن شافع بن السّائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشيّ الهاشمىّ ، ابن عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ، فضائله ومناقبه أشهر من أن تذكر ، ولا بد من تذكرة هاهنا فنقول (٣) :

روى عن المزنّى رضى الله عنه (٤) قال : سمعت الشافعى رضى الله عنه يقول : كنت ببغداد فرأيت علىّ بن أبى طالب عليه السلام (٥) فى النوم ، فسلّم علىّ وصافحنى ، وجعل خاتمه فى أصبعى (٦) ، وكان لى عمّ ففسّرها لى فقال : أمّا مصافحته فأمان من العذاب (٧) ، وأمّا لبس خاتمه فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علىّ من المشرق إلى المغرب (٨).

[وإن صدقت رؤياك لم يبق بالمشرق والمغرب موضع إلّا ذكرت فيه وعمل بقولك].

__________________

(١) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج ٤ ص ١٦٣ ـ ١٦٩].

(٢) أى : من قبر الإمام أبى إسحاق المروزى .. وفى «ص» : «وتمشى إلى الغرب تجد قبرا عند ابنة عبد الرحمن بن عوف الزهرى ، رضى الله عنهما ، وتمشى إلى الشرق تجد التربة والمشهد الجليل ، مشهد الإمام الشافعى ، رضى الله عنه».

(٣) فى «ص» : «ولا بد من إيراد نسبة من ذلك».

(٤) فى «ص» : «رحمة الله عليه».

(٥) فى «م» : «رضى الله عنه».

(٦) فى «ص» : «وخلع خاتمه وجعله فى أصبعى».

(٧) فى «ص» : «أما مصافحتك لعلّى أما من العذاب».

(٨) فى «ص» : «فى الشرق والغرب». وما بين المعقوفتين ـ بعدها ـ عن «م» وساقط من «ص».

٤٨٣

وروى الربيع بن سليمان قال : رأيت الشافعىّ رضى الله عنه فى النوم بعد موته فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : أجلسنى على كرسّى من ذهب ونثر علىّ اللّؤلؤ الرّطب.

قال الشافعى رضى الله عنه : عرض علىّ مالك أربع مرات ، ولو شئت أن أكتبها كتبتها (١).

قال الربيع (٢) بن سليمان : سمعت الشافعى يقول : «قدمت على مالك ابن أنس وقد حفظت الموطّأ ظاهرا ، فقلت : أريد أن أسمع منك الموطّأ. فقال : اطلب من يقرأ لك. فقلت : لا عليك أن تسمع قراءتى ، فإن خفت عليك وإلّا طلبت من يقرأ لى. فقال : اقرأ. فقرأت صفحة من الكتاب ثم سكتّ. فقال لى : اقرأ ـ وفى رواية : فقال : هيه ـ فقرأته عليه ، وكان ربّما قال لى : أعد حديث كذا». وأعجبت مالك قراءته وقال : «إن يكن أحد يفلح فهذا الغلام». ولازمه الشافعى مدّة وانتفع به.

ثم توجه الشافعى رحمه الله إلى بغداد سنة ١٩٥ ه‍ (٣). وروى [عنه] أحمد بن محمد الحنبلى الشيبانى (٤) ، وسليمان بن داود الهاشمى ، وأبو ثور إبراهيم ابن خالد ، والحسين بن على [الكرابيسى](٥) ، والحسن بن محمد بن الصباح

__________________

(١) هكذا فى «م» .. وفى «ص» : «عرض مالك كتبه أربع عرضات وأنا حاضر ، ولو شئت أن أكتبها إملاء لكتبتها».

(٢) من قوله : «قال الربيع» إلى قوله : «صلاة النافلة» عن «م» وساقط من «ص».

(٣) أقام الشافعى ببغداد سنتين ، ثم خرج إلى مكة ، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة ، فأقام بها شهرا ، ثم خرج إلى مصر ، وكان وصوله إليها فى سنة تسع وتسعين ومائة ـ وقيل : سنة إحدى ومائتين ـ ولم يزل بها إلى أن توفى سنة ٢٠٤ ه‍.

[انظر الوفيات ج ٤ ص ١٦٥].

(٤) هو الإمام أحمد بن حنبل تلميذ الإمام الشافعى. وما بين المعقوفتين من عندنا.

(٥) ما بين المعقوفتين عن تاريخ بغداد ج ٢ ص ٥٧.

٤٨٤

الزعفرانى ، ومحمد بن سعيد العطار ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، ويونس ابن عبد الأعلى الصّدفى ، وإسماعيل المزنى ، وأبو الحسن المقرئ ، ومحمد بن أحمد بن سابق الخولانى ، وحرملة بن يحيى التجيبى ، وأحمد بن عبد الرحمن ، وأبو بكر عبد الله (١) بن الزبير الحميدى ، والحارث بن سريج ، وعبد العزيز ابن يحيى المكّى وغيرهم.

وأخذ عنه جملة محذوفة الأسانيد الربيع بن سليمان ، وروى عنه ، قال : سمعت الشافعى يقول : «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة»](٢).

وعن حميد بن زنجويه (٣) قال : سمعت أحمد بن حنبل ، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم : «أنّ الله يمنّ على أهل دينه فى رأس (٤) كل مائة سنة برجل من أهل بيتى (٥) يبين لهم أمر دينهم». وإنى نظرت فى رأس المائة الأولى [فإذا هو](٦) عمر بن عبد العزيز ، وفى رأس المائة الثانية الشافعى محمد بن إدريس رضى الله عنه.

وعن أحمد بن حنبل رضى الله عنه قال : ما رأيت أحدا تبع الأثر مثل الشافعى. وعن الشافعى رضى الله عنه أنه قال : أشد الأعمال ثلاثة : الجود من قلّة ، والورع فى خلوة ، وكلمة حق عند من يرجى ويخاف.

وعن أبى بكر الحميدى قال : قدم الشافعى رضى الله عنه من صنعاء ومعه عشرة آلاف دينار ، فنزل قريبا من مكة ، فأتاه أصحاب يسلمون عليه ، فما برح ومعه منها شىء (٧).

__________________

(١) فى «م» : «وأبى بكر بن عبد الله» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

[انظر تذكرة الحفاظ ص ٤١٣ ، وانظر الإمام الشافعى للدكتور مصطفى الشكعة ص ١٨٣].

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» ، والمشار إليه بالهامش رقم (٢) فى ص ٤٨٤.

(٣) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «حميد وابن ريحانة».

(٤) فى «م» : «فى كل رأس».

(٥) فى «م» : «أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلم».

(٦) ما بين المعقوفتين عن «ص».

(٧) فى «م» : «فما برح بشىء من المال».

٤٨٥

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه : يا أبت ، أىّ رجل كان الشافعىّ ، فإنّى رأيتك تكثر الدعاء له (١)؟ فقال : يا بنىّ ، كان الشافعى كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر هل تجد لهذين من خلف أو عنهما من عوض (٢)؟.

وعن الربيع بن سليمان قال : كان الشافعى يفتى وهو ابن خمس عشرة سنة ، وكان يحيى الليل إلى أن مات (٣).

وعن الحميدى (٤) قال : سمعت الشافعىّ رضى الله عنه يقول : قال لى خالد الزنجى : «أفت يا أبا عبد الله ، فقد آن لك أن تفتى». والشافعى إذ ذاك سنّه ما ذكر (٥). نفعنا الله بعلومه وبركاته.

وقال حسين بن علّى الكرابيسى (٦) : بتّ مع الشافعى ليلة ، فكان يصلى عامّة الليل ، فما رأيته يزيد على خمسين آية فى التلاوة ، وإذا أكثر فمائة ، وكان لا تمر به آية رحمة إلّا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين ، ولا تمرّ به آية عذاب إلّا تعوّذ منها وسأل الله تعالى النجاة لنفسه وللمؤمنين أجمعين.

__________________

(١) «له» عن «ص».

(٢) فى «ص» : «من خلف منهما أو عوض عنهما؟». ولم ترد فى «م» جملة : «أو عنهما من عوض».

(٣) فى «م» : «كان الشافعى يحيى الليل وهو ابن خمسة عشر سنة (هكذا) وأفتى فى هذه السن إلى أن مات».

(٤) من هنا إلى قوله : «ويضعف صاحبه عن العبادة» عن «م» وساقط من «ص».

(٥) أى : خمس عشرة سنة. هكذا فى «م». وفى تاريخ بغداد : «نبأنا الحميدى عبد الله بن الزبير قال : سمعت مسلم بن خالد الزنجى ـ ومرّ على الشافعى وهو يفتى وهو ابن خمس عشرة سنة ، فقال : يا أبا عبد الله ، أفت ، فقد آن لك أن تفتى». وقد علّق على ذلك الخطيب البغدادى قائلا : «وليس ذلك بمستقيم ، لأن الحميدى كان يصغر عن إدراك الشافعى وله تلك السن. والصواب ما أخبرنا على بن المحسن قال : نبأنا محمد بن إسحاق الصفار قال : نبأنا عبد الله بن محمد بن جعفر القزوينى قال : سمعت الربيع بن سليمان يقول : سمعت عبد الله بن الزبير الحميدى يقول : قال مسلم بن خالد الزنجى للشافعى : يا أبا عبد الله أفت الناس ، آن لك والله أن تفتى ، وهو ابن دون عشرين سنة. [انظر المصدر السابق ج ٢ ص ٦٤].

(٦) فى «م» : «السبتى» وما أثبتناه عن تاريخ بغداد ج ٢ ص ٦٣ ، وانظر الإمام الشافعى للشكعة ص ١٨٩.

٤٨٦

وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال : مشى أبى مع بغلة الشافعى ، فرآه يحيى بن معين فقال : يا أبا عبد الله ، تمشى مع بغلته؟ قال : يا أبا زكريا ، اسكت لو لزمت البغلة لا نتفعت (١).

وقال الشافعى : ما شبعت مدة ست عشرة سنة إلّا شبعة واحدة طرحتها ، لأن الشبع يثقل البدن ، ويقسّى القلب ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة (٢).

وعن الربيع قال : كان الشافعى يختم فى كل شهر ثلاثين ختمة (٣) ، وفى شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ فى الصلاة (٤).

وقال (٥) : ما رأيت أورع من الشافعىّ ، ما كلّمته قطّ إلّا وأنا مقشعر من هيبته على لينه وتواضعه.

وقال أحمد بن صالح : قال الشافعى : يا أحمد ، تعبّد قبل أن ترأس ، فإنّك إن ترأست لم تقدر أن تتعبد.

وعن ابن أخى المزنى ، عن المزنى ، أنّ هارون الرشيد أمر للشافعى بعشرة آلاف دينار ، فما بلغ الباب حتى فرّقها فى بنى هاشم. وفى رواية الزبير بن أحمد الزهرى قال : أمر هارون الرشيد للشافعى بألف دينار ، فدعا بالحجّام فأصلح له من شعره فأعطاه خمسين دينارا ، ثم صرف الباقى صررا وفرّقها على من حضر من القرشيين.

__________________

(١) فى «م» : «لو مشيت من الجانب الآخر كان خيرا أو شرفا» وما أثبتناه عن المراجع السابقة.

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٣) فى «م» : «ثلاثين ختمة من القرآن».

(٤) فى «م» : «سوى ما بقى يقرأ فى الصلاة».

(٥) من هنا عن «م» وساقط من «ص».

٤٨٧

وقال الربيع : سمعت الشافعى يقول : عليك بالزّهد ، فالزّهد على الزّاهد أحسن من الحلى على الناهد.

وقال الربيع : سمعت الشافعى يقول : ما نظرت أحدا إلّا تمنيت أن يكون الحق معه ، وفى رواية : تمنيت أن يظهر الحقّ على يديه ، ومعناه ـ كما قال البيهقيّ رحمه الله : لن يستنكف (١) عن الأخذ به ، بخلاف خصمه ، فإنه قد يستنكف ، فلا يأخذ به.

وكان جهورىّ (٢) الصوت ، وبلغ فى الكرم والشجاعة [ودقة](٣) الرمى ، وصحة الفراسة ، وحسن الأخلاق إلى الغاية. وقوله حجّة فى اللغة.

وقال عبد الرحمن بن مهدى : سمعت مالكا يقول : ما أتى على قريش أفهم من الشافعى. وسمعت الربيع يقول : لو وزن عقل الشافعى بنصف أهل الأرض لرجحهم ، ولو كان فى بنى إسرائيل لاحتاجوا إليه. وقال أحمد بن حنبل : ما من أحد مسّ بيده محبرة إلّا وللشافعى فى عنقه منّة (٤).

وذكر القاضى عياض فى المدارك عن الربيع أنه قال : كنا فى حلقة الشافعى جلوسا (٥) بعد موته بيسير ، فوقف أعرابىّ عليها وسلّم ثم قال : أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا : مات! فقال : رحمه الله وغفر له ، كان يفتح ببيانه مغلق الحجّة ، ويسدّ فى خصمه واضح المحجّة ، ويغسل من العار وجوها مسودّة ، ويوسع بالرأى أبوابا منسدّة. ثم انصرف.

__________________

(١) لن يستنكف ، أى : لن يأنف أو يتكبر أو يمتنع عن الأخذ به. وفى «م» : «أن» مكان «لن». لا يصح.

(٢) جهورى : مرتفع.

(٣) ما بين المعقوفتين عن المصادر السابقة ولم ترد فى «م».

(٤) المنّة : الإحسان والفضل.

(٥) فى «م» : «جلوسا ثمّ» أى : هناك.

٤٨٨

وعن أحمد بن خلاد قال : قال لى رجل من أولاد الفضل بن الربيع (١) : بعث إلىّ هارون الرشيد فى ساعة لم تكن العادة أن آتى فى مثلها ولا أدعى ، فأسرعت إلى أن وقفت بين يديه ، فقال لى وهو فى غاية الحنق : يا فضل ، قلت لبيك يا أمير المؤمنين. قال : ما فعل الحجازىّ (٢)؟ قلت : هو بالباب يا أمير المؤمنين. قال : أدخله. فانطلقت وقلت له : ادخل. فقام وهو يحرك شفتيه ، فلما دخلنا عليه قام له الرشيد ، وأقبل إليه يمشى ، ثم قال له : لم تر من حقنا على نفسك أن تزورنا حتى بعثنا إليك ، وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم. فقال : لا أرب لى فيها (٣) يا أمير المؤمنين. فقال له بالقرابة التى بينى وبينك إلّا ما أخذتها ، احملها معه يا فضل.

فلما خرجنا وسكن عنه الرعب قلت له : رأيتك تحرك شفتيك بشىء ، فما الذي قلت؟ قال : حدّثنى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا يوم الأحزاب على قريش فقال : «اللهم إنّى أعوذ بنور قدسك ، وعظمة طهارتك ، وبركة جلالك ، من كل آفة وعاهة ، ومن طارق الليل والنهار ، إلّا طارقا يطرق بخير ، يا رحمن. اللهم أنت ملاذى فبك ألوذ ، وأنت عياذى فبك أعوذ ، وأنت غياثى فبك أغوث. يا من ذلّت له رقاب الجبابرة ، وخضعت له مقاليد الفراعنة ، أعوذ بك من خزيك ، ومن كشف سترك ، ومن نسيان ذكرك ، والانصراف عن شكرك ، أنا فى كنفك ليلى ونهارى ، ونومى وقرارى ، وظعنى وأسفارى ، ذكرك شعارى ، وثناؤك دثارى ، لا إله إلّا أنت ، تعظيما لاسمك ، تكريما لسبحات وجهك ، أجرنى من خزيك ومن شرّ عقابك ، واضرب علىّ سرادقات حفظك ، وأدخلنى فى حفظ عنايتك ، وعد علىّ بخير منك يا أرحم الراحمين».

__________________

(١) فى «م» : «الفضل الربيع» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) يريد بالحجازى : الشافعى. [وانظر القصة فى الحلية ج ٩ ص ٧٨ ـ ٨٠].

(٣) أى : لا حاجة لى بها.

٤٨٩

قال الفضل بن الربيع : فكتبت هذا الدعاء وحفظته ، فما دخلت على أحد كنت أخاف سطوته إلّا كشف الله تعالى عنى سطوته. فهذا من أول بركات الشافعى رضى الله عنه.

وقال عبد المحسن العدوى رحمه الله تعالى : ما نالنى شىء كرهته إلّا صليت الصبح فى جماعة بالجامع العتيق بمصر ، ثم صعدت الكهف فصليت ركعتى الضّحى ، ثم نزلت إلى قبر الشافعى فترحّمت عليه ، وسألت الله تعالى هناك فى كشف كربى إلّا وجدت الإجابة. فعليكم بملازمة ذلك.

وحدّث هشام بن عمّار ، مؤدب المتوكل على الله تعالى قال : سمعت المتوكل يقول : وا حسرتى على محمد بن إدريس الشافعى ، كنت أحب أن أكون فى أيّامه فأراه وأشاهده وأتعلم منه ، فإنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول فى المنام ثلاث ليال متواليات : يا أيها الناس ، إنّ محمد بن إدريس المطّلبى قد سار إلى الله وخلف فيكم علما حسنا فاتّبعوه تهتدوا ، فإنّ كلامه من سنّتى. يا أيها الناس ، من ترحّم على محمد بن إدريس الشافعى غفر الله تعالى له ما أسرّ وما أعلن.

ثم قال المتوكل : محمد بن إدريس الشافعى بين العلماء كالشمس بين الكواكب ـ رحمة الله عليه.

وقال نفطويه فى أبيات له (*) :

مثل الشّافعىّ فى العلماء

مثل البدر فى نجوم السّماء

قل لمن قاسه بغير نظير

أيقاس الضّياء بالظّلماء؟

كان والله معدنا لعلوم

سيّد الناس أفقه الفقهاء

اقتدى بالنّبيّ فى حسن قول

وأقام البدار للسّفهاء

__________________

(*) فى وفيات الأعيان أنها من أمالى حفدة العطاردى الفقهى الشافعى. انظر المصدر المذكور ج ٤ ص ٥٩٦ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ٢٤٠ ، ومعنى من أماليه أى : من العلوم التى كان يميلها على تلاميذه.

٤٩٠

وروى عن أبى إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزنّى رحمه الله ، قال : رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فى المنام ، فسألته عن الشافعى ، فقال عليه السلام : من أراد محبّتى وسنّتى فعليه بمحمد بن إدريس الشافعى المطّلبى ، فإنه منّى وأنا منه.

وقال أبو جعفر الترمذى : كنت أكتب الحديث فخطر بقلبى الفقه ، وكنت بالمدينة النبوية ، فنمت تلك الليلة فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، أنظر فى رأى الشافعى؟ فقال : لا تقل «رأى» تلك «سنّتى».

وقال بلال الخواص : كنت فى التّيه فى طريق الحجاز فإذا برجل يكانعنى (١) ، فتعجبت ، ثم ألهمت أنّه الخضر ، فقلت : بحق الحق ، من أنت؟ فقال : أخوك الخضر. فقلت : أريد أن أسألك. قال : سل. قلت : ما تقول فى الشافعى؟ قال : هو من الأوتاد. قلت : فبأى شىء رأيتك؟ قال : ببرّك لوالدتك. قلت : فما تقول فى أحمد بن حنبل؟ قال : رجل صدّيق. ثم استتر عنى.

وحكى عن محمد بن نصر المروزىّ المحدّث ، ولم يكن يحسن الرأى فى الشافعى ، قال : أغفيت فى المسجد النبوى وأنا قاعد ، فرأيت النّبىّ صلّى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، أكتب رأى فلان؟ قال : لا. قلت : أكتب رأى الشافعى؟ فطأطأ رأسه كالغضبان وقال : لا تقل «رأى» ، ليس بالرأى ، هو ردّ على من خالف سنّتى. قال : فخرجت فى إثر هذه الرّؤيا إلى مصر ، وكتبت كتب الشافعى ، وصرت من أتباع مذهبه. وهذا محمد بن نصر ، من أصحاب الوجوه المشهورة.

ودخل رجل على الربيع بن سليمان المرادى (٢) خادم الشافعى وصاحبه

__________________

(١) يكانعنى ، أى : يقترب منّى حتى يكاد يلاصقنى.

(٢) فى «م» : «الماردى» تحريف من الناسخ.

٤٩١

يعوده فى مرضه ، فقال للربيع : رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم قائما بحذاء الكعبة عند المقام ، فقلت : يا رسول الله اختلف الناس بعدك ، إلى أن قلت : فما تقول فى محمد ابن إدريس الشافعى؟ فقال صلّى الله عليه وسلم : ابن عمّى اتّبع سنّتى ، اتبعه ترشد.

وقال أبو الحسن على بن أحمد الدينورى الزاهد : رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فى المنام فقلت : يا رسول الله ، بقول من آخذ؟ فأشار إلى علّى بن أبى طالب فقال : خذ بيد هذا فأت به ابن عمنا الشافعى ليعمل بمذهبه فيرشد ، ويبلغ باب الجنة.

ثم قال : الشافعى بين العلماء كالبدر بين الكواكب. ويكفيه هذا الثناء.

ويحكى عن الشافعى رحمه الله قال : رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فى المنام فقال لى : يا غلام ، فقلت : لبيك يا رسول الله ، فقال : ممّن أنت؟ فقلت : من رهطك يا رسول الله ، فقال : أدن منى. فدنوت منه ، فمرّ من ريقه على لسانى وشفتى وقال : امض بارك الله فيك. فما أذكر أن لحنت فى حديث بعد ذلك.

وأفتى الشيخ محيى الدين النواوى فيما لو حلف الحالف بالطلاق أنّ الشافعى أفضل الأئمة فى عصره ، ومذهبه خير المذاهب ، أنه لا يقع عليه الطلاق (١).

وبالجملة فالكلام كثير على فضله. ولما مرض مرضه الذي مات فيه ، وذلك فى سنة ٢٠٤ ه‍ (٢) ، أملى وصية منه على إنسان صورتها : «هذا كتاب كتبه محمد ابن إدريس الشافعى فى شهر كذا ، فى سنة كذا ، وأشهد الله عالم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وكفى به ـ جلّ ثناؤه ـ شهيدا ، ثم من سمعه ، أنه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ،

__________________

(١) كرر الكاتب هنا سهوا ما سبق أن ذكره ، من رواية «رؤيا نزع الخاتم من يد علىّ وجعله فى يد الشافعى» وقد وردت فى أول ترجمة الشافعى لذا تعمدنا عدم إثباتها هنا مرة ثانية.

(٢) حينما أحسّ الشافعى باقتراب رحيله إلى عالم الخلد فى العام السابق على وفاته ـ أى : سنة ٢٠٣ ه‍ ـ حرر وصيتين اثنتين. واحدة فى صفر سنة ٢٠٣ ه‍. والثانية فى شعبان سنة ٢٠٣ ه‍ أيضا.

[انظر الوصيتين فى كتاب الإمام الشافعى لعبد الحليم الجندى ص ٢٩١ ـ ٢٩٣].

٤٩٢

صلّى الله عليه وسلم ، لم يزل يدين الله بذلك ، وبه يدين حتى توفّاه الله ويبعثه عليه لو شاء الله ، وأنه يوصى نفسه وجماعته ومن سمع وصيته بإحلال ما أحلّ الله تعالى فى كتابه ، ثم على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلم ، وتحريم ما حرّم الله فى الكتاب ثم فى السّنّة ، ولا يجاوزنّ من ذلك إلى غيره ، وإنّ مجاوزته ترك فرض الله ، وترك الكتاب والسّنّة (١) وهما من المحدثات ، والمحافظة على أداء فرائض الله تعالى فى القول والعمل ، والكفّ عن محارمه خوفا لله تعالى ، وكثرة ذكر الوقوف بين يدى الله تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، وأن يترك الدنيا حيث أذلّها الله ولم يجعلها دار مقام ، إلّا مقام مدة عاجلة الانقطاع ، وإنما جعلها دار عمل ، وجعل الآخرة دار قرار وجزاء بما عمل فى الدنيا من خير أو شر ـ إن لم يعنه جل ثناؤه .. (٢).

وأن يعرف المرء زمانه ، ويرغب إلى الله فى الخلاص من شر نفسه ، ويمسك عن الإسراف بقول أو فعل فى أمر لا يلزمه ، وأن يخلص النّيّة لله فيما قال وعمل ، فإن الله يكفى ممّا سواه ولا يكفى منه شىء».

ثم أكمل بعد هذا إقران (٣) الوصية بذكر ما أوصى من عتق وصدقة وغير ذلك. ثم قضى بعد ذلك (٤).

قال يونس بن عبد الأعلى : دخلت عليه (٥) ، فقال لى : «يا أبا موسى ، اقرأ علىّ ما بعد العشرين والمائة من آل عمران وأخفّ القراءة ولا تثقل». فقرأت عليه ، فلما أردت القيام قال : «لا تغفل عنى فإنّى مكروب».

__________________

(١) فى «م» : «وترك ما خالف الكتاب والسّنّة» وهذا وهم وليس من الناسخ.

(٢) هنا فى «م» جملة مقحمة لا معنى لها أهملناها.

(٣) فى «م» : «ثم أكمل بعد هذه الإقران».

(٤) قضى ، أى : توفى ، وكان ذلك عام ٢٠٤ ه‍.

(٥) أى : على الشافعى ، وكان ذلك فى آخر لحظات حياته وهو يودع الدنيا.

٤٩٣

ودخل عليه المزنّى فى صبيحة يومه فقال : كيف أصبحت يا أستاذ؟ قال : «أصبحت من الدنيا راحلا ، ولإخوانى مفارقا ، ولكأس المنيّة شاربا ، وعلى الكريم واردا ، ولسوء أعمالى ملاقيا» ، ثم رمق بطرفه إلى السماء واستعبر وأنشأ يقول :

إليك إله الخلق أرفع رغبتى

وإن كنت يا ذا المنّ والجود مجرما (١)

ولمّا قسا قلبى وضاقت مذاهبى

جعلت رجائى نحو عفوك سلّما (٢)

تعاظمنى ذنبى فلمّا قرنته

بعفوك ربّى ، كان عفوك أعظما (٣)

فمازلت ذا عفو عن الذّنب لم تزل

تجود وتعفو منّة وتكرّما

ولولاك ما يغوى بإبليس عابد

فكيف وقد أغوى صفيّك آدما (٤)

فإن تعف عنّى تعف عن متمرّد

ظلوم غشوم لا يزايل مأثما (٥)

وإن تنتقم منّى فلست بآيس

وإن دخلت نفسى بجرمى جهنّما (٦)

فذنبى عظيم من قديم وحادث

وعفوك يا ذا المنّ أعلى وأجسما (٧)

وتوفى ـ رضى الله عنه ـ فى ليلة الجمعة بعد المغرب ، كما قال الربيع ، قال : وكنت عنده ، ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من شهر رجب ، وانصرفنا من جنازته فرأينا هلال شعبان سنة ٢٠٤ ه‍.

__________________

(١) قوله «مجرما» عن الديوان ولم ترد فى «م». [انظر ديوان الشافعى بتحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجى].

(٢) هكذا فى «م» .. والشطرة الثانية من البيت فى الديوان : «جعلت الرّجا منى لعفوك سلّما».

(٣) تعاظمنى : عظم علىّ.

(٤) هكذا البيت فى «م» .. والشطرة الأولى من البيت فى الديوان : «فلولاك لم يصمد لإبليس عابد».

(٥) فى «م» : «ما يزال مأثما» وما أثبتناه عن الديوان ، وكلاهما صحيح الوزن والمعنى.

(٦) هكذا فى «م» .. وفى الديوان جاءت الشطرة الثانية من البيت هكذا : «ولو أدخلوا نفسى بجرم جهنّما»

(٧) فى الديوان : «فجرمى» مكان «فذنبى» .. وفيه «وعفوك يأتى العبد» مكان «وعفوك يا ذا المنّ».

٤٩٤

كما ذكر بعضهم حاكيا عن المزنّى : ناحت الجنّ ليلة مات الشافعىّ. ودفن ـ رضى الله عنه ـ بمقبرة بنى عبد الحكم. قال الفضل بن أبى نصر : قرأت على قبر الشافعى ـ رضى الله عنه ـ بمصر ، فى مقابر بنى عبد الحكم.

وعلى جانب القبر : هذا ما شهد محمد بن إدريس : أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، ويشهد أنّ الجنّة حق ، والنار حق ، والموت حق ، وأنّ الله يبعث من فى القبور. على هذه الشهادة حيى محمد بن إدريس ، وعليها مات ، وعليها يبعث إن شاء الله من الآمنين.

اللهمّ اغفر ذنبه ، ونوّر قبره (١) ، واحشره مع نبيّه صلّى الله عليه وسلم ، واجعله من رفقائه ، آمين يا ربّ العالمين.

وقال أبو عبد الله الحسن بن جعفر الورّاق ببغداد : قرأت على حجر عند قبر الشافعى من جهة رأسه بيتين ، وهما فى نفس الحجر :

قد وفينا بنذرنا يا بن إدريس (م)

وزرناك من بلاد العراق

وقرأنا عليك ما قد حفظنا

من كلام المهيمن الخلّاق

وحدّثونا أنّ إنسانا من أهل العراق ، من أجلّة الفقهاء ، نذر بالعراق أن يخرج إلى مصر ، ويختم عند قبر الشافعى أربعين ختمة ثم يرجع ، فخرج مسافرا ، وختم أربعين ختمة ، وحفر هذين البيتين فى الحجر المنصوب على رأس القبر.

وقيل : لمّا دفن الشافعى وقف المزنى على قبره وقال :

سقى الله هذا القبر من أجل من به

من العفو ما يغنيه عن طلل المزن

فقد كان كفوا للعداة ومعقلا

وركنا لهذا الدّين ، بل أيّما ركن

__________________

(١) فى «م» : «قلبه».

٤٩٥

وقال غيرة :

لله درّ الثّرى ما ضمّ من كرم

بالشّافعيّ خليف السّقيم والسّهر

يا جوهر الجوهر المكنون من مضر

ومن قريش ومن ساداتها الأخر

لمّا توفّيت ولّى العلم مكتئبا

وضرّ موتك أهل البدو والحضر

وبلغ سنّ الشافعى ـ رحمه الله تعالى ـ يوم مات أربعا (١) وخمسين سنة ، فإنه ولد ـ رضى الله عنه ـ بغزة ـ وقيل بعسقلان ـ وقيل بل بغزة وحملته أمه إلى عسقلان كما نقل ذلك ابن عبد الحكم فى سنة خمسين ومائة ، وهى السنة التى توفى فيها أبو حنيفة. وكان يخضّب لحيته بالحنّاء. وخلّف من الأولاد ولده محمدا المكنى أبا عبد الله ، وقيل أبا عثمان ، وقيل : بل إنّ أبا عثمان ولد آخر. وولده المكنى أبا الحسن ، وابنته فاطمة وزينب.

ودفن حول قبره جماعة من بنى عبد الرحمن بن عوف الزهرى وغيرهم (٢).

قبر عبد الله (٣) بن عبد الحكم :

وإلى جانب قبره من القبلة عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع القرشى ثم المصرى. قدم أعين إلى الإسكندرية (٤) وولد له بها عبد الحكم. وكان عبد الله فقيها كاتبا عزيز المنزلة (٥) عند السلطان. وقد توفى سنة ٢١٢ ه‍ وكانت ولادته فى سنة ١٥٤ ه‍.

__________________

(١) فى «م» : «أربع» لا تصح ، والصواب بالنصب.

(٢) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص» والمشار إليه فى الهامش رقم (٥١٢).

(٣) فى «ص» : «الشيخ أبو محمد عبد الله» والعنوان لم يرد فى «م».

(٤) فى «ص» : «لما قدم مصر سكن الإسكندرية».

(٥) فى «ص» : «له منزلة».

٤٩٦

وبجانبه قبر ولديه عبد الرحمن ومحمد ، أمّا محمد فكان عالما ورعا ، وكان أحد الأئمة المشهورين ، حدّث عن محمد بن إدريس الشافعى وغيره (١) ، كابن وهب ، وابن عياض ، وإسماعيل بن مرزوق ، والحسن بن الفرات.

وكان ثقة ، وولى القضاء بمصر ، وهو الذي استقبل الشافعى لمّا قدم بألف دينار. وتوفى سنة ٢٦٨ ه‍.

وبجانبه (٢) فى قبره عبد الرحمن ، وهو صاحب كتاب «فتوح مصر» ، وله من المؤلفات غيره. وكان عالما فاضلا ذكيّا ، وتوفى يوم الخميس الرابع عشر من المحرم الحرام سنة ٢٥٧ ه‍.

وبجانبهم قبر أبى الحسن المقرئ المعروف بالحبّال (٣). كان من خيار خلق الله تعالى ، وسمع الكثير ، وحدّث عن أبى الفتح ، وأبى الحسن على بن الحسين ابن عز الدين الموصلى ، وأبى عيسى بن خليل بن غلبون ، وغيرهم.

ومن مروياته من طريق مروان بن الحكم : قال مروان : قلت لعائشة : هل كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول : «لو أنّ لابن آدم جبلين من ذهب لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله على من تاب» (٤)؟

قبر العلّامة نجم الدين بن الموفق الخبوشانّي (٥) :

ويلى قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعى من الشرق قبر العلّامة الفاضل نجم الدين محمد بن الموفق بن سعيد بن على بن الحسين الخبوشانى ، الفقيه الصوفى

__________________

(١) فى «ص» : «وغيره من الأئمة ـ رحمة الله عليهم ـ وكان ثقة» ولم يذكر الأئمة الذين حدّث عنهم ، وهم هنا عن «م».

(٢) من أول هنا عن «م» وساقط من «ص».

(٣) فى «م» : «المقرى المعروف بالحيال».

(٤) هكذا الحديث فى «م» ولم يثبت فيها الرد بالإيجاب أو النفى. والحديث صحيح ، رواه البخارى فى الرقاق ، ومسلم فى الزكاة ، وابن ماجه فى الزهد ، والترمذى فى الزهد ، والدارمى فى الرقاق.

(٥) العنوان من عندنا. [وانظر ترجمته فى طبقات الشافعية ج ٧ ص ١٤ ـ ١٦ ، ووفيات]

٤٩٧

الشافعى (١). يكنى أبا البركات ، مولده بأستوى خبوشان فى سنة ٥١٠ ه‍ ، وهى بلدة بنواحى نيسابور ، وأستوى ناحية كثيرة القرى من أعمال نيسابور ، قال ذلك بعض (٢) المؤرخين.

وتفقّه المذكور على محمد بن يحيى (٣) تلميذ الغزالى ، وحدّث عن أبى الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد القشيرى. وقدم مصر سنة ٥٦٥ ه‍ واستوطنها ، وأقام ببعض المساجد ، وذلك فى دولة العبيديين ... والمسجد قيل : هو بباب الجوانية ، ثم انتقل إلى القرافة ، وجاور بتربة الإمام الشافعى. ولمّا ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر ، أفتاه بقتل «العاضد» (٤) ، وأشار عليه ببناء المدرسة الصلاحية (٥) المجاورة لضريح الإمام محمد بن إدريس الشافعى ، فقبل ذلك منه وبناها (٦).

__________________

الأعيان ج ٤ ص ٢٣٩ و ٢٤٠ ، وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٦ و ٤٠٧ ، والنجوم الزاهرة ج ٦ ص ١١٥ و ١١٦ ، وشذرات الذهب ٤ ص ٢٨٨ ، والعبر للذهبى ج ٣ ص ٩٥].

(١) فى وفيات الأعيان : أنه دفن فى قبّة تحت رجلى الشافعى ، وبينهما شباك.

[انظر المصدر المذكور ج ٤ ص ٢٤٠].

(٢) فى «م» : «بعد» تصحيف.

(٣) هو محمد بن يحيى بن أبى منصور النّيسابورى الملقب محيى الدين فقيه شافعى ، أستاذ المتأخرين وأوحدهم علما وزهدا ، ولد سنة ٤٧٦ ه‍ ، وتفقه على الإمام حجة الإسلام أبى حامد الغزالى ، وأبى المظفر أحمد بن محمد الخوافى. انتهت إليه رياسة الفقه بنيسابور وقتله الغزّ سنة ٥٤٨ ه‍ لمّا استولوا على نيسابور فى وقعتهم مع السلطان سنجر السلجوقى.

[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٧ ص ١٣٧ ، وطبقات الشافعية للسبكى ج ٧ ص ٢٥ ـ ٢٨ ، ووفيات الأعيان ج ٤ ص ٢٢٣ و ٢٢٤ ، والعبر للذهبى ج ٣ ص ٧ و ٨ ، والنجوم الزاهرة ج ٥ ص ٣٠٥ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ١٥١].

(٤) هو العاضد عبد الله العبيدى صاحب مصر. [انظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٢ ، والنجوم الزاهرة ج ٥ ص ٣٣٤ ـ ٣٥٧].

(٥) فى «م» : «المدرسة الصالحية» تصحيف ، وما أثبتناه عن حسن المحاضرة ج ١ ص ٤٠٦ نسبه إلى صلاح الدين.

(٦) فى «م» : «وبناه» لا يصح ، فالضمير يعود على المدرسة المذكورة.

٤٩٨

وسمعت من بعض الفقهاء أن المنقوش فى الرخام الذي (١) بباب المدرسة المذكورة ما شرطه الواقف ، وصورة الشرط : «هذه المدرسة موقوفة على الشيخ نجم الدين الخبوشانى ، والفقهاء الشافعية الأصولية الأشعرية» إلى آخره ..

واستمر المذكور يدرّس بها ، ولم يأكل شيئا (٢) من وقفها ، ولم يأكل من مال الملوك درهما ، وكان علّامة قليل النظير فى وقته فى الزهد ، وكان يستحضر «المحيط» (٣) لمحمد بن يحيى ـ على ما قيل ـ حتى أنه عدم الكتاب فأملاه من خاطره .. ورأيت له كتاب «تحقيق المحيط» وهو فى ستة عشر مجلدا. وصنف أيضا فى الخلاف. وتوفى يوم الأربعاء ثانى عشر (٤) ذى القعدة سنة ٥٨٧ ه‍.

وكان السلطان صلاح الدين يقربه ويكرمه ويعتقد فيه ، وقيل : حضر إليه الملك العزيز وصافحه ، فدعا بماء وغسل يده وقال : يا ولدى ، إنك تمسك العنان [ولا يتوقّى الغلمان عليه](٥) فقال له : نعم ، واغسل (٦) وجهك فإنك بعد المصافحة لمست وجهك. فقال : نعم. وغسل وجهه.

وكان إذا رأى ذمّيّا راكبا قصد قتله. وكان أهل الذّمّة يتحامونه .. ولما مات دفن فى الكساء الذي حضر فيه من خبوشان.

ويقال : إنّ «العاضد» خليفة مصر رأى فى منامه ـ آخر دولته ـ أن عقربا (٧) خرجت إليه من مسجد [معروف] فى مصر ولسعته (٨) ، فلما قصّه

__________________

(١) فى «م» : «التى» لا تصح.

(٢) فى «م» : «شىء» خطأ ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) هو كتاب «المحيط فى شرح الوسيط».

(٤) فى «م» : «ثامن عشر» وما أثبتناه عن السيوطى والوفيات ، وهو الصحيح.

(٥) ما بين المعقوفتين سقط سهوا من الناسخ فى «م» ، وقد أثبتناه عن طبقات الشافعية ج ٧ ص ١٦. ويتوقى : يصان عن الأذى ويحفظ.

(٦) فى «م» : «وامسح». وما أثبتناه عن المصدر السابق.

(٧) فى الطبقات : «حية». [انظر طبقات الشافعية ج ٧ ص ١٨].

(٨) فى «م» : «فلذعته» ، وما بين المعقوفتين عن المصدر السابق.

٤٩٩

على المعبّر قال : ينالك مكروه من شخص مقيم فى المسجد الفلانى [فأرسل جماعة فى صبيحة ليلته إلى ذلك المسجد ، فما رأوا فيه إلّا شخصا أعجميّا فقيرا ، فردّوه إليه](١) فلما رآه سأله : من أين حضر (٢)؟ ومتى قدم؟ فكلما يسأله عن شىء يجيبه. فلما ظهر له حاله وضعفه وعجزه عن إيصال مكروه منه (٣) أعطاه شيئا وقال : يا شيخ ، ادع لنا ، وأطلقه. فلما استولى السلطان صلاح الدين وعزم على القبض على «العاضد» استفتى الفقهاء فى خلعه (٤) ، فكان أكثرهم مبالغة فى الحطّ على العاضد وأشدهم قياما فى أمره ذلك الشيخ المقيم فى المسجد ، الذي أحضره (٥).

* * *

ثم تأتى إلى [قبر](٦) القاضى عبد الوهاب ، وتنحرف إلى الخندق ، ثم تشرّق قليلا تجد قبرا (٧) كان عليه رخام مكتوب عليه : الحسين بن كثير (٨).

قبر الإمام ورش المدنى (٩) :

ثم تمرّ مستقبلا (١٠) ، تجد قبر الإمام الفاضل عثمان ، الملقّب بورش

__________________

(١) ما بين المعقوفتين عن المصدر السابق ، وقد ورد فى «م» مضطرب السياق.

(٢) فى «م» : «من أين حضوره».

(٣) فى «م» : «منه إلى العاضد».

(٤) فى الوفيات : «فى قتله».

(٥) فى «م» : «ذلك الصوفى الذي أحضره» ، يعنى الخبوشانى ، وذلك لما كان عليه العاضد وأشياعه من فساد العقيدة.

[انظر الوفيات ج ٣ ص ١١١ والمصادر السابقة].

(٦) ما بين المعقوفتين من عندنا.

(٧) فى «م» : «قبر» خطأ ، والصواب بالنصب.

(٨) إلى هنا ينتهى الساقط من «ص».

(٩) فى «ص» : «قبر الشيخ أبى عمرو عثمان بن سعيد المعروف بورش المدنى». وهو عثمان ابن سعيد بن عدى المصرى ، من كبار القراء ، غلب عليه لقب «ورش» لشدة بياضه ، ولد سنة ١١٠ ه‍ وتوفى سنة ١٩٧ ه‍. [انظر ترجمته فى الأعلام ج ٤ ص ٢٠٥ ، ومعرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للذهبى ج ١ ص ١٢٦ ـ ١٢٨ ـ الطبقة الخامسة ، وتحفة الأحباب ص ٣٢٣].

(١٠) أى : ناحية القبلة. وهذا القبر موجود الآن بداخل مدفن عبد الفتاح بك محرم ، أحد قضاة

٥٠٠