إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

وفي أثناء وجوده في مكة زار الشريف حسينا فلقي منه كذلك كمال الإقبال. وبعد أداء مناسك الحج عاد في الخامس عشر من شهر ذي الحجة إلى جدة ، ولما كان في نحو منتصف الطرق لفحته الرمضاء فتوعك جسمه وانحلت قواه وألمت به حمّى شديدة تسمى في تلك البلاد الحمّى الخطّافة ، فوصل إلى جدة وقد ازداد به المرض ، فاستدعي له الطبيب فلم ينجع فيه دواء ، وفاضت روحه الكريمة ليلة السادس عشر من شهر ذي الحجة ، ودفن من الغد في تربة هناك. ولما جاء نبأ نعيه إلى حلب أسف الناس عليه أسفا لا مزيد عليه ، وبكى الكثير لأفول نيّر شمسه الذي كان ساطعا في سماء الشهباء وغيبوبته تحت أطباق الثرى. ولا ريب أن المصاب به كان جللا ، والخسارة بفقد ذاك العلم كانت عظيمة ، فقد كان حسنة من حسنات هذه الديار ، ودرة يتيمة في تاج هذا العصر.

وكان رحمه‌الله حسن الخلق محمود السيرة صافي القلب شريف النفس سامي المبدأ ناصحا في دينه ، لا يجد الغش مسلكا إلى قلبه ولا الخداع موطنا في فؤاده ، رقيق الطبع حسن العشرة متأنيا في حركاته ساكنا مع أصالة رأي. وبالجملة فهو جدير بقول من قال :

له صحائف أخلاق مهذبة

منها الحجا والعلا والفضل ينتسخ

وكان له في علم التوحيد والتفسير والأصول والفقه والمعاني والبيان اليد الطولى ، مع حسن التقرير والتفهيم. أجمع من قرأ عليه أن تقريره كان يدخل إلى الآذان بلا استئذان. وكان ذا همة عالية في دروسه ، لا تجده إلا في مطالعة أو إلقاء لها ، لا يعرف الكلل ولا الملل في ذلك.

وقد كان لي الصديق المخلص والخل الوفي ، يفضي كل واحد منا إلى الآخر بمكنونات قلبه ويطلعه على مخزونات سره. ولما فتحت المدرسة الخسروية وعينت لدرس التاريخ وغيره فيها كنت أذاكره في شؤون المدرسة وما يعود بالصلاح عليها ، وما أسرع اتفاقنا على ما يلزم عمله ، ولعلنا لم نختلف يوما قط ، وكأن الرأيين خرجا من قلب واحد. وكنا بعد الاتفاق نسعى في إبراز ذلك إلى حيز العمل.

وكان عظيم المحبة لرقي اللغة العربية ونشرها ، وترقي اللغة عنوان رقي الأمة ، ولذا لم يقصر سعيه في تعليمها في المدارس الدينية ، بل كان يسعى في نشرها في دار المعلمات أيضا.

٦٢١

وكان شديد الاهتمام في أمر الأمة الإسلامية وممن تشبعت أفكاره في لزوم إصلاح أحوالها العلمية والأخلاقية والاجتماعية لتنهض من كبوتها وتستعيد سابق منزلتها ، ولو طال أجله لقام بخدمات جلى نحو بلاده وأوطانه. ولعمري لو كان لدينا أشخاص بعدّ الأصابع على شاكلته وفكرته وطريقته وهمته لعلا من الشهباء منارها ، وانتشر العلم في ربوعها ، وعادت فيافيها القفراء رياضا غناء.

وكان يذهب إلى ما أراه أيضا من لزوم تشكيل لجنة علمية من المتخصصين في العلوم الفقهية تضع كتابا في الفقه على نسق مجلة الأحكام العدلية يكون واسعا وافيا بحاجة الناس ، تأخذ فيه من بقية المذاهب ، تبنيه على الأقوى من الأدلة وعلى ما يكون فيه المصلحة العامة للناس ، وتكون قد عملت بمقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن). ولا ريب أن الأمة الإسلامية في حاجة كبرى إلى مثل هذا الكتاب تسير عليه وتعمل بمقتضاه ، وذلك من أعظم الوسائل للم شعثها وجمع شملها وتوحيد كلمتها.

نعم يجب في أعضاء هذه اللجنة فوق السعة في العلم والمدارك أن يكونوا من المتمسكين بدينهم البعيدين عن الأغراض الشخصية والأهواء النفسية ، فإذا كانوا حائزين لهذه الشروط متصفين بهذه الخلال فيا لسعادة الأمة وفلاحها وقتئذ. وإن كانوا على خلاف ذلك فيالشقائها وتعاستها وخيبة مسعاها في دنياها وأخراها.

مؤلفاته :

وألف رحمه‌الله عدة مؤلفات مفيدة ، وهي :

(١) «مختصر دلائل الإعجاز» للإمام الجرجاني في علم المعاني ، اختصر فيه هذا الكتاب اختصارا حسنا ، وقد أحسن في ترتيبه وتنسيقه وذكر كل مسألة في البحث الذي تناسبه خلافا للأصل الذي كثيرا ما يذكر مسائل استطرادية في غير موضعها ، فجاء كتابا مفيدا للطلاب.

(٢) و «المنهاج السديد في شرح منظومة جوهرة التوحيد» ، وهو شرح لطيف لهذه المنظومة خال من الزيادات والحشو. وهذان الكتابان قرأهما في المدرسة الخسروية وطبعا في مطبعتي العلمية ، وهما المطبوعان من مؤلفاته.

٦٢٢

(٣) و «شرح على شرح الطائي للكنز» في الفقه الحنفي ، لم يكمل.

(٤) وكتاب في «أسماء أعضاء الإنسان» ، وهو كتاب مفيد فإنه قد جمع فيه ما تفرق في معاجم اللغة من أسماء أعضاء الإنسان.

(٥) وكتاب «عجالة الأديب وبلالة اللبيب» في فن البيان ، وقد أكثر فيه من إيراد الأمثلة والشواهد لتوضيح القواعد وتسهيل فهمها على الطلاب.

(٦) وكتاب «أسوة الأبرار بالنبي المختار».

(٧) وكتاب في أصول الفقه يبلغ مائتي صحيفة سماه «المقاصد السنية شرح القواعد الكرخية».

(٨) ومنظومة جمع فيها معاني الحروف العربية تبلغ مائة بيت سماها «الفيض الرؤوف في معاني الحروف».

(٩) و «رسالة في الحروف» ضمنها كثيرا من الأبحاث الاجتماعية.

(١٠ و ١١) و «رسالتان صغيرتان في الأخلاق».

(١٢) وترجمة كتاب في اللغة التركية لأحد الأطباء بين فيه حكمة التشريع وما للتكاليف الشرعية من الفوائد الاجتماعية والصحية ومطابقتها للقواعد الطبية.

(١٣) ورسالة في «عادات العرب قبل الإسلام» بين فيها ما كانوا عليه من العادات الحسنة والسيئة وما لهم من الاعتقادات الخرافية وأسباب تلك الاعتقادات.

(١٤) وكتاب كبير في اللغة على نسق «مفردات الراغب» يبحث في أصول اللغة واشتقاقها ، وهو مفيد جدا ، وهو مرتب على ترتيب المصباح ، ويبلغ حجمه حجم المصباح وقد أتم المسودة وشرع في تبييضه فوصل إلى حرف السين ، ومن الأسف أن المسودة غير مرتبة فلا يمكن إكمال هذا الكتاب منها.

(١٥) تقريرات لطيفة على رسالة الشيخ محمد عبده في التوحيد حررها حين قراءته لها في المدرسة الخسروية ، وقد أوضحت ما كان غامضا فيها.

وكان رحمه‌الله قصير القامة أسمر اللون قليلا مستدير الوجه نحيف الجسم ، يلوح من

٦٢٣

أسارير وجهه أمارات الذكاء والفطنة كما تراه في رسمه في الصحيفة الآتية.

ولما جاء نبأ نعيه أقامت له المدرسة الفاروقية التجهيزية مأتما وأبّن فيه نثرا ونظما ، فرثاه نظما تلميذه الشاب النجيب الشيخ محمد الحكيم بقصيدة في ٤٨ بيتا ومطلعها :

ذهب الزمان بنيّر العلماء

فاليوم نحن نخوض في الظلماء

ذهب الحنيفي راغبا في ربه

فهتكت درع تصبري وعزائي

بكت المعارف والعلوم لفقده

وبه تيتّم مجمع الفضلاء

لبست مدارسنا عليه حدادها

أو ما تراها معهد البأساء

أفلت شموس العلم عن شهبائنا

وغدت بجدة مطلع الأضواء

فالجهل في أجوائها متحكم

والبؤس والبرحاء في الأنحاء

ركن العلوم وهى رصين بنائه

واندك معهده من العلياء

كان العفاف شعاره ودثاره

والدين والتقوى من القرناء

حقا فإن مصابنا بمحمد

من أعظم الأقدار والأرزاء

وتلميذه الشاب النجيب الشيخ مصطفى الزرقا بقصيدة في أربعة وثلاثين بيتا مطلعها :

ما للعيون نواظرا لم تجمد

ما للقلوب نوابضا لم تخمد

ما للنفوس خوافقا لم تكمد

جزعا على علم العلوم محمد

لله فادحة دهتنا بغتة

دكّت عروش تصبري وتجلدي

قد كنت أحسب قبل ذاك جهالة

أن الزمان إذا رمى لم يقصد

حتى أتى الإسلام يوما راميا

فيهم بسهم في الصميم مسدّد

وعدا بأيديه عليهم مغمدا

منهم حساما لم يكن بالمغمد

قد كان في عنق الزمان مجرّدا

ليديل منه كلّ حظ أنكد

فشكا الزمان إلى المنون فأقبلا

يتعاونان ففلّ أيّ مهنّد

كان الثمال لنا بكل مهمة

وبحزمه كنا نروح ونغتدي

ومنها :

يا قلب مهلا في التململ والأسى

رفقا فإن الرفق أجمل مقصد

٦٢٤

٦٢٥

ما مات من عاشت له من بعده

مشكاة علم تستنار بمعهد

فاصبر لرزئك في تفاقم أمره

فالصبر عند الفادح المتلبّد

(وإذا ذكرت محمدا ومصابه

فاذكر مصابك بالنبي محمد)

١٣٣٢ ـ الشيخ أحمد الصدّيق المتوفى سنة ١٣٤٣

الشيخ أحمد بن أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن محمد صالح بن سليمان بن محمد المشهور بالصدّيق ، العالم الفاضل ، الصوفي النقشبندي الزاهد ، الأديب الشاعر.

ولد كما أخبرني هلال شوال سنة ١٢٦٠. ويوم مولده توفي والده. وكان أحد أجداده يقيم في الشام مدة وفي حلب مدة ، وتزوج بامرأة من الشام من بيت ناصر الدين وهي صدّيقية فاشتهر بها وصارت تعرف أسرته ببيت الصدّيق.

ولما بلغ من العمر ١٦ عاما تلقى مبادىء العلوم على الشيخ جوهر ، وقرأ عليه مقدار ثلاث سنوات النحو والفقه الأزهرية والمراقي ، إلى أن توفي شيخه المذكور وأوصاه أن لا يفارق درس شيخه الشيخ أحمد الترمانيني ليكون له نظر عليه ، فعمل بمقتضى ذلك وحضر على الأستاذ الكبير تفسير الجلالين وبعض حواشيه وغير ذلك.

وفي أواخر سنة ١٢٨٠ جاور في المدرسة القرناصية ، بقي فيها سنتين ، وخرج منها إلى دمشق فجاور في مدرسة الخيّاطين سنة كاملة ومدرسها يومئذ الشيخ عبد القادر الخطيب.

وفي سنة ١٢٨٣ رحل إلى مصر فبقي هناك أشهرا ، ومنها رحل إلى مكة فأدى فريضة الحج ، ثم رحل منها إلى المدينة المنورة فجاور ثمة سنتين قرأ فيها على جماعة متعددين أشهرهم الشيخ عبد القادر الحفّار الطرابلسي ، ومنهم الشيخ العذب المصري ، وكان من المتضلعين في علم الحديث ، ومنهم الشيخ عبد الله الدرّاجي المغربي. وأخذ الطريقة النقشبندية على الشيخ عبد الجبار ابن الشيخ علي البصري ، ومنها بأمر الشيخ المذكور توجه إلى البصرة سنة ١٢٨٥ فأقام بها إلى سنة ١٢٩٠ وصار يقرأ دروسا فيها. وتزوج هناك ببنت الحاج ناصر المسعود من أغنياء البصرة ، وكان ذا ثروة طائلة ، رغب في تزويجها منه لما رآه من فضله وأدبه وصلاحه.

٦٢٦

وفي سنة ١٢٩١ عاد إلى وطنه حلب وبقي هنا سنتين ، ثم توجه منها إلى الهند بتجارة هي ثياب حريرية التي تسمى [بالجتارة] وغزلية وكتب ، فربح ربحا حسنا ، وبقي هناك أربعة أشهر ، وعاد ببضاعة هندية إلى البصرة وبقي بها إلى سنة ١٢٩٦ ، فاقتضى الحال أن يأتي إلى حلب ، فلم ترغب زوجته بالحضور معه ، فاضطر إلى مفارقتها وعاد إلى وطنه.

وفي سنة ١٢٩٨ أخذ بضاعة من حلب إلى البصرة والهند وعاد سنة ١٢٩٩.

وفي سنة ١٣٠١ توجه إلى الحجاز وكذا في سنة ١٣٠٢. ولازم بعد ذلك مدرسة المسجد الأحمدي في محلة قارلق وصار يقرىء فيها الدروس للطلبة من أهل هذه المحلة وما حولها.

وكان رحمه‌الله طويل القامة أسمر اللون كث اللحية ، فصيح العبارة حسن المعاشرة والملاقاة والمحاضرة ، قوي الحافظة يحفظ كثيرا من الشعر ومناقب الصالحين وكلام السادة الصوفية ويحاضر بذلك فلا يمل منه جليسه لحلاوة حديثه وعذوبة منطقه ، مع الصلاح والتقوى والزهد فيما في أيدي الناس والانجماع عنهم ، ملازما لمدرسته الملاصقة لبيته ، يزوره فيها إخوانه ومريدوه والكثير من الناس ، ويغلب على مجالسه الوعظ والإرشاد وإيراد مناقب الصلحاء ، ولوعظه تأثير حسن في القلوب لإخلاصه وعمله بعلمه.

وله من المؤلفات كتاب «العبقة الإلهية في الطريقة النقشبندية» ، و «المسك الندي في المشرب النقشبندي» ، و «شكمجّة المسامر فيما يحتاج إليه المسافر» ، و «السبيكة العسجدية في الرحلة من البصرة إلى الديار الهندية». وله «شرح قصيدة ابن دريد» ، و «نظم متن دليل الطالب في مذهب الحنابلة» في ثلاثة آلاف بيت ، وكتاب «في المواعظ» وديوان شعر كبير غزل وحكم ومواعظ وغير ذلك ، فمن غزله قوله :

جالت مياه الحسن في وجه أغرّ

جمع المحاسن والعقول لقد قمر

يعنو له البدر المنير إذا بدا

وهو الذي من حسنه خجل القمر

أحسن بقدّ قوامه وعيونه

عن سحرها روّت غدت تروي الخبر

وسنانة بلحاظها فتاكة

بسهامها ترمي فتوقع في الخطر

إني بليت بحسنه العالي وذا

أمر به حكم الإله فلا مفرّ

يا لائمي دع عنك تعنيفي فذا

قدر الإله رضيت إذ رضي القدر

٦٢٧

جاء اسمه جزئين خذ تصحيفه

تدري بما ألغزته يا ذا النظر

وأنا الفداء لمفرد في حسنه

قمر بديع بالجمال لقد بهر

وقد خمّس هذه الأبيات الشاعر الشيخ محمد الورّاق المتوفى سنة ١٣١٧ وهو في ديوانه. وللمترجم مخمسا :

بادر إلى بقعة فاللطف فيها خفي

فيها النشاوى ومن من كل خلّ وفي

وإن ترم قهوة من كف من تصطفي

لقد علا حبب متن الصفاء وفي

كوب الهنا تزدهي شمس لمن حضرا

صفراء فاقعة شكلا كما الذهب

أيضا وياقوته كالجمر في اللهب

وقتا وفي راحتي يا راحتي اقتربي

مديرها قمر بدر فواعجبي

والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا

ومن نظمه مشطّرا وهو مما سمعته من لفظه :

ما في زمانك من ترجو مودته

ولا حليم إذا ما قد جنيت عفا

ولا مجيب إذا ما كنت منتدبا

ولا صديق إذا جار الزمان وفى

فعش فريدا ولا تركن إلى أحد

فتفتدى بالذي قالت به الحنفا

نعم وتمشي على فرش بطائنها

إني فضحتك فيما قلته وكفى

وقوله : بطائنها من باب الاكتفاء ، أي بطائنها من إستبرق.

ووقف رحمه‌الله جميع قطعة الأرض الكائنة بمحلة الدلّالين خارج باب حديد بانقوسا الملاصقة للجامع الأحمدي ، وجعل الموما إليه من القطعة المذكورة ما سامت منها للمسجد القديم جامعا وما زاد منها عن مسامتة الجامع الأحمدي زاوية لأذكار السادة أهل الطريقة الخلوتية.

ووقف البناء المرتفع الذي بناه فوق بعض الزاوية الخلوتية من جهة الشمال وجعله زاوية ومدرسة لتدريس العلم ولقراءة وإجراء الختم الشريف الخوجكاني النقشبندي الخالدي.

ووقف على هذه المدرسة مكتبة حافلة مخطوطة ومطبوعة ذكرها في كتاب وقفه المؤرخ في غرة رمضان سنة ١٢٩٤ ، وسوّغ الانتفاع بها لكل من قصد مطالعة شيء فيها في المحل المذكور وشرط عدم إخراج شيء منها.

٦٢٨

وكانت وفاته ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الثاني سنة ١٣٤٣ ، ودفن من الغد في تربة ترب البيض شمالي الصفا.

١٣٣٣ ـ الشيخ محمد الزرقا المتوفى سنة ١٣٤٣

الشيخ محمد ابن السيد عثمان ابن الحاج محمد ابن الحاج عبد القادر الزرقا ، الحلبي الأصل والمنشأ ، فقيه الديار الحلبية ، وعالم البلاد السورية.

كان في المذهب النعماني عيلمه الزاخر وبحره الرائق وسراجه الوهاج ، وفي علم الحديث جامعه الكبير وروضه النضير ، وفي غير ذلك من العلوم والفنون ينبوعا لا تكدره الدلاء ، ولا ينزحه الاستقاء.

سطعت كواكب نجابته منذ حداثته ، وتجلت شموس براعته قبل كهولته. سابق الأقران في حلبة الفضل فكان السابق والمجلّي ، وكان غيره اللاحق والمصلّي ، مع فصاحة لسان تأخذ بمجامع الألباب ، وعذوبة بيان تنسي المتيم الولهان حلاوة الرضاب.

مبدأ حياته :

ولد رحمه سنة ١٢٥٨. ولم تكن عائلة أبيه قبله من بيوت العلم ، بل كانت أمه من سلالة قوم علماء هم بنو برهان ، فهو العصامي الذي أسس دعائم العلم في هذه العائلة وبه علت منابر شهرتها. وكان طلبه للعلم في الخامسة عشرة من عمره ، ومبدأ ذلك كما تلقيناه أنه كان أجيرا عند رجل عطّار في سوق بانقوسا من بني الناشد ، فعزم هذا على الحج ، وقبل أن يسافر أراد أن يشاركه ويسلمه الدكان مضاربة لما رآه فيه من النباهة والاستقامة ، ففعل. ثم سافر للحج ، فبعد سفره بدا للمترجم أن يطلب العلم ، وصار يذهب صباح كل يوم إلى المدرسة القرناصية ويحضر فيها درسا ثم يعود إلى دكانه وقت الضحى. فلما حضر شريكه من الحج رآه يتأخر في فتح الدكان في حين أنها كانت بجانب حمّام رقبان ، وكان يقتضي أن تفتح بكرة ، فسأله عن السبب في تأخره فأخبره ، فلم يوافق شريكه ذلك ولم يرض هو بترك الدرس ، فعرض القضية على والده السيد عثمان ، فأقبلا يتعاونان على إقناعه ، ولكن عبثا حاولا ، وصار هو يقنع والده ويرجوه أن يسمح له في ذلك وأن يدعو له بالتوفيق والنجاح.

٦٢٩

ولما رأى والده إصراره على ذلك لم يجد بدا من موافقته وتركه وشأنه ، وحينئذ قطع علائقه مع الشركة ولزم المدرسة القرناصية وانقطع فيها لطلب العلم وأكمل حفظ القرآن بعد أن كان حفظ جانبا منه ، وأخذ في الجد والاشتغال.

وكان في مدة طلبه العلم في المدرسة خشن العيش متقشفا معتزلا عن الناس ، فحضر على الشيخ عبد اللطيف النجّاري في المدرسة القرناصية مبادىء النحو والفقه وغيرهما ، حتى إذا اتسع فهمه أخذ في الحضور على مدرس المدرسة إذ ذاك الشيخ مصطفى أفندي الريحاوي ، وعكف على حفظ المتون ، فحفظ بعد الكتاب المبين الشاطبية والألفية لابن مالك ، ومعظم متن التنوير في الفقه ، ومتن الجوهرة في التوحيد ، والسلم في المنطق وغير ذلك.

وتلقى عن الشيخ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وكان الشيخ يتوجه إليه في حلقة الدرس من بين الحاضرين ويخصه بالنظر والخطاب لما يراه فيه من الثقافة والنباهة. وتلقى أيضا عن العالم المدقق الشيخ علي القلعة جي وهو خاتمة أشياخه ، فإنه كان أيضا يخصه بالمذاكرة والمحاورة ويعتمد عليه ، حتى إنه إذا عرض يوما لصاحب الترجمة مانع منعه من حضور الدرس فالشيخ لا يقرأ الدرس في ذلك اليوم. فنما ذكره بين المشايخ والطلاب وأخذت شهرته تنتشر آنا فآنا حتى أصبح المفرد العلم. ولم يبلغ الثلاثين من عمره حتى برع في الفقه والأصول والفرائض والنحو والمنطق وسائر الفنون الآلية ، فشاع صيته وعرف كل ذي فضل فضله ، وصار إليه مفزع الناس في معضلاتهم ، وعليه المعوّل في حل مشكلاتهم.

أساتذته :

أما أساتذته الذين تلقى عنهم فمنهم الشيخ مصطفى الريحاوي مدرس القرناصية ، قرأ عليه الفقه الحنفي ، والشيخ مصطفى أفندي الكردي مدرس العثمانية ، قرأ عليه علم المنطق ، والشيخ أحمد الترمانيني ، قرأ عليه علمي الصرف والنحو ، والشيخ عبد السلام الترمانيني ، قرأ عليه صحيح البخاري وغير ذلك من كتب الحديث ، والشيخ إبراهيم اللبابيدي ، قرأ عليه علم أصول الفقه ، والشيخ مصطفى الشربجي ، قرأ عليه علم الفرائض ، والشيخ علي

٦٣٠

أفندي القلعه جي ، قرأ عليه في الفقه الحنفي الدر المختار وحاشيته رد المحتار ، وكان آخر أساتذته الذين قرأ عليهم.

وفي برهة قليلة برز على أقرانه وفاق أساتذته وجلّى في حلبات العلوم واشتغل بنفسه في فنون متنوعة كاللغة والأدب.

وكان مع ذلك من مشاهير القراء في مدينة حلب ، مجيدا للنطق وحسن الأداء فصيح اللسان ترتيلا وحدرا ، بالغا في التلاوة غاية الإتقان مع البراعة في معرفة الوقوف بأنواعها.

وكان حافظا لمتن الشاطبية في علم القراءات كما ذكرنا ، ولكن لم يجمع القراءات السبع لأنه لم يجد أستاذا في حلب متلقيا بالسند ليأخذ عنه.

شهرته :

لم تكن شهرته قاصرة على بلدته أو البلاد السورية ، بل عمت شهرته سائر البلاد الإسلامية وطبق ذكره الآفاق ، وخصوصا في الفقه الحنفي الذي كاد يأتي على جميع نصوصه ، وكاد لا يغادر صغيرة منه ولا كبيرة إلا أحصاها ، وكنا نرى أنه لو شاء إملاء مذهب أبي حنيفة من حفظه لأملاه بنصوصه وحروفه ، وذلك لما أعطي من قوة الحافظة وفصاحة اللسان ، هذا مع التحقيق والتدقيق ومعرفة المصحح والمرجح من الأقوال ، ومع سرعة الجواب وعدم الاحتياج لمراجعة الكتاب ، فكان في ذلك يبهر العقول ، ويشهد له سائله ومذاكره بأنه فريد العصر وعديم النظير. وكثيرا ما يستخرج النصوص الصريحة المنطبقة على الحادثة المسؤول عنها من غير مظان وجودها إذ تكون مذكورة هناك استطرادا أو استشهادا أو ليست مذكورة في أبوابها الموضوعة لها ، وهذا لا ريب يدلك على زاخرات علمه وسعة إطلاعه.

دروسه وحاله فيها :

أول ما تولاه تدريس المدرسة الشعبانية ، وذلك في سنة ١٢٩٩ ، وكان في دروسه رحمه‌الله جوادا مضمارا وبحرا ذخّارا ، طلق اللسان حسن التقرير في المعقولات خزانة للمنقولات ، سليم الذوق في الفهم ، محققا مدققا ، يستوعب أطراف الموضوع ويغوص فيه بحثا ، ثم يتمخض بحثه عن الحقائق الراهنة والصواب. وكانت حلقة دروسه تمتلىء

٦٣١

بالعلماء والطلاب شيوخا وشبانا من حلبيين وغيرهم. وفي الشطر الثاني من حياته كان غالب تدريسه في علم الفقه ، وكان سريع الكشف عن المسائل.

حدثني أحد ملازمي درسه قال : حضرت دروسه اثنتين وثلاثين سنة فما رأيته مرة أراد المراجعة عن مسألة فنظر في الفهرست مهما كان بعيد عهد بها ، بل كان يقلب قلبات يسيرة فيظفر بها. ونظره في أثناء قلب الأوراق متجه إلى محل المسألة من الصحيفة ، وهذا ينبئك بقوة حافظته وذاكرته.

وكان درسه تعلوه الجلالة والمهابة كأن الطير على رؤوس حاضريه. وله مع ذلك أحيانا ملح وطرف تنشيطا للأفكار ، في حين أنه قل أن تعتري السآمة والملل لأحد من حضار دروسه وذلك لما يرونه من حسن تقريره وحلاوة منطقه ، فكانت حالته داعية للانتباه وتوجه النظر لما يتدفق من درر كلماته وفائض علمه.

الكتب التي قرأها في مدارس عديدة :

ظل رحمه‌الله في التدريس نحو ستين سنة ، وقرأ إلى حين شيخوخته كثيرا من الكتب في فنون مختلفة. فمن مشاهير الكتب التي قام بتدريسها شرح ألفية ابن مالك في النحو للأشموني مع حاشية الصبان ، وشرح ابن عقيل عليها مع حاشية الخضري عليه ، ومغني اللبيب لابن هشام في النحو ، وقطعة من صحيح مسلم ، وقطعة من جمع الجوامع في أصول الفقه ، درس هذه الكتب في المدرسة السعيدية الواقعة في داخل جامع الصروي ، وشرح القسطلاني على صحيح البخاري ، وحاشية العلامة ابن عابدين على الدر المختار ، أكمل قراءتها ثلاث مرات كل مرة في نحو عشر سنوات ، وحضرت عليه من أواخرها إلى الآخر في قراءته له للمرة الثالثة وذلك سنة ألف وثلاثمائة واثنتين وعشرين ، ثم قرأ بعدها الأشباه والنظاير لابن نجيم مع استيعاب حاشية الحموي عليه في التقرير ، حضرته عليه من الأول إلى الآخر. ثم قرأ بعده شرح الزيلعي على الكنز ، ابتدأ فيه في شوال من سنة ألف وثلاثمائة وخمس وعشرين ، حضرت عليه الجزء الأول ونصف الجزء الثاني ، وكان إلى هنا خاتمة حضوري وقراءتي عليه ، وقد وصل في هذا الكتاب إلى كتاب الصلح.

ودرس الجامع الصغير في الحديث في المدرسة الأحمدية لكنه لم يكمله ، وقد حضرت عليه معظم ما قرأه ، وقرأ غير ذلك في المدرسة العثمانية وفي جامع الحاج موسى. وبعد

٦٣٢

أن وصل في شرح الزيلعي إلى كتاب الصلح أعاد قراءة حاشية ابن عابدين للمرة الرابعة ، ولشيخوخته كان يقرؤها في بيته ، وحين وصل فيها إلى آخر كتاب الإقرار قرّ في رمسه وأفل نيّر شمسه.

تلاميذه الذين تخرجوا عليه :

في هذه المدة تخرج عليه كثير طبقة بعد طبقة فضلوا في حياته ، ومنهم من توفي قبله لعلو سنه ، وليس في الوسع أن نحصي الجميع ، فمن الطبقة الأولى الشيخ محمد الكّلاوي ، والشيخ بشير الغزّي ، والشيخ بكري العنداني ، والشيخ أسعد البانقوسي الفرضي ، والشيخ أبو المواهب الباشا الريحاوي ، والشيخ أحمد مظهر أفندي شيخ ديب ، والشيخ كامل الغزّي ، والشيخ محمد بركات ، والشيخ عبد القادر الحجّار ، والشيخ مصطفى الهلالي ، والشيخ راجي مكناس ، والشيخ محمود الريحاوي ، والشيخ عبد القادر لبنية وغيرهم. ومن الطبقة الثانية ولده الشيخ أحمد ، والشيخ نجيب سراج ، والشيخ محمود العلبي ، والشيخ صالح الحصري ، والشيخ مصطفى باقو ، والشيخ عبد الرزاق الرفاعي واقف المكتبة في المدرسة الشعبانية ، والشيخ عبد الكريم الترمانيني ، وأخوه الشيخ إبراهيم ، والشيخ محمد الحنيفي ، وهذا العاجز وغيرهم.

ومن الطبقة الثالثة الشيخ محمد الناشد ، والشيخ حامد هلال ، والشيخ أحمد الحجّار ، والشيخ عبد الرحمن الدايم ، وغيرهم. وكل طبقة شاركت من قبلها في الحضور.

تقلده المناصب الشرعية :

أول ما تقلده من الوظائف رئاسة كتاب المحكمة الشرعية (١) في حلب في عهد القاضي العالم العادل حسين توفيق أفندي ، وذلك سنة ١٣٠٠ ، وكان ذلك بإلزام من والي حلب جميل باشا ، وبقي في هذه الوظيفة إلى سنة ١٣٠٣ ، ففيها استعفى منها حينما استعفى القاضي حسين توفيق.

__________________

(١) كانت رئاسة كتابة المحكمة إذ ذاك تسمى نيابة الباب ، لأن صاحبها يقوم بوظيفة القاضي من سماع الدعاوي والشهادات وهو الذي يقضي ، وأما القاضي فإنما يختم الإعلامات ويحضر مجلس الإدارة واستئناف الحقوق وغيرها.

٦٣٣

وفي سنة ١٣٠٤ عين أمينا للفتوى لما عين الشيخ أحمد الزويتيني للإفتاء بإلحاح منه ، ثم أعيد لرئاسة الكتاب في المحكمة الشرعية في زمن ولاية القاضي مصطفى رشدي أفندي ، ثم استقال حينما انفصل القاضي الموما إليه ، ثم أعيد في أوائل عهد القاضي تحسين بك ، ثم استقال حينما تحول تحسين بك قاضيا للآستانة سنة ١٣٠٨ ، ثم أعيد في أوائل عهد القاضي محمد مكي بك سنة ١٣٠٩ ، وبقي إلى سنة ١٣١١ إلى أن انفصل القاضي محمد مكي بك فاستقال هو أيضا ، ودعي بعد ذلك إلى هذه الوظيفة فلم يوافق.

سفره إلى القسطنطينية :

في سنة ١٣٣٢ دعته مشيخة الإسلام من الآستانة ليكون معاونا لأمانة الإفتاء فيها ، فأجاب بعد إلحاح من جلال بك والي حلب وقتئذ ، فسافر إليها في جمادى الآخرة من هذه السنة ، فبقي في الآستانة نحو خمسة أشهر. ورغما عما لاقاه هناك من الإعظام والتقدير وأسباب الراحة لم يطب له المقام هناك أولا من جهة حنينه إلى أوطانه وعدم صبره على مفارقة عائلته وهو في سن الشيخوخة ، وثانيا من انزعاجه من برد القسطنطينية ، فإنه رحمه‌الله كان شديد التأثر من البرد حتى كان يلبس الصوف في بيضة الصيف. فلذلك استأذن بالعود إلى حلب ، فعاد إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة ، وكان يوم عوده يوما مشهودا أيضا لخروج كثير من العلماء والوجهاء والناس لاستقباله. ولما توجهت للسلام عليه في داره في المحلة المعروفة بابن يعقوب شرع يحدثنا عن حسن المكان الذي كان ساكنا فيه وارتفاعه وما هناك من المناظر الطبيعية البديعة ، ثم قال : ومع كل هذا فإني أفضّل داري هذه على كل ذلك. ومنشأ ذلك ما قدمناه ، وقد منحته الدولة العثمانية حين عوده لحلب رتبة الحرمين المحترمين.

ولما احتلت الجيوش العربية الفيصلية حلب وغادر حلب الحكام الأتراك ومن جملتهم القاضي سليمان سرّي وتشكلت الحكومة العربية ، وذلك سنة ١٣٣٧ ، عين من قبل الأمير فيصل (ملك العراق الآن) قاضيا لحلب ، فكان على شيخوخته يطالع أوراق الدعاوي ويدققها ويقول : لا يمكنني التوقيع على ورقة يصححها غيري. وبعد بضعة أشهر عين لمجلس التمييز في دمشق ، فلم يوافق على ذلك لعدم مساعدة سنه للسفر ، فاستعفى ولزم بيته مقتصرا على تدريس الفقه والحديث فيه إلى حين وفاته.

٦٣٤

٦٣٥

ما يؤسف عليه منه :

أما ما يؤسف عليه منه فهو أنه رحمه‌الله عمر طويلا وبلغ سنا عالية ولم يخط لبني قومه أثرا علميا يتمتعون بفرائده ويقتبسون من فوائده ، فقد مضى ومضى معه ذلك العلم الواسع والضوء الساطع. ولعمري لو كان ممن يميل إلى فكرة الأخذ من مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم من الأئمة المعتبرين مما يتراءى أنه أقوى دليلا أو أوفق لمصلحة الناس أو أرفق بهم لكان وحده لما آتاه الله من سعة العلم ودقة النظر كفئا لأن يقوم بوضع هذا الكتاب الذي نرى الأمة الإسلامية في حاجة شديدة إليه كما قدمناه آنفا في ترجمة الشيخ محمد الحنيفي.

على أنه لم يكن ممن يميل لوضع كتاب على هذه الطريقة فكان ينبغي على الأقل أن يعتني بتنقيح كتاب «الدر المختار» وحاشيته للعلامة ابن عابدين اللذين سبرهما سبرا وقتلهما خبرا ، وذلك بأن يدمجهما ككتاب واحد ويختصر ويحذف منه ما يتعلق بالانتقادات اللفظية ، ويلحق منه المستطردات بأبوابها ، وينبه على ما فيه من المؤاخذات والأبحاث المعترضة ، ويقتصر فيه على نتائج الأبحاث ، وبذلك يصغر حجمه ويسهل مراجعته ويقرب من يد المتناول ويصلح لأن يدرس في المدارس العلمية الدينية بسهولة ويكون الأصل أمّا يرجع إليه وقت اللزوم. ولا شك أن هذا أيضا أمر يحتاج إلى عناية شديدة ورسوخ في العلوم ، وكان رحمه‌الله سداد هذا الثغر وكفء هذا الأمر.

وقد تراءى لنا أن السبب في عدم تصديه للتأليف هو أنه لما اشتد غاربه ولمعت بوارق براعته التفت الناس إليه في أمورهم وتحرير معاملاتهم وصكوكهم ، إذ كانوا لا يركنون في مسائلهم الهامة إلا إليه ولا يعولون إلا عليه ، ومعظم مسائل الحقوق والمعاملات كانت عائدة إذ ذاك للشرع الشريف ، فلم يكن يجد فراغا أصلا ، بل كانت أوقاته مستغرقة في تدريسه وفي أمور الناس. ولما كثرت المحاكم النظامية والمحامون والنظاميون وصارت أكثر معاملات الناس نظامية قلت علائق الناس معه ، ولكن كان قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا ، فلم تعد قواه تعينه على ذلك. وعلى كل فلا يخلو الحال من الأسف على عمل كان جديرا به.

٦٣٦

صفاته وأخلاقه :

كان رحمه‌الله ذا همة عالية ونفس أبية وعزيمة صادقة ، لا يشغله شاغل عن الجد والعمل ، فلا تلقاه إلا في المطالعة لدروسه أو قراءة لها أو إملاء على كاتب. وكان إذا أملى لا يحتاج أن يضرب على شيء مما كتبه إلا نادرا. وكان كثير التعبد والتلاوة للقرآن.

وكان حصيفا حازما يقظا وافر العقل مطلعا على مجريات الأحوال خبيرا بأحوال الناس عارفا بمقامهم ، ينزل كل إنسان منزلته. وكان له المقام الأعلى في المجامع ، وهو الصدر في المجالس ، وله الكلمة العليا إذا التفت المحافل ، لا تنعقد هيئة علمية للتداول في أمر هام ويكون فيها فيجسر أحد على الكلام ، بل ينتظرون ما يصدر عن رأيه الصائب وفكره الثاقب ، فيكون قوله فصل الخطاب.

وكثر لكثرة فضله حاسدوه ، ولم يخل من انتقاد بعض الناس له ، شأنهم في كل رجل ألبسه الله ثوب نعمة وفضل من مال وعلم. على أننا لا ندعي أن شيخنا كان من المعصومين ولا ممن لم تبدر منهم هفوة في مدة حياتهم. وأي رجل يقارع الرجال وينازل الأبطال في معترك هذه الحياة ولا تقع منه زلة ولا يعرف له خطأ ولا تبدو منه هفوة. وأظن أنا لو طلبنا هذا الرجل لتطلبنا المستحيل من الأمور.

ولا ريب أنه كان له هفوات بدرت منه فإنها لا تعد شيئا مذكورا بجانب كثرة صوابه وجليل محاسنه. ولا بد للجواد من كبوة وللسيف الصقيل من نبوة ، وحسبنا أن نقول فيه (١) :

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

وكان عظيم التواضع يأنس بالعوام كثيرا ويحتمل منهم ، وكان سخي اليد له صدقات كثيرة.

وكان مربوع القامة إلى الطول أقرب ، جميل الطلعة ، دري اللون ، عظيم المهابة والوقار كما تراه في رسمه الذي أخذ حينما أزمع على السفر إلى الآستانة بالإلحاح الشديد من أبنائه وعائلته من غير رغبة منه ، ولذا تراه فيه عابسا وكانت سنه ٧٥ سنة.

__________________

(١) البيت ليزيد بن محمد المهلبي.

٦٣٧

وكانت وفاته ليلة السبت المصادف للثلاثين من المحرم سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وأربعين ، ودفن من الغد في مدفن التكية المولوية ، وكان له مشهد عظيم لم يعهد له نظير ، شهد تشييعه ألوف من الناس على اختلاف طبقاتهم.

وقد أرخ بعض الأدباء وفاته بقوله (قمر غاب ١٣٤٣) (بأرض الشهباء ١٣٤٣).

ورثاه حفيده الشاب النجيب الشيخ مصطفى بقصيدة طويلة في ٢٩ بيتا ومطلعها :

أفض على مهجتي ما شئت يا دهر

واصبب صروفك ما شاءت لك الغير

وختمها بقوله :

أيا إمام النهى يا كعبة الفضلا

يا عمدة الدين يا فاروق يا عمر

هلّا رحمت علوما غار منبعها

فما لها في سوى صدغيك مدّخر

لقد علمنا بأن الناس مثكله

والعلم محتضر مذ أنت محتضر

كم من أخي حسد قد كنت مخمده

يناله من علاك الخزي والكدر

يبيت مرتقبا يوما تموت به

وهل تود بقاء الضيغم الهرر

وقبلك الأنبياء الرسل قد حسدوا

ونابهم من بني أقوامهم ضرر

لئن أفلت عن الدنيا ومظهرها

فذاك مجدك في الأيام مستطر

١٣٣٤ ـ الشيخ أحمد شهيد المتوفى سنة ١٣٤٥

الشيخ أحمد ابن الشيخ شهيد ابن الشيخ محمد شلوح الدار عزاني ، العالم الفاضل ، الشاعر الأديب.

ولد سنة ١٢٦٣ في قرية دارة عزة من قرى حلب في غربيها ، واشتغل على والده في مبادىء العلوم بالقرية المذكورة.

ثم حضر إلى حلب سنة ١٢٧٨ فقرأ على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني شرح التحرير في الفقه الشافعي وكتبا في علم النحو ، وعلى الشيخ عبد السلام الترمانيني قرأ عليه في علم النحو أيضا.

٦٣٨

ثم رحل إلى مصر سنة ١٢٨١ وجاور في الأزهر وقرأ ثمة في علوم متعددة على الشيخ حسين البريري والشيخ حسين الطرابلسي الشهير بمنقاره وغيرهم.

وفي سنة ١٢٩٠ عاد إلى حلب وصار يدرّس في الجامع الأموي وفي المدرسة العثمانية ، وحضر عليه بعض الطلبة.

ولما عين جميل باشا واليا على حلب قدم له قصيدة في كل شطرة منها تاريخ ، فكانت سبب تعيينه مفتيا لقضاء حارم سنة ١٢٩٨ ، ومطلعها :

بشراك في منصب يكنوه آيات

إلى المعالي وللشهبا مسرات

فاهنأ بفخر جزيل جاد موقعه

عند الأنام فوافته الولايات

ومن نظمه مشطّرا :

ولو علموا في مصر أوصاف خده

وما قد حواه الثغر من أطيب الشهد

وتالله لو شافوا نضارة وجهه

لما بذلوا في حب يوسف من نقد

لويما زليخا لو رأين جبينه

يلوح به نور النبوة في المهد

وقد أنزل الله الكتاب بمدحه

لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي

وقدمنا أبياته التي أرخ فيها بناء منارة الساعة خارج باب الفرج في أواخر الجزء الثالث (١) ، وأبياته التي أرخ فيها بناء جامع عبد الرحمن زكي باشا المدرس في محلة الجميلية.

وله ديوان كبير ، غير أن شعره الذي التزم فيه التاريخ أو التطريز لم يخل من تكلف ، وهو في غير ذلك أحسن.

وكان طويل القامة أسمر اللون كث اللحية لطيف المعاشرة حسن المحاضرة ، يحفظ جملة وافرة من الشعر والآداب العربية فيحاضر بها.

وله من المؤلفات حاشية على مغني الطلاب في المنطق ، وزاد في منظومة ابن وهبان في الفقه الحنفي ثلاثمائة بيت وشرحها ، وله منظومة في علم الفراسة في سبعمائة بيت وشرحها (٢).

__________________

(١) وذلك في الصحيفة ٣٩٢.

(٢) وله أيضا كتاب «دوحة أهل الأدب» يقع في نحو ٤٠٠ صحيفة.

٦٣٩

وكانت وفاته يوم الثلاثاء في الثامن والعشرين من ربيع الأول في هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ ، ودفن في قرية دارة عزة ، رحمه‌الله تعالى وأسكنه دار كرامته.

وسبحان الله وبحمده والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.

٦٤٠