إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

العزي» وشرحه للسعد التفتازاني مرتين ، و «رسالة الشيخ قاسم الخاني في المنطق» ، و «شرح السلم الكبير» للملوي ، و «شرح المنهاج» للرملي أربع مجلدات للقاضي زكريا مع حاشية الشبراملسي عليه أربع مجلدات أيضا مع حاشية الرشيدي مجلد ضخم على حاشية الشبراملسي ، و «اللمعة في الحساب» ، ورسالته في الحساب ، و «شرح اللمعة في الحساب ، و «متن الخزرجية» ، و «شرح السنوسية» للهدهدي ، والخبيصي في المنطق ، والبخاري الشريف ، و «الهمزية» ، و «البردة» ، و «الجامع الصغير» مرتين ، و «المصابيح» ، وغير ذلك من الكتب والرسائل والحمد لله على ذلك. وقد طلبت منه مرة إجازة فقال : الإجازة على خمسة أقسام : أعلاها أن يقرأ الشيخ قراءة دراية ويسمع التلميذ ، فإما أقرأتك وأنت سمعتني فمعك أعلى الإجازات. فسلمت له مقالته ولكن أردت ورقة كما عليه عمل الناس اليوم ، فرأيت في النوم أن رجلا طلب منه فتيا وأنا جالس عنده في حجرته فقال لي : اكتب له الجواب ، فكتبت له ، فأخذ الرجل الفتيا ثم عاد وقال : أريد أن تكتب الجواب أنت لا الشيخ عمر ، وكان متكئا فجلس وقال له : كلام الشيخ عمر هو كلامي فما قاله هو قولي. وكان يقول لي : من أذن له في التعبير فهمت عبارته. وقد قرأت على مشايخ عظام كتب فقه ونحو وغير ذلك وانتفعت بهم والحمد لله ، ولكن ما انتفعت على شيخ منهم مثل انتفاعي عليه جزاه الله عن إقليمه خيرا. ا ه.

وأخذ رحمه‌الله الطريقة القادرية عن الشيخ إبراهيم الهلالي ثم عن ولده الشيخ محمد ، وكان يلازم زاويتهم يكاد لا يفارقها ، وأخذ الطريقة الرفاعية عن الشيخ عمر الحريري الحموي ، واختلى معه هو والشيخ أحمد الحجار في جامع بانقوسا سنة ١٢٦٢ ، ولما فضل ونبل صار يقرأ الدروس في جامع العادلية وذلك من سنة ١٢٤٠ إلى سنة وفاته ، وكذلك كان يقرأ الدروس في المدرسة وفي جامع النور في الجلّوم الجواني وفي الزاوية الكيالية وفي المدرسة الحلوية وفي المدرسة الأحمدية وفي الجامع الكبير. ومن تلامذته الشيخ عبد القادر الحبّال وعمي الشيخ عبد السلام الطباخ والشيخ عبد القادر قلقاس والشيخ محمد العقّاد ابن الشيخ عبد الله العقّاد الشهير ، وكان يقرأ الدروس عن هذا وكالة في الجامع الكبير. وممن أخذ عنه الشيخ عبد الرؤوف الطيّار والشيخ علي الكيّال.

وكان مرة يقرأ الدروس في جامع العادلية فدخل إلى حلقة الدرس إبراهيم بك العادلي وإبراهيم باشا المصري فلم يعبأ بهما ومضى في درسه كما هو لم يغير وضعيته ، وذلك سنة

٣٢١

١٢٥١ ، ولم يكن دخل عليه قبل ذلك ، فبعد انتهاء الدرس خرج الشيخ إلى بيته ، فأرسل إليه إبراهيم بك ودعاه إلى طعام العشاء مع إبراهيم باشا ، فسأله إبراهيم بك : هل الشيخ أحمد الترمانيني أفضل أو الشيخ أحمد الحجار؟ فقال له : الترمانيني على قدم سيدي الرفاعي والحجار على قدم سيدي أحمد البدوي ، فقل لي أيهما أفضل لأقول لك أي هذين أفضل من الآخر ، فاستحسن منه هذا الجواب وأمر أن يضاعف راتبه في الدرس.

وكان لا يأكل اللحم ولا البرغل ولا السمك ولا المحاشي ولا المقالي ، وكان لا يأكل هذه الأشياء طبيعة لأن نفسه كانت تعافها ، وكان طعامه من الخضر ويأكل السمن والزيت وما طبخ وقلي بهما. وكان مع عدم أكله اللحم وغيره مما ذكرناه قوي البنية جدا ، وكان أسمر اللون طويلا يقرب إلى السمن. ومن كلماته : سلاح اللئام قبح الكلام.

وله من المؤلفات «شرح كنوز الحقائق» في الحديث للمناوي ، و «نفحات الخزام» وهو في أصول الحديث والفقه وفيه شرح حديث الرحمة. وله «الدرة الفاخرة في حسبة أهل الدنيا والآخرة» ، و «القول المألوف في تعداد الحروف» ، و «النجوم السائرة إلى منازل الآخرة» ، و «عمدة المعربين وعكاز المتعلمين» ، و «شرح الحقائق في النحو» وهو كتاب شيخه السرميني كما قدمنا ، و «الفتح المبين في رسالة التمرين» للشيخ أحمد الحجار وهو موجود في مكتبة محمود أفندي الجزار ، و «شرح اللؤلوية في الطريقة المولوية» ، وله شرحان على أوراد الشاذلية وغير ذلك من المجاميع (١).

وكان رحمه‌الله صالحا زاهدا قانعا باليسير ، مكبا على الإفادة ونشر العلم ، لا يعتري همته شيء من الفتور. ولم يزل على هذه الحال إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى تاسع ذي الحجة سنة ١٢٨٥ ودفن في أوائل تربة الكليماتي خارج باب قنسرين.

١٢٤١ ـ الشيخ عقيل الزويتيني المتوفى سنة ١٢٨٧

الشيخ عقيل ابن الشيخ مصطفى الزويتيني.

__________________

(١) من مؤلفاته : «شرب الراح فيما يتوصل به للعزي والمراح» وهو شرح على خمسة أبيات في فعل الأمر الباقي على حرف واحد للإمام عبد القاهر الجرجاني ، وأول هذه الأبيات :

إني أقول لمن ترجى وقايته

ق المستجير قياه قوه في قين

منه نسخة في المكتبة السلطانية بمصر في مجلد بخط المؤلف فرغ منه سنة ١٢٧٦ نس ١ ج ١ ن خ ٣١ ن ع ٤٥٢٢.

٣٢٢

كان رحمه‌الله عالما جليلا وفاضلا نبيلا ، تلقى العلم عن والده وعن غيره ، وتلقى العلم عنه كثيرون ، منهم ولده العلامة الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب. وكان رحمه‌الله يفتي على المذاهب الأربعة ويدرس في مسجد الشيخ موسى الريحاوي. وصار كاتبا لوقف بيت الحاج موسى ولوقف جامع السفاحية ، وصار رئيسا للكتاب في المحكمة الشرعية مدة ، ثم ترك ذلك ولزم بيته سنين عديدة إلى أن توفي أواخر ذي الحجة سنة ١٢٨٧ ودفن في تربة السفيرة. وأرخ وفاته الشاعر الشهير الشيخ محمد الوراق بقوله :

إن هذا الرمس فيه سيد

عم نفعا إن دهى خطب جليل

فهو حبر بل وبحر قد طما

ليس في الدنيا له يلفى مثيل

شيخ أهل العصر علما وتقى

قد حباه الله بالفضل الجزيل

قلت لما أن قضى أرخ وها

في جنان الخلد قد أمسى عقيل

١٢ ـ ١٩٤ ـ ٦٦٥ ـ ٢٠٦ ـ ٢١٠

ورأيت بخطه في المكتبة المولوية بحلب ضمن مجموع كتب على ظاهره تحفة البلغاء كتاب «راحة الأرواح في الحشيش والخمر والراح» وهو في ١٣٥ صحيفة.

١٢٤٢ ـ أحمد أفندي باقي زاده المتوفى سنة ١٢٨٨

أحمد أفندي ابن عبد القادر آغا ابن عبد الباقي بن علي بن ناصر بن عبد الباقي بن عبد القادر المعروف بباقي زاده ، أحد وجهاء الشهباء وسراتها الذين نالوا شهرة واسعة وصيتا بعيدا.

وكان سلاطين آل عثمان يثقون به ويعتمدون في مهام أمورهم عليه ويخاطبونه بعبارات التبجيل والاحترام ، وجاء في بعض فرامينهم له ما مآله : قدوة الأماجد وعمدة الأكابر والأكارم هو أنت باقي زاده السيد أحمد مختار أفندي الحائز على ثقتنا واعتمادنا الشاهاني ، والنائل لأحاسن تعطفنا الملوكاني وبعد : فلتحط علما أنه نظرا لا تساع سواحلنا الهمايونية المتنائية الأطراف غدا بعض أعدائنا المخذولين يرمقها بعين الغدر ، وتطمح نفسه إلى التغلب عليها ، ونخشى أن يهاجمنا العدو على حين غفلة ، فيقتضي أن لا نكون غافلين ، وعليه وجب التيقظ والانتباه وتدبير الأمر من الآن بإنشاء بعض القلاع والحصون والاستحكامات

٣٢٣

في الأماكن المناسبة. ولما نعهده فيك من الصداقة واللياقة ، ولأنك من خواص أحبابنا الغيورين ، فقد عهدنا إليك بالقيام بهذه الخدمة ذات الأهمية العظيمة بجهة السويدية وكسب والبسيط وحواليهما ، فحين وصول توقيعنا هذا العالي توجه بنفسك إلى هذه الأمكنة وبادر بإنشاء ما مر ذكره من القلاع والحصون في الأماكن التي تناسب على مقتضى الخرائط التي تنظم من قبل المهندس الإفرنسي فلان الذي أرسل لهذه الغاية ، فعليك بالعجلة دون إضاعة وقت ، وبتسوية المصاريف من قبلك الآن وسيجري تعويضها لك من خزينتنا الخاصة الشاهانية عند انتهاء العمل.

وعلى أثر وصول المهندس المتقدم استصحب كل ما يلزم من الآلات والمعمارين والنجارين وتوجهوا جميعا للأماكن المتقدمة وشرعوا في العمل في أماكن متعددة مرجحين الأهم على المهم. وفي هذا الأثناء مرض المهندس مرضا لم ينجع فيه دواء وتوفي على أثر ذلك ، فتعطلت الأعمال وعاد المترجم إلى حلب وعرض أعماله لدار الخلافة منتظرا صدور الإرادة السنية في المثابرة على العمل إلى أن ينتهي ، فلم يتلق جوابا ما ذلك الوقت لاشتغال السلطنة العثمانية بمسائل هامة أوجبت التقاعد عن إتمام هذه الأعمال التي لا تزال آثارها باقية إلى الآن في تلك الأماكن.

ومن آثار المترجم وقف وقفه على ذريته وأشفعه بوقف آخر عليها ، وهو حاو على أنواع من الخيرات والمبرات ، فهو واقف الوقف الثاني والثالث على ذريته.

وما زال على حرمته وحشمته إلى أن توفي في جمادى الثانية سنة ١٢٨٨ ونقش على لوح قبره ثلاثة أبيات جاء في الشطرة الأخيرة منها :

في جنة الفردوس يرقد أحمد. وهي تاريخ وفاته كما تقدم.

ورأيت في أوراق بخط الشيخ محمد المرتيني الإدلبي ما نصه : ومن التواريخ المحكمة ما رأيته منقوشا على المنهل المسمى بالفندق وكان جدده الحاج عمر أفندي باقي زاده من أعيان مدينة حلب سنة ١٢٤٠ بعد تخريبه بحادثة الزلزلة التي حصلت سنة ١٢٣٧ وهو :

قديما كان ذا الأثر

فأوهى ركنه القدر

فأحيا رسمه أرخ

بباقي خيره عمر

١١٥ ـ ٨١٥ ـ ٣١٠ ـ ا ه

٣٢٤

أقول : موقع الفندق في صحراء غربي حلب من قبليها يبعد عنها تسع ساعات بالسير المعتاد ، ويبعد عن إدلب أربع ساعات وهو في شماليها ، وعن ريحا خمس ساعات ، وعن أرمناز ست ساعات ، وهو عبارة عن موقف على قارعة الطريق للقوافل التي تغدو وتروح بين هذه البلاد ، ولا ماء هناك سوى هذا المنهل ، فهو مبني في موضع يحتاج الناس فيه إلى الماء أشد الاحتياج ، فجزاه الله خيرا.

وعمر أفندي هو أخو عبد القادر آغا والد المترجم كما هو مثبت في شجرة نسب هذه العائلة ، ولم أقف على تاريخ وفاته ، وهو أخو شوكت باشا الذي صار شيخا للحرم النبوي ، وقد خلف عدة أولاد نزحوا عن حلب إلى الآستانة وغيرها وتولوا المناصب العالية في الدولة العثمانية في عدة بلاد ، منهم ولده الحاج رشيد باشا رئيس شورى الدولة العسكرية وخطيب جامع (نور عثمانية) المشهور في الآستانة ، وهو جد الفريق علي رضا باشا والميرلوا وصفي باشا والمشير إسماعيل حقي باشا الذي كان مشير الجيش الخامس (في الشام) حوالي سنة (١٣٢٢) رومية ، وتوفي في ربيع الأول سنة ١٣٢٨ في الآستانة ، ولم أقف على شيء من تراجم هؤلاء لانقطاع أخبارهم عن أهليهم وذويهم.

١٢٤٣ ـ الحاج صالح آغا الملّاح المتوفى سنة ١٢٨٨

الحاج صالح آغا ابن السيد قاسم مرعي الشهير بالملّاح ، السريّ الوجيه ، ممن كان له من اسمه أوفى نصيب.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٢٤ ، وهو أحد أفراد عائلة الملّاح التي اكتسبت هذه الشهرة بسبب بقائها أعواما كثيرة محافظة على مملحة الجبّول ، وهي من ممتازي عشيرة أبي خميس المنسوبة إلى عشيرة الدليم الشهيرة في العراق ، وكان أحد أجداد هذه العائلة من عشيرة النعيم التي تمت بنسبها إلى سيد نازين العابدين.

كان الحاج صالح ذا ثروة طائلة ورثها من والده ووسعها بالتجارة ، عرف بالتقوى والصلاح وعمل البر والتصدق في السر والعلن ، وكانت صدقاته الخفية أكثر من صدقاته الجهرية ، فهو ممن صدق عليه حديث (نعم المال الصالح للرجل الصالح).

تولى جامع بانقوسا بأمر من الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني بعد وفاة متوليه ،

٣٢٥

ففرش صحنه بالبلاط الأصفر وكلّس قبليته ورواقه الشرقي ، وجدد أعلى منارته والمراحيض التابعة له ، ورمم عقاراته ، وأكثر هذه النفقات من ماله ومما تبرع به أهل الخير ، وقد كانوا لا يتأخرون عن مساعدته في هذا السبيل ثقة منهم به وأن ما يأخذه سيصرف في محله البتة.

وكان قائما بشؤون جامع البكرجي أيضا ، وكان غيره متوليا عليه اسما وفي الحقيقة هو الذي يباشر أموره ، ففرش أيضا صحنه بالبلاط ورممه وعمر عقاراته من ريع أوقافه التي عمرت كما ينبغي.

ومن أعمال المترجم الخيرية أنه بلط جادة جب القبة إلى قرب جامع بانقوسا ، وفرش الجادة من مسجد هارون دده حتى جوار داره ، وفرش الطريق الممتد من المحل المعروف بورشة الفعول حتى سبيل محلة الأبراج ، وكل ذلك من ماله الخاص.

ولما حصل الغلاء سنة ١٢٨٧ تصدق بمبالغ طائلة وسد ثلمة كبيرة في سبيل تلك المجاعة.

وله نكتة لطيفة تنم عن ذكاء وحب مفرط لعمل الخير ، وهي أنه جاء ذات يوم إلى المحل المعروف بورشة الفعول حيث يجتمع الفعلة ، وسأل المجتمعين من كان منهم يشتغل مياومة بغرش ونصف (ثمن مائة درهم من الخبز إذ ذاك) فليتبعه ، فتبعه من كان اشتدت به الفاقة ، فمشى بهم إلى زقاق هادىء له منفذ ونقد كل واحد ريالا مجيديا وصرفهم وطلب إليه أن يذهب حيث شاء مشترطا عليه أن لا يعود من الطريق التي أتى منها.

وكانت له وجاهة عند الولاة وقواد الجند وغيرهم من كبار الموظفين ، وكان متهالكا فيما يتعلق بالنفع مثل ترميم القناة ومكافحة الغلاء وتعمير الطرق ومناصرة الضعيف والمظلوم وغير ذلك من الأعمال التي غرست في قلوب مواطنيه حبه واحترامه ، وكان مع ذلك لا يحب الظهور والوظائف الرسمية ، وقد رفض مرارا عديدة تكليف كامل باشا الصدر الأعظم لما كان متصرفا على مركز حلب في سنة ١٢٨٧ منصب رئاسة البلدية ، وقال له : إما أن تعفيني أو تنفيني أو تعطيني مهلة أربعين يوما لأهاجر من حلب.

وأوصى قبيل وفاته بأن يكتب على قبره نص خاتمه الذي هو (ربي اجعل عملي صالح) وهذا يدل على تواضعه.

٣٢٦

وبعد وفاته كان الشيخ أحمد الترمانيني يثني عليه أثناء درسه العام الثناء الحسن ، وحسبه ذلك. وقد مر على وفاته خمسون سنة ولا زال الأهلون وخصوصا أهل محلات بانقوسا يثنون عليه أطيب الثناء ويذكرون أعماله الخيرية ومبراته.

ولم يزل على وجاهته وكريم أفعاله وأخلاقه إلى أن توفي سنة ١٢٨٨ ودفن في تربة قاضي عسكر عند أهله رحمه‌الله تعالى.

١٢٤٤ ـ الشيخ علي ابن الشيخ خير الله الرفاعي المتوفى سنة ١٢٨٩

الشيخ علي ابن الشيخ خير الله ابن السيد محمد ابن السيد خير الله ابن السيد أبي بكر الرفاعي. اشتهر بيتهم ببيت خير الله هذا.

ترجمه الشيخ أبو الهدى في «تنوير الأبصار» فقال : ولد في حلب ، ونشأ بحجر أبيه رضيع ثدي الولاية ، ربيب مهد السيادة والعناية ، ولا زالت تحفه الوقاية الربانية ، وتشمله الأنظار المحمدية ، حتى كبر وأحرز مشيخة المشايخ بعد أخيه السيد محمد ، وظهر واشتهر وعلا شانه وقدمه أقرانه ، وطاب قلبه وعذب لسانه ، وحسنت إشاراته ، وتواترت بالديار الحلبية كراماته. كان جماليّ المشرب جلاليّ الجناب رفيع المكانة رقيق الطبع سليم القلب مبارك الحال جليل المقام ، له أحوال قدسية ، ومحاضرات أنسية ، وكلمات شريفة ، ونكات لطيفة ، وسريرة عامرة وسيرة زكية طاهرة ، يسر الله توبة كثير من العصاة على يديه ، وقاد قلوب العامة والخاصة إليه ، وروى له الجم الغفير الكرامات الكثيرة (وهنا ساق بعضا منها ثم قال) : لبس الخرقة من أبيه العارف بالله السيد خير الله الثاني ، وسند خرقتهم معروف. وتوفي بحلب سنة تسع وثمانين ومائتين وألف ودفن بزاويته المباركة التي أنشأها بمحلة بانقوسا. وقد أرخه الكثير من الفضلاء منهم الحاج مصطفى الأنطاكي الحلبي ، وبيت التاريخ قوله :

ولدى زيارتنا له أرّخ ترى

نور الرفاعي من مقام عليّ

ا ه

وذكره الشيخ أبو الهدى أيضا في كتابه «قلادة الجواهر» قال :

٣٢٧

ولما بلغني خبر وفاته طرقني طارق الفراق بالكدر الوفي ، ولكمني عارض البعد بالمرض الخفي ، وقلت شعرا :

إذا ذكرت نفسي زمانا تصرمت

لياليه بالشهبا وشملا تجمعا

هتفت بهاتيك الصحاب كأنني

وليد تمنى في العشية مرضعا

قال : وحصرت فكري قاصدا أن أندرج بسلك مادحيه ، وأن أؤرخه على قدر الحال ، فمنعني الهم والحزن والغم ، فطلبت من بعض الأحباب (هو الحاج مصطفى الأنطاكي المتقدم ذكره هنا) تاريخا لحضرته الكريمة ، فأجاب لطفا قائلا :

زر من بني الصيّاد خير وليّ

من آل أشرف مرسل ونبيّ

وأرق دموعا أو نجيعا أو دما

أسفا على ذاك الفتى العلويّ

قد كان في الشهباء ركن حقيقة

بطريقة الصياد والمكيّ

حجبته أطباق الثرى عن أعين

تبكيه من حزن بكل عشيّ

خلت الزوايا من خباياها وقد

ملئت برزء فراق خير تقيّ

فسحائب الرضوان تسقي لحده

في كل هطّال وكل رويّ

ولدى زيارتنا له أرّخ نرى

نور الرفاعي من مقام عليّ

وذكر الشيخ أبو الهدى في تنوير الأبصار أن السيد أبا بكر المذكور في أول الترجمة كان نزل قرية متكين من عمل المعرة ، ثم لما نزل السيد حسين برهان الدين الخزامي الصيادي قبيلة بني خالد واشتهر أمره انتسب إليه السيد أبو بكر وزوجه ابنته ، وكان يرسله إلى مريديه الذين في الأقطار السائرة ، وكان كثيرا ما يتردد لأطراف حلب ويمكث أحيانا في قرية بلليرمون من أعمال حلب ، ففي سنة وفاة شيخه وعمه ألح على الشيخ أبي بكر مريدوه فنقلوه من القبيلة الخالدية إلى قريتهم وبنوا له بيتا وزاوية ، وأقام فيهم يرشدهم إلى سنة ستين ومائة وألف ، ففيها سافر إلى ديار الشام فتوفي في جبل يبروت ، فبنوا عليه قبة عظيمة.

ومات عن ولدين هما السيد خير الله والسيد سيف الدين ، أما الثاني فلم نعلم أن له عقبا ، وأما السيد خير الله فإنه اشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار ، وخلف الكثير من المشايخ (ذكر منهم جملة) ، وأقام في الزاوية التي بناها والده في قرية بلليرمون ، فلما اشتهر أمره في حلب أجمع رأي أخوانه وأتباعه على نقله بعياله إلى حلب ، فوافقهم السيد خير

٣٢٨

الله وانتقل بأهله إليها (وهنا ساق الشيخ أبو الهدى حكاية العلمين بين المترجم وبين بعض مشايخ السعدية في حلب وهي حكاية لا صحة لها ولا ريب أنها من الخرافيات التي يتناقلها الجهلة ويتحدثون بها في مجالسهم ، ثم قال) : وكانت وفاته سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف ، ودفن عند أبيه بالمدفن المبارك المعروف بمدفن الشيخ العرابي (١).

وأعقب السيد محمدا وقد خلفه في مشيخة الشيوخ ، ولما مات دفن في مدفن العرابي أيضا ، وأعقب السيد خير الله الثاني فخلفه في المشيخة إلى أن مات وخلف ولدين : السيد علي والسيد محمد ، فالسيد محمد لا عقب له من الذكور ، والسيد علي هو المترجم. ا ه.

(تنبيه) الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي مع اعترافنا بفضله ووفور ذكائه ليس بثقة ، فلا يعتمد على التراجم والأنساب التي ذكرها في مؤلفاته إذا انفرد فيها ، فإن فيها أكاذيب كثيرة وأمورا واهية ، ولعمري إنه لو كان في زمن تدوين الحديث النبوي لعد في مقدمة الوضاعين.

منها قوله هنا إن السيد أبا بكر جد المترجم نزل قرية متكين ، فهذا لا أصل له ، فإن أصل هذه العائلة من كفر طاب ، ثم انتقلوا منها إلى جهة العمق لقحط أصابهم ، ثم انتقلوا منها إلى قرية بلليرمون من أعمال حلب ، وبها ولد المترجم.

ومنها قوله إن السيد أبا بكر لما نزل السيد حسين الخزامي الصيادي انتسب إليه وزوجه ابنته ، فهذا لا أصل له أيضا ، وقصد الشيخ أبو الهدى بذلك أن يجعل بين أجداده وبين هذه العائلة نسبة ولا أثر لذلك.

ومنها قوله في حق المترجم : (إنه ممن اشتهر أمره وعلا شأنه وتواترت بالديار الحلبية كراماته وإن كان له أحوال قدسية وكلمات شريفة ، وإنه انقادت له قلوب العامة والخاصة وروى له الجم الغفير الكرامات الكثيرة) فكل ذلك محض افتراء لا أصل له كما تحققته من العارفين الثقات من أهل تلك المحلات. نعم كان رجلا صالحا نبيها شهما ذا مروءة وفتوة ،

__________________

(١) قبل ذلك بقليل ذكر أن والده دفن في بيروت من أرض الشام ، وهنا قال إنه دفن بمدفن العرابي ، وهذا المدفن في حلب ، وهذا من جملة تناقضات الشيخ أبي الهدى.

٣٢٩

له ميل عظيم إلى قضاء حوائج الناس ونفع الكثير منهم بواسطة ذلك ، ودودا متواضعا بعيدا عن حب الشهرة والظهور في أمر مشيخة الطريق. وكان ينهى بني طريقته عن ضرب السلاح وغير ذلك أشد النهي وينكره عليهم أعظم إنكار. وكان ورده سورة الإخلاص فكان كثير التلاوة لها متى أمكنته الفرصة ، هذا غاية ما كان عليه المترجم ، ولم ينسب له أحد من الناس كرامة ولا حالا ولا علما. ومن أكاذيبه ما قاله في كتابه «قلادة الجواهر» في ترجمة أبيه الشيخ حسن وادي من أنه تلقى الطريقة الرفاعية على الشيخ رجب الصيادي دفين كفر سجنا ، وأقامه عنه خليفة فجلس على السجادة الرفاعية بزاويته في قصبة خان شيخون الملحقة بمعرة النعمان ، واشتهر أمره وسار في البلاد ذكره ، وانتسب له خلق كثير من القبائل والقرى والمدن ، وانتفع به جماعة كثيرة ، وله مناقب مأثورة وعنايات مشهورة. ثم ساق له عدة كرامات ووصفه بالسيد الجليل الفاضل الأصيل [ثم قال] : وأما سخاؤه وكرم طبعه ففي نواحيهم أشهر من أن يذكر ، وأما علو مظهره وتأييد ظهوره فهي أشهر من نار على علم. [ثم قال] : وانتسب إليه خلق لا يحصى عددهم ، وزادت خلفاؤه عن المائة خليفة. سكن حلب الشهباء من سنين يسيرة وعمر الزاوية الرفاعية فيها ، وعلت شهرته في حلب الشهباء ونواحيها ، وحسن فيه اعتقاد الناس. ثم ساق بعد ذلك نسبه إلى الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه. وترجمه بنحو ذلك في كتابه «تنوير الأبصار» ، وربما يكون ترجمه في غير كتاب من كتبه.

وجميع ما وصفه به ولده من العلم والفضل وما نسبه إليه من الكرامات وخوارق العادات وسخاء الطبع لا أصل له ، وهو محض افتراء ، فوالده لم يكن سوى رجل من البسطاء المغفلين أثر عنه في تغفله عدة حكايات وليس فيه مزية علم ولا سمة فضل ، وحقيقة أمره أنه لما نشأ ولده أبو الهدى أفندي وعلا أمره وذاع في الناس صيته استحضره إلى الآستانة وألبسه العمامة الخضراء التي هي شعار السادة الرفاعية وصار يعظم شأنه لدى سكان الآستانة وينسب له ما شاء من الفضل والكرامات والأحوال ليصطاد بذلك حطام الدنيا ، وهو ممن برع في ذلك جدا ، وأنشأ له زاوية في حلب في محلة باب الأحمر سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف. ثم إن ولده أرسله إلى حلب قبيل سنة ١٣١١ فقطن في دار ملاصقة للزاوية إلى أن توفي سنة ١٣١٢ ، فدفن في قبلية الزاوية على الطرف اليمين ، وعمر له ضريح فخيم يخاله الناظر إليه أنه أحد أكابر الأولياء أو من أعاظم العلماء. ومدح وقتئذ من بعض المنافقين

٣٣٠

بعدة قصائد تقربا لقلب ولده ووصفوه بأنه ممن نال درجة القطبية والغوثية ، وحقيقة ترجمته ما قدمناه.

وزاد الشيخ أبو الهدى في الطنبور نغمة أنه طبع عدة كتب نسبها لبعض المتقدمين ولشيخه الشيخ مهدي الرواس الذي لا وجود له إلا في مخيلته ، ولذا لم ننقل عن كتبه في تاريخنا سوى ما نقلناه هنا مع التنبيه على ما فيه ، وسوى مكانين آخرين أو ثلاثة نقلنا عنه سطورا قلائل علمنا صحتها بمشافهة بعض من نثق به.

ولا ريب أن إقدامه على هذه المفتريات ووضعه لهذه الأكاذيب جرأة عظيمة ، وإنا وايم الله لنأسف على ذكائه المفرط وسعة مداركه وفضله الجم وما أوتيه من واسع الجاه ورفيع المكانة لدى السلطان عبد الحميد أن يصرف ذلك في ترويج بضاعته ونفاق سلعته بحيث قضت أحواله وأطواره أن يسيء الناس الاعتقاد بمن تقدم ويقيسوا الحاضر على الغائب ، ولو كان صرف عنايته إلى إصلاح الأمة الإسلامية ولم شعثها ، والحق يقال إنه ممن توفرت لديه الأسباب ، وتمهدت له السبل ، ومدت له السعادة يدها ، وانقادت له أزمتها ، لأتى في ذلك بالآيات البينات ، ولحمدت سيرته في دنياه ، وجوزي بالحسنى في أخراه ، وخلد له في بطون الأسفار ذكرى حسنة تتناقلها الأجيال ، ولا يمحوها مرور الأيام والليال.

١٢٤٥ ـ الشيخ محمد بهاء الدين الرفاعي المتوفى سنة ١٢٩٠

الشيخ محمد بهاء الدين ابن الشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي الحلبي.

ولد كأسلافه بحلب ، ونشأ بها ، وتلقى العلوم الشرعية والفنون عن أبيه وعن جماعة من خواص أفاضل البلدة. وكان محبا للناس حسن الأخلاق جميل الصورة بشوشا عذب اللسان نبيها شاعرا حسن الخط مهابا في الأعين محترما.

أخذ الطريقة الرفاعية عن أبيه وسار بالناس سيرة حسنة ، فاجتمعت عليه القلوب ، ولا زال يعظم شأنه حتى صار بعد سنة السبعين مفتي البلدة ، وأقبلت عليه الدنيا وانتهت

٣٣١

إليه الرياسة بحلب ، ورأى من العز ورفعة القدر والحرمة وإقبال الحكام والناس عليه ما لم يره أحد.

ومن شعره :

كيف أخشى من سطوة التنكيل

وإلهي على الأعادي وكيلي

واعتصامي بحبله والتجائي

لحماه من كل سوء كفيلي

واردات الإحسان منه لنحوي

قبل جاءت ولم تزل تأتي لي

ا ه ملخصا من كتاب «تنوير الأبصار» للشيخ أبي الهدى الصيادي.

أقول : أدركت الكثير ممن عرفوا المترجم وعاشروه ، فإذا هم قد أجمعوا على أنه كان سمح اليد كثير البر مبذول الجاه لمن عرفه ومن لم يعرفه ، محسنا لمن أساء إليه ، ولا زال يصله ببره إلى أن يملك قلبه فينطلق لسانه بالثناء ، وأنه لم يكن عنده من العلم ما يؤهله للإفتاء ، لكنه رفع هذا المنصب الجليل إلى المكانة التي تستحقها بما كان عليه من وقار وحشمة وتصدر ووقوف أمام الحكام في مهام المسائل التي تتعلق بالرعية ، فلا يألو جهدا في نصرة الضعيف وإبلاغ شكواه إلى آذان أولي الأمر. وبالجملة فقد كان من دهاة الرجال. وحسنة من حسنات الشهباء.

وما زال رفيع القدر عالي المنزلة واسع الجاه إلى أن توفاه الله سنة ١٢٩٠ ، ودفن في تربة الصالحين شرقي مقام الخليل بجانب أبيه رحمه‌الله تعالى.

وله شعر قليل ونثر لطيف وقدود كانت تلحن وتلقى أثناء الذكر الذي كان يقيمه كل ليلة جمعة في زاويتهم الإخلاصية في محلة البياضة. فمن نظمه تخميس وجدته في مجموعة منشد حلقة ذكره الموسيقي الشهير أحمد عقيل وهو :

لله من لحظه جان بلا قود

يزري الغزال بلين القد والغيد

أفديه من رشأ بالحسن منفرد

رنا إليّ فرن السهم في كبدي

وهادمي قد جرى بالصدق يشهد لي

لا تأخذوه بما ألحاظه فعلت

فكم شفاعة حسن فيه قد قتلت

يكفي جزاء له أن الدما هطلت

فطار مني إليه قطرة وصلت

٣٣٢

لعينه فهي الحمراء لم تزل

وله أيضا مخمسا كما في هذه المجموعة :

لله قوم مكرمون بفضله

شربوا المصفى من موارد نهله

فتراهمو متوالهين لوصله

قوم إذا عبث الزمان بأهله

كان المفرّ من الزمان إليهم

فهم الأولى سادوا بأعظم منّة

ومحبهم لا يختشي لمهمة

ولكم لديهم من فضائل جمة

وإذا أتيتهم لدفع ملمة

جادوا عليك بما يكون لديهم

وله في مطلع قدّ نغمه راست صوفيان ، وهو لا زال مما يتغنى به في الأفراح وحلقات الأذكار :

وجه محبوبي تجلّى

بالبها والحسن يجلى

وبقربي جاد فضلا

فاشد يا حادي ورنّم

وبه مضناه هيّم

دور :

واجل لي كأس الصبوح

في غبوق وصبوح

مع ذي الوجه الصبوح

أفتديه إذ يزمزم

ولما توفي رثاه الشاعر الأديب الحاج يوسف الداده بقوله :

دمع العيون عليك غير ضنين

لكن صبري عنك غير معيني

يا راحلا جعل القلوب منازلا

بعد الرشا والفرع والشرطيني

(هكذا)

أبكيت عين الأنس إذ فارقتها

فتبسمت للقاك عين العين

قالوا وقد ساروا بنعشك من به

وبهيّ نورك فيه غبر مكين

هذا بهاء الدين فيه أجبتهم

مهلا فقد سرتم بعز الدين

مات الحجا والمجد يوم مماته

من بعد موت العز والتمكين

٣٣٣

هذا الوفائي ابن الوفا وأبو الوفا

هذا محط الجود والتأمين

هذا بقية آل بيت المصطفى

يسري به التابوت بعد الحين

هذا مخيّب كل باغ باسل

هذا مشجّع مهجة المسكين

هذا مفيض الجود إن بخل الحيا

هذا مكيد الفاجر المغبون

هذا منار الشرع والطرق التي

جليت بها بمطارف التحسين

هذا المؤكد عندنا بوجوده

زهد الرشيد وعفة المأمون

ساروا به للصالحين فبادروا

للقائه بالذكر والتأذين

وعيون أهل الفضل عند فراقه

تحكي بأدمعها سحاب الجون

شقوا به سوق الزحام كأنه

بدر يسير بأحسن التكوين

وارحمة لحرائر قد صانها

في حجره بالأمن والتحصين

تبكي عليه والصخور تجاوبت

من حولها بتأوه وأنين

ومن الحجارة ما بكى لفراق من

أبكى من الشهباء أهل الصين

هلا شجى منه الحمام وإنه

لهو الحميم لأهل هذا الحين

خانت لسيدها الليالي فانثنت

سودا وهذا دأب كل خؤون

حانت منيته فلو قبل الفدا

جئنا لفديته بلا تعيين

لمن المحاريب الشريفة بعده

بقيت تئن بلوعة وشجون

لمن المنابر كالعرائس تنجلي

بالوشي بعد خطيبها الميمون

آلت لنا الأقلام بعد يمينه

أن لا تجر مدادها بيمين

وعلى حمى الآداب والإنشا إذا

أزكى سلام مودع ميمون

لا يشمت الحساد فيه فإنهم

من بعده ذاقوا عذاب الهون

وليصبر الأحباب عنه إنه

لم يلف أول نازح وظعين

فلكم دعت تلك المنية سيدا

فأجابها بالطوع والتأمين

أخنت بنوح وابنه سام ولم

ترع الخليل لخلة وشؤون

ورمت بذي القرنين أسهمها فلم

ينفعه ملك الأرض والترصين

وبنو جذيمة بعدما جزموا بأن

لا يشربوا في الدهر كأس منون

تركوا الخورنق والسدير وغادروا

ملك الكبير سدى بغير أمين

والبهرميون الذين تبؤوا

سبأ بظل جنائن وعيون

٣٣٤

يبكيهم الإيوان وهو مشيّد

واه لبيتهم بغير قطين

وبنو ربيعة بعد عز شامخ

ومكارم وعزائم وظعون

أودى مهلهلهم وحل بعمرهم

داعي المنية طالبا بديون

وأناخ عبسا بعد بدر صارخ

حج الحجاز وطاف حول حجون

ونزار أنذرهم وحل بربعهم

فأباح وجه الأرض كل جبين

فإذا المنية ألحقت بمحمد

من ذا لطول بقائه بضمين

فلنا بأحمد أسوة محبوبة

ولنا العزاء بفضله المسنون

لا زال صوب العفو يسقي تربة

قد حل أشرفها بهاء الدين

وأباحه النظر الكريم لوجهه

رب العباد بحلة التزيين

وهناك تغبطه الجنان وأهلها

ونود رؤية وجهه بعيون

في المشهد الأعلى يظل مراقبا

وجه الكريم إذا ليوم الدين

١٢٤٦ ـ الشيخ إسماعيل اللبابيدي المتوفى سنة ١٢٩٠

الشيخ إسماعيل ابن الحاج صالح المشهور باللبابيدي.

ولد تقريبا سنة ١٢٤٠ ، ولما ترعرع حبب إليه طلب العلم ، فقرأ على فضلاء عصره في مقدمات العلوم ، وجاور في المدرسة الشعبانية ، ثم انتقل منها إلى المدرسة العثمانية ، وأكثر من الحضور على الشيخ أحمد الترمانيني ولازمه سنين عديدة ، فتخلق بأخلاقه من الورع والتقوى وملازمة العزلة والانقطاع إلى التعبد مع الزهد في الدنيا بحيث أعرض عما كان له من الثروة من غنم كثير كان له وزراعة ورث ذلك من أبيه فلم يلتفت إليه ، بل سلم الجميع لأخيه وقنع منه باليسير ، وأخذ في مجاهدة النفس وقمعها بتقليل الطعام والإعراض عن ملاذه. وقد حدثني غير واحد عدة حكايات في مجاهدته لنفسه ومخالفته لها. منها أن نفسه اشتهت باذنجانا محشيا ، ولما أحضر إليه رفعه فوق الرف أياما إلى أن اشتغل فيه الدود ، ثم أنزله ووضعه أمامه وصار يخاطب نفسه : كلي أيتها الخبيثة ، أما اشتهيت على الباذنجان المحشي. وكان يلبس خشن الثياب ويتزر بالبلاس الذي يغلف به التنباك ، وكان لا يرى إلا ساكتا أو ذاكرا أو مذاكرا في علم ، لا تعرف الغيبة أو النميمة في مجلسه. وبالجملة فقد كانت حالته تمثل السلف الصالح ، يتوسم فيه ذلك كل من رآه ، لا تكلف في ذلك

٣٣٥

ولا تصنع ، بل كان بعيدا عن ذلك كل البعد.

ولم يزل على هذه الحالة إلى أن توفي سنة ١٢٩٠ ودفن في تربة لالا المعروفة بتربة البلاط الفوقاني ، وإلى الآن يثني عارفوه عليه ويلهجون بحسن سيرته وما كان عليه من التقشف والعبادة والعلم ، رحمه‌الله تعالى.

وله شعر قليل في المواعظ وعلى لسان القوم لكنه ليس بشيء ولم أجد منه ما يصلح للتدوين.

وله شرح على الأجرومية في النحو غريب في بابه ، فإنه يأتي بأمثلة فيها مواعظ وحكم نحو قوله بعد عن من حروف الجر : مثالها : (بعد انتهاء آجالنا نسأل عن أعمالنا) ، وبعد على : (إذا انقضت الآجال نقدم على ما قدمنا من الأعمال) ، وبعد في : (حضور القلب في العبادة من علامات السعادة). ثم يأخذ في الكلام في هذه الأبحاث ، والشرح جميعه على هذا النسق ، وعندي منه نسخة بقلم الشيخ وفا الطيبي منقولة عن نسخة استنسخت عن خط المؤلف وهي في ٢٣٤ صحيفة.

وأخو المترجم اسمه الحاج محمود ، وقد كان رجلا صالحا متمولا طلق اليد كثير البر والإحسان لذوي رحمه وللفقراء والمساكين ، وكان خير مساعد لأخيه ، فإن الشيخ إسماعيل لما انقطع عن الدنيا وزهد فيها وأقبل على العبادة أنفق الكثير مما لديه من الثروة واستلم أخوه بقيتها ، فكان ما يحصل منها من الربح في التجارة لا يفي بنفقة زوجة أخيه الشيخ إسماعيل وأولاده ، فكان يتمم نفقاتهم من ماله طيب الخاطر منشرح الصدر. وكان يمد يد المعونة لمن قعدت به الأيام ورمته بالنكبات بعد أن كان من ذوي النعمة واليسار. وكان من انقطع من الغرباء أو الحجاج عن الوصول إلى بلده يحمله إليها ، إلى غير ذلك من وجوه الإحسان.

ومن آثاره الباقية أنه كان أوعز لإحدى قريباته المثريات أن تنشىء بركة كبيرة في جامع البلاط ، فقامت بالعمل ، ثم إنه بلط صحن الجامع من ماله.

وكانت ولادته سنة ١٢٦٨ ، وذهب إلى ربه راضيا مرضيا سنة ١٣٢٠ ، وخلف عدة أولاد يتعاطون إلى الآن التجارة والزراعة.

٣٣٦

(عودا إلى الترجمة) : ولما أتى الشيخ علي اليشرطي الشاذلي المغربي إلى الديار السورية وذلك سنة ١٢٦٦ وشاع أمره في هذه البلاد وانتشرت طريقته فيها كان المترجم من جملة من رحل إليه إلى عكا ، ورافقه في الرحلة إليه الشيخ محمد الشعار الريحاوي من علماء ريحا ، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية اليشرطية ، وعاد إلى حلب متزودا بمزيد الاعتقاد في الشيخ سالكا طريقته الحسنة واستقامته المستحسنة ، وصار يقيم الذكر في جامع الزينبية في محلة الفرافرة وصارت الناس تبايعه. وأخذ عنه هذه الطريقة عدة من وجوه الشهباء. ولم يزل ناهجا ذلك المنهج من التمسك بالشرع وآدابه والوقوف عند حدوده ورسومه لا يحيد عنه قيد شبر حتى اخترمته المنية في التاريخ المتقدم.

ثم حضر بعده إلى حلب في أول القرن الرابع عشر رجل من أهالي ريحا يقال له الشيخ عمر الريحاوي ، وكان ممن أخذ هذه الطريقة عن الشيخ علي وصار الناس يبايعونه ، وكان وعاؤه ممتلئا فسقا وفجورا فسطا على عقول بعض العوام وفتح للجهلة المنتسبين إلى هذه الطريقة باب القول بوحدة الوجود ، تلك المقالة الشنعاء المردودة ببداهة العقل ، وخلاصتها أن جميع ما في هذا الكون هو الله لا فرق في ذلك بين البشر والبقر ، ولا تفاوت بين الطيبات والمستقذرات ، فساقهم ذلك إلى انتهاك حرمات الشرع واستباحة المحظورات ، فارتكبوا المعاصي واقترفوا المآثم ، فصدق في هؤلاء الجهلة قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)(١).

وحدثني من أثق به من ذوي الاستقامة من أهل طريقتهم الذين أخذوها بصفاء قلب وحسن نية أن الشيخ عليا كان حينما يبلّغ أمثال هذه الحوادث عن بعض مريديه يغضب لذلك وتثور حفيظته ويقول لخواصه : ازجروا هؤلاء وحولوا بينهم وبين التلطخ بهذه القاذورات والوقوع في هذه الموبقات بالموعظة الحسنة ، وأرشدوهم إلى الطريق السويّ ولا تسيئوا سمعة هذه الطريقة.

ولكن هيهات هيهات ، فقد قيل ما قيل وسبق السيف العذل ، وكان لهؤلاء الجهلة صولة في بعض محلات حلب في ابتداء هذا القرن وكثر مشايعوهم وسرت فكرتهم إلى أمثالهم في إدلب وريحا ، فأتى هؤلاء بالقبائح والمنكرات ، فكان ممن تصدى ثمة لمقاومتهم

__________________

(١) مريم : ٥٩.

٣٣٧

وتبيين شناعاتهم وتفنيد ما ذهبوا إليه من القول بوحدة الوجود العالم الفاضل الشيخ طاهر أفندي الكيالي المشهور بالملا الذي لا زال في عداد الأحياء ، وأكثر من ذلك في دروسه ومجالس وعظه ، فخفت شرتهم وتثلمت حدتهم ، ولاذوا بالتوبة والإقلاع عما يرتكبونه من السفاسف ، وكذلك من كان هنا على هذه الشاكلة ، فقد انطفأت منذ خمس عشرة سنة شرارتهم ، وخمدت نارهم ، وانتبهوا بعد غفلتهم ، وتبين لهم الرشد من الغي ، وثابوا إلى الصراط القويم بعد الضلال المبين ، ولم يبق منهم إلا أشخاص قلائل يعدون بالأصابع نسأل الله لهم الهداية وسلوك سبل الرشاد.

١٢٤٧ ـ ترجمة الشيخ علي اليشرطي الشاذلي

ولا بأس أن نذكر هنا ترجمة الشيخ علي اليشرطي مؤسس هذه الطريقة في البلاد السورية ، لأن النفس تتوق إلى معرفة أصله وترجمته ، وقد نقلناها عن التاريخ الموسوم ب «حلية البشر» للعلامة الأديب الفاضل الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي الذي لا زال مخطوطا (١) ، قال :

هو الشيخ علي بن أحمد المغربي اليشرطي الشاذلي الترشيحي ، شيخ الطريقة ، ومعدن السلوك والحقيقة. ولد في بنزت من أعمال تونس الغرب سنة ألف ومايتين وإحدى عشرة ، ووالده الحاج أحمد اليشرطي ، قيل نسبته إلى بني يشرط : قبيلة بالمغرب قيل إنها تنسب إلى سيدنا الحسن بن علي سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قائدا كبير للجيش التونسي ولم يترك ولدا غير المترجم المشار إليه ، فالتفت المترجم من صغره إلى الطلب وحضور دروس العلماء والفضلاء ، إلى أن نال مطلوبه وملك مرغوبه ، ثم أخذ الطريقة الشاذلية عن أستاذ العصر وفرد الدهر الأستاذ الكبير والعالم الشهير أبي محمد بن حمزة ظافر المدني ، فاشتغل بهمة قوية وسيرة مرضية ، ودأب على الذكر في السر والجهر ، وكان مقدما عند الشيخ على الجماعة لما شاهده منه من كمال الانقياد والطاعة. ولم تزل مرتبته تتعالى وخوارقه في الطريق تتوالى إلى أن تأهل للإرشاد ، وارتقى مقامه وساد.

وبعد وفاة شيخه وأستاذه وعمدته وملاذه قصد مكة المكرمة للنسك ، وبعد أن أتم

__________________

(١) طبع الكتاب في مجمع اللغة العربية في ثلاثة أجزاء عام ١٩٦١ بتحقيق محمد بهجة البيطار.

٣٣٨

حجّه ، وعجّه وثجّه (١). توجه لزيارة أشرف إنسان ، وأفضل مخلوق من ملك وإنس وجان ، وجاور في تلك البلدة الشريفة ، ذات الرتبة العالية المنيفة ، أربع سنوات. وكان يحج في كل عام ، ثم بعد التمام يرجع لمدينة خير الأنام.

ثم قصد زيارة القدس الشريف ، فلما وصل يافا في مركب شراعي تعسر عليه النزول إليها لأن النوء كان شديدا غير لطيف ، فطلع إلى عكا ، وكان قد مرض لشدة ما أصابه من الأهوال والعناء ، فذهب منها إلى ترشيحا لتبديل الهواء ، وكان ذلك سنة ألف ومايتين وست وستين ، وأخذ أمره من ذلك العهد بالانتشار ، فقصدته الناس من القرايا والأمصار ، وأخذوا عنه الطريق ، باذلين همتهم في حفظ ذلك العهد الوثيق ، وفي كل يوم يشتهر أمره ، ويزداد علوه وقدره ، إلى أن انتشر الطريق في الآفاق ، فلم يدخل الإنسان من البلاد السورية إلى محل إلا ويجد مرشدا منهم قد وقف للترغيب على ساق.

وفي حدود سنة ألف ومائتين وثمانين أيام ولاية رشدي باشا الشرواني رأى منهم اجتماعا منافيا للسياسة العثمانية ، فنفاه هو وبعض جماعته إلى الجزيرة القبرصية ، ولم يزل بها ثلاثة أعوام ، إلى أن تداخل في الرجا في إحضاره الأمير عبد القادر الجزائري فاستجلبه إلى الشام ، وقد أجرت الحكومة عليه شديد التنبيهات ، في ترك ما كانوا يفعلونه من الاجتماع وأنه من الممنوعات. ثم عاد إلى عكا ورجع ، بعد أن أعطى المواثيق بأنه ترك ما كان عليه ونزع. ثم بعد أن انفصل ذاك الوالي المشار إليه ، رجع المترجم إلى ما كان من الظهور عليه ، إلى أن وجهت الولاية على رشدي باشا ، وكان قد حصل من جماعته في بعض المحلات أمور مذمومة واعتقادات مشؤومة ، فاستحضر الوالي المترجم تحت الحفظ إلى الشام ، وأراد نفيه إلى فزّان ، وقبض على نحو عشرين شخصا من جماعته المعدودين من خلاصة الأخوان ، فبذل الأمير عبد القادر رجاه لحضرة الوالي المرقوم أن يجعله محبوسا في داره ، وأن يسمح عن نفيه رحمة لذله وانكساره ، فحقق الوالي رجاه ، لما له عنده من الفضل والجاه. وأما جماعته فإنه نفاهم إلى فزّان ، وأذاقهم بذلك الذل والهوان. ثم إن حضرة الأمير بعد مدة أطلقه من حبسه ، وأرجعه إلى محله مشمولا بسرمده وكمال أنسه.

__________________

(١) في العبارة إشارة إلى الحديث الشريف : (تمام الحجّ العجّ والثجّ). العجّ : العجيج في الدعاء ، والثجّ : سيلان دماء الهدي والأضاحي.

٣٣٩

وحاصل الكلام في سيرة هذا المترجم المفضال فإنه اختلفت فيه أقوال الرجال ، فمنهم من طعن به وزاد ، ومنهم من برأه من كل ما يوجب الملام والفساد ، وإن الحق يقال ، ما علمنا عليه سوى ما يوجب الكمال ، غير أن بعضا من جماعته قد خرجوا عن دائرة الأدب ، وتكلموا بما هو لكل ملام سبب ، وتركوا في الظاهر كل مأمور ، وارتكبوا أقبح الأمور. ثم إن المنفيين إلى فزّان أحسنت عليهم الدولة بالإطلاق فرجعوا إلى الشام. ولم يزل بعض أهل هذه الطريقة يفتخرون بمخالفة الشريعة الغراء ، وبترك كل مأمور به وبفعل كل ما يوصل فعله إلى كل شقاء ، ويقولون بأن الشريعة حجاب ، وفعل المنكرات موصل إلى رب الأرباب ، فلاطوا بالأبناء وزنوا بالأمهات ، وأكلوا الحرام وانهمكوا في المنكرات ، واعتقدوا بأنفسهم أنهم صوفية الزمان ، وأن من سواهم قد ألبس نفسه ثياب الحرمان ، ويفسرون كلام الله ورسوله بكل تفسير فاسد ، ويقولون بأن هذا التفسير قد ألقاه إليهم الوارد ، فما أعظمها مفسدة في الدين ، وما أجسمها فتنة على المسلمين ، فيا عباد الله من يقول بأن المنهي عنه طريق الوصول ، وهو المرضيّ عند الله تعالى وعند الرسول ، وأما المأمور به فهو حجاب ، ولا يتمسك به إلا المحجوبون عن طريق الصواب ، فإننا نبرأ إلى الله من هذا الاعتقاد ، ونعوذ به مما يوصل إلى كل شر وفساد ، ونتمسك بما جاء به النبي الأمين ونقول : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(١).

ثم إن كثيرا من الناس قد شكى هؤلاء الجماعة إلى المترجم ، فيقتصر على قوله : عظوهم وعرفوهم أن هذا أمر محرّم ، وإذا وعظهم إنسان ، يسخرون به ويعدونه من أهل الجهالة والخسران. نسأل الله العفو والعافية ، والمعافاة الدائمة والنعمة الوافية ، وأن يحفظنا والمسلمين ، من مخالفة الملة والدين.

وفي ليلة الأربعاء التاسع عشر من رمضان المبارك توفي هذا المترجم سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٢٤٨ ـ فرنسيس بن فتح الله مراش المتوفى سنة ١٢٩٠

فرنسيس بن فتح الله مراش. ترجمه جرجي زيدان في كتابه «مشاهير الشرق» فقال بعد أن صدر الترجمة برسمه :

__________________

(١) آل عمران : ٥٣.

٣٤٠