إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

الجيوش وتعبئتها مع بقائه في وظيفته الأصلية وهي المستشارية ، ثم نقل إلى قيادة المعسكر في أنقرة ، وصار يجهز الجيوش فيها ويدربها على النظام العسكري.

وكان الوالي فيها إذ ذاك مظهر بك الذي كان واليا في حلب في زمن الدستور ، وكان هذا من أخص أصحابه ، فكان يبذل له كل معاونة. ثم عين على الفيلق الخامس فيلق إزمير ، ثم أمر بالعودة إلى الآستانة ليستلم وظيفته الأصلية ويدير شؤونها وينوب عن ناظر الحربية أثناء غيبوبته وسفره إلى أنحاء المملكة لتفقده شؤون الجيوش والحركات الحربية.

وفي بداية الأمر دارت رحى الحرب على أحسن وجه وأتم نظام ، وكانت الانتصارات للدولة الألمانية ومن كان معها من الدولة العثمانية ، غير أنه لما طال أمد الحرب بدت علائم الضعف والتشتت في الجيوش العثمانية بسبب قلة الذخائر والملابس وصعوبة نقل المهمات والمعدات الحربية لعدم انتظام الطرقات وعدم وجود السكك الحديدية الكافية في البلاد العثمانية ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى صارت الأصابع الأجنبية تلعب ببعض أركان الجيش وضباطه القليلي الإدراك الفاقدي الشرف الضعيفي الدين والوطنية ، وبزوا لبعضهم الأصفر الوهاج الذي تحنى أمامه الرؤوس وتصغر عند رؤيته صغار النفوس.

فكان هؤلاء في ذلك كالباحثين عن حتفهم بظلفهم والساعين بأرجلهم عمدا نحو مصرعهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

وكانت أهم جبهة من جبهات الحرب جبهة (جناق قلعة) وجبهة (القفقاس) ، أما الأولى فلقربها من العاصمة كانت الذخائر الحربية والمؤن وسائر أسباب الدفاع متوفرة لديها. وأما الثانية فكانت بعيدة عن العاصمة ومسالكها وعرة وبردها قارص والمواصلات فيها متعسرة جدا وغير مأمونة القوافل بسبب مرورها على أقوام من الأرمن والأروام ، فكانت كثيرا ما تضرب القوافل وتذبح محافظيها وتسلب منهم المؤن والمهمات الحربية. وتعدد وقوع هذه الحوادث ووصلت إلى درجة لا تطاق ولا يمكن تحملها ، فكانت من جملة الأسباب التي دعت الباب العالي أن يقرر على جلاء الأرمن والأروام من قلب الأناضول في ذلك الحين.

وصادف أن أنور باشا ذهب إلى هذه الجبهة للتفتيش ، وكان القائد العام لها حسن عزة بن علي باشا القائد العام الشهير في حلب. وعقب وصوله إليها أمر القائد بالزحف

٦٠١

على العدو ، وكان كل من الجيشين متحفزا للوثوب على الآخر ، فتردد القائد فسيق في الحال إلى التقاعد. وابتدأ الزحف على جيش الروس ولكنه لم يفلح ، ووقعت فرقتان أسرى بيد الروس ، فانكسر جيش الدولة العثمانية وارتد قليلا وأخذ في المدافعة. ورجع أنور باشا إلى الآستانة وعين حقي باشا الداماد قائدا عاما ، لكنه على إثر وصوله إلى الجبهة وقع في الحمّى التيفوئيدية التي كانت تفتك بالجيش ، وبعد ساعات معدودات اغتالته يد المنون.

ففي الحال عين مكانه محمود كامل باشا ، وبارح الآستانة على جناح السرعة فوصل إلى الجبهة في ٢٦ شباط سنة ١٣٣٠ رومية ، فرأى الجيش في حالة غير مرضية وقوته المعنوية خائرة ، فأخذ في إصلاح خلله ، وسعى في جلب الكثير من المؤن والأطباء والأدوية اللازمة.

وكان مقدار الباقي من الجيش العثماني لا يزيد عن عشرين ألفا ، وعدد جيش الروس ثمانين ألفا ، فاتخذ خطة الدفاع وأخذ يخابر العاصمة ويشرح الحالة لنظارة الحربية ويطلب الإمدادات الكافية ، ولكن كان لا يجاب على طلباته كما يرغب ويريد ، ولسان حال العاصمة يقول : (لا ألهينّك إني عنك مشغول) (١).

والسبب في ذلك ما كانت تلاقيه الآستانة من تزايد الضغط من جانب عساكر الدول المؤتلفة (وهي الدولة الإنكليزية والإفرنسية والإيطالية واليونانية) في سائر المواقع الحربية خصوصا في موقع (جناق قلعة) ، فكان معظم الإمدادات تساق إليها لأنها بمثابة القلب من جسم الدولة العثمانية.

فلما رأى محمود كامل باشا حراجة موقفه وأن المكاتبات لم تجده نفعا استأذن في العودة بنفسه ليوضح للنظارة أمورا هامة ليست بالحسبان ، فأذن له في الحضور ، فوكل وقتئذ أحد القواد الذين كانوا في معيته وذهب إلى الآستانة ، وبينما كان هناك إذ فر أحد من لا خلاق لهم من الضباط المرابطين في الحدود والتجأ إلى جانب العدو ، وأخبر قواد الروس عن حالة جيش الدولة العثمانية وأطلعهم على مقدار عدده وعدده وعن نقاط التعبئة وحالة الاستحكامات ، وشرح لهم كل ما يقوي عزائمهم ويدعوهم إلى استعمال خطة الهجوم.

__________________

(١) هو عجز بيت لكعب بن زهير ، وصدره : وقال كل خليل كنت آمله.

٦٠٢

ولم يقف عند هذا الحد بل شرح لهم ما وصل إليه علمه ومعرفته عن سائر الجيوش العثمانية. فما كان عشية أو ضحاها إلا وعساكر الروس بدأت بالزحف العنيف والهجوم الشديد على (أرزن الروم) وسائر المواقع الهامة ، وقامت عندئذ الحرب على ساق وحمي الوطيس ، وأخذت عساكر الدولة العثمانية تنسحب إلى الوراء ، فسقطت (أرزن الروم) وكثير من المواقع بيد الأعداء.

وطار نبأ ذلك إلى العاصمة ، فعاد محمود كامل باشا إلى المعسكر بأسرع من البرق ووصل إلى أرزنجان فوجد الحالة تعيسة جدا ، فأخذ ينظم الوضعية ويصلح حالة الجيش ، وكانت الإمدادات بدأت ترد إليه ، فأوقف زحف العدو مؤقتا ، واتخذت أرزنجان مدارا للحركات الحربية بدلا من (أرزن الروم) وطلب من الآستانة أن تجهز إليه جيشا جرارا لينهض إلى استعادة (أرزن الروم) والمواقع التي استولت عليها الجيوش الروسية ، فأجيب طلبه هذا وتحرك قسم من الجيش الجديد نحو الفيلق الثالث أي فيلق القفقاس. وبينما كان هذا الجيش يسير في الطريق وقد وصل إلى قيصرى ، وهي في منتصف الطريق ، وإذا بعساكر الدولة المؤتلفة التي يبلغ مقدارها ١٧٠ ألفا عدا ما كان يتوارد إليها كل يوم من الإمدادات العظيمة أخذت تضايق موقع جناق قلعة من البر والبحر بصورة هائلة تذهل لها العقول وتشيب منها الأطفال ، وصارت بواخرها الحربية الضخمة التي يربو عددها على مائة تصلي القلاع والحصون هناك نارا حامية ليلا ونهارا بلا انقطاع بحيث لم يشهد التاريخ مثلها ، قاصدة بذلك خرق خليج الدردنيل والعبور إلى بحر مرمرة لتحتل الآستانة ، فيكون في ذلك انتهاء الحرب.

وكانت تلك البواخر الراسية هناك إنكليزية وإفرنسية ويونانية وإيطالية وأميركانية ، لكن لم يشترك بالضرب إلا الثلاثة الأول ، فهناك أبلى مصطفى كمال بك (باشا) بلاء حسنا وأظهر شجاعة وبسالة يشهد بذلك له التاريخ. وقد كان قائدا في معية (فون ساندروس باشا الألماني) القائد العام لتلك المواقع. ولم تفلح الدول المؤتلفة بهجومها هذا ، بل خسرت به ألوفا من الجند وفقدت غرقا أكثر من إحدى عشرة باخرة حربية ضخمة وغير ضخمة في مدخل الدردنيل ، وهذه المواقع الهائلة مشهورة معلومة لدى جميع الناس.

وقبيل هذه المهاجمات العنيفة أمر أنور باشا الجيوش التي كانت سائرة في الطريق مددا

٦٠٣

للفيلق الثالث المقيم في أرزنجان بأن تعود إلى الآستانة ، وكتب إلى محمود كامل باشا مخبرا له عن الحالة على وجه التفصيل ، وكلفه أن يتخذ خطة الدفاع لا غير ، وإذا تعرض جيش الروس لجيشه أن يقاوم على قدر الإمكان ، وإذا لم يستطع الوقوف والثبات أن يرجع إلى الوراء بانتظام ويدافع بكل ما يمكنه من وسائل الدفاع ويعرقل تقدم الجيش ومتابعته إلى أن يصل إلى جبال طوروس عند مرعش وعينتاب. فامتثل الأمر ، لكن بعد احتلال الروس لأرزن الروم لم تحدث وقائع حربية تذكر ، بل حدثت مناوشات ليست بذي بال.

ولكن لم يكن سكوت الروس عبثا ، بل كانوا يجهزون عدة جيوش جرارة لترسل جيشا إلى أرزنجان وجيشا إلى الأناضول لتحتل بهما سيواس فمرعش فالإسكندرون من جهة ، وخرت برت ويالو وديار بكر من جهة أخرى.

وفي هذه الأثناء اعترى محمود كامل باشا مرض لم يستطع معه البقاء هناك ، فطلب الاستقالة فأجيب ، وعاد إلى الآستانة وعين مكانه وهيب باشا ، وعين أحمد عزة باشا المشير إلى ديار بكر مركز الفيلق الثاني ، وكل منهما حضر إلى مركز قيادته واستلم القيادة.

وبعد مدة يسيرة استؤنفت الحرب من جانب الروس في الجهتين ، فأخذت عساكر الدولة العثمانية ترجع إلى الوراء ، وكان الضغط على جبهة المشير عزة باشا أشد ، فسقطت سيواس والبلدان التي في طريقها ، وفي الشمال سقطت طربزون وتوابعها ، ووصلت جيوش الروس من الجنوب إلى جبال يالو قاصدة احتلال ديار بكر ، وهناك جرت معارك عظيمة أريقت فيها الدماء من الطرفين كالأنهار ، وكان النصر في الغالب في جانب عزة باشا ، وكان رئيس أركان حرب هذا الجيش عصمت بك (باشا) الذي اشتهر أخيرا في الحروب اليونانية.

وعلى أثر ذلك اعترى جيش الروس سكوت ولم يبد أقل حركة في جبهتي الحرب ، وصار ترد خفية مناشير من جانب الروس إلى عساكر الدولة العثمانية في الجبهتين تحض على ترك السلاح وتظهر فيها عبارات التودد وتقبح فيها الحرب وتشتم من كان سببا لإضرام نيرانها ، ولكن أمراء الدولة كانوا لا يصدقون بذلك ولا يركنون إليها ويظنون أنها خدع حربية وأشراك يقصدون وقوع العساكر العثمانية فيها.

ولم يمض بعد ذلك أيام قلائل إلا وقامت القيامة في عاصمة الروس ، واختلط فيها

٦٠٤

الحابل بالنابل ، وقامت الثورات على قدم وساق ، وصارت الرعية وأفراد الجند يقتلون الأمراء وأهل الثراء ، وقتلت أسرة العائلة الأمبراطورية نفسها شر قتلة ومثل بها أفظع تمثيل.

وأما الجيوش التي كانت تحارب في الجبهات فصارت في هرج ومرج ، وصارت ترسل إلى قوادنا الأخبار والرسل أن يجيئوا ليستلموا بلادهم ، وأخذت تترك مواضعها وحصونها وترجع زرافات ووحدانا إلى بلادها تاركة ما لديها من المدافع والسلاح وبقية آلات الدفاع والذخائر والمؤن ، وكان شيئا كثيرا لا يحصى ، وصارت تقتل قوادها وضباطها إلا من كان منهم على فكرتهم وموافقا لغايتهم. فعلم عند ذلك أن تلك المناشير كانت حقيقية وأن روح لزوم التساوي بين جميع الطبقات المسماة (بالبولوشفيكية) قد انبعثت فيهم وصارت تسري بين الجنود رويدا رويدا إلى أن استحكمت حلقاتها فيهم وتأصلت تلك العقيدة في نفوسهم ، وما زالت تربو وتتعاظم إلى أن انفجرت في آن واحد في كل صقع وكأنها قنابل مرتبطة ببعضها البعض بشرائط كهربائية تحت ضغط زر واحد.

حينئذ نهضت الجيوش العثمانية وأخذت تمشي إلى الأمام مستردة بلدانها ومغتنمة جميع ما تركته عساكر الروس من عدة جهات بلا معارض ولا مقاوم. فمن جهة وصلت إلى القارص فما فوقها ، ومن جهة بلغت باطوم واحتلتها وشكلت حكومة تركية فيها وعينت متصرفا لها جميل بك النيّال الحلبي واستولت على تلك المناطق بأجمعها ، وهذا من أعجب الأمور في الحوادث الكونية ، ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه وأزال كل عقبة تكون في طريقه.

أما محمود كامل باشا فإنه بعد أن عاد إلى الآستانة قعد في بيته مدة إلى أن برىء من مرضه ، ثم عين مستشارا لنظارة الحربية للمرة الثانية. وكانت صفحات الحرب في جهات الألمان وجهات البلاد العثمانية ليست على ما يرام ، بل كانت الانكسارات والاندحارات تتوالى بأسوأ الحالات ، وصار يلوح للناظر أن هذه الحرب العامة الطاحنة للبشر قد دخلت في دورها الأخير وأنها ستضع أوزارها عما قريب.

وكان جمال باشا قائدا عاما على جيوش سورية وفلسطين. وأخيرا لما رأى أن كل مساعيه التي بذلها في هذه البلاد من قتل كبرائها ونفي الكثير منهم إلى بلاد الأناضول لم يجده نفعا ولم يحسن بذلك صنعا ، حيث أدى إلى ما لم يكن له بالحسبان ، ومن إثارة

٦٠٥

حفيظة أهالي البلاد وانضمام كثير من الجنود السوريين وضباطهم من أهالي سورية والعراق إلى الأمير فيصل نجل الشريف حسين أمير مكة ، حيث كان قد أتى بمن معه من عرب الحجاز إلى جهة معان والعقبة منضما إلى الجيوش الإنكليزية التي كانت تحارب الدولة العثمانية في جهة ترعة السويس ، حينئذ قدم استقالته مرارا ، وأخيرا قبل منه ذلك وعاد إلى الآستانة وكلف أنور باشا لمحمود كامل باشا المترجم عدة مرات مصرا عليه أن ينوب مكان جمال باشا ، فلم يوافقه ويعتذر له علما منه بأن الخرق قد اتسع على الراقع في هذه البلاد ولا يمكن سده مهما استعمل فيه الإنسان من ضروب المهارة وأساليب السياسة ، فعين مصطفى كمال باشا صاحب الوقائع الشهيرة في البلاد الأناضولية مع الدولة اليونانية ، فحضر لهذه البلاد بجنوده واستلم القيادة.

حينما حضر كانت البلاد في جبهتي فلسطين والعراق تتساقط ، وجيوش الدول المؤتلفة تتقدم نحو الشمال ، وحالة جيش الدولة العثمانية ليست على ما ينبغي ، وعم الخلل سائره ، وذلك لما لاقته الجنود من الجوع والعري وعدم العناية في الأمور الصحية في طعامهم وشرابهم وكسوتهم ومبيتهم ، في حين أن القواد والضباط كانوا يتناولون أطيب المآكل ويشربون أعذب المشارب ويعطون أنفسهم ما تشتهيه من اللذائذ وامتلأت جيوبهم وجيوب من لاذ بهم بالأصفر الوهاج الذي صب عليهم من البلاد الألمانية ، وكان يأتيهم بالشاحنات وبما كانوا ينهبونه من أرزاق الجنود ويأخذونه من الرشوة من الأهالي في تعهدات المآكل والذخائر وفي سبيل التخلص من التجند ، وذلك مما لا يمكن إحصاؤه ولا يدخل تحت حصر. وإن جيشا هذه صفة قواده وأمرائه وتلك حالة جنوده لا ريب أن نصيبه الفشل ومصيره إلى الخذلان والانكسار ، فللأسباب المتقدمة وهذه الأحوال التي لا تطاق ولا يمكن أن تتحمل اضطر الكثير من الجنود السوريين والعراقيين الذين كانوا في صفوف عساكر الجيوش العثمانية أن يفروا مع بعض ضباطهم السوريين والعراقيين وينضموا إلى الأمير فيصل الذي هو ملك البلاد العراقية الآن ويقاتلوا معه جنبا إلى جنب.

وبينما كانت الحالة العامة في هذه البلاد على هذه الصورة إذ بعساكر البلغار التي كانت تقاتل مع الجيوش الألمانية والنمساوية والتركية للجيوش الإنكليزية والروسية والإفرنسية والإيطالية واليونانية والصربية بدأت تترك أسلحتها في جهات الرومللي وتجاهر بعدم دخولها في صفوف الحرب ، وعقدت في الحال محالفة مع دول الائتلاف ، وهي الدول المتقدمة

٦٠٦

الذكر ، فتنحت عن ساحات الحرب وخرجت من زمرة الدول المتفقة. وعندئذ دخلت جيوش المؤتلفين في قلب الرومللي من غير ما معارض ولا مدافع واستولت على الجبال والسهول ، فانقطعت بذلك المواصلات بين الآستانة والنمسا وألمانيا وحل البلاء الأعظم في كل من الدول المذكورة وكادت الروح البولوشفيكية تنبث في أرواح جميع الجنود. والجنود الألمانية تركت سلاحها ، وهجم قسم منها مع الأهالي على منازل ملك الألمان وحطموا قسما من أبنيتها ونهبوا ما فيها من الأثاث والرياش وغير ذلك. وكان عاهل الألمان قد فر هو وأفراد أسرته لئلا تكون عاقبته كعاقبة ملك الروس والتجأ إلى مملكة هولاندا التي كانت على الحياد منذ بداية الحرب حتى نهايته ، وكذلك أسرة ملك النمسا فعلت مثل جارتها.

أما الدولة العثمانية فقد كان سلطانها محمد رشاد الخامس قد توفي قبل أن يتفاقم الأمر ويصل إلى هذه الدرجة ، وتنصب مكانه السلطان محمد وحيد الدين ، وكان هذا معارضا لفكرة الحرب من حين أن كان ولي العهد ، ولما نصب سلطانا أخذ في التملص من الحرب وشرع يتقرب من دول الائتلاف بالوسائل الخفية. ولما فعلت دول البلغار ما فعلت من ترك سلاحها ومعاهدتها لدول الائتلاف وأحست الدولة العثمانية بالعطب وحاق بها البلاء من كل صوب وجدت من الضروري أن تعقد هدنة مع دول الائتلاف ، وتسمى هذه المعاهدة (معاهدة موندروس) المشهورة ، فاضطر عندئذ أنور باشا وسائر أفراد الوزارة الاتحادية وطلعت باشا وجمال باشا إلى الاستقالة ، ولما علموا أن في بقائهم في الآستانة خطرا على نفوسهم لاذوا إلى الفرار وأصبح كل واحد منهم في جهة.

أما محمود كامل باشا فإنه لزم بيته في الآستانة ، فأتاه بعض أصحابه وكلفوه أن يفر أسوة رفقائه ، وأصروا عليه في ذلك ، وهيئوا له باخرة خاصة لهذه الغاية لتقله إلى حيث يشاء ، فشكرهم وقال لهم : إنني لست من أفراد الوزارة ، وما أتيت شيئا يستوجب المسؤولية أو الانتقام مني ، وإنني رجل عسكري ما قمت إلا بما توجبه الوظيفة علي ويأمرني به الدين وحب الوطن ، وإني مستعد عند مسيس الحاجة أن أدخل في أي محكمة كانت وأخرج منها ناصع الجبين بريئا من كل مسؤولية.

وبعض خواصه أصر عليه في ذلك وتكفل له بكل ما يحتاج له من النفقات وأنه يوصله

٦٠٧

متنكرا إلى طهران بغاية الراحة والطمأنينة ، وأن الطريق إليها مفتوحة الآن وليس هناك ما يخيف أو ينذر بخطر ، وإنك لترى هناك أنواع الحفاوة والإجلال وأن القوم هنا وهناك سيحتاجون إليك وإلى أمثالك من الرجال والقواد ، وربما كان ذلك في القريب العاجل. فكرر له محمود كامل باشا الشكران له ولأصدقائه كافة ، واعتذر لهم ولم يطاوعهم على تلك الفكرة.

وعلى أثر ذلك عبرت أساطيل الدول المؤتلفة مضيق الدردنيل ذلك المضيق العظيم ، وصارت تحتل قلاعه المنيعة ، وصار قوادها والجنود يحتلون الآستانة وتوابعها حسب المعاهدة المتقدمة ، واستولوا على ما هناك من الثكنات وسائر المواقع العسكرية ، وسكر هؤلاء المحتلون بخمرة النصر والظفر ، فصاروا يعاملون الأهالي أسوأ المعاملة ، ولقي سكان الآستانة ضروبا من المهانة والاحتقار ، وصارت حالتهم كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً)(١) وصار لسان حالهم يتمثل بقول حرقة بنت النعمان :

فبينانسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف

ولما ازداد هذا الحال من هؤلاء وأصبح بحالة لا تطاق صار الناس وعساكر الدولة العثمانية وضباطها وأمراؤها ووزراؤها ينقمون على الصدر الأعظم الداماد فريد باشا وعلى بعض الوزراء الذين كانوا على شاكلته في الوزارة. وكان هذا الداماد يطمح بنظره من القديم لأن يكون صدرا أو على الأقل أن يكون أحد أفراد الوزارة ، وكان لا يتيسر له ذلك ، فكان شديد الانتقاد وعظيم البغض لأي وزارة تألفت في أي دور كان ، وكان حريصا على منافعه الذاتية محبا للانتقام ولو كان في ذلك دمار الدولة. ولما صار وزيرا أعظم في عهد السلطان وحيد الدين أدخل في وزارته علي كمال بك الكاتب التركي المشهور في عداد الوزارة ومحمد علي بك للخارجية ومن كان على شاكلتهم لبقية الوزارات ، وكان هؤلاء كلهم ناقمين على الوزراء السابقين وكل واحد منهم حريص على منافعه الخاصة ولا يفتكر بأمر استقلال الدولة ، وكانوا يتمنون أن يجعلوا الدولة العثمانية تحت حماية إحدى الدول العظام ، وصادفوا من نفس السلطان وحيد الدين ميلا إلى ذلك ، بل كان ذلك بإقناعاتهم

__________________

(١) النمل : ٣٤.

٦٠٨

المتوالية له من قبل أن يصير سلطانا ومن بعد ذلك. وطفقوا يسعون وراء هذه الآمال الدنيئة المملوءة خسة وخيانة ، فقسم منهم كانوا يتزلفون للإنكليز والقسم الآخر للإفرنسيين وذلك بأي وسيلة كانت ، وكان الوقت مساعدا لتحقيق آمالهم ورغباتهم. ولما طفح الكيل وبلغ السيل الزبى صارت أفئدة أهالي الآستانة تتقد نارا وقلوبهم تتلهب حميّة وغيرة على وطنهم وأهله ، خصوصا بعدما قاسوه ورأوه من تلك المعاملات المشؤومة. وقد أحس الداماد فريد باشا وزملاؤه بنفرة الناس واضطراب أفكارهم من هذه الأمور فأوجسوا في نفوسهم خيفة ، وأيضا فإن السلطان وحيد الدين نفسه أحس بذلك ، فبعد المشورة والمذاكرة فيما بينهم قرروا أن يوعزوا إلى الإنكليز بالقبض على أعاظم القوم والقواد المشهورين والوزراء وبعض المبعوثين ويضيق عليهم ، وأرسلوا لهم خفية أسماء كثيرة من جملتهم شيخ الإسلام خيري أفندي والصدر الأعظم السابق سعيد حليم باشا ومحمود كامل باشا المترجم ورئيس الأطباء سليمان لقمان باشا ورؤوف بك بطل الباخرة حميدية وسليمان نظيف بك وحسين جاهد بك ، وهذان من مشاهير كتاب الأتراك ، والمبعوث علي جناني بك وغيرهم من مشاهير رجال الدولة ، فأخذت الإنكليز تلقي القبض على هؤلاء وتزجهم في السجون ، وكان المترجم في جملة هؤلاء ، وقد أحدث هذا القبض ضجة عظيمة بين أهالي الآستانة وأثار ذلك حفيظتهم ، وما كان ذلك ليخيفهم ويثبط عزائمهم ويقلل من إقدامهم ، وصاروا يعقدون الاجتماعات الخاصة والعامة ويأتون بالمظاهرات السلمية ويوالون الاحتجاجات ، ولكن لا سامع هناك ولا مجيب.

ثم قصدوا أن يهجموا على السجن في نظارة الحربية ويطلقوا سراح المحبوسين بالقوة مهما كلفهم الأمر ويفتكوا ويبطشوا بالوزراء الخونة الذين أرادوا أن يضحوا أعاظم رجال الدولة. وقبل إبرازهم ما اتفقوا عليه لحيز الوجود أحس الداماد فريد باشا وزملاؤه بالأمر فأوعز إلى الإنكليز أن يخرجوا هؤلاء المحبوسين من السجن ويبعدوهم. وما كادت تتلقى الدولة الإنكليزية هذا التبليغ من الحكومة العثمانية وإذا بها أخذت تنقل هؤلاء المسجونين إلى الباخرة ولم يعلم وقتئذ إلى أين يؤخذون ، وكان لسان حالهم يقول :

نسير ولا ندري المصير كأننا

بهائم نوح حين أبحر في الفلك

ثم تبين بعد ذلك أن معظمهم أخرج إلى جزيرة مالطة ، ومنهم محمود كامل باشا ، وحبسوا في قلعتها (بول وره ستا) وضيق عليهم أشد التضييق.

٦٠٩

مبدأ الحركة الملّية في الآستانة :

لم يكتف فريد باشا والسلطان وحيد الدين وزملاؤه بهذا المقدار ، بل أرادوا أن يأتوا على البقية الباقية من خيرة القواد وأساطين الرجال ، ويضيقوا الخناق على كل ذي شهامة وحمية وإباء ، وشرعوا يتحرون البيوت وكثيرا من الأماكن ويقبضون على بعض الرجال. فعندئذ شعر القوم بعظم الخطب ودنو البلاء.

وحدّث بكر سامي بك والي حلب الأسبق لواضع أساس هذه الترجمة السيد سامح أفندي العينتابي شقيق المترجم حينما كان في الآستانة قبل سنيّات قال : هربت من الآستانة ليلا أنا وولدي ، وكنا نقطع الجبال والوديان مشيا على الأقدام ولا نلتفت إلى الوراء ، وكان كمال باشا قد عين قبل ذلك مفتشا على فيلق أرزن الروم وبارح الآستانة وأخذ هناك يشكل الجمعيات ويستنهض الهمم ، والتف حوله لفيف من الضباط ، وهناك ابتدأت التشكيلات الملّية ، وكان قد التحق به من الآستانة وتوابعها الكثير.

وبعد أن تشكلت الجمعية هناك ونظمت برنامجها وشكلت شعبا في أكثر بلدان الأناضول وحلفوا الأيمانات المغلظة لإنقاذ الدولة والبلاد من مخالب المستعمرين وتطهير جسم المملكة من الخونة لأوطانهم ، تركوا هناك القائد الشهير كاظم قره بكر باشا ليكون سدا منيعا من ورائهم وعونا لهم عند مسيس الحاجة ، ثم انتقلوا إلى سيواس ، وهناك عقدوا اجتماعا هاما وقرروا فيه قرارات متعددة دعوها (الميثاق الملّي) وأخذوا يطبقون مواده وينفذونها بكل صرامة وحزم ، وأعلنوا ذلك للدولة وللملأ أجمع ، وبدؤوا يهددون السلطان ووزراءه وأعلنوا الإدارة العرفية في الأناضول وصاروا يجازون كل من خالف مبدأهم وميثاقهم وكان عثرة في سبيل مقصدهم ، وأخذوا ما قدروا أن يأخذوه أسرى من الإنكليز الذين كانوا في طربزون وفي بعض جهات القفقاس وجعلوهم رهائن عندهم مقابل ما فعله الإنكليز في إخوانهم الذين سيقوا سوق الأنعام إلى جزيرتي تنوس ومالطة ، ولم يبالوا في أي تهديد وإرهاب من أي كان ، ولم يكترثوا بالإنكليز وسائر الدول المؤتلفة ولا بجيوشها وأساطيلها وطياراتها ودبابابتها وقذائفها ، وقالوا : إما حياة عزيزة وإما موتا كريما ، وقالوا :

من يقدّم غير الحسام نذيرا

يجد الناس آثما وكفورا

من يجد حال صحة وشباب

لم يكن في مذلة معذورا

٦١٠

وهنا اضطربت الآستانة والسلطان ورجال المابين والباب العالي ، وكانت الدول تهزأ بهم إلا القليل ، والقسم الأعظم من الناس يسخرون بهم ويقولون إنهم متهورون ومجانين ، وصارت الرسل تأتيهم المرة بعد المرة ناصحة لهم على حركتهم هذه ومهددة لهم ومنذرة لهم بسوء العاقبة والتنكيل بهم بالقوة تارة وباللين أخرى. وكان كل ذلك لا يثني من عزيمتهم ولا يؤثر على إقدامهم ، عاملين بمقتضى قول الشاعر :

ما أدرك الطلبات مثل مصمم

إن أقدمت أعداؤه لم يحجم

وكان وزراء الدول المتفقة بعد الهدنة تعقد الاجتماعات في لوندرة وباريس وتتذاكر في أمور الصلح ، فقرروا فيما بينهم شروط الصلح مع الدولة العثمانية ودعوا رجال الباب العالي لإمضائها بلا قيد ولا شرط ، فذهب وفد تحت رئاسة فريد باشا الصدر الأعظم إلى باريس وأمضوا تلك المعاهدة ، وتسمى معاهدة (سيفر).

وعلى ما تتضمنه هذه المعاهدة ستكون الدولة مغلولة الأيدي وتحت سيطرة دولتي إنكلترة وفرانسة ولا حول لها ولا طول.

فبلغ ذلك رجال القوى الملّية فقاموا لذلك وقعدوا واضطربت في أفئدتهم نيران الحمية والإقدام ، فصاروا يبلغون احتجاجاتهم المرة اللهجة إلى السلطان والوزراء وللدول جميعا.

وكانت هذه الاحتجاجات تقع على السلطان ووزرائه أشد الوقع. وكان لوئيد جورج وكثير من وزراء الإنكليز وقسم كبير من رجال السياسة الإفرنسية يسخرون ويهزؤون بأقوالهم وأفعالهم ويسمونهم عصابة أشقياء وبغاة ، ويقولون إنه يمكن تأديبهم والتنكيل بهم بزمن قليل وبقوة قليلة. وأوعزت دولة إنكلترة إلى السلطان وحيد الدين ووزرائه أن يجهزوا للتنكيل بهم ، فجهز الجيش وسمي جيش الخليفة وأمّر عليه سليمان شفيق باشا الذي كان ناظرا للحربية في تلك الآونة. ولما وصل جيش الخليفة إلى ساحة القتال وتقارب الجيشان من بعضهما ما أخذ كثير من ضباط جيش سليمان شفيق باشا وقسم من الجند يفرون ويلتجئون إلى الجيوش الملّية وصاروا في صفوفهم ، وهناك جرت محاربة كان النصر فيها للقوى الملّية ، فانهزم شفيق باشا شر هزيمة ونجا بنفسه.

ولما رأت الآستانة من هؤلاء الرجال هذا الإقدام وتلك الهمة الشماء أخذت تسلك معهم طريق الملاينة والمسالمة ، ولكنهم لم يعيروا سمعا لأقوالهم الخلابة ، ولم يؤثر فيهم

٦١١

خداعهم ، بل أنذروا السلطان بلهجة شديدة بأن يحل وزارة الداماد فريد باشا حالا ، وإلا فإنهم زاحفون نحو الآستانة غير مكترثين بدولتي إنكلترة واليونان ويحتلون ساحل الأناضول ، وأعلموا بذلك للدول.

فلم يسع السلطان إلا إجابة مطلبهم ، وحل وزارة الداماد وتشكلت الوزارة تحت رئاسة توفيق باشا الصدر الأسبق ، وعبثا حاول أن يقنعهم بالاعتدال والسكون والطاعة إلى السلطان ورجال الوزارة.

ولما رأت الدول هذا العناد والثبات ولم يجدهم التهديد والتهويل نفعا ، وكانت الإنكليز تريد أن تسرع باستخلاص أسراها ، تساهلت نوعا في بعض الأمور ووعدت بأن تعدل قسما من معاهدة سيفر المشؤومة ، وكلفت الدولة العثمانية أن ترسل وفدا ثانيا إلى لوندرة ، فانتخبت الدولة الوفد تحت رئاسة توفيق باشا الصدر وخابرت بذلك القوى الملّية ، فلم ترض بهذا الوفد وأصرت أن يكون الوفد من طرفها لا من طرف الدولة.

وهنا أشكل الأمر على الدولة وعلى الدول العظام. وبعد الأخذ والرد تقرر أن يرسل وفدان وفد من طرف الدولة ووفد من طرف القوى الملّية ، فذهب وفد الدولة تحت رئاسة توفيق باشا ووفد القوى الملّية تحت رئاسة بكري سامي بك والي بيروت وحلب الأسبق. فذهب الوفدان إلى لوندرة ، وهناك عقد الاجتماع ودعي كل من توفيق باشا ذلك الشيخ الكبير الهرم وبكر سامي بك ، فأصبح توفيق باشا على ما قيل يرتجف ولا يكاد يسمع صوته حينما يتكلم ، وأما بكر سامي بك فكان يدخل قاعة المجلس الحاوية لأعظم ساسة الدنيا متأبطا حقيبته بكل جرأة وعنفوان غير هياب ولا وجل ، وكان إذا تكلم يدوي صوته الجهوري في قاعة المجلس ويسرد من الأدلة الساطعة والحجج الدامغة ما يستلفت الأنظار ويستوقف الأفكار ويقضي بالعجاب.

وبعد اجتماعات ومذاكرات دامت أياما لم يحصل المقصود تماما ، غير أنه قرر بادىء بدء أن يطلق سراح نيف وستين مسجونا من مسجوني مالطة في الحال ، وأكثرهم من غير الأمراء العسكريين ، لقاء أسرى الإنكليز الموجودين في الأناضول.

ولا ريب أن هذه زلة من بكر سامي بك حيث وافق على إطلاق البعض دون البعض ، وكان الواجب عليه أن يصر على إطلاق الجميع مهما كلفه الأمر. ثم عاد الوفدان إلى

٦١٢

الآستانة والأناضول للمذاكرة ودرس الشروط التي أمليت عليهم وطال الأمر.

أما بقية المسجونين في مالطة فكانوا يراجعون مجالس الدولة بلهجات شديدة ويقدمون الاحتجاج تلو الاحتجاج ، ولكن ما من منصف أو عادل ولا سامع ولا مجيب ، بيد أنه خفف التضييق عليهم كثيرا بالنسبة للحالة الأولى.

وكان قد مضى على نفيهم وتبعيدهم سنتان ونصف قاسوا فيها أنواع المشقات والأهوال ، فلما رأى بعضهم هذا الإهمال والتغاضي من دولتهم وأمتهم ، وبعبارة أخرى لم يتمكنوا من تخليصهم من الأسر ولم تجدهم مراجعات الدول نفعا ، أخذوا يفتكرون ويتذاكرون في الهرب من مالطة ويعملون الحيلة فيه ولو كان في ذلك ارتكاب جلائل الأخطار ، فقسم منهم وافق وآخر لم يوافق ورضي بالبقاء ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فأجمع الذين قرروا على الهرب على كيفية ذلك وخابروا بعض من كان يمكنه أن يهربهم ، وتم الأمر ، ففي ذات ليلة ركبوا زورقا وابتعدوا عن الساحل ، وكانت بانتظارهم عن بعد باخرة عادية لا تستلفت الأنظار ، فوصلوا إليها وكان عدد الفارين ثلاثة عشر رجلا من جملتهم المترجم وعلي إحسان باشا وعلي جناني بك العينتابي ، فركبوا الباخرة وأخذت تمخر بهم عباب البحر وهم يقولون : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ومذ ركبوا الباخرة لبسوا ثيابا رثة وغيروا هيآتهم واختبؤوا في أطراف السفينة خشية من طارىء غير مأمول ، وبعد ساعات مضت رست بهم الباخرة في بلدة في الساحل الغربي من إيطاليا قريبة من مالطة ، فنزلوا إليها ، وحينئذ تنفسوا الصعداء وزال ما كان بهم من اضطراب وقلق واستراح بالهم.

أما الإنكليز فإنهم لم ينتبهوا للأمر إلا بعد ساعات ، فقام بينهم الضجيج ، وفي الحال سيروا البوارج والمدمرات وأخذت تفتش عليهم في عرض البحار ، فلم يعثروا لهم على أثر ، وتبين للملأ أنه يوجد في العالم رجال دهاة ذوو رأي وتدبير لا يقلون عن رجال الإنكليز.

أما الهاربون فإنهم بعد نزولهم إلى تلك البلدة كانوا كلما ذهبوا إلى فندق لا يقبلهم صاحبه ولا يكترث بهم لرثاثة ثيابهم ورعونة منظرهم ولما في وجوههم وأيديهم من سواد الفحم والدخان ، ظلوا على ذلك إلى أن قيض الله لهم رجالا عرفوهم فاحتفلوا بهم وأكرموا مثواهم وأخفوا أمرهم ، ولم يبقوا في هذه البلدة إلا زمنا قليلا ، وكانوا قد استراحوا مما

٦١٣

عانوه من مشقة الهرب وغيروا ملابسهم ونظموا هيئتهم ثم استأنفوا السفر ، فمنهم من سافر إلى إزمير ومنهم من سافر نحو الشمال إلى ألمانيا وهم متنكرون.

أما محمود كامل باشا فإنه اختار السفر إلى ألمانيا ، فوصل إلى برلين واجتمع مع بعض أصحابه وأصدقائه. ولم تطب له هناك الإقامة لأسباب سياسية فبارحها إلى مونيخ ، وهناك حصل بينه وبين بعض الأطباء المصريين معرفة ، وصار هذا الطبيب لا يفارقه ليلا ونهارا وأحبه حبا جما ولقي من حسن صنيعه ما يعجز القلم عن وصفه.

ثم سمع به طبيب آخر ألماني الأصل حلبي المولد ، فسعى أياما إلى أن اجتمع به ودعاه إلى منزله وأصر عليه إلى أن أجابه.

وكان محمود كامل يخرج في بعض الأيام ويتجول متنكرا في بعض بلدان الألمان ويزور مكاتبها المشهورة ومتاحفها ودور صنائعها ويروح النفس ثم يعود إلى مونيخ. وبينما هو على ذلك إذ اعتراه مرض أدى به إلى الدخول إلى المستشفى في مونيخ ، وبقي مدة تزيد عن شهرين يطببه هناك أشهر الأطباء ويعتنون به تمام الاعتناء ، وكان هذان الطبيبان لا يفارقانه في المستشفى ويعتنيان به ويكرران الوصية لمن كان هناك من الأطباء في أمر تطبيبه.

ندع محمود كامل باشا في هذا المستشفى يقاسي أنواع الآلام والسقم ونرجع إلى المشكلة الأناضولية فنقول : إن مصطفى كمال ومن التف حوله من القوى الملّية لما لم ينالوا تمام مطالبهم ، فكانوا يصرون كل الإصرار على تطبيق الميثاق الملّي بحذافيره ، ويكلفون السلطان والوزراء بقبوله بلا قيد ولا شرط ، وينذرون الدول المؤتلفة بالجلاء عن الآستانة وغيرها من الولايات التي احتلوها ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كانت الحرب قائمة على قدم وساق بينهم وبين الدولة الإفرنسية في كيليكيا ، وكان أشدها في جهات مرعش وعينتاب وكلّس ، وكانت كيليكيا وهذه البلاد تحت الاحتلال الإفرنسي. ولم تكن هذه المحاربات محاربات دولية منظمة ، بل كانت بالنسبة للقوى الملّية محاربة عصابات مع جيوش منظمة وافرة الأعتاد والعدد ، وبقيت عينتاب في ذلك الحين محاصرة ثمانية أشهر ، وكان أهلوها يدافعون عنها دفاع المستميت ، إلى أن نفد ما عندهم من الزاد ولم يبق عندهم شيء من الذخائر ، فاضطروا إلى الاستسلام تحت شروط ملائمة لمصلحتهم حسب الإمكان ، وكان

٦١٤

عدد المحاصرين من الجيوش الإفرنسية ثمانية عشر طابورا مع العدد الكاملة ، ولأجل ذلك سميت بلدة عينتاب أخيرا (بغازي عينتاب).

ولما رأت الإنكليز تعنت القوى الملّية وتصلبهم في آرائهم ومقرراتهم وعدم الاكتراث بأي تكليف عرض عليهم أشارت إلى اليونان بطرف خفي أن تنازل القوى الملّية وتحتل ولاية إزمير وملحقاتها وتتقدم إلى الأمام وتتوغل في هذه البلاد ما شاءت ، وأمدتها بالذخائر والمؤن والأسلحة الحربية.

وكان (وه نيز يلوس) داهية اليونان يتردد بين لوندرة وباريس وينفخ في بوق الفتنة ويضرم في نار الحرب إلى أن اشتعلت ، وجهزت الدولة اليونانية الجيوش وأركبتها إلى إزمير وحشدتها أمامها ، ثم أخذت في ضرب المباني والجوامع والمساجد ، ثم أخرجت عساكرها إليها ، وهناك حصل منها من الفظائع ما يسوّد له وجه الإنسانية من قتل الرجال والنساء والأطفال والتمثيل بهم شر تمثيل ، وهرب وقتئذ من استطاع الهرب إلى القرى والجبال والمغاير والوديان ، ثم أخذوا في التوسع في ولاية إزمير والتقدم إلى الأمام.

ولما اطلع محمود كامل باشا على هذه الحوادث المؤلمة وأن الحرب قد أعلنت هناك هاجت فيه عواطف الحمية والغيرة ، فلم يستطع معها الصبر والبقاء في المستشفى ، فطلب الخروج منه والالتحاق بالأناضول ، فنصحه الأطباء على عدم الخروج ما دام في دور النقاهة ، فلم يقبل وأصر على الذهاب ، فغادر بلاد الألمان وحضر إلى الآستانة متنكرا عن طريق إيطاليا. وحيث إن الآستانة لم تزل تحت احتلال جيش الحلفاء فخشي أن تشعر به الإنكليز فتقبض عليه ثانية ، فذهب إلى دار أصحابه إلى مكان لا يلتفت إليه ، وهناك اختبأ وأخبر أخاه المقيم هناك وعائلته واجتمع بهم مدة أسبوع ، ثم جهز لوازم السفر وسافر إلى (إينه بولي) ميناء أنقرة في البحر الأسود ، فوصلها وأقام بها مدة خمسة أيام ، وبينما هو بها إذ بذلك المرض الفتاك وهو مرض القلب قد عاد إليه ، فلزم الفراش واستدعى عائلته من الآستانة لتكون عنده وتعتني في أمر تمريضه. وفي أثناء مرضه طلع من البحر رجل متنكر الاسم والهيئة ، فألقت الحكومة عليه القبض ، وبعد التحقيق والاستنطاق تبين أنه فدائي من فدائيي الأرمن كان يتتبعه ويفتش عليه في البلاد ، وبلغه أنه حضر (إلى إينه بولي) فتبعه إليها ليغتاله ، ولما انكشف أمره وأجريت محاكمته أعدم.

٦١٥

وفي أثناء ذلك حضر إلى (إينه بولي) القائد الشهير كاظم قره بكر باشا قادما من أرزن الروم ذاهبا إلى أنقرة ، فعاد المترجم وتذاكرا في أمور شتى هامة ، وبعد خروجه من عنده بات يذرف الدمع. وما مضى على ذلك مدة شهرين إلا وأنشبت المنية فيه أظفارها.

والموت نقّاد على كفه

جواهر يختار منها الجياد

ونقلت جثته إلى الآستانة ، وحين وصولها إليها جرى لها استقبال فائق ، ودفن حسب وصيته في جامع السليمانية ، فرحمه‌الله رحمة واسعة.

أما اليونانيون فإنهم توغلوا في البلاد العثمانية حتى قاربوا أنقرة ، وكانت الجيوش التركية تفسح لهم المجال خداعا منهم ، ثم كرت عليهم وضربتهم تلك الضربة الشديدة ، وفي مدة عشر أيام فتكت بهم فتكا ذريعا وقتلت منهم مقتلة عظيمة وأرجعتهم إلى إزمير وزج الكثير منهم في قعر البحر ، واستردت منهم إزمير وجميع بلادها المحتلة. والوقائع معلومة مشهورة نشرتها صحف العالم في حينها بملء الإعجاب ودونت تفاصيلها في بطون الأسفار.

وكان رحمه‌الله على غاية من الشجاعة والإقدام ، لا يعرف الكلل في أعماله ولا الملل في أشغاله ، ذا وقار وهيبة ورأي ثاقب ، مفرط الذكاء ، سريع الانتقال ، حلو الحديث ، لطيف المحاضرة ، بعيدا عن الرذائل وسفاسف الأمور ، لا يقبل التزلف ولا يحب الشهرة والفخفخة ، سخي اليد يصرف كثيرا في مساعدة أحبابه وفي سبيل الخير.

وكان يجيد اللغة التركية تمام الإجادة ، آخذا من العربية وآداب لغتها بحظ وافر ، ويتكلم باللغة الإفرنسية والألمانية ويجيد الكتابة فيهما ، ويفهم الكلام بالفارسية لكن لا يقدر أن يتكلم فيها. وفي منفاه في مالطة كان يدرس اللغة الإنكليزية.

وكان المنفيون معه يعجبون بصبره وعظيم ثباته وعدم جزعه وتحمله للمشاق ودماثة أخلاقه وحسن طويته. وكان كل من له به معرفة وله معه صلة يعرف فيه هذه المحاسن وتلك المزايا.

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

٦١٦

١٣٣٠ ـ الشيخ أحمد المكتبي المتوفى سنة ١٣٤٢

الشيخ أحمد ابن الحاج مصطفى ابن الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد (١) الشهير بالمكتبي ، العالم العامل والجهبذ الكامل ، المحدث النحوي الأصولي ، فقيه الشافعية في الديار الحلبية.

ولد كما أخبرني في رجب سنة ١٢٦٣. وأول من تلقى عنهم العلم الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، قرأ عليه القطر والشذور وابن عقيل في النحو ، وقرأ على الشيخ شهيد الترمانيني والشيخ إسماعيل اللبابيدي والشيخ عبد القادر الحبّال ، قرأ عليه حاشية الخضري على ابن عقيل.

وفي أول سنة ١٢٨٠ توجه إلى مصر فدخل الأزهر وتلقى هناك عن أكابر علمائه ، منهم العلامة الشيخ محمد الأنبابي والعلامة الشيخ محمد الخضري والشيخ أحمد الرفاعي والشيخ أحمد الجيزاوي والشيخ أحمد الأجهوري والشيخ إبراهيم السقا ، أخذ عنهم النحو والصرف والمعاني والبيان وفقه الشافعية والحديث والأصول إلى غير ذلك من العلوم ، وأجازه الشيخ محمد الخضري والشيخ عبد اللطيف الخليلي وبقي إلى سنة ١٢٩٠ ، وصار يقرأ ثمة بعض الدروس في أوقات البطالة. وفي هذه السنة عاد إلى حلب ودخل المدرسة العثمانية ، فبقي أربع سنين ، ثم توجه إلى الشام فدخل المدرسة المرادية ، فبقي فيها خمس سنين حضر فيها على فضلاء الشام وقتئذ. ومن رفقائه في الحضور محدث الشام الشيخ بدر الدين الحسيني ، وانعقدت بينهما روابط المحبة والصداقة من يومئذ ، وكنت كلما توجهت إلى الشام وزرت العلامة المذكور يسألني عن شيخنا المترجم ويكلفني التسليم عليه.

وتوجه منها سنة ١٢٩٩ إلى مصر ثانية فبقي فيها سبع سنين إلى سنة ١٣٠٥ ، وكان في تلك المدة يقرأ دروسا في الأزهر ، وصحح كتبا كثيرة في المطبعة التي أسسها الشيخ أحمد البابي الحلبي واعتنى بذلك حق الاعتناء.

وفي أواخر ١٣٠٥ عاد إلى حلب فألقى عصا التسيار فيها. وكان في تلك المدة قد

__________________

(١) الشيخ محمد هذا وتقدمت ترجمته وبقية نسبه في الجزء السادس (الترجمة ذات الرقم ١٠٧٩).

٦١٧

فضل وتنبل وامتلأ وعاؤه علما ، فتصدر حينئذ للتدريس وعين مدرسا للحديث في الحجازية التي في الجامع الكبير ، ثم عين مدرسا للمدرسة الصاحبية تجاه خان الوزير. وتهافتت عليه الطلاب لتلقي الحديث والفقه الشافعي والنحو غير ذلك من العلوم.

أما علم الحديث فقد كان بارعا فيه إليه المنتهى فيه بلا مدافع. وأما الفقه الشافعي فقد تفرد في الشهباء فيه وصار إليه المرجع. وأما النحو فقد كان فيه إماما. ومعظم العلماء والطلاب الموجودون الآن ومن توفي قبل سنوات تلامذته ، قل فيهم من لم يأخذ عنه. وكان يحضر درسه في الحجازية وأمام الحضرة في الجامع الأموي المئات من العوام ، وانتفعوا بدروسه ووعظه كما انتفع به الطلاب.

ثم عين مدرسا لمدرسة الشيخ موسى الريحاوي في محلة باب قنسرين ، ولما كانت الأوقاف التي وقفها الشيخ موسى المذكور قد اندرست ، وبعبارة أخرى قد ضبطت وأصبحت ملكا للناس ، سعى شيخنا رحمه‌الله في جمع دراهم من أهل البر والمعروف فبنى بها دارا ومخزنين ملاصقات للمدرسة ، ووقف هذه العقارات على المدرسة بتاريخ ٤ شعبان سنة ١٣٢٦ فصار بذلك لها شيء من الريع.

ولما عمر محمد أسعد باشا الجابري المدرسة الدليواتية في محلة الفرافرة عين شيخنا مدرسا للفقه الشافعي فيها ، وقد قدمنا ذكر ذلك في ترجمة الباشا المشار إليه.

ولما فتحت المدرسة الخسروية عين مدرسا للنحو وصار يقرأ شرح ابن عقيل على الألفية مع مشارفة حاشية الخضري عليه.

كان رحمه‌الله ذا همة عالية في التدريس ، مواظبا على ذلك حق المواظبة لا يعرف الكلل ولا الملل ، لا يقطع درسه إلا لمرض يعتريه. وكان رحمه‌الله قصير القامة بدينا مدوّر الوجه دري اللون ذا شيبة نيرة مهابا وقورا صالحا ورعا متعبدا ، قليل الاختلاط بالناس بعيدا عن محافلهم ومجتمعاتهم ، قل أن يحضرها ، لا يتطلب وظيفة ولا يتطلع لها ، عاش عيشة الكفاف ، وربما ضاقت به الحال فيتحمل ذلك ويصبر. ولم يكن فيه ما ينتقد به عليه سوى حدة في مزاجه ترى فيه بعض الأحيان سببها قلة معاشرته وانزواؤه عن الناس. وبالجملة فهو من خيار العلماء العاملين ،

٦١٨

وللناس فيه خاصتهم وعامتهم اعتقاد عظيم ، ويحاولون تقبيل يده فلا يمكن أحدا من ذلك بل يصافح مصافحة.

ولشيخنا من المؤلفات «حاشية على حاشية الخضري على شرح ابن عقيل» وسبب وضعه لهذه الحاشية أنه أقرأ شرح ابن عقيل وحاشية الخضري عليه نحو عشرين مرة ، فرأى أن يدون تقريراته على تلك الحاشية ، وهي في (٦٠٠) صحيفة ، و «حاشية على السخاوية في الحساب» ، و «رسالتان في الحيض» على مذهب الحنفية والشافعية ، و «رسالة في فضل عاشوراء» ، و «رسالة في ذوي الأرحام» في عشرين ورقة ، و «رسالة في علم الخط» ، و «رسالة في الإخلاص» ، و «رسالة في الرؤيا» ، و «رسالة في علم التجويد» ، و «في الآبار» ، و «في السلوك في الطريق».

مرض رحمه‌الله أياما نحو أسبوع ، وتوفي ليلة السبت سادس صفر سنة ١٣٤٢ ، ودفن في الغد في تربة الشيخ السفيري ، وكانت جنازته مشهودة حضرها ألوف من الناس ، وكان الحزن عليه كثيرا ، وفقدت به الشهباء علما من الأعلام وركنا عظيما ، ولم يخلفه في الفقه الشافعي والنحو والحديث مثله ، رحمه‌الله تعالى وأغدق عليه سحائب رضوانه.

وكتب على ضريحه من نظم الشاعر الأديب الشيخ كامل الغزّي هذه الأبيات :

هذا ضريح ضم أروع فاضلا

في صدره نور التقى يتوقد

العالم العلم الأجلّ المنتقى

السيد السند الإمام المرشد

لما قضى ومضى لجنات العلا

أرخت في الرضوان أمسى أحمد

١٣٤٢

١٣٣١ ـ الشيخ محمد الحنيفي المتوفى سنة ١٣٤٢

الشيخ محمد ابن السيد محمد خير الدين بن عبد الرحمن آغا ابن حنيف آغا ابن إسماعيل المشهور بالحنيفي ، العالم الفاضل والألمعي الكامل ، أحد من تزينت الشهباء بحلي فضله ، واستضاءت أرجاؤها بأنوار علمه ، وازدان جيدها بعقود كماله ، وتعطرت بطيب سيرته.

٦١٩

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٩٢. ولما ترعرع دخل المكتب العسكري الواقع غربي القلعة الذي صار الآن مدرسة للصنائع ، ثم انتظم في سلك طلاب العلوم الدينية ولازم الحضور على مفتي حلب الشيخ بكري الزبري وعلى الشيخ إبراهيم اللبابيدي وعلى الشيخ راجي مكناس الذي لا زال حيا ، لازمهما في مبادىء العلوم مقدار ثلاث سنوات.

ثم ذهب إلى مصر أواخر سنة ١٣١٤ فدخل الأزهر ، وهناك قرأ على شيخ الديار المصرية الشيخ محمد بخيت الذي لا زال في الأحياء أيضا ، قرأ عليه التوحيد والأصول ، وقرأ السراجية في علم الفرائض على الشيخ عبد الرحمن البحراوي الفقيه الحنفي المشهور ، وقرأ بعضا من شرح السعد وحواشيه في علم المعاني والبيان على الشيخ البولاقي ، وقرأ على الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية رسالته في التوحيد وشرح الملوي على السلم في المنطق. وعاد إلى وطنه أواخر سنة ١٣١٨ ، فتكون مدة مجاورته في الأزهر أربع سنين كوامل.

وبعد رجوعه جاور في المدرسة العثمانية ، وقرأ على شيخنا العلامة الكبير الشيخ محمد الزرقا مدة يسيرة ، ورافقنا مدة في الحضور على شيخنا الشيخ بشير الغزّي في صحيح البخاري.

وظائفه :

لمعرفته باللغة التركية ، وقد كان تعلمها من المكتب العسكري ، عين مترجما لجريدة (الفرات) الرسمية التي تصدر باللغتين العربية والتركية. وفي أوائل الاحتلال العربي وذلك سنة ١٣٣٧ عين كاتبا للجنة التي تألفت من وجوه الشهباء لتعيين المأمورين. ثم عين كاتبا ثانيا في المجلس الإداري. ثم عين معلما للعلوم العربية في دار المعلمين والمعلمات ، وذلك حينما كان ابن عمته ساطع بك الحصري الذي كان وزيرا للمعارف في عهد الحكومة العربية الفيصلية في دمشق والذي هو الآن معاون لوزير المعارف في حكومة العراق الفيصلية. ثم عين في لجنة توجيه الجهات في دائرة الأوقاف. ولما فتحت المدرسة الخسروية وذلك سنة ١٣٤٠ عين مدرسا للتفسير والتوحيد وعلم المعاني والبيان. ثم عين مدرسا للمدرسة العثمانية ، بقي على ذلك إلى شهر ذي القعدة من سنة ١٣٤٢ ، ففيه ذهب إلى الديار الحجازية لأداء فريضة الحج ، فمر في طريقه على مصر وذهب لزيارة شيخه الشيخ محمد بخيت فلقي منه كمال الحفاوة.

٦٢٠