إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

وله منظومة أخرى كبيرة في هذا الموضوع سماها «الإيضاح والتبيين في حرمة التدخين» لم تطبع بعد ، وقد أشار إليها في أول منظومته المتقدمة حيث قال :

وبعد لما تم ما تفضّلا

به الإله ذو الجلال والعلا

من جمعي الإيضاح والتبيين في

ثبوت حرمة الدخان المتلف

وقد أتى مشيد الأركان

بواضح الدليل والبرهان

ليس له في الباب من نظير

يزهو بحسنه على البدور

يرشد كل منصف أو آب

لمنهج الحق وللصواب

يوضح حرمة الدخان الشائع

بكل برهان جليّ ساطع

مع نقول ونصوص زاهره

أفتى بها أئمة معتبره

إليهم يلجأ كل سائل

عليهم التعويل في المسائل

أردت أن أنظمه مختصرا

لكي يزيد نفعه ويكثرا

فيسر الله العظيم كل ما

أردته بفضله وأنعما

فجاء نظما بارعا باهي السنا

قطوفه دانية لذي اجتنا

لا غرو أن فاق السوى في سبكه

فكل بيت جوهر في سلكه

وله غير ذلك من الرسائل.

وكانت وفاته ليلة الثلاثاء ثالث عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وثمان وثلاثين عن سبعين عاما ، ودفن من الغد في تربة الشيخ السفيري ، رحمه‌الله تعالى.

١٣٢٣ ـ الشيخ عبد السميع الكردي المتوفى سنة ١٣٣٨

الشيخ عبد السميع ابن الشيخ أحمد الكردي البرزنجي ، العالم الفاضل الورع التقي المتعبد ، الحلبي الموطن والوفاة.

أصله من أكراد ما وراء النهر من قرية جناره ، وهي قرية من قرى قضاء شهرزور التابع لقضاء (كل عمر) وهي تبعد عن بغداد عشرة أيام في شماليها.

تلقى العلم على الشيخ عبد القادر البياري الكردي وعلى الشيخ عبد الله الولري وعلى

٥٦١

الشيخ عبد الرحمن السجويني وعلى ملّاكجكه الأربلي ، وهو آخر شيوخه ، قرأ عليه في علم الفلك.

ثم أتى حلب في نواحي سنة ١٣١٥ وهو قد ناهز الأربعين ، فجاور في المدرسة الأحمدية. وبعد مدة ظهر فضله وعرف علمه فسارع إليه بعض الطلاب للقراءة عليه في العلوم الآلية خصوصا المنطق والمعاني والبيان وفي التوحيد والأصول ، فقد كان له في هذه العلوم اليد الطولى مع التحقيق والتدقيق في العبارة مع التقرير باللغة العربية بدون حشو في تقريره ، غير أنه رحمه‌الله لم يكن فصيح اللسان في اللغة العربية ، وإذا قرأ لأبناء الأكراد قرر لهم الكتب العربية باللغة الكردية مع فصاحة وحسن بيان لأنها لغته الأصلية. ولما سمعت بفضله بادرت إليه فقرأت عليه شرح الشمسية للقطب الرازي ، وذلك في شوال من سنة ١٣١٩ ، وأتممت قراءته عليه في ذي الحجة سنة ١٣٢١. ثم قرأت عليه شرح المقولات العشر للسجاعي وكتابا في علم الفلك. وفي أوائل سنة ١٣٢٢ ابتدأت بقراءة شرح ابن ملك على متن المنار في علم الأصول مع مشارفة حواشيه الثلاث المطبوعة معه في الآستانة ، وهي حاشية الرهاوي وحاشية عزمي زاده والحاشية المسماة أنوار الحلك على ابن ملك للرضي الحنبلي الحلبي ، وكنت أول من استحضر هذه الحواشي من الآستانة ، قرأت عليه معظم هذا الشرح مع حواشيه ، وبقي منه بقية قليلة ، بقيت في قراءة ذلك إلى أواخر سنة ١٣٢٤ ، وحالت بعض المشاغل الدنيوية دون إتمامه.

ولازمته كما ترى خمس سنين أو أزيد قليلا فلم أر فيه غير التقوى والصلاح والزهد في الدنيا. ولم يكن زيه زي العلماء ، بل بقي على نسق علماء الأكراد في بلاده حيث كان يلبس الثوب من الغزل وفوقه عباءة شقراء وقلنسوة من الكتان على رأسه فوقها عمامة صغيرة يلفها كيفما اتفق ، لا يظن رائيه أنه من العلماء بل يظنه أنه بعض الفلاحين. وقد كان قانعا بذلك الراتب اليسير الذي يتناوله من وقف المدرسة مع سخاء يد وصدقة سرا وعلانية مع ضيق يده ، فكان ممن يصدق عليه قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(١).

وكان من عادته أن يتناول القليل من طعام العشاء ، ثم يأخذ في شرب الشاي ، وكان

__________________

(١) الحشر : ٩.

٥٦٢

مغرما به ، فكان يشرب منه في اليوم والليلة نحو عشر كاسات أو أزيد أحيانا ، ثم يأخذ في المطالعة في الليل وفي التلاوة ، ويظل ساهرا حتى مطلع الفجر ، فحينئذ يصلي ثم ينام إلى ضحوة النهار ، ثم بعد قيامه يتوضأ فيصلي الضحى ويتلو ما تيسر من القرآن ، ثم يأخذ في قراءة الدروس حتى المساء ، فيقرأ في النهار ثلاثة وأحيانا أربعة من الدروس. بقي على هذا المنوال من حين مجاورته في هذه المدرسة إلى حين وفاته لم يغير شيئا من حالته. وبالجملة فلم أر عليه رحمه‌الله شيئا يشينه ، بل كنت أجد فيه رجل الاستقامة والاقتداء بالسلف الصالح.

وبعد وفاة مدرس المدرسة الأحمدية الشيخ حسين الكردي وذلك في نواحي سنة ١٣٣٤ صار مدرسها ، وبقي على ما هو عليه من قراءة الدروس كما أسلفنا إلى أن مرض أياما قلائل ثم توفي في شهر محرم سنة ١٣٣٨ ، ودفن في تربة الشيخ ثعلب في طرفها تجاه المكتب السلطاني ، وعمر نحو الستين من العمر ، ولم يتزوج قط. وأسف عليه كل من عرف فضله وتقواه ، رحمه‌الله تعالى.

هذا وقد علمت مما تقدم أنني ظللت سنتين أقرأ في شرح الشمسية في علم المنطق للقطب الرازي ، وكنت قبل ذلك قرأت في هذا العلم شرح إيساغوجي وشرح السلم على الشيخ علي رضا الزعيم كما قدمته في ترجمته. والذي دعاني لعدم الاكتفاء بالكتابين الأخيرين وأغراني للتوسع فيه وقراءة شرح الشمسية مع مشارفة حاشية السيد عليه قولهم : المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر. فأكبرت هذا العلم لعظم فائدته ، فوجهت الهمة حينئذ لتحصيله ، وصرفت ذلك الوقت الثمين في قراءته وحدي على أستاذي المتقدم. والحق يقال إنه لم يأل جهدا في قراءته لي قراءة تحقيق وتدقيق ، غير أني بعد الانتهاء من الكتاب لم أجد في نفسي تلك الثمرة التي ذكروها ولم تعصمني تلك القواعد في الذهن عن الخطأ في الفكر ، ووجدت نفسي أني لا أزال أخطىء وأصيب شأن الطبيعة البشرية التي هي مفطورة على ذلك إلا من عصمه الله تعالى ، فتيقنت من ذلك الحين أن لا فائدة في هذا العلم وأن من وهبه الله طبعا سليما وعقلا مستقيما لا حاجة له إلى هذا الفن ، وأن إتقان كل علم يكون بالعكوف عليه وتوجيه الهمة إليه وترويض الفكر فيه ، وذلك ما يدعونه الآن بالتخصص ، وأسفت غاية الأسف على وقتي الذي ذهب

٥٦٣

سدى في قراءة هذا الكتاب وما يتعلق به من الحواشي ، وصرت أنادي من ذلك اليوم أن المنطق علم لا ينفع والجهل به لا يضر.

وتأييدا لما قلته وإزالة لما علق في بعض الأفكار كما كان علق بفكري أذكر لك أقوال العلماء فيه في مدحه وذمه ، ليطمئن بذلك قلبك وتزداد إيقانا بما قدمته من نفي ثمرته وأنه لا ينتظر من التوسع في تعلمه كبير فائدة.

أقوال العلماء الذين مدحوه وذهبوا إلى القول بثمرته :

قال في «كشف الظنون» ناقلا عن «مفتاح السعادة» :

المنطق لكونه حاكما على جميع العلوم في الصحة والسقم والقوة والضعف سماه أبو نصر الفارابي رئيس العلوم ، ولكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعلمية لا مقصودا بالذات سماه الشيخ الرئيس ابن سينا بخادم العلوم. وحكى أبو حيان في تفسيره البحر أن أهل المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق بالمفعل تحرزا عن صولة الفقهاء ، حتى إن بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتابا في المنطق ، فاشتراه خفية خوفا منهم ، مع أنه أصل كل علم وتقويم كل ذهن. انتهى.

قال الغزالي : من لم يعرف المنطق فلا ثقة له في العلوم أصلا ، حتى روي عن بعضهم أنه فرض كفاية ، وعن بعضهم فرض عين.

قال الشيخ أبو علي بن سينا : المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها.

وقد رفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه عداوة لما جهل ، وبعض الناس ربما يتوهم أنه يشوش العقائد مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير ، وسبب هذا التوهم أن من الأغبياء الأغمار الذين لم تؤدبهم الشريعة من اشتغل بهذا العلم واستضعف حج بعض العلوم فاستخف بها وبأهلها ظنا منه أنها برهانية لطيشه وجهله بحقائق العلوم ومراتبها ، فالفساد منه لا من العلم.

قالوا : ويستغني عنه المؤيد من الله تعالى ومن علمه ضروري ، ويحتاج إليه من عداهما. (فإن قلت) : إذا كان الاحتياج بهذه المرتبة فما بال الأئمة المقتدى بهم كما لك والشافعي وأبي حنيفة رحمهم‌الله تعالى لم ينقل عنهم الاشتغال به ، وإنما هو من العلوم الفلسفية ،

٥٦٤

وقد شنع العلماء على من عربها وأدخلها في علوم الإسلام ، ونقل عن ابن تيميّة الحنبلي أنه كان يقول : ما أظن الله تعالى يغفل عن المأمون العباسي ولابد أن يعاقبه بما أدخل على هذه الأمة (فجوابه) : أن ذلك مركوز في جبلاتهم السليمة وفطرهم المستقيمة ، ولم يفتهم إلا العبارات والاصطلاحات كما ذكر في علم النحو. ا ه.

أقوال من نفى ثمرته والرد على من ذهب إلى ذلك :

قال الإمام الذهبي في «تاريخ الإسلام» في ترجمة الإمام الغزالي :

وقال أبو عمرو بن الصلاح : فصل لبيان أشياء مهمة أنكرت على الغزالي ، منها قوله في المنطق وهو مقدمة العلوم كلها ، ومن لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلا. وهذا مردود ، فكل صحيح الذهن منطقي بالطبع ، وكيف غفل الشيخ أبو حامد عن حال مشايخه ومشايخهم من الأئمة وما رفعوا بالمنطق رأسا. ا ه.

وقال ابن القيم في كتابه «مفتاح دار السعادة» (١) بعد أن ذكر فوائد العلوم والحاجة إليها : وأما المنطق فلو كان علما صحيحا كان غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها ، فكيف وباطله أضعاف حقه ، وفساده وتناقض أصوله واختلاف مبانيه توجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في فكره ولا يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل الصريح. وأخبر بعض من كان قد قرأه وعني به أنه لم يزل متعجبا من فساد أصوله وقواعده ، ومباينتها لصريح المعقول ، وتضمنها لدعاو محضة غير مدلول عليها ، وتفريقه بين متساويين وجمعه بين مختلفين ، فيحكم على الشيء بحكم وعلى نظيره بضد ذلك الحكم ، أو يحكم على الشيء بحكم ثم يحكم على مضاده أو مناقضه به. قال : إلى أن سألت بعض رؤسائه وشيوخ أهله عن شيء من ذلك ، فأفكر فيه ثم قال : هذا علم قد صقلته الأذهان ومرت عليه من عهد القرون الأوائل ، أو كما قال ، فينبغي أن نتسلمه من أهله. وكان هذا من أفضل ما رأيت في المنطق. قال : إلى أن وقفت على رد متكلمي الإسلام عليه وتبيين فساده وتناقضه ، فوقفت على مصنف لأبي سعيد السيرافي النحوي في ذلك وعلى رد كثير من أهل الكلام والعربية عليهم كالقاضي أبي الطيب والقاضي عبد

__________________

(١) ذكره في الكلام على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم (ص ١٦٤).

٥٦٥

الجبار والجبائي وابنه وأبي المعالي وأبي قاسم الأنصاري وخلق لا يحصون كثرة ، ورأيت استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الإشكال ومخالفتها ما كان ينقدح لي كثير منه.

ورأيت آخر من تجرد للرد عليهم شيخ الإسلام (يعني به ابن تيميّة) رضي‌الله‌عنه ، فإنه أتى في كتابيه الكبير والصغير بالعجب العجاب وكشف أسرارهم وهتك أستارهم ، فقلت في ذلك :

واعجبا لمنطق اليونان

كم فيه من إفك ومن بهتان

مخبّط لجيّد الأذهان

ومفسد لفطرة الإنسان

مضطرب الأصول والمباني

على شفا هار بناه الباني

أحوج ما كان إليه العاني

يخونه في السر والإعلان

يمشي به اللسان في الميدان

مشي مقيّد على صفوان

متصل العثار والتواني

كأنه السراب بالقيعان

بدا لعين الظامىء الحيران

فأمه بالظن والحسبان

يرجو شفاء علة الظمآن

فلم يجد ثم سوى الحرمان

فعاد بالخيبة والخسران

يقرع سن نادم حيران

قد ضاع منه العمر في الأماني

وعاين الخفة في الميزان

وما كان من هوس النفوس بهذه المنزلة فهو بأن يكون جهلا أولى منه بأن يكون علما تعلمه فرض كفاية أو فرض عين. وهذا الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام وتصانيفهم وسائر أئمة العربية وتصانيفهم وأئمة التفسير وتصانيفهم لمن نظر فيها هل راعوا فيها حدود المنطق وأوضاعه ، وهل صح لهم علمهم بدونه ، أم لا بل كانوا أجلّ قدرا وأعظم عقولا من أن يشغلوا أفكارهم بهذيان المنطقيين ، وما دخل المنطق على علم إلا أفسده وغير أوضاعه وشوش قواعده. ا ه.

فعسى أن يكون بما أوردناه لك من أقوال العلماء في نفي فائدته وثمرته والدلائل الواضحة على ذلك مقنع كاف تهتدي به إلى الرشد وترجع إلى مهيع الصواب ولا تضيع وقتك الثمين في العكوف عليه والتوسع فيه. لكن لما كانت كتب العلوم الدينية وسائلها ومقاصدها مملوءة بعبارات المناطقة ، خصوصا كتب الأصول والتوحيد ، وكان المرور بهذه العبارات

٥٦٦

بدون تفهمها مشكلا جدا أصبح لابد للمشتغل بها من الوقوف على هذا الفن ، غير أنه ينبغي الاقتصار على كتاب صغير فيه أو كتابين والاستغناء عن الكتب الكبيرة فيه وعن تلك الحواشي الطويلة الذيول ، وذلك لا يحتاج فيه إلى عناء كثير وصرف وقت طويل ، وحسب الطالب من هذا العلم هذا المقدار ، وفي ذلك بلاغ له إلى المقصود ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

١٣٢٤ ـ مريانا بنت فتح الله مرّاش المتوفاة سنة ١٣٣٨ ه‍ و ١٩١٩

ترجمها صاحب «تاريخ الصحافة العربية» فقال :

مريانا بنت فتح الله مراش. ولدت في حلب في شهر آب سنة ١٨٤٨ وترعرت ترضع من لبان الأدب وتتغذى ثمار العلم ، فنشأت أديبة عالمة تجيد الإنشاء وتحسن الشعر. وكان أبوها فتح الله بن نصر الله بن بطرس مراش رجلا أديبا عني بالمطالعة واقتناء الكتب ، وجمع مكتبة نفيسة ، ورغب في الكتابة وتمرن عليها ، وله كتابات عديدة مختلفة المواضيع لم تطبع.

وكانت أمها زكية عاقلة من آل أنطاكي نسيبة مطران حلب يومئذ ديمتريوس ، وكلا الأسرتين معروفتين (١) بالوجاهة وجليل الصفات ، وأخوها فرنسيس وعبد الله مشهوران في عالم الأدب. كان الأول شاعرا متفننا ومنشئا مجيدا ، والثاني كاتبا لوذعيا ، فتربت مريانا في هذا البيت الكريم على مهاد الذكاء والمعرفة. وإذا اقتضت أشغال والدها في أثناء حداثتها التغيب عن بيته والسفر إلى أوروبا قامت والدتها بتربيتها قياما حسنا لم يكن يرجى من كثيرات من أمهات تلك الأيام. وكان من الفتاة أن دخلت المدرسة المارونية في الخامسة من عمرها ، وانتقلت بعد ذلك إلى المدرسة الإنجيلية التي أنشأها الدكتوران (إدي) و (ورتبات) فدرست فيهما مبادىء اللغة العربية والحساب وبعض العلوم. وفي الخامسة عشرة أخذ أبوها يعلمها الصرف والنحو ثم العروض ، وعلمها بعض لغة الفرنسيس التي أحسنتها فيما بعد على بعض المعلمين. ودرست فن الموسيقى وأتقنته جيدا دون أستاذ ، فتفردت في حلب وامتازت على أترابها ، فنظر الناس إليها بغير العين التي ينظرون بها إلى

__________________

(١) هكذا في الأصل وفي «تاريخ الصحافة العربية». والصواب : وكلتا الأسرتين معروفة أو معروفتان.

٥٦٧

غيرها ، وتهافت الشبان على طلب يدها ، فرضيت منهم زوجا لها حبيب الغضبان ، ورزقا ولدا وبنتين جبرائيل وليّا وأسما.

بدأت بالكتابة والشعر في صباها ، وأول مقالة رأيناها لها (شامة الجنان) نشرتها في مجلة الجنان في الجزء الخامس عشر لعامها الأول سنة ١٨٧٠ وصدرتها بهذين البيتين لشاعر قديم :

بنفسي الخيال الزائري بعد هجعة

وقولته لي بعدنا الغمض تطعم

سلام فلو لا البخل والجبن عنده

لقلت أبو حفص علينا المسلّم

وعارضته باستحسان قومه صفتي الجبن والبخل بالنساء ودعت قومها إلى بدلهما بالحرص والشجاعة مميزة بين الاقتحام والجرأة. وانتقت بمقالاتها هذه عادات معاصراتها وحضتهن على التزين بالعلم والتحلي بالأدب.

ونشرت بعض مقالات على صفحات الجرائد كلسان الحال وغيره ، ونظمت قصائد عديدة في الغزل والمدح والرثاء وعدة أغاني على أنغام مختلفة جمعت منها ديوانا صغيرا نشرته برخصة رسمية من نظارة المعارف بعنوان (بنت فكر) مطبوعا سنة ١٨٩٣ في المطبعة الأدبية هنا.

وقد هنأت بشعرها السلطان عبد الحميد عند ما صار سلطانا ، وعايدته في أحد أعياد جلوسه ، وهنأت أمه بقصيدة ، ومدحت توفيق الأول خديو مصر وجميل باشا وأمين باشا والي حلب وإيوانوف قنصل روسيا فيها ، ورثت أخاها فرنسيس وكثيرا من صديقاتها.

من ذلك قولها لأم السلطان :

كما رعيت صباه خوف نائبة

قد صار يرعى زمام الملك للأمم

ومن منظوماتها ما يأتي في مدح خديو مصر :

زهور الروض تبسم عن ثغور

زهت فحكت عقودا من جمان

نداها يبهج الأرواح رشفا

به ماء الحياة لكل دان

إذا هب النسيم على رباها

تعطرت المعاهد والمغاني

رعاه الله من روض أرانا

من الأغصان قامات الحسان

٥٦٨

وحورا إن سفرن وملن عجبا

سلبن عقول أرباب المعاني

وقد قامت طيور الأنس تشدو

بألحان أرق من المثاني

هنا جنات بشر قد تراءت

لدى الأبصار في شبه الجنان

ومنها في مدح جميل باشا والي حلب :

أفديه لا أفدي سواه جميلا

أولى المحبّ تعطفا وجميلا

بدر عنت دول الجمال لحسنه

فأبى لذا تمثاله التمثيلا

فإذا تجلّى فوق عرش كماله

تجثو له زهر النجوم مثولا

وإذا توارى في حجاب سنائه

لا تبلغ الجوزا إليه وصولا

كملت محاسنه فبالإشراق وال

أنوار صار عن الشموس بديلا

ومنها في مدح إيوانوف قنصل روسيا :

بزغت شموس السعد بالشهباء

فجلت لياليها من الظلماء

قشعت غيوم الضيم عنها فانجلت

كعروسة تزري ببدر سماء

وغدت بها السكان تمرح بالهنا

وتجر ذيل مسرة وصفاء

تتمايل الغادات مائسة بها

كتمايل النشوان بالصهباء

من كل غانية زهت بجمالها

ودلالها كالروضة الغنّاء

ماست كغصن فوقه بدر له

مرأى الثريا في بديع بهاء

بحواجب مقرونة قد أوترت

قوسا ترن بها سهام فنائي

إن كلّمت صبّا بنبل لحاظها

كان الشفاء له بعذب الماء

حتى ترد إليه ذاهب روحه

فيعود معدودا من الأحياء

وقالت أيضا مشطّرة بعض أبيات من نظمها :

للعاشقين بأحكام الغرام رضا

يمسون صرعى به لم يؤنفوا المرضا

لا يسمعون لعذل العاذلين لهم

فلا تكن يا فتى للجهل معترضا

روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا

ذاك الذمام وقد ظنوا الهوى عرضا

جاروا وما عدلوا في الحب إذ تركوا

عهد الوفيّ الذي للعهد ما نقضا

٥٦٩

قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا

وكان يزعم أن الموت قد فرضا

أصابه سهم لحظ لم يبال به

فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا

رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا

فما ابتغى بدلا منهم ولا عوضا

تقطّع القلب منه بانتظار عسى

فسام صبرا فأعيا نيله فقضى

وقالت ترثي صبية توفيت محترقة بالبترول :

عفافة نفس مع بديع محاسن

ورقة أعطاف فلله كم تسبي

لقد جمعت ضدين في حدّ ذاتها

ففي اللحظ إيجاب يشير إلى السلب

وقالت وقد اقترح عليها ذلك :

بذكر المعاني هام قلبي صبابة

فيا نور عيني هل أكون على القرب

عسى الشمس من مرآك للعين تنجلي

فتنقل للأبصار ما حل بالقلب

ولها أيضا :

ذو العقل يسمو بالحجى ويسود

وبحسن رأي يمدح الصنديد

إن الفتى المقدام من يوم الوغى

خاض المعامع والعداة شهود

والندب من نال الفخار وزانه

بالجد آباء له وجدود

ومن منظوماتها الحكمية قولها :

شرف الفتى عقل له يسمو على

كل الورى فينال غايات المنى

وكذاك حسن الخلق فخر مسوّد

متسربل باللطف نعم المقتنى

والمرء إن شهدت له أفعاله

بالفضل والآداب يكتسب الثنا

ما كل من طلب الكرامة نالها

من رام صيد الظبي حل به العنا

ذو المال يذهب ذكره مع ماله

لكنّ ذكر الفاضلين بلا فنا

وقالت ترثي أخاها فرنسيس :

مالي أرى أعين الأزهار قد ذبلت

ومال غصن صباها من ذرى الشجر

مالي أرى الروض مكمودا وفي كرب

والماء في أنة والجو في كدر

٥٧٠

مالي أرى الورق تنعى وهي نادبة

فراق خل وتشكو لوعة الغير

نعم لقد سابق الأحياء أجمعها

وناب ذا اليوم مطروحا على العفر

من فقّه الناس في علم وفي أدب

ونوّر الكل في شمس من الفكر

أبدى من الفضل ضوءا لا خبوّ له

والشمس شمس وإن غابت عن النظر

وإنه بحر علم لا قرار له

وقد حوى كل منظوم من الدرر

هذا الذي جابت الأقطار شهرته

قد صار مطّرحا في أضيق الحفر

خنساء صخر بكته حينما نظرت

إليه ملقى بلا سمع ولا بصر

أقلام أهل النهى ترثيه وا أسفي

هل عاد من عودة يا مفرد البشر

مذ غاب شخصك هذا اليوم عن نظري

جادت عيوني بدمع سال كالمطر

فيا لدهر خؤون لا ذمام له

قد راش سهما أصاب الفضل بالقدر

فحزن يعقوب لا يكفي لندبك يا

ندبا تفرد بالأجيال والعصر

ويلاه من حزن قلب نال غايته

مذ واصل القلب في غم مدى العمر

في لجة الحزن نفسي ضاق مسكنها

من ذا يسلّي فؤادي قلّ مصطبري

واشتهرت مريانا بلطفها وخفة روحها وبحسن صوتها وجمال مغناها ، وقد جعلت بيتها ناديا لأهل الفضل تجول معهم في مضامير العلم والأدب.

سافرت مرة إلى أوروبا واطلعت على أخلاق الأوربيين وعاداتهم عن قرب ، فاستفادت منهم كثيرا ، ثم عادت إلى وطنها تبث بين بنات جنسها روح التمدن الحديث. ا ه. ببعض اختصار.

وترجمها الأديب قسطاكي بك الحمصي في تاريخه «أدباء حلب» ، فقال في ترجمتها :

سليلة بيت العلم ، وشعلة الذكاء والفهم ، فصيحة الخطاب ، ألمعية الجواب ، تسبي ألباب ذوي النهى بألطافها ، ويكاد يعصر الظرف من أعطافها ، تحن إلى الألحان والطرب ، حنينها إلى الفضل والأدب. وكانت رخيمة الصوت عليمة بالأنغام ، تضرب على القانون فتنطقه إنطاقها الأقلام. ثم ساق بقية ترجمتها وأورد بعض نظمها ، وذكر أن وفاتها سنة ١٩١٩ م وهي موافقة لسنة ١٣٣٨ ه‍.

٥٧١

١٣٢٥ ـ الشيخ كامل الموقّت الفلكي المتوفى سنة ١٣٣٨

الشيخ كامل ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله الحنبلي ، الشهير بالموقّت ، العالم الفاضل الصالح الزاهد.

ولد بعد السبعين ومائتين وألف بقليل ، وتلقى العلم على الشيخ الكبير أحمد الترمانيني ولازمه إلى أن توفي. وتلقى العلوم اللسانية والفقهية والحديثية على الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب وبه تخرج. وتلقى علم الفلك عن والده الشيخ أحمد ، وجد في تحصيل هذا الفن إلى أن برع فيه وصار له فيه اليد الطولى ، بل كان المنفرد في هذا العلم لا يشاركه فيه مشارك كما كان أبوه من قبله. وسبب عنايته وعناية أبيه بهذا العلم أن وظيفة التوقيت في الجامع الأعظم في حلب كانت في بيتهم من عهد جده الشيخ عبد الله المتوفى سنة ١٢٢٣ ، فوالده تلقاه عن جده وهو عن أبيه ، والشيخ عبد الله تلقاه عن الشيخ علي الميقاتي المعروف بالدبّاغ.

وحينما كان الأستاذ الزويتيني مفتيا ، وأمينا الفتوى لديه شيخنا الشيخ محمد الزرقا وشيخنا الشيخ محمد الجزماتي ، كان المترجم محررا للفتاوى ، فاستفاد بذلك ملكة تامة في هذا الفن ، وخصوصا حينما كانت تجري المذاكرات الفقهية بين هؤلاء الأعلام في دار الفتوى ، وقد كانت وقتئذ في المدرسة الشعبانية. وكان مع وظيفته هذه يحدث أمام الحضرة في أموي حلب ويقوم بوظيفة التوقيت فيه. وبقي على ذلك إلى وفاة مفتي حلب العلامة الشيخ أحمد الزويتيني وذلك سنة ١٣١٦ ، فلزم بعد ذلك بيته وأخذ في رياضة النفس ومجاهدتها ، وأقبل على العبادة والذكر ، فاعتراه في أثناء ذلك شيء من مرض السوداء لكثرة مجاهدته لنفسه وكثرة الذكر والتلاوة. ثم زال ذلك عنه وعاد لصحوه وكمال عقله. ولم يزل ملازما لبيته لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة في جامع محلته (ساحة بزي) وهو فيه مكب على العبادة والتلاوة والمطالعة ، ويزوره أهل العلم والفضل ويتبركون بزيارته ، حتى إن شيخنا الكبير الشيخ محمد الزرقا زاره غير مرة طالبا منه خير الدعاء. وكان بعض المرضى يؤمون منزله فيقرأ لهم ما تيسر من القرآن والأدعية المأثورة فينال الكثير منهم الشفاء بإذن الله تعالى ، وشاهدوا بأم العين بركة يده ودعائه.

٥٧٢

وأصيب في حياته بولدين له شابين أديبين أحمد ومحمد ، وليس له من الذكور غيرهما ، وكانا يطلبان العلم ، وقد تلقيا عنه قسما من علم الميقات والفلك. توفي ثانيهما أثناء الحرب العامة بالموصل ، وكان قد أخذ إليها جنديا كما أخذ الكثير من طلاب العلوم وقتئذ ، وأسف عليه الناس إذ كان ينتظر أن يخلفه في علومه الميقاتية والفلكية ، ولم يخبر بوفاة ولده إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى.

وكنت ممن حظي بزيارته غير مرة متبركا به طالبا خير دعائه لما كان عليه من الصلاح والتقوى والإخلاص في العمل ، ولحسن محاضرته ومذاكرته. وفي إحدى زياراتي له التمست منه أن يجيزني إجازة عامة بجميع مروياته ، فأجاب ملتمسي بعد أن أعارني ثبت جده الشيخ عبد الرحمن الحنبلي المسمى «بمنار الإسعاد في طرق الأسناد» وهو بخطه ، ونقلت منه مجمل المؤلفات التي يرويها مع تراجم ما فيه من أشياخه الحلبيين ، وقد أشرت إلى ذلك في ترجمة جده هذا ، وذيّل ذلك بإجازة حافلة بخطه مؤرخة في سنة ١٣٢٦. وأجازني أيضا بحديث الرحمة المشهور عند المحدثين بالحديث المسلسل بالأولية ، لأن كل راو من رواته لابد أن يقول فيه عن شيخه : وهو أول حديث سمعته منه أو قرأته عليه ، أو يقول : وهو أول حديث أجازني به أو أرويه عنه أو رويته عنه.

ولم يكن له من الواردات سوى ما يتناوله من وظيفة درس الحديث في الجامع الأموي والتوقيت فيه ، فكان قانعا بهاتين الوظيفتين وبما يعطيه له المستشفون عنده بالقراءة بدون طلب منه أو استشراف له ، يعيش بذلك عيش الكفاف.

ولم يزل على ما ذكرنا من لزومه لبيته وانجماعه عن الناس وإعراضه عن هذه الدنيا الفانية وزهده فيها وانقطاعه للعبادة والتلاوة إلى أن توفي ليلة الجمعة في الرابع والعشرين من رمضان سنة ١٣٣٨ ، ودفن صبيحتها في تربة الصالحين عند قبور آبائه ، رحمه‌الله تعالى.

وخلت الشهباء بعده من عالم بالفلك والميقات.

وله من المؤلفات «كنوز الأخبار في أحاديث النبي المختار» المنتخب من «الجامع الصغير» للحافظ السيوطي في مجلدين في ٦٧٠ صحيفة بخطه ، فرغ من تحريره سنة ١٣٣٥. وبيعت كتبه بعد وفاته وفيها عدة من النفائس في علم الميقات والفلك من آثار آبائه وأجداده وآثار غيرهم ، واشتريت من هذه الكتب منظومة جد المترجم الشيخ عبد

٥٧٣

الله لمتن السراجية في علم الفرائض المسماة «باللوامع الضيائية» ، وقد طبعتها في مطبعتي (العلمية) ، وشرح هذه المنظومة لجده الموما إليه وهي بخط شيخنا المترجم نقلها عن نسخة بخط مؤلفها ، وقد صارت هذه النسخة إلى الصديق الفاضل الشيخ أحمد الزرقا.

١٣٢٦ ـ العلامة الشيخ بشير الغزّي المتوفى سنة ١٣٣٩

قاضي القضاة ، شيخنا العالم العلّامة والحبر الفهامة ، الشيخ محمد بشير ابن العالم الشيخ محمد هلال ابن السيد محمد الآلاجاتي الحلبي.

ترجمه أخوه لأمه رصيفنا الفاضل الشيخ كامل الغزّي ترجمة مسهبة ألقاها عند قبره في تربة الشيخ جاكير ، حضر ذلك الجم الغفير من العلماء والوجهاء والطلاب والأهلين ، وإني آتي على خلاصة هذه الترجمة بتصرف قليل ، ثم أتبعها بما أعلمه من أحوال شيخنا وترجمته. قال :

ولد أخي سنة ١٢٧٤. ولما ترعرع حفظ القرآن العظيم في السنة السابعة من عمره عند ولي الله الشيخ شريف الشهير بالأعرج ، وبقي عنده سنة واحدة. وبعد أن خرج لازم القراءة والكتابة بسائق نفسه. وكنت وهو في التاسعة من عمره أعطيه الكتب المخطوطة السقيمة الخط وأكلفه قراءتها ، فكان يقرأ فيها بكل سرعة وفصاحة مع قلة اللحن وغلبة الصواب على ألفاظه. وتعلم وهو في هذا السن أيضا رسم الخاتم المخمّس المنسوب للإمام حجة الإسلام الغزالي ، علّمه إياه الشيخ يوسف السرميني الشهير بالذكاء والفطنة في عصره. وتردد مدة على رجل مشهور بتصليح الساعات كان مقيما في جامع العدلية يعرف بالشيخ عبدو ، فتعلم منه هذه الصنعة في أشهر قليلة وصار ماهرا بها.

ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره جاور معي في المدرسة السيّافية وأخذ في حفظ المتون ، ولا أبالغ إذا قلت إنه حفظ الألفية لابن مالك في أقل من عشرين يوما فكنت أعجب من سرعة حفظه وقوة ذاكرته. ثم أخذ في حفظ كتب الأدب فلم يمض عليه مدة وجيزة حتى أصبح يستوعب جملة وافرة من أشعار العرب ونبذا كثيرة من مختارات كتب الأدب والأخلاق ، وحفظ حصة كثيرة من متن الكنز في الفقه الحنفي.

وفي سنة ١٢٩٥ انتقل إلى المدرسة الرضائية وجاور فيها ، ومن ذلك الحين بدأ يشتهر

٥٧٤

فضله ، وأول شيء اشتهر فيه حسن الصوت والأداء في تلاوة القرآن العظيم ، فكان الناس يقصدون المدرسة ليلة الجمعة وقبل صلاتها لسماع تلاوته في حرمها ، ثم طلب منه أن يؤم الناس في صلاة الصبح في رمضان في محراب الحنفية من الجامع الكبير ، فأجاب طلبهم ، فكان الناس يقصدون الائتمام به في هذا الوقت ويحضرون من أقصى المدينة لسماع صوته ، وقد واظب على هذه الوظيفة أزيد من خمس وعشرين سنة.

أساتذته في العلوم والفنون :

قرأ رحمه‌الله على العلامة الشيخ شهيد الترمانيني النحو الصرف والمعاني والبيان. ولما جاور في المدرسة الرضائية لازم الحضور على مدرسها الشيخ مصطفى الكردي ، قرأ عليه المواقف وشرحه والتفسير والحديث وعقائد النسفي. وقرأ على الأستاذ الشيخ محمد الزرقا معظم كتاب الدر المختار في الفقه الحنفي. وقرأ على العالم الفاضل الشيخ محمد الصابوني علمي الفرائض والعروض. ولما آل التدريس في المدرسة الرضائية إلى الشيخ المحقق الشيخ حسين الكردي لازمه فقرأ عليه علم المنطق وآداب البحث والمناظرة وجملة من التفسير ومصطلح الحديث. وقرأ على الأستاذ إسحق أفندي التركي علم الميقات والتنجيم.

وكان لا يحجم عن الاشتغال في الفنون الحديثة أيضا ويقول : أحب أن أكون مطلعا على كل علم ، لأنني أخاف إذا تصدرت للإفادة أن يطلب مني إقراء علم فأقول : هذا لا أعرفه. ولذا كان يشتغل في كتب الطبيعيات والفلسفة الغربية ، وكان إذا أشكل عليه فهم شيء منها سأل عنه متفوقي المتخرجين من المكاتب العالية.

ومع اشتغاله في علوم كثيرة فقد وجه عنايته لحفظ اللغة والدواوين الشعرية والكتب الأدبية مع الفهم التام لمعانيها ، إلى أن صار من المبرزين في ذلك بحيث فاق معاصريه ، وأقر له بالسبق جهابذة علماء اللغة والأدب ونقادها في الأقطار العربية وجعلوه مرجعهم وعمدتهم فيما صعب فهمه وبعد إدراكه. وطالما كنا نبحث عن اسم شيء نعرفه ولا نعرف له اسما في اللغة العربية ، فبعد أن ننقب عنه في معاجم اللغة ونتتبعه في المواد التي هي مظنة وجوده فلا نظفر بعد طول بحثنا بطائل فنسأله عنه فيجيبنا على الفور والبديهة بحيث يقول اسمه كذا وهو مذكور في المادة الفلانية من المعجم الفلاني أو في شعر فلان ، فنراجعه فنراه فيه صريحا كما أفاد.

٥٧٥

والخلاصة أنه قد كان الآية الكبرى في معرفة اللغة وأشعار العرب وأخبارهم. وكان إذا تكلم في الأدب يخال سامعه أنه لم يشذ عنه نادرة منه وأنه يمكنه أن يملي من حفظه كتاب الأغاني وشرح ديوان الحماسة وأمالي القالي وكامل المبرد ومختارات الشعراء الثلاثة الطائي والبحتري والمتنبي وشعر أبي العلاء اللزوميات وسقط الزند وغير ذلك من محفوظاته التي يستبعد العقل حفظها ووعيها في صدره.

نشأته وأخلاقه :

نشأ رحمه‌الله في طاعة الله ، فلم تعرف له صبوة في شيء سوى الانكباب على العلم منذ حداثة سنه ونعومة أظفاره ، ملازما مدرسته بعيدا عن قرناء السوء ، ولم يتزوج مطلقا ، ينفر من الزواج. وكنت إذا عرّضت له بالزواج ورغّبته فيه ينشدني قول المتنبي :

وما الدهر أهل أن يؤمل عنده

حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل

ثم يتبع هذا البيت بأبيات كثيرة في هذا المعنى من اللزوميات وغيرها.

وكان لا يغفل التدقيق في أحوال الدنيا ومراقبة شؤونها وتلاعبها بأهلها ، فكان يراها كما هي حقيقتها دار محنة وشقاء ، نعيمها زائل وظل الحياة فيها متنقل باطل ، تعاقب على أهلها السعادة والشقاء ، ولذا كان حب الدنيا الذي يعتري قلوب عشاقها المتهالكين في طلبها وجمع حطامها بعيدا عن قلبه ، فكان لا يفرح بما أوتيه ولا يحزن على ما فاته ، نقي الفؤاد من مرض الحقد والحسد ، نفورا من آفة الغيبة والنميمة ، حتى إنه كان لا يقابل من بلغه عنه أنه حسده أو اغتابه بغير قوله : عفا الله عنه.

وكان مع هذه الخلال الحميدة سخي الطبع يحب التفضل على الإخوان ولا يقصر في برهم وإكرامهم ، كما أنه لا يقصر في التصديق على الفقراء والمعوزين.

وكان لا يتأخر عن إجابة من طلب منه قرضا وإن علم أنه غير قادر على الوفاء. وكان لطيب سريرته لا يظن السوء بأحد ، فكان عظيم الثقة بمن يأتمنه على ماله مكتفيا منه بقوله.

وظائفه وخدماته :

ناهز رحمه‌الله سن الخمسين ولم يكن له من الوظائف المقررة سوى نحو ٢٠٠ قرش

٥٧٦

في الشهر ، مع أنه في ذلك السن كان قد اشتهر فضله وطار في العالم الإسلامي صيته وقصده رواد العلم وطلابه يأخذون عنه بعض ما أشكل عليهم حله من المسائل العلمية في فنون شتى.

وكان سبب قلة رواتبه عدم تعرضه لشيء من الوظائف صونا لشرف العلم عن التبذل وقناعة بما يسر الله له من كفاف العيش.

وأول وظيفة حازها أمانة الفتوى حينما كان الشيخ محمد العبيسي الحموي مفتيا في حلب ، فكان هو والشيخ بكري العنداني أميني الفتوى لديه. ثم عيّن مدرسا أصالة في مدرسة سعد الله الملطي في جامع الصروي في البياضة وفي مدرسة القرناصية. ثم لما حصل الانقلاب الدستوري العثماني انتخب رئيسا لجمعية الاتحاد والترقي في حلب. وفي هذه الإثناء عرضت عليه فتوى حلب وألح عليه أولو الحل والعقد بقبولها ، فلم يفعل رعاية للمفتي الموما إليه. ولما فتح مجلس النواب المعروف بمجلس المبعوثين في الآستانة انتخب أخي نائبا عن حلب في جملة من انتخب من نوابها واستمر ينتخب لهذه الوظيفة كلما تجدد الانتخاب غير منقطع عن هذا المجلس سوى سنة واحدة.

ولما كانت الحرب العامة وأغلق مجلس النواب بقي أخي في حلب فانتخب عضوا في محكمة الحقوق ، ثم عيّن رئيسا فيها. وبعد انقضاء الحرب ودخول العرب إلى حلب عيّن مدرسا في المدرسة الرضائية ، ثم قاضيا في محكمتها الشرعية ، فاستمر في هذه الوظيفة نحو سنتين. ثم بعد دخول الدولة الإفرنسية إلى حلب عيّن قاضي القضاة لدولة حلب ، وكان المرض قد ظهر في جسمه واشتدت نكايته فيه ، فتردد إلى محل وظيفته مرة أو مرتين ، ثم عاقه المرض عن وفائها إلى أن أدركته الوفاة.

الآخذون عنه من فضلاء الأتراك :

بعد أن جاور في العثمانية كما تقدم شاع فضله ، فأقبل عليه كبار الطلبة يتلقون عنه العلوم الآلية والفنون الأدبية ، ولازمه جماعة من أدباء الأتراك وأفاضلهم ، منهم الكاتب التركي الشهير بعلي كمال بك ، أخذ عنه من مختارات النظم والنثر ما يملأ مجلدا ، ومنهم مظهر بك ابن بدري بك رئيس إدارة البرق والبريد ، لازمه مدة طويلة وأخذ عنه كثيرا من العلوم الآلية والآداب العربية وأعانه على ترجمة ألفية ابن مالك إلى اللغة التركية ، وما

٥٧٧

زال هذا الشاب يتدرج في الخدم العالية حتى صار واليا في حلب وفي عدة ولايات.

وممن لازم أخي من أفاضل الأتراك رفعت بك المناستري صاحب المؤلفات الشهيرة عند الأتراك ، وهو الذي اقترح على أخي أن يعرّب المنظومة المعروفة «بترجيع بند» المنسوبة إلى ضيا باشا أحد فضلاء الأتراك ، وقد سمى تعريبها «حدائق الرند» ونظمها نظما بديعا حريا أن يعد من نوع السهل الممتنع ، مع محافظته على مقاصد الناظم دون زيادة ولا نقصان. وقد استعان رفعت بك بأخي على تفسير القرآن الكريم باللغة التركية ، ففسر منه نحو الثلثين ثم أدركته منيته.

صفته وصفاته المعنوية :

كان رحمه‌الله عظيم الهامة بعيد ما بين المنكبين واسع الجبين مشرق الوجه خفيف العارضين لا يرى فيهما سوى شعرات قلائل ، وكاد الصلع يعم رأسه ، مائلا إلى الطول ، بدينا قد ملأ جسمه ثيابه ، مفتول الساعدين عظيم الكفين والقدمين ، يميل لون وجهه إلى الاصفرار ولون بشرته إلى البياض الناصع ، رقيق القلب يتأثر جدا لرؤية الفقراء وأرباب البلايا ، ومع ما كان عليه من الشفقة والحنان كان على غاية ما يكون من القوة والشجاعة وثبات الجأش ، لا يروعه حادث مهما كان عظيما ، محبوبا عند الناس خاصتهم وعامتهم ، مسلمهم وغير مسلمهم.

وكان تلامذته في الغاية القصوى من محبته واحترامه. وكان عذب المنطق حلو الحديث نادر الفكاهة كثير الصمت حسن التفهيم ، وقلما يتحدث بنادرة أدبية يعرفها أحد من أهل مجلسه.

وكان يقرأ في المدرسة الرضائية تفسير القرآن العظيم للقاضي البيضاوي ، فيرى منه كبار الطلبة العجب العجاب في تقرير مسائله وكشف مخبآت إشاراته وحل ما في حواشيه من العبارات الغامضة والتراكيب المستغربة.

وكان الشعر من بعض محاسنه ، إذا نظم في موضوع جمع في نظامه البداعة والفصاحة وحسن البيان.

٥٧٨

٥٧٩

مؤلفاته :

له رحمه‌الله عدة مؤلفات ، غير أنه كان لا يعبأ بما يؤلفه. من ذلك كتاب في اللغة ضمنه جميع ما في «مختار الصحاح» من الكلمات اللغوية وجعله على أسلوب حكاية سائح يذكر في حكايته الكلمة ويعطف عليها مرادفها تفسيرا لها.

ومن ذلك كتاب في الفقه الحنفي لخص فيه ما جاء في كتاب «الدر المختار» وحواشيه من الأحكام والمسائل المفتى بها ، وهو في مجلد ضخم لكنه لم يكمل.

ومنها عدة مجاميع في حادثات الفتوى لو جمعت لبلغت مجلدا كبيرا.

غير أن هذه الكتب قد بقيت في مسوداتها ، ثم على تمادي الأيام تناثرت أوراقها ولعبت بها أيدي الضياع ولم يبق لها من أثر.

أما مؤلفاته التي طبعت فهي «رسالة في التجويد» و «ترجمة ترجيع بند» و «نظم الشمسية» في علم المنطق ، وهو نظم رائق متين لا يظهر فيه أثر للتكلف كما يظهر ذلك في منظومات المتون العلمية. وله من المؤلفات التي لم تطبع تفسير صغير مختصر مفيد يمكن طبعه على حاشية المصحف ، وقد بقي في مسوداته.

هذه خلاصة ترجمة أخيه له ، وهو حريّ بما قاله فيه ، فقد كان رحمه‌الله آية من آيات الله في حفظ اللغة ومعرفة معاني غريبها وحفظ شواهدها ، وربما استشهد للكلمة الواحدة بالبيتين والثلاثة والأربعة من كلام العرب فكان يأخذنا لذلك منتهى العجب ، وكاد يأتي على حفظ لزوم ما لا يلزم وسقط الزند وديوان المتنبي وغير ذلك مع فهم معاني ذلك حق الفهم ، وكنا نرى أنه أجدر الناس بوضع شرح للزوميات أبي العلاء يوضح به ما هو مغلق فيه ، وهذا ما كنا نتمناه من شيخنا ، لكنه لم يتوفق لذلك. وله مع ذلك اليد الطولى في غير ذلك من العلوم مثل المعاني والبيان والمنطق والتفسير والحديث. وقرأت عليه قسما كبيرا من صحيح البخاري إلى كتاب الحج حينما قرأه في الجامع الأموي وفي المدرسة العثمانية.

نعم كنا كغيرنا لا نود له قبوله النيابة عن أهالي حلب وذهابه إلى الآستانة مبعوثا عنها ، وكنا نرى جميعا أن الأجدر به عدم قبوله لأمثال ذلك ، فإن السفر لذلك عدة سنين أضاع به وقتا ثمينا لو صرفه في نشر العلم منه لأفاد كثيرا.

٥٨٠