إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

وإن لم تكن بنتا لأكرم والد

كفاها افتخارا أن تكون لكم أما (١)

جعل الله هذه النازلة آخر المصائب ، وخاتمة النوائب ، ولا أذاقكم بعدها ما يدعو إلى لوعة وتعذيب ، ولا أراع لكم فؤادا على فقد حبيب. وإني لأقول عنكم للدهر وقد تيتمتم (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) وعن دمعكم (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فكفكف فديتك ماء العيون وقل (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وحيث لا مرد لقضاء الله فلا حول ولا قوة إلا بالله.

كن المعزي لا المعزى به

إن كان لابد من الواجد

ا ه أقول : إن قصيدة (العرش والهيكل) التي تقدمت الإشارة إليها هي التي ساقت المترجم إلى حتفه ، وأصلها لشاعر فرنسا (فولتير) أبي الثورة الفرنسوية المشهورة ، ترجمها المترجم نظما ، وقد ذكرها بتمامها عطا بك حسني في كتابه «خواطر في الإسلام» ص (٨٨) وقال ثمة إنه اتصلت به هذه القصيدة مطبوعة في باريس بمطبعة حجرية بتاريخ سنة (١٨٦٤ م) ورأيت من الفائدة أن أعلق عليها الهوامش اللازمة لإيضاح ما يصعب فهمه من مغامزها ، ومطلعها :

عسرت لك الأيام في تجريبها

وسرت بك الأوهام إذ تجري بها

ومضت أويقات الهنا وتلاعبت

أيدي سبا ببعيدها وقريبها

فإلام تعرض ناسيا ذكر البلى

وعلام تغريك الحياة بطيبها

واللمة الشمطاء تنذر بالفنا

وتشيب صفو صفائنا بمشيبها

ولى الشباب وأخلقت أثوابه

وأحسرتي لنضيرها وقشيبها

وهي في ١٥٢ بيتا ، وذيّلها عطا بك بقوله : إن المترجم بعد أن بقي ثلاثين عاما في باريس رجع إلى وطنه حلب فوشى به القسيسون إلى الحكومة بأنه من أنصار الحرية مستشهدين بهذه القصيدة ، فأخذ الرجل وسجن ، وما زال سجينا إلى أن مات في سجنه شهيد الحرية.

__________________

(١) هذا المعنى من قول أبي الطيب المتنبي في رثاء جدته :

ولو لم تكوني بنت أكرم والد

لكان أباك الضخم كونك لي أمّا

٤٢١

وقد ترجمه ابن أخته الأديب قسطاكي بك الحمصي في تاريخه «أدباء حلب في القرن التاسع عشر» وأورد له جملة من شعره فارجع إليه إن شئت.

١٢٨٢ ـ الحاج مصطفى الأنطاكي الشاعر المتوفى حول سنة ١٣١٠

الحاج مصطفى بن عبد الوهاب بن مصطفى المعروف بالأنطاكي ، الحلبي المولد والمنشأ ، الشاعر المشهور ، أحد النابغين في الشعر المبرزين فيه.

ولد في الشهباء بعد الستين والمائة والألف ظنا ، وتلقى العلوم العربية والأدبية في مبدأ عمره على فضلاء ذلك العصر ، فملأ منها ذنوبه واكترع منها كأسا رويا ، واجتنى من الآداب ثمرا يانعا ، ولمعت عليه بوارق الفضل في مدة يسيرة لما كان عليه من الذكاء وتوقد الذهن وسرعة الخاطر ، فأخذ في قرض الشعر واستخرج درره وصوغ عقوده ، وانقادت له المعاني وصارت طوع إرادته وعلى رؤوس أقلامه وأطراف أنامله. وفي عنفوان شبابه اقتعد غارب الاغتراب إلى بغداد لتعاطي التجارة بها لأنه من بيت عريق فيها ، وهناك ألقى عصا تسياره ، وسمع به فضلاء بغداد وأدباؤها ، فهرعوا إليه ، ولما بان لهم فضله وأدبه الجم التفوا حوله وصار حانوته سوق عكاظ ومجمع أهل الأدب والفضل. وأقام هناك مدة طويلة ، وراج أمر تجارته في مبدأ الأمر ، ثم أخذ الدهر في معاكسة آماله ، ولم يزل على ذلك إلى أن ذهب منه جل ماله ، ولم ترق له الإقامة في بغداد وهو على تلك الحال ، فاضطر إلى مغادتها وقصد دار الخلافة ، وكان قد شاع أمر الشيخ أبي الهدى الصيادي فيها وعظمت منزلته عند السلطان عبد الحميد الثاني وأصبح كعبة القصاد ومنتهى الآمال ، فحط رحاله لديه ، فأكرم نزله وقدر مكانته ومزيته وحسن به حاله ، وامتدحه المترجم بعدة قصائد من غرر الشعر. وبقي هناك إلى أن أدركته المنية في حوالي سنة ١٣١٠.

ولم تكن له عناية بجمع شعره ، فمزقته أيدي الزمان ، وهو جدير بالجمع والتدوين لسلاسة مبانيه وحسن معانيه ، وربما وجد شعره في بغداد وفي مكتبة الشيخ أبي الهدى لأنه كان خصيصا به في آخر عمره. وقد أثبت هنا ما وصل إلي من نظمه وقد جمعته من عدة مجاميع ومنه يعلم منزلته من الشعر ورسوخ قدمه فيه ، قال :

إن هذا العذار في وجه من قد

فاق حسنا على بدور السماء

٤٢٢

هي لام من الزمرّد صيغت

فوق تلك الياقوتة الحمراء

وله :

على ياقوت وجنته تبدّى

زمرّد عارض بالنبت أخضر

على تلك المحاسن إن توفّت (هكذا)

يكرر أربعا الله أكبر

وله :

لا تلمني إذا تركت حضور العلم

خوفا من قول شهم حكيم

جنح الدهر للتنازل حتى

يدعي العلم كل علق قديم

وله في مليح اسمه مصطفى :

ومهفهف حلو الرضاب رأيته

فسألته ما الاسم يا مولاي قص

فاختال تيها في الهوى متثنيا

ولوى بمبسمه الشهيّ وقال مص

وله مشطرا :

جبينك مسفر كالصبح باد

وفيه لقد هدينا للرشاد

وأخجلت البدور بنور فرق

وشعرك غيهب أبد السواد

وقامتك الرطيبة غصن بان

عليه طائر الأرواح شاد

غصون البان مغرسها رياض

وذاك الغصن مغرسه فؤادي

وله مخمسا :

من لي بوضاح الجبين صبيحه

عذب اللمى حلو الكلام فصيحه

ناديت لما تم ذبح جريحه

يا واضع السكين بعد ذبيحه

في فيه يسقيها رحيق لهاته

لا غرو أن تحيا النفوس بشفرة

قد مازجت من فيك أعذب خمرة

إن رمت تصديقا لذاك بسرعة

عدها إلى المذبوح ثاني مرة

وأنا الضمين له بردّ حياته

وله :

٤٢٣

كفى بقلبي غراما حين ذكراك

يذوب شوقا إلى باهي محياك

لم يبق وجهك في شمس ولا قمر

حسنا وللبرق نور من ثناياك

يا دمية الحسن يا من في الهوى حكمت

على المحبين في التعذيب عيناك

من لي بنيل مرام طالما بخلت

سود الليالي به عن حال مضناك

نسيم زهر الربا ما لذ مورده

لو لا يبلّغ للمشتاق رياك

تملكتني صبابات الهوى فأنا

وحدي بكل الذي يا هند يهواك

يسر قلبي الهوى والدمع يظهره

يا من لطرف شجيّ لم يزل باكي

نمّت عليّ دموعي في الهوى فأنا

أموت وجدا وأحيا عند ذكراك

وله وهو مما يتغنى به :

غصن بان القد من تحت الإزار

يتثنى حاملا شمس النهار

في هواه لذ لي خلع العذار

حيث مالي في الهوى عنه اصطبار

دور :

منية الأرواح منت بالتلاق

وثناها الوجد نحوي للعناق

ثم مدت تبتغي حل النطاق

معصما يشكو لها ضيق السوار

دور :

يا أخا اللذات بادر للمدام

في رياض زانها نقط الغمام

حيثما الندمان في أبهى انتظام

وشقيق الروح يشجو كالهزار

ومدح أحمد فارس صاحب (الجوائب) بقصيدة طويلة مثبتة في الجزء الرابع من كتاب «كنز الرغائب في منتخبات الجوائب» وهي :

أتى زائرا والليل شابت ذوائبه

على غير وعد خوف واش يراقبه

فلو لم توار الجيد منه ضفائر

لنمّت علينا وافضحتنا كواكبه

ردينيّ قدّ إن تناهض قائما

فتقعده أردافه أو تجاذبه

يكاد إذا ما ماس من لين قده

نسيم الصبا تحت البرود يلاعبه

فيا خصره ما أنت جسمي فما الذي

دعاك نحيلا مثله أو تقاربه

٤٢٤

ويا قلبي الخفاق ما أنت بنده

ولا قرطه الحالي ففيم تناسبه

بروحي من لو لم تصن كنز حسنه

ظبى مقلتيه لا تزال تناهبه

على صفحة الياقوت دبّ عذاره

وبالمبسم الدريّ قد خطّ شاربه

وكم بدرا من تحت فاحم جعده

جلته لنا فوق الجبين غياهبه (١)

وكم شمس حسن في محياه أشرقت

لقد أسفرت عنها لدينا ذوائبه

مليك زمام الحسن في ظل وصله

رعى الله عيشا قد تقضّت أطابيه

بأيام أنس لو علمت نهبتها

كما أشتهي والعيش خضر جوانبه

فيا عذّلا قد بالغوا في ملامهم

دعوني فداعي الوجد للقلب غاصبه

ولا تزعموا أن الملام يروعني

وهيهات مثلي أن يروّع جانبه

أما والقوام السمهريّ ولينه

ولحظ كحيل يتمتني حواجبه

وجيد عليه جوهر القرط قد زها

وصدغ على الريحان دبت عقاربه

فما العشق إلا مغناطيس أولي النهى

يروم فؤادا كالحديد يجاذبه

وليس له في الوغد أدنى تأثر

ومن أين للأوغاد تصفو مشاربه

فصرح أخا الأشجان بالوجد معلنا

وبح باسم من تهواه أو من تحاببه

ويا جاهلا قدر الغرام دع الهوى

لمن فاخرت أوج الثريا مراتبه

هو الفارس المفضال أحمد من له

تظل عيون المجد دوما تراقبه

لقد شاد في دار السعادة مربعا

وركنا على التمييز للعلم ناصبه

همام بليغ بارع قد تولعت

بسبق الرجال الأقدمين ركائبه

ففاتهم نظما ونثرا حقيقة

فلا من يدانيه ولا من يقاربه

له الله من حبر أرانا يراعه

من السحر ما قد حللته غرائبه

يراعات سحر في عباراته التي

هي السحر من طرف تزجّج حاجبه

تصدى إلى نيل المعالي فنالها

على رغم من بالحقد ظل يراقبه

به اللغة الفصحى تفاخر غيرها

لما أنه فيها تسامت مراتبه

لقد كنت قبلا بالسماع أوده

فها قد تبدت للعيون عجائبه

فيا عين قرّي في لقاه فإنه

لأزيد مما قد سمعت مناقبه

__________________

(١) صدر البيت مختل الوزن ، ولعل الصواب : وكم بدر تمّ تحت فاحم جعده.

٤٢٥

ويا بدر آداب وعلم تشعشعت

لرجم الشياطين الأعادي كواكبه

إليك قواف زينتها يد الثنا

تؤم مقاما منك قد عز جانبه

ونظما تكاد الشهب تحكي سناءه

هو الدر إلا أن مدحك ثاقبه

يقدم عذرا من صميم ملكته

فهل لك يا رب الكمال تكاتبه

وعفوا ففكري لا يزال مبددا

به من أسى الأيام ما يتناهبه

فلولاك لم تسمح بنظم قريحة

بها هاطل الأحزان قد سح ساكبه

فلا زلت بحرا بالمكارم طافحا

تسير إلينا بالنوال مراكبه

كذا نجلك السامي فخارا ورفعة

مدى الدهر ما لاحت بأفق كواكبه

ومن آثاره تقريظه لكتاب «عنوان الشرف» للإمام الشيخ إسماعيل المقرىء الذي طبع في حلب سنة ١٢٩٤ في المطبعة العزيزية ، قرظه على نسق الأصل ، وهو يدلك أيضا على تضلعه في الأدب وأنه ممن كان له منه الخط الأوفر. وبعد أن قرظه على ذلك النسق ختمه ببيتين من الشعر وهما :

سرح بهذا السفر طرف مفكر

فيما حواه من البدائع والطّرف

واحمد بني الشهبا وأرخ قائلا

في طبعهم قد بان عنوان الشرف

١٢٩٤

١٢٨٣ ـ الشيخ بكري أفندي الزبري مفتي حلب المتوفى سنة ١٣١٢

الشيخ بكري بن أحمد ابن الحاج عبيد البابلّي الشهير بالزبري ، العالم الفاضل المتفنن.

ولد بحلب في نواحي سنة ١٢٤٠ ، وفي مبدأ نشأته تعاطى صنعة العطارة ، فلم ينجح فيها ، فتركها ودخل المدرسة القرناصية وسنه ١٧ عاما وأخذ في التحصيل ، وتلقى عن الأحمدين الترمانيني والحجار. ثم ذهب لمصر في حدود سنة ١٢٦٠ وجاور في الأزهر مدة مع الضنك وضيق اليد ، وكان بعض أرباب الخير في حلب يرسل إليه دراهم يستعين بها. وقرأ في الأزهر على الشيخ الأشموني والشيخ الخضري. وكان شافعي المذهب ثم تحنف. وطبع بعض الكتب فارتفق منها. وبعد أن تأهل أخذ في التدريس بالأزهر ، ثم عين مفتيا لطنطا ، وهناك تعاطى مع الإفتاء صنعة الزراعة فأثرى منها وتجملت أحواله ،

٤٢٦

ثم عاد إلى حلب سنة ١٢٩١ وأخذ في نشر العلم ، وهرعت إليه الطلاب. وبعد مجيئه بأشهر قلائل عيّن مفتيا لحلب ، فبقي نحو سنتين ثم عزل بالحاج عبد القادر أفندي الجابري المشهور بحاجي أفندي. وبعد سنتين أعيد إلى منصب الإفتاء وبقي إلى سنة ١٣٠٤ ، ففيها عزل حينما عزل والي الولاية جميل باشا وعيّن موضعه الشيخ أحمد الزويتين.

كان رحمه‌الله مربوع القامة أبيض اللون ، ذا شيبة نيرة ، بشوشا دمث الأخلاق ، حسن العشرة. وعين مدرسا للمدرسة القرناصية يقرأ فيها الفقه الحنفي وغيره ، ومدرسا في الجامع الأموي يقرأ فيه درسا عاما أمام الحضرة النبوية.

ومن تلامذته الشيخ علي العالم قاضي حلب الآن ، والشيخ نجيب سراج واعظ الديار الحلبية ، والشيخ راجي مكناس ، والشيخ وحيد حمزة ، والشيخ أحمد الشماع ، والشيخ بها الكاتب وغيرهم.

واشترى دار الحاج أحمد الصابوني الشهيرة في محلة باب قنسرين ، وقد تكلمنا عليها في ترجمته ، ولم ينجح المترجم بعد شرائها ، فإنه عزل على إثر ذلك.

وكان بينه وبين سيدي الوالد مودة أكيدة ، واستصحبني غير مرة لزيارته في داره هذه وأنا صغير ، فكنت أرى فيه من البشاشة والملاطفة ما لا مزيد عليه ، ولم يتسن لي الحضور عليه لأني ابتدأت في الطلب قبيل وفاته وكنت أقرأ في مبادىء العلوم.

وله رسالة في علم الفرائض وتعليقات على دلائل الخيرات مطبوعة على هامشها في الطبعة التي طبعت سنة ١٢٧٧ ، وذكر أنه اقتبس ذلك من شرح العلامة الفاسي والشيخ سليمان الجمل والشيخ حسن المدابغي والعلامة السملاوي. وله رسالة سماها «كشف الران عن وجه البيان» وهي شرح لمنظومة للشيخ الأكبر في علم الزايرجة رأيتها وهي في ٣٥ صحيفة.

وكان رحمه‌الله كثير اللطف بالطلبة عظيم الرأفة بهم ، حتى إنه كان إذا جاءه المتولي على المدرسة القرناصية بوظيفته يسأله هل أعطيت المجاورين ، فإن قال له نعم يأخذها حينئذ وإلا قال له : أعط الطلبة وأخرني فإنهم أحوج مني ، إلى غير ذلك من مآثره الحسنة.

ولم يزل دائبا على التدريس والإفادة إلى أن توفي ثاني عشر شوال سنة ١٣١٢ ودفن في تربة الكليباتي خارج باب قنسرين. وكانت وفاته في جنينته المعروفة بجنينة التقي ،

٤٢٧

فإنه بعد أن توضأ وصلى العصر أراد ركوب دابته فلم يقدر وتوفي في الحال فجأة. وكان لوفاته رنة أسف في قلوب الناس ، وكانت جنازته مشهودة امتلأ للصلاة عليه صحن الجامع الأموي على سعته ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٨٤ ـ الشيخ سعيد السنكري المتوفى سنة ١٣١٢

الشيخ سعيد ابن الحاج عمر ابن الحاج سعيد النجار المكني سابقا بالقفّال والمشهور أخيرا بالسنكري لتعاطيه في هذه الصنعة.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٤ ، وأخذ العلم عن عدة من أفاضل الشهباء ، منهم العلامة الشيخ أحمد الحجار والعلامة أحمد الترمانيني ، وبعد وفاته اتصل بابن أخيه الشيخ عبد السلام الترمانيني. تلقى على هؤلاء الفقه الشافعي والحديث وغير ذلك وأجازوه إجازة حافلة.

ولم يزل مع اشتغاله بالتحصيل يتعاطى صناعة السنكرة [لحم التنك] إلى أن عيّن مدرسا للحديث بعد سنة ١٢٨٠ ، فحينئذ ترك هذه الصنعة وتجرد للتدريس والإفادة وصار مرجع المستفتين في الفقه الشافعي وخصوصا بعد وفاة شيخه الشيخ عبد السلام. وكان بارعا في علم الفرائض أيضا يرجع الناس إليه في تقسيم التركات.

وله مؤلف في العبادات على مذهب الشافعي سماه «كفاية العوام فيما يجب عليهم من الصلاة والصيام» وعدة رسائل في النحو والمنطق وفي بعض المسائل ، وله شعر قليل لم يصل إليّ منه شيء.

ولم يزل مثابرا على التدريس مع العزلة والانجماع عن الناس إلى أن توفي سنة ألف وثلاثماية واثنتي عشرة وعمره ثمان وستون عاما ، ودفن بتربة الشعلة ظاهر باب المقام. وخلف ثلاثة أولاد أحدهم وهو أكبر أولاده صديقنا العالم الفاضل الشيخ محمود السنكري الذي هاجر سنة ١٣٤٣ إلى الديار المصرية ولم يزل فيها إلى الآن.

١٢٨٥ ـ محمود أفندي الجزّار المتوفى سنة ١٣١٤

محمود أفندي ابن الوجيه الفاضل أحمد آغا الشهير بالجزّار ، وقد قدمنا في ترجمة والده

٤٢٨

سبب اشتهار هذه العائلة بذلك ، وكانت تعرف ببني السيّاف.

ولد رحمه‌الله سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين ، ولما بلغ سن التمييز شرع في القراءة والكتابة ، ثم تلقى مبادىء العلوم على علماء عصره ، منهم شيخ محلته الشيخ عمر الطرابيشي ومدرس المدرسة الأسدية الشيخ عبد المعطي النحيف. ثم شرع في تلقي العلوم الروحانية والفلكية على والده الذي كانت له اليد الطولى في هذه العلوم والشهرة الواسعة كما ألمعنا إلى ذلك في ترجمته. ثم إنه بعد وفاة والده أكب على المطالعة فيها وفي تلك الكتب التي آلت إليه من والده ، إلا أنه لم يصل إلى الدرجة التي كان عليها والده ولم تحصل له تلك الشهرة.

ومن مناقبه في هذا الشأن ما حدثني به الشيخ عبد الله المعطي أنه كان له أخ يقرأ هو والمترجم بعض العلوم الفقهية على والده الشيخ عبد المعطي ، فأراد المترجم أن يعلّم أخا الشيخ عبد الله شيئا من هذه العلوم ، وباشر في ذلك ، فلم تمض مدة وجيزة إلا واعتراه الجنون ، وبقي على ذلك إلى أن توفي. وكان جالسا مرة مع الشيخ عبد الله ، فأخذ ورقة وكتب فيها حروفا لا تفهم ودق الورقة بمسمار ، فصارت الورقة تدور ، فأمسكها الشيخ عبد الله بيده وقال له : ناشدتك الله أن تكف عن ذلك ، فإني أخاف على نفسي وأخشى أن يصيبني ما أصاب أخي ، فأمسك عندئذ. والشيخ عبد الله لا زال إلى هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ في عداد الأحياء.

وتولى المترجم صندوق المالية في ولاية حلب في أيام واليها ناشد باشا وفي أيام واليها جميل باشا ، ولم يكن توليته لهذه الوظيفة عن طلب أو توسل منه ، غير أن هذه الوظيفة كان يعين لها من اتصف بالدراية والاستقامة والأمانة ، ولاجتماع هذه الخصال في المترجم دعي إلى توليتها وألح عليه في قبولها.

وفي أيام ولاية جميل باشا كان حسام الدين أفندي القدسي رئيسا للمجلس البلدي ، فاتهم بالتواطؤ والاتفاق مع المترجم على مناهضة جميل باشا والقيام ضده لما كان يجريه من الأعمال الاستبدادية ، وطبعا إن ذلك لم يرق في عين جميل باشا ، وكان ممن لا يألو جهدا بالبطش بمن رام معارضته في أعماله ومعاكسته في مقاصده ، فاتهم المترجم بالخيانة في صندوق المالية ، في حين أن جميل باشا هو الذي كان يشتري بواسطة بعض الصيارف الذين وضعهم تحت يده السندات التي كانت تعطى بيد المأمورين الملكيين والعسكريين.

٤٢٩

وبعد أن حوكم في حلب حولت محاكمته بطلب منه إلى ولاية بيروت ، وهناك تبينت براءته مما نسب إليه ، فعاد إلى حلب وهو ناصع الجبين ، ومن ذلك الحين لزم بيته وعكف على المطالعة فيما لديه من نفائس الكتب التي اقتناها بنفسه والتي آلت إليه من والده. ثم إنه في شوال من سنة ١٣١١ وقف هذه الكتب ويبلغ عددها ثمانمائة وثمانية وسبعين كتابا والآلات الفلكية وهي أربع وثلاثون قطعة ووضعها في الجامع الكبير ، وجعل القيم عليها شيخنا الشيخ أحمد المكتبي ، وجعل له لقاء قيامه بذلك سكنى دار من دور وقفه في محلة قلعة الشريف ، وبقي ساكنا فيها إلى أن توفي في التاريخ الآتي في ترجمته. وهذه المكتبة نقلتها إدارة الأوقاف إلى المدرسة الخسروية سنة ١٣٤١ ، وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ نقلتها إلى المدرسة الشرفية وراء الجامع الكبير حيث اتخذت فيها مكتبة عامة تجمع شتات الكتب المتبعثرة في المدارس والزوايا.

نفائس المخطوطات في هذه المكتبة :

(في علم الحديث) : «مشارق الأنوار» للصغاني. «الحلية» لأبي نعيم في ثلاثة أجزاء. «الحلية الصغيرة» لأبي نعيم في جزئين. «العمدة» للإمام المقدسي في جزء.

«سيرة ابن سيد الناس» في جزء. «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» في جزء.

(في علم الفقه) : «مجمع البحرين» في ثلاثة أجزاء. «الوافي» للإمام النسفي.

«كتاب الخراج» لأبي يوسف.

(في الفقه الشافعي) : «كتاب التمهيد» للأسنوي. «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» للقرشي.

(في التصوف) : «عوارف المعارف» للإمام السهروردي. «الميزانية الخضرية الموضحة لجميع الفرق الإسلامية».

(في التاريخ والأدب) : «طبقات الشافعية للأسنوي». «طبقات الأولياء» للسخاوي. «شرح قصيدة عبد الله الحجازي» للشيخ شعيب الكيالي. «المختار من نوارد الأخيار» للمقري. «روض الأنس» للنيسابوري. «سبائك الذهب في أنساب العرب». «تراجم الأدباء». «الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل».

٤٣٠

(في كتب النحو) : «شرح اللباب» لابن هشام. «شرح الأنموذج» للزمخشري.

(في كتب الدواوين) : «ديوان الجعبري».

وفي قسم المجاميع عدة مجاميع يطول الكلام لو أتينا على ما فيها من الرسائل المخطوطة.

وأما كتب الهيئة والفلك والزيج فهي فيها كثيرة وهي أغنى مكتبة في الشهباء في هذه العلوم وفي الآلات الفلكية.

ثم إن المترجم مرض أياما ، وكانت وفاته في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وأربع عشرة ودفن عند والده في التربة الخاصة بهذه العائلة بين تربة الصالحين والشيخ السفيري.

وكان رحمه‌الله مع مزاياه العلمية دمث الأخلاق حسن الصداقة سليم الاعتقاد ملازما للصوات محبا للعلماء وخصوصا لشيخنا الشيخ أحمد المكتبي.

وكان طويل القامة ممتلىء الجسم أبيض اللون ذا شيبة نيرة ، تردى برداء الحشمة وتحلى بالوقار ، مع عقل ودهاء وفطنة وذكاء ومعرفة بالزمن وخبرة بأهله ، رحمه‌الله تعالى وأغدق على جدثه صيب إحسانه وسحائب غفرانه.

١٢٨٦ ـ الشيخ إبراهيم بن محمد اللبابيدي المتوفى سنة ١٣١٤

الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم اللبابيدي الحلبي الأعزازي الأصل ، انتقل جده من أعزاز إلى حلب فتوطنها.

ولد سنة ١٢٣٤ ، وقرأ بعد أن جاوز العشرين من العمر على الشيخ أحمد الحجار وهو الذي شوق له تحصيل العلم ، ثم على الشيخ أحمد الترمانيني حضر عليه عشر سنوات في علوم شتى ، وكان مقربا لديه ، وكان يخدمه في قضاء حوائج بيته.

وأخذ الطريق على الشيخ محمد اليماني الجسري المتقدم الذكر ، وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ بهاء الدين الرفاعي ، والدسوقية والبدوية عن الشيخ بكري الزبري مفتي حلب ، وقرأ عليه في النحو والتفسير والأصول.

٤٣١

وكان رحمه‌الله عالما فاضلا صالحا قليل الاختلاط بالناس مؤثرا للعزلة ، درس في الجامع الأموي مدة طويلة إلى أن توفي.

وكان لا يتعاطى شرب الدخان ويذهب إلى تحريمه ، وكاد لا يخلو درس من دروسه من التنديد بشاربيه ، ويحرض الناس كثيرا على تركه ، وقد تركه أشخاص كثيرون ممن حضروا مجالس وعظه.

وفي عنفوان شبابه كان يرحل كل سنة إلى بلدة الباب وغيرها ويقرأ دروسا هناك. وكان يدور بين العشائر ويجهد في تعليمهم ما ينتفعون به من أمور دينهم من أحكام الصلاة والصيام والزكاة والعقائد ويعظهم ويرشدهم.

ونظم «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام الغزالي في أربعة آلاف بيت وسماه «القول المتين في اختيار مسائل من كتاب إحياء علوم الدين» ، وشرحه في أربعة أجزاء وسمى الشرح «الضياء المبين شرح القول المتين» فرغ منه سنة ١٣٠٨ ، وأول النظم :

ببسم الله حقّ الإبتداء

وحمد الله كان به الثناء

وصلى الله مولانا وسلم

على المختار من به الاقتداء

وأول الشرح : الحمد لله ملهم الصواب ومنزل الكتاب ومرسل الرسل لجلب الخلق لعبادته إلخ ، رأيته عند ولده الشيخ محمد. وفي نظمه تكلف بيّن وركاكة ظاهرة ، لأن المترجم لم يكن فيه قريحة فطرية ولم يمارس صناعة النظم والنثر حتى تنقاد له المعاني والمباني ، لذا لم تصعد هذه المنظومة إلى الدرجة الوسطى من الشعر.

وله «التحفة المرضية الحاوية للمسائل الفقهية» منظومة اختصرها من كتاب «التنوير» للعلامة التمرتاشي وشرحها ، وأول النظم :

يقول راجي اللطف والتكريم

الخاضع المدعو إبراهيم

وله كتاب «المدد المجدد والقول المسدد» شرح «البرهان المؤيد» له أيضا ، وهو في مجلد أوله : الحمد لله رافع مقام الأولياء إلى أعلى عليين ، ومانح عباده المتقين أنواع اليقين. فرغ من تأليفه سنة ١٣١٣.

ولم يزل رحمه‌الله على سكونه وورعه وزهده وانجماعه عن الناس وتعبده وتهجده

٤٣٢

والعناية بالوعظ والإرشاد إلى أن توفي في صفر سنة ١٣١٤ ودفن في تربة الشيخ جاكير خارج باب المقام.

١٢٨٧ ـ يحيى أفندي مفتي أنطاكية المتوفى سنة ١٣١٤

الشيخ يحيى أفندي مفتي أنطاكية ، عالم زمانه وإمام أهل وقته وأوانه.

ولد سنة ١٢٣٠ تقريبا ، ومنذ نشأ أقبل على العبادة والطلب ، فبرع وفاق ، واشتهر في الآفاق ، وتفنن في العلوم ، وبرع في فنّي المنطوق والمفهوم ، وأقبل الناس عليه ، للاستفادة منه والنظر إليه. وأخذ عن مشايخ ذوي رتب سامية ، أسانيدهم في الأخذ عالية. ولما رأوا منه المعرفة التامة ، أجازوه بالإجازة العامة. ثم ولي منصب الإفتاء بأنطاكية ، وله بإقليمها شهرة عالية ، وله معرفة بالسياسة قوية ، ومهارة بالألسنة الثلاث العربية والتركية والفارسية. ونظره في الأمور دقيق ، مقصود في الاستشارة لكل بعيد أو قريب أو عدو أو صديق.

وفي سنة ثلاثمائة واثنتين بعد الألف جاء إلى حلب جميل باشا واليا عليها ، وكان له شدة عظيمة على أهل الرئاسة في حلب وما يتبعها من بقية الولاية ، فاضطر المترجم أن يخرج من محله وأن يخرج من الولاية ، فرحل إلى دمشق واتصل برؤوسها وولاتها وأكابرها وذواتها.

وله محاضرة عجيبة وحافظة غريبة ، فكثيرا ما كان يستشهد تارة في العربية وتارة في التركية وتارة في الفارسية بأبيات لطيفة رقيقة ذات معان أنيقة. وله حكايات ونوادر تشهد له أنه في الأدب له المقام النادر ، ومعرفته في الشطرنج حظها وافر ، فكان كثيرا ما يلعب به مع الحكام والأكابر. وكانت لي معه الصحبة الوافرة والمحبة المتكاثرة ، والمباحثة والمذاكرة والمسامرة والمحاضرة. وقد أخبرني بأنه ولد في الشام حين كان أبوه بها مستقيما ، ثم عاد به أبوه إلى وطنه المذكور. ثم إنه لا زال في الشام يعلو مقامه وينمو احترامه ، إلى أن وقع بينه وبين حسين فوزي باشا بعض منافرة ، وكان قد عزل جميل باشا من حلب ، فرجع إلى وطنه وذلك سنة ألف وثلاثمائة وخمس أطال الله بقاه. ا ه. (حلية البشر للبيطار). أقول : كانت وفاته كما كتب لنا من أنطاكية أول ليلة من رمضان سنة ١٣١٤ عن اثنين

٤٣٣

وسبعين عاما ، فتكون ولادته على التحقيق سنة ١٢٤٢ ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٨٨ ـ الشيخ علي ابن الشيخ هاشم الطبّاخ المتوفى سنة ١٣١٦

الشيخ علي ابن الشيخ هاشم الطبّاخ ، عمي شقيق والدي.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٥٦ ، وهو أصغر أولاد سيدي الجد. حصّل جانبا قليلا من العلم على والده وعلى العلامة الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، ثم أخذ في التجارة في صناعة الطبع المسماة بالبصمجي كوالده وأخويه ، بقي فيها إلى سنة ١٣٠٠ ، ففيها سلّم أشغاله لولده الكبير ولزم بيته مكبا على مطالعة كتب الصوفية مكثرا من التلاوة والتعبد والتهجد. وكان يحفظ كثيرا من السور القرآنية فكان يتلوها أواخر الليل.

وكان أخذ الطريقة الخلوتية القادرية على الشيخ إبراهيم الهلالي ، وبعد وفاته لزم ولده الشيخ مصطفى الهلالي. وكان حينما يذهب إلى الزاوية الهلالية لحضور الذكر بعد عصر كل جمعة يلبس العرف (هو عمامة كبيرة بيضاء) واختلى مع الشيخ المذكور الخلوة الأربعينية عدة مرات. وفي نواحي سنة ١٣١٠ خلّفه وأذن له بإقامة الذكر والإرشاد ، فكان يقيم الذكر في مسجد الروضة الذي جدّد بنيانه قبل ذلك بسنوات في المحلة المعروفة بسراي إسماعيل باشا ، وصار له بعض مريدين ، وكان ساكنا في دار أمام المسجد المذكور ، وكان يقرأ للمرضى فيشفى الكثير منهم بإذن الله تعالى. وتيقن الكثير بركة يده فكان للناس فيه مزيد الاعتقاد.

ولم يزل على هذه الحالة من الاستقامة في الأقوال والأفعال والعزلة والتعبد وملازمة الذكر إلى أن توفي في الخامس والعشرين من رمضان سنة ١٣١٦ بعد مرض ألم به أياما قلائل ، ودفن في تربة السنيبلة خارج باب أنطاكية بين قبور أسرتنا ، وأسف عليه كل من عرف صلاحه وتقواه ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٨٩ ـ الشيخ أحمد البابي الحلبي ثم المصري المتوفى سنة ١٣١٦

أحمد بن عمر البابي الحلبي ثم المصري.

ولد رحمه‌الله في بلدة الباب ، ولذا سمي البابي نسبة إليها. وبعد أن تلقى القراءة والكتابة

٤٣٤

ومبادىء العلوم في بلدته انتقل إلى حلب ولازم العلامة الكبير الشيخ أحمد الترمانيني.

ثم رحل لمصر ودخل الأزهر وجدّ هناك في التحصيل على علماء وقته ، منهم العلامة الشيخ محمد الأنبابي قرأ عليه الفقه وبعض العلوم العقلية ، ومنهم شيخ المشايخ الشيخ محمد الخضري الدمياطي قرأ عليه علم الحديث. ولم يزل مجدا في التحصيل حتى تأهل للتدريس في الأزهر فكتب في زمرة علمائه وصار يدرس فيه ، فقرأ شرح ابن عقيل بحاشية السجاعي وكتب عليها تقريرات تنبىء عن تفوقه ، وطبعت هذه التقريرات سنة ١٣٢٥.

وكان رحمه‌الله حسن المحادثة كريم الأخلاق ، لا ترى فيه أثرا من آثار الكبر والعظمة مع ما كان عليه من الثروة الطائلة التي حصلها بطبع الكتب والتجارة ، وإذا حادثته لا تمل من حديثه مع دين متين واستقامة في المعاملات.

وحج عدة مرات ، وزار المدينة المنورة على صاحبها أفضل السلام وأزكى التحية ، ولما رأى حالة الغرباء فيها وقف على أربعين رجلا من فقراء المدينة المشتغلين بطلب العلم ، ووقف على الفقراء العجزة الملازمين في حضرة السيد أحمد البدوي ، ووقف أوقافا أدخل فيها زوجتيه وإن كن متزوجات ، ووصل في أوقافه رحمه بهبات وافرة رحمه‌الله تعالى.

وكان شروعه في التجارة في الكتب وطبعها في سنة ١٢٧٦ ، فوفق لنشر الكثير منها ، ومنها ما أصبح الآن في حكم المخطوطات لندرتها ، منها تفسير «الدر المنثور» للجلال السيوطي في ستة مجلدات ، و «إتحاف البشر في القراءات الأربعة عشر» ، و «المكرر فيما تواتر في القراءات السبع وتحرر» ، و «منار الهدى في الوقف والابتدا». وطبع في علم الحديث «شرح القسطلاني على صحيح البخاري» ، في عشرة مجلدات ، و «مسند الإمام أحمد بن حنبل» في ستة مجلدات ، و «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» في خمسة مجلدات ، و «صحيح البخاري» ، و «سنن النسائي». وفي الفقه الشافعي «حاشية الجمل على المنهج» في خمسة مجلدات ، و «شرح الروض» لشيخ الإسلام في أربعة مجلدات ، و «شرح العمدة» في مجلدين ، و «فتح الجواد في شرح الإرشاد» في مجلدين. وفي مذهب مالك «الخرشي على خليل» في خمسة مجلدات ، و «الدسوقي على خليل» في أربعة مجلدات. وفي علم التصوف «شرح الإحياء» للزبيدي في عشرة مجلدات ، إلى غير ذلك من الكتب التي لو استقصيت لطال الكلام. وذلك ولا ريب يدلك على علو همته وأن

٤٣٥

له الفضل الكبير في سعيه في إبراز هذه الآثار إلى عالم المطبوعات ، وقد خدم في ذلك العالم الإسلامي خدمة جليلة ، فجزاه الله عن أعماله المبرورة ومساعيه المشكورة خيرا.

وما زال ذلك دأبه وتلك طريقته ، مع كرم نفس وحسن أخلاق ويد مطلقة في سبيل البر والإحسان إلى أن توفي في مصر سادس ربيع الأول سنة ١٣١٦ ، رحمه‌الله تعالى وأمطر على جدثه صيّب العفو والرضوان.

١٢٩٠ ـ الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب المتوفى سنة ١٣١٦

الشيخ أحمد ابن الشيخ عقيل ابن الشيخ مصطفى بن أحمد بن عبد الله بن مصطفى العمري الشهير بالزويتيني ، ينتهي نسبه على ما رأيته في عمود النسب المحفوظ لديهم إلى أبي حفص عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

ولد رحمه‌الله في شعبان سنة ١٢٤٦ ، ولما ترعرع قرأ على والده وعلى الشيخ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني وعلى الشيخ صالح الصيجلي في العثمانية. وظهرت عليه من حين نشأته أمارات النجابة والنبالة ، وما زال مجدا في التحصيل عاكفا على المطالعة حتى مهر وبهر ، وأجازه والده إجازة عامة صادق عليها الأستاذ الترمانيني.

وأخذ في التدريس في المدرسة الأحمدية في الفقه الحنفي وفي البهائية وفي الجامع الكبير ، فأعرب عن علم جم واطلاع واسع مع حسن تقرير وفصاحة لسان يعيه كل سامع ، ولا زال بعض من كان يحضر دروسه يحدث عنه ويطنب في ذلك مزيد الإطناب. وبالجملة فقد كان رحمه‌الله جبلا من جبال العلم وحسنة من حسنات الشهباء صارت تتيه به فخارا وتزين به جيد ذلك العصر. وكان له اليد الطولى في سائر العلوم المنقولة والمعقولة. وأما الفقه الحنفي وعلم التفسير فكان إليه فيهما المنتهى وهو المرجع في الشهباء.

تولى أمانة الإفتاء تسع سنوات ، ثم لما عزل الشيخ بكري أفندي الزبري من إفتاء حلب عين بدله ، وذلك سنة ١٣٠٤ ، وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي.

وصار متوليا على وقف المدرسة الشعبانية من سنة ١٢٨١ إلى حين وفاته أيضا ، وعمر في وقفه طاحونا كان خرابا واثنين وعشرين دكانا وخانين ، فحسنت واردات المدرسة

٤٣٦

وعمرت بالدروس والطلاب وقتئذ. وبعد أن تولى الإفتاء انجمع عن الناس وترك الاجتماع بهم ، بل وما كان ليذهب إلى مجلس الإدارة مع أنه عضو طبيعي فيه على حسب نظامات الدولة العثمانية ، وكانت ترسل إليه الأوراق فيوقع على ما شاء منها ، وامتناعه عن الذهاب كان تورعا منه رحمه‌الله.

وأقبل على العبادة في الجامع الكبير وفي بيته. وكان يحفظ دلائل الخيرات فكان يقرؤها في كل يوم مرة أو عدة مرات ، ويكثر من التلاوة أيضا ، ويصلي التراويح بجزء من القرآن في الحجازية التي في الجامع الكبير يؤم به الحافظ الشهير الشيخ محمد النيّال. ولم يكن فيه ما يعاب به سوى حدة في مزاجه حصلت له لما آثر العزلة على الاجتماع ، وقد كان على ما بلغني حسن العشرة كثير الانبساط.

ومن مزاياه رحمه‌الله أنه صادق الود لا يعرف التلون ويكره ذلك أشد الكره ، حسن النصح ثاقب الرأي ، علم ذلك منه من خالطه وعاشره.

ووضع شرحا على «الطريقة المحمدية» في مجلدين ، وحاشية على كتاب «نزهة الناظرين» في مجلد ضخم ، وشرح «دلائل الخيرات» و «بداية الهداية» للغزالي في مجلد ، وشرح «المراح» و «الأمثلة» ، وله رسالة في التوحيد والفتاوي التي أفتى بها في هذه المدة.

وقبل وفاته ترك التدريس لضعف ألم في جسمه كان يحول بينه وبين مطالعة دروسه ، غير أنه زاد في الإقبال على التعبد والتلاوة على ما قدمنا.

وما زال على ذلك إلى أن توفي في شعبان سنة ١٣١٦ ودفن في تربة السفيري خارج باب المقام ، وكانت له جنازة مشهودة حضرها الخاص والعام ، وكان الأسف عليه كثيرا لفقد الناس به ركنا عظيما من أركان العلم في الشهباء وعلما من أعلامه.

وكان أمينا للفتوى في عهد ولايته الإفتاء شيخنا الشيخ محمد الزرقا وشيخنا الشيخ محمد الجزماتي ، وكاتب الإفتاء الشيخ كامل الموقت ، وناهيك بهؤلاء علما وفضلا.

وأرّخ وفاته الشاعر الشهير الشيخ محمد الوراق بأبيات نقشت على لوح قبره ، وقد أعطاني ولده الشيخ مصطفى الورقة التي فيها الأبيات بخط الوراق وتوقيعه وهي :

جدث به حل الهمام الأوحد

كنز التقى والمكرمات السيد

٤٣٧

إن عد أهل الفضل في شهبائنا

فعليه في الفتوى الخناصر تعقد

لا زال غيث العفو يغشى قبره

ما الليل عسعس أو أضاء الفرقد

فلكم إلى سبل الهدى أرّخ هدى

في جنة الفردوس يرقى أحمد

١٩ ـ ٥٤٣ ـ ٣٨١ ـ ٣٢٠ ـ ٥٣

١٣١٦

الكلام على المدرسة الشعبانية :

قد مر ذكر هذه المدرسة في غير موضع من تاريخنا ، وحيث إن المترجم رحمه‌الله كان متوليا على وقفها وإدارة شؤونها وبقي في ذلك خمسا وثلاثين سنة كما قدمناه في صدر الترجمة رأينا من المناسب أن نتكلم عليها هنا فنقول :

هذه المدرسة بناها شعبان آغا بن أحمد آغا المأمور لتحصيل الأموال في حلب ، ففي ديوان الشاعر الأديب مصطفى البابي ما نصه : وقال يمدح شعبان آغا المحصّل حين بنى المدرسة الشعبانية سنة ١٠٨٥ ، وقد وجد في بعض قوافي هذه القصيدة سناد الردف وهو مغتفر للمولدين أيضا :

إذا المرء وفّق في حدسه

أفاق وحل عرى لبسه

وثاب لتطهير أوزاره

ودحض الذي كان من رجسه

وأيقن أن متاع الحيا

ة نقش فلابد من طمسه

وأن ليس للمرء من ماله

سوى ما يرجّى إلى رمسه

ومن ضن بالمال خوف الخطوب

أعان الخطوب على نفسه

وأن السعيد الذي يومه

إلى الخير أقرب من أمسه

وذو اللب من نال حسن الثناء

إذا الدهر أخفى صدى جرسه

ومن رفعت فيه أيدي الدعا

إذا الدهر طأطأ من رأسه

فأنعم ما كان في بؤسه

وأسعد ما كان في نحسه

ومعيار عقل الفتى صنعه

به يظهر الحمق من كيسه

ليهن المحصّل شعبان ما

أصاب المحزّة في هجسه

همام هو الغيث في بذله

على أنه الليث في بأسه

٤٣٨

رأى أن ذي الدار دار الفنا

وكلا سيكرع من كأسه

وأيقن بالأجر إيقان من

يراه ويطمع في لمسه

فجدّ وحصّل من دهره

مآثر تبقى على رأسه

بنى مكتبا نور فرقانه

يعير النهار ضيا شمسه

ومدرسة لاقتباس العلوم

بها يجتنى العلم من غرسه

وجامع أنس بإشراقه

يكاد يجلّى دجى دمسه

فهذا يرتل قرآنه

وهذا مكبّ على درسه

وآخر منتصب للصلا

ة يلتمس الفوز في خمسه

فيا لك من جامع جامع

وجوه المبرات في أسه

ومنتجع للتقى نوعت

فضول العبادة من جنسه

وسوق تجارته لن تبور

يجل به البيع عن بخسه

فلله بانيه من غارس

جنى ثمر الفوز من غرسه

سينظر آثار ما قدمت

يداه وسطّر في طرسه

فوفقه الله للصالحات

ورد النوائب عن نفسه

وعوضه بعض عمر النسور

بقرب الحضائر من قدسه

وذكر الواقف في كتاب وقفه التركي المترجم إلى العربية بقلم صديقنا الأديب الوجيه سامح أفندي العينتابي شقيق الوجيه أسعد أفندي أنه اشترى العرصة الخالية الواسعة الأنحاء من جانبولاد زاده محمد بك الكائنة في محلة الفرافرة وبنى فيها مسجدا بديعا من الحجر عليه قبة عالية جسيمة ، وبنى فيها مدرسة من الحجر ذات قبة عالية لتقرأ فيها مباحث العلوم والفنون ، قال : وشيدت رواقا شرقيا ورواقا غربيا وداخلهما تسع وعشرون حجرة ، وخصصت هذه الحجرات لسكنى طلبة العلم الشريف ، وفرشت صحن المسجد المذكور بالحجر المرمر ، وجعلت في وسطه حوضا عشرا بعشر ذا صفة أنيقة من المرمر ، وزينت ثلاثة أطراف هذا الحوض الكبير بحدائق على أن يجري إليها الماء من قناة حلب باستحقاق مقرر ، وبنيت مكتبا لطيفا للأهالي المسلمين خارج هذه العرصة (هو جنوبي المدرسة ولم يزل مكتبا يتعلم فيه القراءة ومبادىء الكتابة).

ثم ساق ما وقفه على مصالح المدرسة من الأوقاف ، وشرط التولية لأرشد عصباته ثم

٤٣٩

لأرشد ذوي الأرحام ثم لمن تربع على سرير الإفتاء من المفاتي الحنفية بحلب ، وأن يعطى للمتولين مئتا أسدي ويعطى للمفاتي ما تنقل التولية إليهم مائة أسدي وذلك في كل سنة.

واشترط أن يقيم بالمدرسة رجل فاضل متضلع بالعلوم معروف بالزهد والصلاح ، وألا يكون مسقط رأسه ومرباه في إيالة حلب ، بل يكون آتيا من ديار أخرى ، وأن يكون ماهرا بالفنون العقلية فيقرأ للطلبة في كل صباح الفنون العقلية ويعطى له شهريا ٨ قروش أسدية ، وأن يقطن في الحجرات ثلاثون رجلا من الصلحاء بهم قابلية واستعداد للتحصيل ومجدون في طلب العلم على ألا يكون مسقط رأسهم ومحل نشوهم في إيالة حلب بل يكونون من بلدان أخر (١). وبعد أداء صلاة الصبح من كل يوم يجتمعون في المسجد ويتلو كل واحد جزءا مستقلا من القرآن العظيم. واشترط كاتبا لضبط إيراد الأوقاف ومصاريفها وجابيا يستوفي ريعها وغلاتها إلى غير ذلك من الوظائف واللوازم للمسجد والمدرسة والمكتب. ثم قال : حرر في منتصف شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وألف. ا ه.

ولم أقف على أول من تولى التدريس فيها ، لكني رأيت في أول حاشية العلامة الشيخ محمد المرعشي الملقب بساجقلي زاده على قول أحمد والخيالي على شرح السعد للعقائد النسفية ما نصه : لما وليت تدريس الشعبانية بحلب المحروسة في قريب من تمام ألف ومائة من الهجرة إلخ. ويظهر من هذا أنه ثاني من تولى التدريس فيها.

وبعد وفاة المترجم صار المتولي عليها ولده الشيخ مصطفى ، بقي من سنة ١٣١٦ إلى سنة ١٣٣١ ، ففيها أتى إلى حلب أحمد جودة أفندي من أهالي بروسة مستصحبا امرأة هرمة تسمى خديجة وادعى أن هذه المرأة وأخاها الغائب حمدي أفندي هما من ذرية الواقف وأنهما المتوليان على هذه المدرسة بمقتضى شرط الواقف. وطال أمد المحاكمة والمرافعة بينهما لدى قضاة حلب إلى سنة ١٣٣٨ ، ففيها استرضي الشيخ مصطفى بدفع مائتي ليرة وعشرين ليرة عثمانية ذهبا لقاء ما وضعه من مصاريف المرافعة في تلك المدة ، وعندئذ تنازل الشيخ مصطفى عن التولية وحكم بها لهذه المرأة ولأخيها وبالوكالة عنهما لأحمد جودة المذكور.

ومن حين استلامه للوقف وللمدرسة قطع معلوم المجاورين والمدرسة بحجة أنه يريد تطبيق شرط الواقف المشعر بأن مجاوري المدرسة ومدرسها يلزم أن يكونوا من الغرباء ،

__________________

(١) أصاب الواقف في قوله : بهم قابلية واستعداد إلخ وأخطأ في قوله : على ألا يكون مسقط رأسهم في إيالة حلب.

٤٤٠