إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

١١٠٢ ـ الشيخ محمد البصيري المتوفى سنة ١١٨٠

له ترجمة موجزة في تاريخ المرادي ، وترجمه تلميذه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعاد» ترجمة طويلة فقال :

ومنهم (أي من مشايخه) شيخنا وبركتنا شيخ الإقراء وخاتمة القراء ، القدوة الصالح والمعلم الناصح ، إمام القراءات السبع والعشر ونخبة الأوان والعصر ، مقلد أعناق الطالبين درر القلائد ، وناشر أعلام الإفادة على الراغبين بنثر الفوائد ، من اجتباه الله لحفظ القرآن ، واصطفاه لتعليمه بالتحبير والضبط والإتقان ، الفاضل المحقق المقرىء الشيخ محمد الشهير بالبصيري ابن مصطفى بن حسين بن مصطفى بن حجيج بن موسى الخطيب ، التل حاصدي مولدا ، الحلبي وطنا ، الشافعي مذهبا رحمه‌الله تعالى.

ولد سنة إحدى بعد المائة وألف ، وشهرته بالبصيري لكف بصره ، فقد كف وعمره خمس سنين ، غير أنه كان يعرف الضوء والأبيض والأحمر كما حققته من لفظه. وأصله من تل حاصد : قرية من قرى حلب. ورحل إلى دمشق عام أربعين ومائة وألف فأخذ القراءات السبع بمضمن الشاطبية والتيسير عن الشيخ علي كزبر بقراءته على الشيخ أحمد الأزهري الشهير بأبي قنب ، وهو عن العلامة الشيخ محمد البقري بسنده. وأخذ أيضا عن شيخنا وصديقنا الشيخ إبراهيم الشهير بالحافظ ابن الشيخ عباس بقراءته على السيد أسعد ابن المنير الدمشقي وهو عن شيخ الإسلام أبي المواهب الحنبلي بسنده. وقرأ هو والشيخ إبراهيم طريق العشرة بمضمن الدرة على العلامة الشيخ مصطفى الأزهري المصري الشهير بالعم ، ثم قرأ عليه أيضا طريق الطيبة عام أربعة وأربعين في رحلته الثانية بقراءته على أبي المواهب والشيخ محمد البقري. وأخذ أيضا عن الشيخ الفيومي المصري بقراءته على أبي المواهب والشيخ علي المنصوري عن الشيخ سلطان المزاحي رحمهم‌الله تعالى.

وقد برع ومهر وتقدم على أقرانه وعاد إلى مدينة حلب بنية إحياء هذا الفن بها ، وقد حقق الله رجاءه فجد في الاجتهاد وأقرأ وأفاد ، وانتفع به خلق لا يحصون كثرة ، وأحيا القراءات بعد إماتتها ، ونشرها وأظهرها بعد إضاعتها ، فجزاه الله تعالى عن الإسلام خير الجزا ، وأناله الفردوس في دار الجزا.

وقد حفظت عليه نصف الشاطبية أوائل قدومي إلى حلب ، وقرأت سورة البقرة إفرادا

٤١

وجمعا لأهل سما ولم يتيسر لي الإكمال ، ولكن قد من الله تعالى على ولدي عبد الله بقراءة هذا الفن عليه ، فشرع في غرة سنة خمس وسبعين ومائة وألف فقرأ عليه أولا ختمة كاملة برواية حفص عن عاصم بقصد التجويد والضبط مع حفظ الشاطبية ، ثم شرع في الإفراد والجمع فجمع عليه القرآن العظيم من أوله إلى آخره للأئمة السبعة قراءة تحقيق وإتقان ، وأجازه بالقراءة والإقراء وأمر له بكتابة إجازة ، ثم قرأ عليه بعد ذلك ختمة برواية قالون عن نافع ، ثم شرع في ختمة أخرى برواية ورش عنه حتى وصل إلى آخر سورة النساء ، فأشار عليه الشيخ بالجمع مرة أخرى فقرأ عليه ختما كاملا جمعا للأئمة السبعة أيضا ، ثم أمره بختم ثالث جمعا أيضا فوصل فيه إلى سورة يوسف ، فمرض نيفا وخمسين يوما ، وتوفي إلى رحمة الله تعالى بعد ظهر يوم الأحد الثاني عشر من شهر ذي الحجة الحرام سنة ثمانين ومائة وألف عن ثمانين سنة.

وكان رحمه‌الله تعالى كثير الصيام وملازمة الطاعة والقيام ، مع الورع والزهد والتقوى والسخاء والجود والإكرام. وكان حليما لطيفا رفيقا ناصحا.

١١٠٣ ـ نعمة اللبقي المتوفى سنة ١١٨٠

نعمة بن عمر بن عبد القادر الشريف لأمه الحنفي البغدادي الحلبي المعمر الشهير بابن الباشا.

كان جده المذكور من أمراء الدولة العثمانية أرسلته إلى الحبشة واليا فتوفي هناك ، وهذا سبب شهرتهم بالباشا.

مولده سنة ستين بعد الألف. كان يتعاطى التجارة بخان الكتّان بحلب ، له وجاهة في الناس نير الوجه واللحية حسن الثياب طويل القامة ذا شكل ظريف. قدم جده من بغداد ، يكنون (١) ببني اللقماني وباللبقي.

توفي صاحب الترجمة نهار الأربعاء حادي عشر ذي القعدة سنة ثمانين وماية وألف ، ودفن خارج باب المقام في مقابر الصالحين. ا ه.

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعل في الكلام نقصا.

٤٢

أقول : إن بنت المترجم هي الحاجة صالحة كانت زوجة للمحسن الشهير الحاج موسى الأميري المتقدم قريبا ، وقد تقدم ذكرها في ترجمته وأنها كانت من المحسنات أيضا.

١١٠٤ ـ أحمد بن محمد الحافظ المتوفى سنة ١١٨٠

أحمد بن محمد الحافظ الحلبي الحنفي أمين الكتب الموقوفة بمدرسة الوزير عثمان باشا بحلب. عالم فاضل عامل كامل.

مولده سنة إحدى ومائة وألف. وكان في صباه يعاني صنعة المخمل في بيته بمحلة جقورجق ببانقوسا. وكان إماما بمسجد الشيخ عثمان بالمحلة المذكورة وله درس تحضره الأفاضل. أخذ عن جهابذة أعلام منهم العلامة عبد الله أفندي البخشي وأخوه العلامة إبراهيم أفندي البخشي والشيخ خضر المصري نزيل بانقوسا ، وانتفع به كثيرون.

ثم لما بنى المدرسة المذكورة الوزير المشار إليه ارتحل من المحلة المذكورة وسكن بالقرب منها ولازم مدرسها العلامة محمود أفندي الأنطاكي وانتفع به كثيرا وقرأ عليه دهرا طويلا. وحج وقد ناهز الثمانين. ا ه.

أقول : يظهر أنه توفي حول سنة ١١٨٠ بقليل. ويستفاد من هذه الترجمة أن من جملة الصناعات التي كانت في حلب صناعة المخمل ، ويؤيد ذلك أنه لازال في الشهباء عائلتان إحداهما مسلمة والأخرى مسيحية ويلقب كل منهما ببيت المخملجي. سألت التاجر ميخائيل المخملجي وهو عميد العائلة المسيحية عن نسبتهم هذه أهي لصنعة هذا الصنف أو لبيعه ، فأفادني أن جدته كانت تحدثه أن أباها كان يتعاطى هذه الصنعة في حلب ، فعلى هذا تكون هذه الصنعة قد تعطلت هنا منذ نحو مائة وخمسين عاما من حين أن صار هذا الصنف يأتي من البلاد الغربية.

١١٠٥ ـ يوسف بن أحمد الجابري المتوفى سنة ١١٨٠

يوسف بن أحمد الحلبي الحنفي الشهير بالجابري ، مدرس بالإسكندرية خارج باب الجنان باعتبار موصلة الصحن المتعارفة بين الموالي ، الشهم الفاضل المحتشم ، نادرة الفضلاء ونابغة الفقهاء.

٤٣

ولد بحلب ونشأ بها ، وقرأ النحو واللغة الفارسية على الفاضل الشيخ محمد بن هالي الحلبي ، وقرأ على العالم الشيخ محمود البالستاني والسيد علي العطار والسيد عبد السلام الحريري والشيخ عبد الرحمن البكفالوني ، وقرأ الهداية على العالم المحقق السيد محمد الطرابلسي مفتي الحنفية بحلب ، والفرائض والحساب على الشيخ مصطفى اللقيمي والشيخ يس الفرضي ، وأخذ الحديث عن الشيخ عبد الكريم الشراباتي. وصار علما في الفضائل يشار إليه ، ومرجعا في المعارف يعول عليه ، جمع من مسائل الفقه ما تفرق وشرد ، فأوضح ما أغلق منها وقرب ما ابتعد ، طالما استوعب الصباح مجدّا في السهر ، حتى أحاط من إيضاح معلقات المعاني بما شتت شمل الفكر ، وأحرز حسن الخط وقت الإنشا ، ودرس مدة في مدرسة الإسكندرية التي جدد بناءها وأنشا.

وكان ذا ذهن وقاد ونظر نفاد ، تولى مهام الأمور في بلدته فأحسن تعاطيها ، ومالت إليه قلوب أعاليها وأدانيها ، ثم سلقته الحساد بألسنة حداد ، فسافر في شوال عام إحدى وسبعين ومائة وألف إلى القسطنطينية وأقام بها ، وحباه صدورها العظام بما استوجبوه له من الاحترام ، وأحاطوا بفضله ومعارفه علما ، وحققوا فيه حسن الظن والأخلاق حقيقة ورسما ، فسمت سيرته وزكت شهرته ، فأمر بالذهاب لمصر في معية فاضل وقته عباس أفندي أحد قضاة القسطنطينية لحصول ما تعذر من الأموال الأميرية ، فأبرز من المساعي ما حمد ويسر الله تعالى إتمام المقصد ، فقرت منه العين ، ثم أرجع للقسطنطينية عام أربع وسبعين موثوق القول مشكور السعي والفعل ، فاستخدم في نيابة الكشف ، ثم تكرر في كتابة الوقائع بدار الخلافة العثمانية ، وحمد طوره ، وذاع بالخير ذكره ، فنزل المنازل البهية ، وتراءت له بها أسنى المراتب العلية ، فاخترمته المنية في العشر الأول من ذي الحجة عام ثمانين ودفن بأسكدار رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : كتب لي الصديق الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري أن المترجم محرر على قبره هناك أنه قتل ظلما ولم تعرف قصة قتله.

١١٠٦ ـ الشيخ أبو بكر بن أحمد الهلالي المتوفى سنة ١١٨٣

أبو بكر بن أحمد بن علي الشافعي القادري الحلبي ، الشيخ الصالح الورع الزاهد المسلّك المرشد.

٤٤

مولده بقرية دارة عزة غربي حلب في سنة تسع وستين وألف. وصحب شيخه الشيخ محمد هلال وبه انتفع وعنه أخذ طريق القادرية ، وخلّفه شيخه المذكور في حياته. وهذه الفرقة من هذه الطريقة المباركة يخلّفون إذا صدر لهم الإذن بعد تكرار الرؤيا مرارا من يختاره الله تعالى أن يكون الخليفة في حياتهم. وبعد وفاة شيخه جلس في زاويته لقراءة الأوراد وإقامة الأذكار ، وانتفع به الناس ، وأعقب له ولدا يقال له محمد هلال ، خلّفه والده في حياته وألبسه الأخوان تاج والده بعده.

أخبر الشيخ عبد الله الشهير بابن شهاب أنه كان صاحب الترجمة يوما بصحن الجامع الأموي بحلب عند العمود وعنده جماعة من أحبابه ثلاثة أو أربعة ، قال : فأتيت إليه وقبلت يده ، فأخذ يباسطني بالسؤال ، وإذا برجل من الأشراف جاء ليقبل يد صاحب الترجمة ، فزجره وصاح به : اخرج وابعد ، ولم يرد قربه منه ، فعطف الشريف إلى نحو باب الجامع الغربي ، فاتبعته إلى أن خرج الشريف من الباب وسألته عن ذلك فقال : إني محدث حدثا أكبر وسهوت.

وله كرامات ظاهرة ، وبالجملة فقد كان شيخا صالحا معتقدا.

وكانت وفاته في نهار الخميس الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف قبل العصر ، ودفن بالزاوية المعروفة به التي دفن بها شيخه بتعصب من أهله وبعض جهال. وكان مرضه نحو خمسة أيام بالحمى.

وأرخ وفاته السيد عبد الله اليوسفي الحلبي بقوله :

لصاحب هذا الرمس سر غدا يسري

ونور جليّ واضح حالة الذكر

لذا خصه مولاه أسنى مكانة

وأسمى مقام ساطع بسنا البشر

وكان مع الأبرار في جنة البقا

يلوح بهاتيك المنازل كالبدر

فقولوا لأبناء الطريق وأرخوا

تهنّى بفردوس الجنان أبو بكر

١١٨٣

هذا ما ذكره المرادي في تاريخه ، لكن المكتوب على ضريحه غير هذه الأبيات ما عدا البيت الأخير فإنه كما هنا.

٤٥

وجرى له في حياة شيخه واقعة حال يطول شرحها أدت به أن يقول :

أحبابي يا أحبابي

فلازموا في الباب

ولا تقولوا من لها

فأنتم كفء لها

وكتب بذلك إلى الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي فنظم موشحا وجعل هذين البيتين لازمة لهذا الموشح ، وقد ذكر ذلك في أوائل ديوانه المسمى «ديوان الحقائق ومجموع الرقائق» المطبوع في مصر سنة ١٣٠٦.

وعبارته ثمة : وقال رضي‌الله‌عنه وقد طلب منه بعض الأحباب من أهل حلب الشهباء (هو المترجم) تذييلا على طريقة الموشح لبيتين وردا في الواقعة على قلب بعض الصوفية في مدينة حلب وهما (أحبابي يا أحبابي) إلخ ، فقال قدس الله سره في ذلك :

يا جملة الأقطاب

والسادة الأنجاب

ويا أولي الألباب

أشكو إليكم ما بي

أحبابي يا أحبابي ... إلخ دور

بدا جمال العالي

ولاح نور الوالي

وأشرقت أحوالي

وثار ليث الغاب

أحبابي يا أحبابي ... إلخ دور

بشائر التوفيق

تشير للتحقيق

ورتبة الصديق

تلقيك في الأعتاب

أحبابي يا أحبابي ... إلخ

دور

وتتمته في الديوان ، وكان ينشد هذا الموشح في حلقة المترجم.

وأرخت تبعا للمرادي وفاة شيخه الشيخ محمد هلال الرامحمداني سنة ١١٤٨ ،

٤٦

والصواب كما هو منقوش على قبره أنها كانت سنة ١١٤٧. وقد كتب على ضريحه هذه الأبيات :

إن الذي ضم هذا الرمس جوهرة

لا زال إشراقها في الكون متصلا

قطب الزمان فريد العصر بدر دجا

حاز الكمال بنور الله حين علا

فكم أضاء لسار في بدايته

فحاز سبل التناهي وارتقى نزلا

فقلت مذ غاب عنا في مؤرخه

هلال أفق العلا في رحمة أفلا

١١٤٧

١١٠٧ ـ الشيخ عمر بن شاهين الرفاعي المتوفى سنة ١١٨٣

ترجمه ابن ابنه الشيخ محمد أبو الرفا الرفاعي وقال في أولها إنه نقلها من تاريخ المرحوم عبد الله آغا الميري وأضاف إليها إضافات ذكرها المؤرخ استطرادا في تراجم أشياخه وقد نقلتها عن خطه.

قال المؤرخ (عبد الله ميرو) : عمر بن شاهين الشريف الحنفي الفاضل المتقن الضابط المقري. كان والده جنديا.

ولد بحلب سنة سبع ومائة وألف بعد وفاة والده بخمسة شهور ، وقام بتربيته أخوه السيد عبد القادر واتخذه ولدا ، وأقرأ القرآن العظيم ، ولما بلغ من السنين عشر سنين أخذه إلى المقري الشهير عامر المصري نزيل مدرسة الحلوية ، فقرأ عليه من أول القرآن إلى آخر سورة إبراهيم عليه‌السلام. ثم توفي الشيخ المذكور إلى رحمة الله فقرأ على الشيخ عمر المصري شيخ القراء ختما كاملا بالتحيق والتجويد ، ثم شرع في حفظ القرآن العظيم على الشيخ المذكور في تلك السنة فحفظه في مدة قليلة ، والتزمه الشيخ المذكور لما توسم فيه من النجابة والذكاء ، فصار يصحبه ويتدارس معه ويعلمه كيفية القراءة بالألحان مع مراعاة التجويد كما أخبر صاحب الترجمة للمؤرخ رحمهما‌الله تعالى على ما أثبته في التاريخ وصورة ما ذكره في ترجمة الشيخ عمر المصري المذكور قال : أخبرني شيخنا الفاضل المتقن السيد عمر أفندي الرضائي حفظه الله تعالى قال : حفظت عليه أي على الشيخ المصري القرآن العظيم وسني اثنتا عشرة سنة ، والتزمت خدمته وكنت أقيم أكثر أوقاتي عنده في المسجد الذي تحت

٤٧

الساباط في أول زقاق بني الزهرا ويعرف قديما بدرب الديلم ، قال : وكان يصحبني معه إلى القراءات وكنت أقوده إلى المكان الذي يريده ، وكان يتفرس فيّ النجابة ، وكان يعلمني الألحان من رسالة كانت عنده ويعلمني كيفية الانتقال من نغم إلى نغم ويقول : إن ذلك يلزم من كان إماما ، وأنت ربما تصير إماما ، قال : وكان يعلمني كيفية قراءة التحقيق والترتيل والتدوير والحدر والوقف والابتدا ، ويباحثني في طول النفس لأنه رحمه‌الله كان يدرج ثلاث وأربع آيات من الآيات المتوسطات في نفس واحد ، وكان يقرأ آية المداينة في ثلاثة أنفاس من غير إخلال بالحروف ولا جرمذة.

رجعا إلى ترجمة المترجم رحمه‌الله. قال المؤرخ :

ثم قرأ الأجرومية وحصة من شرح القطر على العلامة عبد الرحمن العاري ، ثم قرأ على عبد اللطيف الزوائدي ، وقرأ الفقه على الفاضل المعمر قاسم النجار ، وحضر دروس العلامة محمود أفندي الرضائي في التفسير من أول سورة الأنفال إلى آخر سورة الفرقان لم يفته شيء ، وسمع على المولى المذكور غالب الجامع الصحيح بالرضائية ، وكتب بخطه شرح السفيري على بعض أحاديث الجامع الصحيح ، وقرأ على العلامة السيد حسن الطباخ. يقول محرر هذه الترجمة ولد والده السيد محمد وفا : وأنا رأيت هذا الكتاب المذكور في مكتبة المرحوم السيد بكري ابن الطبلة بعد وفاة ولده السيد علي جلبي طبله زاده عند أخويه السيد عبد الرحمن والسيد سعيد وأردت شراءه منهما ، وكنت أخذت منهما بعض كتب مثل صحيح البخاري وغيره فتوقفا في بعيه ضنة به ، ثم بعد مدة رأيته عند المرحوم قدسي أفندي ، ثم عند ولده تقي الدين أفندي. قال المؤرخ :

وقرأ السيرة الحلبية رواية مرتين مع الفاضل أحمد المصري ، وكتب بخطه طريق الهدى للعلامة أبي الوفا العرضي ، وطالعه مع الشيخ العارف محمد صلاح ، وقرأ الكثير.

وفي سنة ست وأربعين وماية وألف كتب حرز الأماني وعرضهما بعد حفظهما على المتقن الماهر المقري الشيخ محمد البصيري ، وقرأ عليه القرآن العظيم من طريقها جمعا وإفرادا لكل راو ختما في مدة ستة أشهر ، وأجازه الشيخ المذكور بالإجازة بالقراءة والإقراء وشهد له بالأهلية.

ثم في سنة ثمان وأربعين ومائة وألف وجهت له إمامة الصلوات الجهرية بجامع الرضائية ،

٤٨

فباشرها مع بعد داره عن الجامع المذكور.

يقول محرر هذه الترجمة : ثم بعد مدة نقلوه إلى دار عظيمة قريبة من الجامع المذكور رغبة فيه مشهورة بدار الجربوعي ، وبها تزوج المرحوم الوالد ولم يقم بها مدة طويلة لعدم طيب هواها.

قال المؤرخ : وطلب منه العلامة محمود أفندي الأنطاكي المدرس أن يقرأ القرآن العظيم في صلاة الصبح على التأليف الشريف يسمع العوام الذين لا يقرؤون القرآن جميع القرآن العظيم في صلاة الصبح وأن تكون كل ختمة لراو من رواة الأئمة السبعة ، وقال : كذا سمعت الأئمة في الحرمين الشريفين يقرؤون في الصلوات وفيه نفع وفائدة ، وفيه أثر مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه أتي برجل سرق نصابا ، فسأله فأقر بالسرقة ، فأمر بقطع يده ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، لم تقطع يدي؟ فقال : كذلك أمر الله تعالى بقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) فقال : يا أمير المؤمنين ، ما سمعت هذه الآية قط ، ولو سمعتها لم أسرق ، فقال له : هذا العذر لا يسقط عنك حدا من حدود الله تعالى ، فقطعه ، لكن حصل له على الرجل أسف وحزن شديد ، فكتب إلى أمراء الآفاق أن يقرؤوا القرآن العظيم في الصلوات الجهرية على التأليف الشريف ليسمع المقتدون جميع أحكام الله وحدوده. فشرع صاحب الترجمة يقرأ في صلاة الصبح كما طلب المدرس المذكور ، فكان يقرأ في كل سنة ختمتين ونصف ختمة أو أقل من ذلك ، فصار يهرع إليه الناس في صلاة الصبح من محلات بعيدة من الجامع لحسن صوته وجودة قراءته وطيب ألحانه مع مراعاة الأحكام ومخارج الحروف ، وأتقن كثير من المصلين قراءتهم من السماع وصار لذلك نفع عظيم ، واقتدى بذلك جماعة من أئمة الجوامع فصاروا يقرؤون القرآن العظيم في صلاة الصبح على التأليف الشريف أحسن الله له الثواب في المآب.

ثم إنه بعد صلاة الصبح يجلس في حجرته في الجامع المذكور ويقرىء القرآن لمن يريد القراءة ولا يرد أحدا ، سواء كان من أهل البلدة أم من الغرباء ، ويحصل له من المشقة العظيمة في تعليم الأتراك وتعديل ألسنتهم في مخارج الحروف والنطق بها ، ويزدحمون على الأخذ عنه لأنه يقرر لهم باللغة التركية فيفهمونه ، فلذلك كثر الآخذ عنه من الأتراك وغيرهم

__________________

(١) المائدة : ٥.

٤٩

فلا تخلو بلدة من بلاد الروم من تلميذ له وتلميذين وثلاثة.

وفي سنة إحدى وستين ومائة وألف وجه له الوزير إسماعيل باشا خطابة الجامع الذي أنشأه بساحة بزي بعشرين عثمانيا ، ثم انحطت الوظيفة بعد موت المشار إليه إلى ثمانية عثامنة. واستمر صاحب الترجمة يباشر إمامة جامع الرضائية على الوجه المشروح إلى سنة خمس وسبعين ومائة وألف ، فاعتراه الضعف الطبيعي والعجز عن المجيء إلى الجامع. يقول محرر هذه الترجمة : وذلك لموت ولده السيد محمود النجيب الأديب في سنة ١١٧٣ ، وكانت والدته بنت الحاج محمد الحريري الشهير بالفلاح عرضها والدها عليه رغبة فيه وزوجه إياها وأمهرها من ماله وأتحفه بها ، فأولدها السيد محمود وخديجة أم الخير ، وكان محمود من الجمال وحسن الصوت والخط والفهم والذكاء وقوة الحافظة والكمال على جانب عظيم ، وكان يتوسم فيه أن يفوق عليه ، فطعن سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف ومات مطعونا ، فأسف هو والناس عليه أسفا عظيما وانقصم ظهره لموته وانحطت قوته جزاه الله عن مصيبته به أحسن الجزاء.

وكنت أسمع ممن شاهد ذلك أن محمودا المذكور كان إذا أذن في بعض الأوقات في المسجد الذي بقرب داره ينقطع الطريق من الازدحام على سماع صوته ، ولا يمكن أن يمر أحد من الناس مسلما كان أو ذميا إلا ويقف ويسمع صوته لحسنه وجودته. قال المؤرخ : فوكل وكيلا وانقطع في بيته يتلو كتاب الله ويقرىء الناس القرآن العظيم لا يغلق دون مستفيد بابا ولا يخرج إلا إلى الصلاة في المسجد المجاور لبيته في محلة قصطل الأكراد. وبالجملة فهو من أفراد زمانه ونادرة أوانه ، اجتمع فيه من الفضائل والكمالات ما لم يجتمع لغيره.

يقول محرر هذه الترجمة : ولقد كتب رحمه‌الله كثيرا بخطه من الكتب النفيسة (ذكرها ثم قال :) وكان ذا عفة وغناء نفس وعدم نظر إلى الدنيا وطموح نفس إلى أهلها ، وكان رحمه‌الله لا يبقي على شيء ، وإن زاد عليه شيء تصدق به ، وكان ديدنه كل يوم الخروج إلى صلاة العصر في المسجد المجاور لداره في محلة الأكراد ويعرف الآن بمسجد خير الله ، وعرف ذلك منه فصار يقصده جماعة من الفقراء المستورين من ذوي البيوت فيعطيهم سرا لا تدري شماله ما أنفقت يمينه. ولقد كان في بعض السنين غلت الأسعار واشتد الأمر على الناس ، فصار يرسل حوائجه إلى سوق البادستان وملبوسه ليبيعه ويتصدق خفية. وتوفي رحمه‌الله ولم يبق شيئا من الدنيا سوى دار السكنى وبعض ملبوسات جزئية. وسمعت

٥٠

من المرحوم ولده والدي أنه كان في جيبه اثنتا عشرة مصرية فضية لما مات إلى رحمة الله. ولما انقطع إلى الله في بيته صارت الوزراء كأسعد باشا العظمي والموالي ووجوه البلدة كمحمد أفندي الطرابلسي وأحمد أفندي الكواكبي يأتون لزيارته والتبرك به وبتلاوته وسماع صوته الحسن ، وأهل العلم والصلاح كالشيخ عبد الكريم الشراباتي وكالشيخ أبي بكر الهلالي كلهم لهم فيه اعتقاد وحسن ظن.

وكان إسماعيل باشا الوزير لما رتبه في الخطابة بجامعه كتب للدولة العلية وعمل له رتبة الخارج بتدريس الحسامية التي الآن تدريسها على محرر هذه الترجمة برتبة السليمانية ، فلم ينظر إليها ولم يلتفت وذلك لأجل أن يكون خطيب جامعه يصعد المنبر بكوجك رتبه لي. ولما مات قريبه السيد أحمد أفندي يحيى بيك زاده وذلك قبل وفاة المترجم بأربعين يوما خرج للجنازة وكانوا هيئوا قبر صاحبها ، وصادف قربه من قبر والدة صاحب الترجمة ، فلما وصل إلى قبر والده ضرب بعكازه الأرض وقال : يا قبير جاءك دبير ، ونزل من الجنازة وكتب وصيته بخطه ووضعها بجيبه واعتراه حمى الربع ، فليلة كانت وفاته واحتضر شرع في قراءة سورة يس وأتمها وشرع في كلمة التوحيد ثم في لفظ الجلالة ، وصار يحرك رأسه للذكر بها حتى دارت عمامته من وراء إلى قدام وانتقل إلى رحمة الله وذلك في جمادى سنة ١١٨٣ وله من العمر ست وسبعون سنة. ثم ذكر هنا نص وصيته وسنده في الطريق ويطول الكلام بذكر ذلك.

وللأديب الشهاب أحمد الوراق قصيدة مقصورة يمدح بها المترجم مثبتة في تاريخ عبد الله آغا الميري وهي :

بعيشك حادي أقف بالحمى

مطيك علّي أداوي الحشا

وقف بي قليلا بتلك الربوع

فإني معنّى بعرب النقا

وإني بهم لأخو حسرة

وإني عليهم شديد البكا

سقى الله عهدا تقضى بهم

وجاد عليه سحاب اللقا

عهود تقضت بسفح اللوى

بلذة عيش ونيل المنى

برشف الثغور وضم الخصور

وطرد الكدور وجني الجنى

ولثم الخدود وهصر القدود

وحصر الهنود (١) بغير احتشا

__________________

(١) لعل الصواب : النهود.

٥١

بروض نضير تراه إذا

تمشى النسيم أفاح الكبا

تدير علينا السلاف القيان

وتشدو الطيور فصيح الغنا

ونحن نجر ذيول الصبا

ونسرح مسرح تلك الظبا

حبتنا الليالي بما نرتجي

وأنجز فيها الحبيب اللقا

فمن لي برد زماني الذي

تقضى سريعا بسفح اللوى

فليتي أراه ولو في المنام

لتهدى جفوني بطيب الكرى

عسى ما أرجّي يعود إذا

شكوت ضنائي وفرط البلا

لزاكي الجدود أخي المكرمات

سليل الرفاعي عظيم السنا

شريف الأصول زكّي الفروع

نمير الأيادي غزير الندى

حميد السجايا رقيق الطباع

سمّي المزايا وخدن الحيا

جميل المحيا كثير التقى

زميل التغاضي مليك الحجا

طويل النجاد وفير الرماد

مبيد الأعادي بيوم الوغى

وحيد الزمان فريد الأوان

بليغ النظام إذا ما شدا

ملاذي غياثي إليك التجأت

وأنت ثمالي بطول الدنا

ألست معيني بعهد الصبا

لنيل مرامي بحوز العلا

فيا من حباني جليل العطا

ويا من كساني سني الحلى

يحق لمثلي يرى مادحا

ببابك مولاي طول (١) المدى

فخذها إليك أبا الفضل لا

تيتم فضل إليك انتمى

خرود جلاها عقود ثناك

وكل ثناء لديك ثوى

إذا ما تمشت بسوق عكاظ

لألقى الدريدي إليها العصا

ودم ملاذا بطول الزمان (٢)

ليشفى فؤادي بنقع الصدى

وله في تاريخ المرادي ترجمة هي أخصر مما هنا ، وقد ختمها بقوله : وقد امتدحه تلميذه الأديب أحمد الوراق الحلبي بقوله :

دع عنك ذكر مهلب والطائي

وانزل بساحة مصقع الخطباء

__________________

(١) في الأصل : بطول.

(٢) هكذا في الأصل. ولعل الصواب : ودمت.

٥٢

ذي الفضل والجود اللذين عليهما

دارت رحى المعروف والإسداء

من لم يزل بندى سحاب نواله

يروي الظماة فماروا الوطفاء

والجهبذ الفرد الذي بعلومه

ساد الرواة بسائر الأرجاء

وإمام من يتلو القران مرتلا

بفصيح نطق عز من تلّاء

فكأن جل الله باري خلقه

سواه من لطف الهوا والماء

وحباه كل مزية يختارها

وأقامه علما على الإهداء

حتى غدا وكأنه علم به

نار أضاءت في دجى الظلماء

لابل هو الشمس التي بضيائها

ملأت فيافي حلقة الغبراء

أفديك يا من فيه أحجمت القرا

ئح أن تخيل بعض وصف ثناء

ومكملا يستعبد الأحرار بال

إنعام والإعطاء والإسداء

قلدت جيدي من نوالك أنعما

تزري بحسن الدرة البيضاء

فأنا هو الغصن الذي أنشأته

بندى يديك وأنت أصل نمائي

فأنا هو العبد الذي ما رق يو

ما للعتاق ولا انتمى لسواء

فاسلم ودم لي ما نحي ما أرتجي

وابق المرجى في بني الشهباء

١١٠٨ ـ أحمد بن عبد الرحمن العصائبي الإدلبي المتوفى سنة ١١٨٣

قال في «النفائح واللوائح» : هو الحسيب النسيب ، والأديب الأريب ، أحمد بن عبد الرحمن العصائبي. عالم مجيد ، وله من عقود الأدب لؤلؤ وجيد.

ولد في قصبة إدلب ونشأ بها وحصّل ، حتى عظم وتنبل ، ثم قدم إلى حلب المحروسة ، فقطف من جنى دوحها المغروسة ، وتولى نيابة القضاء في الأحكام ، وفصل بين حوادث الحلال والحرام ، إلى أن توفي سنة ١١٨٣.

وكان رحمه‌الله دمث الأخلاق ، فريدا في حلبة السباق ، له نثر فائق ، وشعر رائق ، فمنه قوله مادحا السيد أحمد أفندي الكواكبي حينما أعيد لمنصب الإفتاء سنة ١١٦٩ :

عادت وما أخلفت في صدق موعدها

وأقسمت لم تخامر في توددها

٥٣

وإنما جربت طعم الفراق فمذ

ذاقت مرارته عضّت على يدها

وقيّدت بقيود البين مكرهة

واستحكمت للعنا أيدي مقيّدها

ولم تزل في وثاق البعد والهة

فقيدة لم تجل في فكر منشدها

حتى استنار ضياء البشر وانفرجت

كرباتها وبدت أنوار مرشدها

ماست ولا بؤس يعروها سوى أثر

من صمت خلخالها أو ضيق معضدها

ومذ تلألأت الشهبا بطلعتها

وشاهدت كل عين نور مشهدها

نادى منادي العلا كفوا مطامعكم

عن درك من قد غدت تجلى لسيّدها

فرع الرسالة إكليل السيادة نب

راس السعادة أسمى الناس أحمدها

بدر كواكبه بيت السعود لهم

زهو على الزهر بالزهرا ومحتدها

ذو فطنة حيث أروت عن دجى شبه

تري الغبيّ خوافي سر أبعدها

وهمة قد علت في كل مكرمة

فاقت منازل كيوان وفرقدها

وعزمة شتتت جيش الخطوب وكم

قد فرّقت جمع أخطار بمفردها

ونفس حر ترى استنهاض همته

عيبا إذا لم تسابق قصد منشدها

من سادة شرّفت أقدامهم حلب ال

شهبا فماست على الدنيا بسوددها

في بيتهم مركز الفتوى ولا عجب

إذا زهت حيث حلت أصل معهدها

قرت بتقريرها عين العباد وقد

ندت أكف الدعا تدعو بمعبدها

يا من تجلى على الشهبا بأوحدها

فضلا وأرفعها قدرا وأسعدها

عمرت دار علاء أرخوه أدم

بيت الكواكبي والفتوى لأحمدها

وأورد له ثمة غير ذلك من النظم والنثر مما يطول ذكره.

وترجمه الفاضل عبد الله ميرو في تاريخه فقال : السيد أحمد العصائبي. نشأ بإدلب وقرأ على كثير من الأفاضل ، وتوطن الشهباء وأخذ عن علمائها. وله أدبية لطيفة ومحاضرات ظريفة ، فمن شعره الذي مدح به محمد أمين أفندي حين ولي قضاء حلب :

بزغت بدور مبرة وهناء

وبدت شموس مسرة ووفاء

وتلألات أفق القلوب بمطلع الإفضال والإجلال والآلاء

وتهللت غر السعود بطلعة

لألاؤها يزري سنا بذكاء

مصباح مشكاة الهداية مجمع البحرين صدر شريعة الحنفاء

٥٤

لله يوم قد توالى بشره

والكون فيه مشرق الأرجاء

وترادفت في دارة الشهبا

نوامي البر والبركات والنعماء

وهي قصيدة طويلة. وله يمدح المولى عباس القاضي إذ ذاك بحلب بقوله :

صبح المسرة من جبين السيد

يوحي لراجيه بنيل المقصد

ولوامع الإفضال من نفثاته

سحر البيان ومنهج المسترشد

ومنها :

وغيوم جو المشكلات تقشعت

وتفرقت بذكائه المتوقد

ومنها :

أحيا شريعة أحمد لا غرو فالعباس قد أحيا شريعة أحمد ومنها :

حاز الفضائل عالما عن عالم

وروى السيادة سيدا عن سيد

فبعدله اكتست العواصم رفعة

لا تعتريها وصمة من معتد

ورأيت في مجموعة بخط بعض أبناء الطرابلسي أن وفاة أحمد العصائبي كانت سادس عشر جمادى الثانية سنة ألف ومائة وثلاث وثمانين. رحمه‌الله تعالى.

١١٠٩ ـ أبو المواهب عبد الله بن حسن آغا المعروف بميرو المتوفى سنة ١١٨٤

بنو ميرو عائلة تتعاطى التجارة ، وكان لهم في هذا القرن والذي بعده شهرة كبيرة وصيت بعيد لوفرة أموالهم وسماحة يدهم وعنايتهم بأهل العلم والفضل ، وخصوصا من كان يمر بالشهباء من هؤلاء ، فكانوا ينزلونهم في بيوتهم ويكرمون مثواهم ويحسنون إليهم ويزودونهم إذا سافروا ، فكان لسان حالهم يقول :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

٥٥

وتقدم منهم في الجزء السادس ترجمة عثمان بن ميرو المتوفى سنة ١١٤٥ ، والمترجم واسطة عقدهم والسابق في حلبة ميدانهم ، حيث اتسم مع ثروته بسمة العلم وتحلى بحلي الأدب والنبل. وقدمنا في المقدمة أنه ممن تصدى لوضع تاريخ للشهباء ، وأن معظم ما في المرادي من تراجم الحلبيين مأخوذ عنه ، وكان عليه أن يترجمه ويوفيه حقه من الترجمة ولا أدري السبب الذي دعاه إلى إهمال ذلك.

وحيث إني لم أقف له على ترجمة خاصة اضطررت أن التقط ترجمته من أماكن متفرقة ومما وقع لدي من الأوراق فأقول :

ذكر المترجم في ترجمة الشيخ رمضان المتقدمة أنه قرأ عليه في الفقه الغاية وشرحها والخطيب الشربيني وشرح التحرير وشرح الأجرومية للشيخ خالد وشرح الأزهرية له. وقال في ترجمة الشهاب أحمد الوراق : واستجزت الشيخ صالح الجنيني الدمشقي عام ارتحالي صحبة الوالد إلى الشام ، وذلك عام ثلاث وستين ومائة وألف. وذكر في ترجمة محمود ابن عباد العبدلاني الدمشقي أنه ممن أخذ عنه.

وذكر في ترجمة عبد الله بن عبد الشكور الهندي المتوفى بدمشق أنه سمع منه الحديث المسلسل بالأولية وأجازه سنة ١١٧٥. وممن تلقى عنهم العلم الشيخ علي الميقاتي المتقدم ذكره وأثنى عليه ثناء عظيما كما رأيته في آخر نسخة خطية من الشفاء في ورقة بخطه فيها إجازته للمترجم ، ومما جاء فيها بعد الخطبة :

أما بعد ، فقد قرأ عليّ جميع هذا الكتاب الموسوم بالشفا في حقوق المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المولى المحدث الفاضل ، المحرز قصب السبق بين أهل الفضائل ، البالغ من العلوم مبلغ الشيوخ في باكورة الشباب والأوائل ، ذو الذهن الثاقب ، والفكر الصائب ، والفهم الذي فاق به الأقران ، في حسن التصرف في فنون البيان ، جناب أبي التقى عبد الله جمال الدين جمل الله ببقائه أهل الفضايل ، ابن المولى الكامل الحسن الاسم والمعارف والشمايل ، حسن آغا عرف بميرو زاده ، بلغه الله من أمانيه مراده ، ورحم آباءه وأجداده ، وأوصل أصناف الخير إليه وأسباب السعادة آمين قراءة أنبأت عن علم جم واتقان كثير ، وأخبرت عن فضل كبير ، ولا ينبئك مثل خبير ، أفاد بها واستفاد ، وجمع إلى دقة الفهم علو الإسناد ، ولو لا أن الصدق شرط في المحدث لقلت فاق بها شيخه أو كاد ، وإذا ثبت أن المحدث يروي العالي والنازل ، ويتحمل عن المفضول والفاضل ، وربما اجتمعت في الراوي شروط التحمل

٥٦

وفقد من شيخه بعض تلك المقاصد والوسائل سلمنا من هذا الأمر والاعتذار عنه ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب مجيز أولى له أن يكون مجاز ، وأن لا يكون له في سلوك حقيقة هذا الأمر مجاز إلخ.

وقال الشيخ علي المذكور في أواخر الموشح الذي أشرنا إليه في المقدمة (ص ٣٩) وقلنا إنه ذكر فيه متنزهات الشهباء وبعض أعيان عصره :

ليس من بالمال أو بالعلم دان

كالذي ضم إلى دنياه دين

ورقى من ذروة الفخر مكان

هو والفضل به خير مكين

ذاك عبد الله معمور الجنان

وغذيّ المجد مذ كان جنين

من بني الميري له المولى نضر

سادة جادوا بجاه ونضير

نظم التوشيح كالروض النضر

فأتى بالأدب الغض النضير

وحسب المترجم ما قاله هذا الشيخ الجليل في حقه وكفاه بذلك فخرا. ولم أقف على أكثر من ذلك من أحواله.

وكانت وفاته سنة ١١٨٤ كما هو منقوش على لوح قبره في تربة الصالحين في أواخرها بجانب قبة الشيخ عبد الرحمن الحنبلي الآتي ذكره.

ومن مشاهير هذه العائلة في هذا القرن الحاج إسماعيل آغا ابن الحاج حسين آغا ابن الحاج عبد الوهاب. ومن آثاره وقف دارين متلاصقتين في محلة باب قنسرين في الزقاق المعروف ببوابة خان القاضي ، وقفهما على المسجد الكائن في هذا الزقاق المعروف بإنشاء بني شنقس وعلى المسجد المعروف بمسجد أبي الرضا الإسكافي الملاصق للمارستان الأرغوني ، وتاريخ الوقفية في غرة جمادى الأولى سنة ١١٧٦.

وفي عصرنا هذا انقرضت هذه العائلة ، وآخر من مات منها امرأة تسمى الست شرف وهي بنت إسماعيل آغا ابن الحاج حسين آغا ، أدركت هذه المرأة وهي مسنة كانت تزور والدتي وهي تزورها ، وربما استصحبتني معها وأنا في سن الطفولة ، فكانت الحشمة تعلوها والوقار يكللها ، وكانت تسكن في دار عظيمة ورثتها عن آبائها في محلة باب قنسرين أمام القاسارية المعروفة بقاسارية ميرو التي كانت من أملاك هذه العائلة ، وكانت وفاتها بعد سنة ١٣٢٠ بقليل ، وبعد وفاتها اشترى هذه الدار من ورثتها من ذوي الأرحام الحاج عبد

٥٧

الله صلاحية التاجر المشهور ، واشترى دارا وراءها كانت تابعة لهذه الدار ودارا أخرى شرقي الدار العظيمة ، وعمر الجميع خانا عظيما سنة ١٣٢٧ عرف الآن بخان صلاحية. وقد كانت هي المتولية على الدارين والمسجدين المتقدمي الذكر ، وبوفاتها وانقراض هذه العائلة آلت التولية إلى الحاج محمد نور الملقي من سكان هذه المحلة بحكم شرط الواقف أنه عند انقراض عائلته تعود التولية إلى أغنى وأتقى رجل في المحلة ، وقد قام بأمر هاتين الدارين أحسن قيام ، وبوفاته في سنة ١٣٣٤ دخل هذا الوقف إلى دائرة الأوقاف.

ومن دور هذه العائلة دار أخرى عظيمة شمالي هذه الدار داخل البوابة آلت إلى أحمد أفندي بطيخة المتوفى أوائل هذا القرن ووقفها على ذريته.

١١١٠ ـ عمر بن يس الكيلاني المتوفى سنة ١١٨٥

عمر بن يس بن عبد الرزاق بن شرف الدين بن أحمد بن علي القادري ، المعروف كأسلافه بالكيلاني ، الحموي الشافعي السيد الشريف.

كان موقرا معتبرا مبجلا صاحب حال وقال ، ممدوح الخصال تعلوه هيبة الصلاح ووقار التقوى ، سخي الطبع محمود الحركات والسكنات ، صدرا من الصدور وهيكلا متهللا بالبهجة والنور.

ولد بحماة سنة سبع وعشرين ومائة وألف ونشأ بها في كنف والده.

ثم في سنة ثلاث وأربعين قدم مع والده وابن عمه الشيخ عبد القادر وأولادهم وعيالهم لدمشق مهاجرين إليها. ثم سافر صاحب الترجمة بعد وفاة والده بدمشق وساح فدخل بغداد والرقة وحلب مرارا وجلس على سجادة مشيختهم ، واستقام على أحسن سيرة ، وعمر دارا بدمشق في محلة القباقبية العتيقة كانت أولا لبني عبادة ، وصرف في عمارتها أموالا جمة ، وسافر من دمشق قبل إتمامها إلى جهة الروم بخصوص فقراء أهل بلده حماة لدفع مظلمة كانت عليهم ، فنال مطلوبه فوق مرامه ، وذلك في زمن السلطان الغازي مصطفى خان ، وحصل له من الدولة إكرام واحترام. ثم في آخر أمره توطن مدينة حلب وترك بلدته حماة لتغلب حكامها وتخالف الأحوال عليه.

وتوفي بحلب في ثاني عشر صفر سنة خمس وثمانين ومائة وألف ، ودفن خارجها في

٥٨

تربة الصالحين بالقرب من الشيخ الدباس رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : لا زال قبره موجودا وهو وراء مقام الصالحين.

١١١١ ـ محمد بن يوسف النهالي المتوفى سنة ١١٨٥

محمد بن يوسف المعروف بالنهالي ، الحنفي الرهاوي الأصل ، الحلبي المولد ، نزيل قسطنطينية ، الأديب الألمعي الفاضل الكامل.

قرأ على أفاضل بلدته ، وكان مكبا على تحصيل الفضائل والكمالات ، وأقام مدة بالمدرسة الحلاوية ، وصار له غاية الإكرام من الوزير محمد باشا الراغب.

وكان المترجم أديبا شاعرا ، فمن شعره قوله :

يا راكب اللهو قصر

عنان خيل التصابي

يداك لم تقو حبس اللجام بعد الشباب

وله :

كنت في غفلة من العشق لما

أيقظتني نواعس الأجفان

كشفت عن مجاز عيني غطاها

فأرتها حقائق الأكوان

وحين سافر إلى إسلامبول تلميذه الفاضل السميدع السيد مصطفى الحلبي الكوراني اجتمع بالمترجم شيخه ، ثم ابتدر كل منهما لتضمين البيت المشهور وهو :

إن الملوك إذا أبوابها غلقت

لا تيأسنّ فباب الله مفتوح

فقال المترجم :

قلب بسهم أليم الهجر مقروح

ومقلة دمعها بالبين مسفوح

فقال الكوراني :

وخاطر في يد الأهوا على خطر

من الأماني له باليأس تلقيح

فقال المترجم :

٥٩

ولاعج مضرم لو لا التوكف من

دموعه ولعت فيه التباريح

فقال الكوراني :

موزع البال مطوي الضلوع على

فرط الأسى جسد ليست به روح

فقال المترجم :

حليف كرب رهين الإغتراب شج

به عقود هموم الدهر توشيح

فقال الكوراني :

به أحاديث أشجان يرددها

لها من الغم تعديل وتجريح

فقال المترجم :

له عتاب على الحظ المسوّد إذ

خابت مقاصده والقلب مجروح

فقال الكوراني :

وكلما نابه خطب الزمان غدا

بساحة اليأس صبر وهو مطروح

فقال المترجم :

مستوثق العزم من بيت أقيم به

للعذر متن بنصح القول مشروح

البيت القديم :

إن الملوك إذا أبوابها غلقت

لا تيأسن فباب الله مفتوح

وكانت وفاة المترجم في سنة خمس وثمانين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

وترجمه ابن ميرو في تاريخه فقال : مولده بحلب سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف. طلب بنفسه وقرأ على أفاضل بلدته كالعلامة طه الجبريني والعلامة قاسم البكرجي والفاضل حسين الزيباري ، ومهر في اللغة الفارسية والتركية كما شهد له بذلك أفاضل الفرس. وكان مكبا على تحصيل الفضائل. أقام مدة بالمدرسة الحلاوية وبرهة بقيسارية الحكاكين منفردا في مكان وحده ، وذلك بعد وفاة والدته ، ولما كان بالمدرسة الحلاوية كان يرد عليه بعض أرباب المعارف من أتباع الوزير راغب محمد باشا والي حلب إذ ذاك ، فبلغ خبره الوزير

٦٠