إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

ولا حدّ فيما تزعيمن إدعاءه

وما حكموا في غاصب بسوى الردّ

وفي سنة أربع وثمانين ومائتين وألف هجرية أسس في حلب الشهباء جريدة سميت (الفرات) وذلك في أيام واليها جودت باشا ، فنظم المترجم هذه الأبيات :

لوالي ولاية الشهباء فضل

غنيّ في الورى عن بينات

رقي للذروة العلياء يسمو

بجودة رأيه والمكرمات

وقد نشر الحديث بلطف طبع

فعم بنشره كل الجهات

إذا ما حدّث الأقوام راو

حديثا يرتضيه عن الثقات

وباهى بالحوادث في غلو

وبالمعنى البديع بالرواة

لنا التضمين في التاريخ يحسن

فكل الصيد في جوف الفرات

١٢٨٤

١٣٠٥ ـ الشيخ عبد الله سلطان المتوفى سنة ١٣٢٤

الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد القادر ابن الشيخ محمد ابن الشيخ صالح الشهير بسلطان ، العالم الفاضل والأديب الكامل ، من بيت تسلسل فيه العلم والفضل.

ولد في الخامس والعشرين من المحرم سنة ١٢٦٠. وبعد أن تعلم قراءة القرآن عن ظهر قلب والكتابة دخل المدرسة الإسماعيلية ، وهي المدرسة التي يدرّس فيها آباؤه وأجداده ، وشرع في تلقي العلوم والفنون فيها على مدرسها والده ، وعلى الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وابن أخيه الشيخ عبد السلام ، وعلى الشيخ مصطفى الريحاوي مدرس القرناصية ، والشيخ علي القلعجي ، والشيخ مصطفى الشربجي الفرضي الشهير. وفي مدة وجيزة ظهرت عليه أمارات النجابة والفضل ، فتوجه سنة ١٢٨١ إلى مصر وجاور في أزهرها عشر سنين ، وأجازه من مشاهير مشايخه الشيخ إبراهيم السقا والدمنهوري والعلامة الشيخ محمد الأنبابي والشيخ حسين الطرابلسي.

وعاد إلى حلب سنة ١٢٩٠ ، فعين مدرسا في مدرسة آبائه ، ومحدثا في جامع أموي حلب في قاعة بني العشائر. وعلى إثر رجوعه تلقى بعض العلوم العصرية فكان له فيها إلمام حسن ، وتعلم اللغة التركية وقليلا من الإفرنسية. وعين أستاذا للغة العربية سنة ١٣٠٨

٥٠١

في المكتب السلطاني الذي عمر بحلب في محلة السليمية والذي انتهت عمارته في هذه السنة ، وعين عضوا في مجلس المعارف وفي محكمة الحقوق والجزاء ، بقي نحو عشرين سنة وحمدت سيرته فيهما في جميع هذه المدة.

وكان الرؤساء يرجعون إلى ثاقب فكره ويعتمدون عليه لدرايته واستقامته ورغبته في العدل ، وكان يخالف بقية الأعضاء فيما فيه مخالفة للشرع المتين بكل متانة.

وأنعمت عليه الدولة العثمانية برتبة إزمير المجردة ، ثم برتبة الموالي ، ورشح عدة مرات لمنصب الإفتاء.

وله عدة مؤلفات في الفقه والمنطق والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض ، وشرح على «متن الإظهار» للبركوي ، وحاشيتان كبرى وصغرى على «إيساغوجي في المنطق» ، وحاشية على «متن التهذيب» في المنطق ، وتقريرات على حاشية «نسمات الأسحار على شرح المنار» في أصول الفقه ، ومجموع في علم الحديث مرتب على الحروف الهجائية ، وله في كل فن رسالة على طريق السؤال والجواب مع ترجمتها باللغة التركية ، وله مجموع في تعاريف الفلسفة الطبيعية والمنطق ، وله مقالات على تفسير بعض آيات قرآنية ، ورسالة في المباحات ، ورسالة في المحرمات في الفقه ، وفي السنن المؤكدة والمستحبة ، ورسالة في الفروض العينية ، ورسالة في المكروهات ، وحاشية على مرقاة الوصول إلى علم الأصول لم تتم ، وغير ذلك من التحريرات ، ولكن لم يطبع له من هذه المؤلفات والتحريرات شيء وتفرقت أيدي سبا.

وبالجملة فقد كان فقيها نحويا منطقيا أصوليا فرضيا شاعرا ، وله ديوان شعر استعاره بعض تلامذته الذين كانوا يحضرون عليه ولم يردّه.

وكان رحمه‌الله أسمر اللون طويل القامة ، من يراه من بعد يرى فيه أثر العبوسة ، حتى إذا دنا منه وعاشره يجده قد عجنت طينته بماء اللطافة وتجلت في محياه شموس البشاشة.

وكان محبوبا عند عموم الطوائف لما كان فيه من الخصال الحميدة التي قدمناها.

وهو من جملة من أخذنا عنهم العلم ، قرأت عليه شرح ابن عقيل على الألفية من أوائله إلى الآخر قراءة تحقيق وتدقيق ، وبعضا من شرح ملتقى الأبحر المعروف بشرح الداماد.

٥٠٢

وكانت وفاته سادس رمضان سنة ١٣٢٤ ، ودفن عند آبائه في تربة الشيخ جاكير ، وأسف عليه كل من عرف علمه وأدبه ومزاياه الحسنة ، رحمه‌الله تعالى.

وقد اطلعت على مجموعة له جمع فيها على حروف الهجاء مختارات شعرية وقد ذكر فيها شيئا من شعره ، فمنه :

وأربعة ما فارقت منك أربعا

ولا شانها نقص ولا حازها ندّ

فقدّك والقنا وجيدك والدما

ووجهك والضحى وخالك والندّ (١)

ومنه :

الحسن في وجه هذا الظبي ننظره

يحكي لنا خده الياقوت والتبرا

وإن نعد نظرا نلقى بوجنته

خالا ومنبته في الجنة الخضرا

وله :

والخال في وجهه يبدو لأعيننا

كأنه كلف في صفحة القمر

وإن تعاكس في مرآة وجنته

حكاه تمثاله في أبدع الصور

ولا تظنهما خالين من شعر

بل إنما الطرف أهدى حبتي بصري

وله :

إن كنت تروي حديث الحب عن دنف

في غامض القول مكنيّ ومرموز

فالحسن يروي أحاديث الجمال لنا

موضحا عن عليّ القدر نيروز

وله مشطّرا بيتين هما لعطاء الله أفندي المدرس بطلب منه :

إلى الله أشكو من بنار بعاده

رماني وقد ضاقت عليّ المسالك

ولما كوى قلبي وأحرق مهجتي

أذاب فؤادي وهو للقلب مالك

ويزداد بالشكوى إليه قساوة

إذا قلت يا مولاي إني هالك

ويترك قلبي في هواه معذبا

كأني عاص وهو في النار مالك

وله :

__________________

(١) انظر ما تقدم في هذا الباب في ترجمة عطاء الله أفندي المدرس المتقدمة آنفا.

٥٠٣

زار الحبيب الذي قد كنت أعشقه

على السماع فحيّانا وأحيانا

وقد سرى العشق من سمعي إلى بصري

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وله :

هنئت يا بدري بصحتك التي

عادت كخادمة إليك موافيه

وخلعت أثواب السقام على العدا

فالبس على دوم ثياب العافيه

وله موشح على طريقة أهل الأندلس ، وهو في المجموعة المارة الذكر :

يا غزال الحي من وادي الحمى

صاد بالألحاظ أسد الحرس

وجلا من وجهه البدر كما

شق صبح الجيد ليل الغلس

دور :

رقم الحسن على غصن الدلال

بيد التصوير في الوجه الجميل

آية النمل على خد الجمال

يا لعمري جلّ هذا عن مثيل

والعيون النجل بالسحر الحلال

قصرت للعمر بالهدب الطويل

ونديّ الورد بالخد نما

حول سوسان بأبهى ملبس

وبه صارم لحظ حرّما

نظرة الوجه على المختلس

دور :

يا نبي الحسن منك المعجزات

قد أزاحت ظلمة الشك المريب

فصباح الوجه فيه البينات

أطلع الشمس على غصن الرطيب

وسماء الخد أندى البركات

وبه الخال يرى قطبا عجيب

وسناء الثغر نجم رجما

ما رد العذل بشهب القبس

ونذير الطرف داع حكما

أن دين الحب قتل الأنفس

دور :

يا نديم الأنس إن الشرب طاب

زمزم الكأس فذا وقت الربيع

فعقيق الثغر بالكاسات ذاب

وجرى الطل على الروض الينيع

٥٠٤

فاجلها سرا فما أحلى الشراب

بين ورد صنع مولانا البديع

فأدار الكاس لما زمزما

طيّب الراح بطيب النفس

وفم الإبريق لما ابتسما

بكت السحب بروض النرجس

دور :

شنّف السمع بأطراف الكلام

من ورا حجب فذا قلبي كليم

واصطفاني بإشارات المرام

فغدوت عبد رق مستقيم

وانجلى لي ثم حيّا بالظلام

فأفاض الحب في القلب السليم

قرب الوصل ولما استحكما

حاكم الحب بقلبي الهجس

أسبل الستر وأخفى الحكما

فأنا في تيه وادي الهوس

دور :

بأبي أفديه من ظبي كحيل

قام يسعى في بنود وبرود

وأتى يختال في الخصر النحيل

مثل غصن لاح في وادي زرود

غزلي في نقطة الخد الأسيل

ومديحي جاء في بدر السعود

من إلى المجد انتمى أصلا كما

طاب فرعا فخلا عن دنس

جاءه نظمي كدر نظما

وسط ثغر ضاء مثل القبس

وقال شيخنا في مجموعته : رأيت في بديعية الشيخ قاسم البكرجي في قسم التشبيه بيتين لإبراهيم القيرواني في العذار ، والطرفان أي المشبه والمشبه به معنويان ، وهما هذان :

أورد قلبي الردى

غصن عذار بدا

أسود كالكفر في

أبيض مثل الهدى

قال الشارح الشيخ قاسم البكرجي : ورأيت من سلك هذا الطريق من شعراء عصرنا منهم مصطفى جلبي البيري فقال :

طرّز منه الجمال

عذاره منذ سال

أسود كالهجر في

أبيض مثل الوصال

ولأخيه عبد الرحمن البيري :

٥٠٥

أورث قلبي الأنين

عذاره مذ أبين

أسود كالشك في

أبيض مثل اليقين

ولعبد اللطيف الكوراني :

طيّر مني الجنان

عذاره منذ بان

أسود كالخوف في

أبيض مثل الأمان

وللشيخ قاسم البكرجي :

أورث قلبي العنا

عذار ظبي رنا

أسود كالفقر في

أبيض مثل الغنى

فأردت أن أقتفي أثرهم في هذا السبق فقلت من هذا النسق سنة ١٢٩٦ :

أورث قلبي السهر

عذار ظبي نفر

أسود كاللحظ في

أبيض مثل الحور

وقلت أيضا :

سلب مني القرار

عذاره مذ أنار

أسود كالليل في

أبيض مثل النهار

وقد التمست من شيخنا الشيخ عبد السلام الترمانيني أن يتكرم من هذا النمط فقال :

رب عذار وفى

فوق خديد صفا

أسود كالداء في

أبيض مثل الشفا

وقال الحاج عطاء الله أفندي المدرس :

أورث قلبي النقم

عذاره مذ هجم

أسود كالبؤس في

أبيض مثل النعم

وقال أخوه أمين أفندي :

أورث جسمي السقام

عذار باهي القوام

٥٠٦

أسود كاللؤم في

أبيص مثل الغمام

وقال عزت بك إبراهيم باشا زاده :

أورث قلبي الهيام

عذار بدر التمام

أسود كالغمد في

أبيض مثل الحسام

وقال الشيخ أحمد المحجوب :

أورث قلبي الجراح

عذاره منذ لاح

أسود كالليل في

أبيض مثل الصباح

وقال بكري أفندي زبيدة الطبيب :

أورث قلبي الثبور

عذار ظبي نفور

أسود كالحزن في

أبيض مثل السرور

وقال أحمد أفندي وهبي :

أورث قلبي الترح

عذار ظبي سرح

أسود كالغم في

أبيض مثل الفرح

وله في هذا المجموع عدة قصائد ودع فيها رفقاءه في الأزهر حين عودته إلى بلده على حسب العادة المتبعة ثمة ، وفيما ذكرته من شعره كفاية.

١٣٠٦ ـ الحاج عبد القادر أفندي الجابري المتوفى سنة ١٣٢٥

الحاج عبد القادر أفندي ابن مراد أفندي ابن عبد القادر أفندي الجابري ، الشهير بحاجي أفندي ، الوجيه السريّ.

ولد كما وجدته في مجموعة لجميل أفندي الجابري سنة ١٢٤٦. قرأ على الشيخ مصطفى الريحاوي ، والشيخ عبد القادر سلطان ، والشيخ هلال القسطلي ومن عاصرهم ، فحصل على الفقه وغيره مقدارا.

وكان في مبدأ أمره ضعيف الحال ، ثم أخذ في تعاطي الزراعة فحسنت حاله وأثرى منها.

٥٠٧

وتداخل مع الحكام وصار عضوا في مجلس إدارة الولاية ، ثم تولى إفتاء حلب في نواحي سنة ١٢٩٢ بعد الشيخ بكري الزبري ، فبقي في هذا المنصب نحو سنتين ، ثم عزل وأعيد الشيخ بكري إليه.

وصار له درس في علم الحديث في الجامع الكبير كان يقرؤه أمام ضريح يحيى عليه‌السلام.

وأخذ في اقتناء الكتب مخطوطها ومطبوعها ، فكان له خزانة كتب نفيسة.

ولم يزل دائبا على الزراعة واقتناء الأملاك إلى أن توفي ١٣٢٥ وعمره ثمانون سنة ، ودفن في تربة الصالحين.

وكان أبيض اللون أشهل العينين مربوع القامة نيّر الشيبة تعلوه الحشمة والوقار ، خصوصا حينما يتعمم بالعمامة الخضراء ، فكان يزداد بها بهاء ووقارا مع نباهة ودهاء. وله مع جميل باشا والي حلب وقائع مشهورة ، وكان الولاة يحسبون له حسابا.

وبنى مسجدا في وسط جادة الخندق ووقف له وقفا. ووقف على ذريته أملاكا واسعة. ووقف مكتبته التي قدمنا ذكرها ، بقيت عند ولده الحاج مراد أفندي إلى سنة ١٣٤٣ ، فسعيت في نقلها إلى المدرسة الخسروية ، ثم نقلت مع بقية المكتبة العامة التي أسست هناك إلى المدرسة الشرفية الواقعة شرقي الجامع الكبير وذلك في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ ، وهي ٦٠٠ مجلد ، ومن جملة نفائسها كتاب «بدائع الصنائع» في الفقه الحنفي الذي سعى ولده الموما إليه ومحمد أسعد باشا الجابري في طبعه في مصر في ٧ مجلدات ، وقد ذكرت ذلك في ترجمة مؤلفه الإمام الكاساني المتوفى سنة ٥٨٧.

ومن نفائس هذه المكتبة كتاب «العدة في شرح العمدة» [عمدة الأحكام] لأبي الحسن علاء الدين علي بن إبراهيم الشافعي العطار في مجلدين ، وهو شرح العمدة للحافظ أبي محمد عبد الغني المقدسي ، وهو منقول عن نسخة المؤلف ، والنسخة محررة سنة ٨٥٤.

وكتاب «تجريد المعقول وخلاصة جامع الأصول» لقاضي القضاة شرف الدين البارزي ، قرىء على مؤلفه سنة ٧١٧ وعليه خطه وخط من قرأه عليه وهو محمد بن سعد

٥٠٨

الله بن عبد الله الحراني ، والنسخة محررة سنة ٧١٥ ، لكنها ناقصة أوراقا من الأول. والجزء الثالث والرابع من «المحيط البرهاني» في الفقه الحنفي. وفتاوي العلامة الطوري ، وهي بخط الشيخ عمر المرتيني الإدلبي. و «فتاوي التاتار خانية» في سبعة مجلدات محررة سنة ٨٤١. وكتاب «المدهش في التاريخ والوعظ» للإمام ابن الجوزي. وجزء من تاريخ العلامة المحبي الدمشقي صاحب «خلاصة الأثر» غير الخلاصة. وكتاب «نصاب الاحتساب» لعمر بن محمد بن عوض الشامي. و «شرح المقصورة الدريدية» لابن خالويه. و «روضة العلماء» للزندوسي. وثبت لبعض العلماء في أوله إجازة من الشيخ عبد الرحيم ابن الشيخ مصطفى ابن الشيخ عبد الكريم الشراباتي لمراد أفندي الجابري والد المترجم محررة سنة ١٢٤٧ ، وهي تفيد أن مراد أفندي المذكور كان من أهل العلم والفضل أيضا.

١٣٠٧ ـ حسني بك باقي زاده المتوفى سنة ١٣٢٥

حسني بك ابن الحاج أحمد أفندي ابن عبد القادر آغا المعروف بباقي زاده ، السريّ ابن السريّ.

ولد في حلب خامس عشر ذي الحجة سنة ١٢٥٩ ، ولما ترعرع تلقى القراءة والكتابة عند الشيخ سليمان أفندي في المكتب المعروف بمكتب السبيل في محلة سويقة الحجارين ، ثم تلقى مبادىء العلوم الدينية والصرف والنحو وفن الإنشاء واللغة التركية ، وألمّ بالفارسية ، ثم تلقى اللغة الإفرنسية والإيطالية على معلم مخصوص إلى أن برع فيهما ، ثم لازم في قلم المجلس الكبير في ولاية حلب. وما زال في ترق إلى أن تولى رياسة كتاب ديوان تمييز الولاية ، ثم صار عضوا فيها ، ثم عين قائمقام لبيره جك فألبستان ، وما زال يتقلب في هذا المنصب إلى أن عيّن رئيسا لديوان التمييز.

وفي سنة ١٢٩٣ انتخب عضوا لمجلس المبعوثين الأول الذي افتتح لأول مرة في أوائل سلطنة السلطان عبد الحميد خان. ولعنايته بالأمور العمرانية وتوجه همته إليها اهتم بوضع مواد قانون البلدية ، فأكثر مواد هذا القانون من آثاره.

وفي ذلك الحين كانت الحرب الروسية على الأبواب ، ولما طرحت قضية الحرب على المجلس كان من رأيه عدم الحرب ، وذلك لما يعلمه من عجز الدولة عن الحرب وفروغ

٥٠٩

بيت المال من الأموال التي عليها المعوّل في الحروب ، وكان رئيس المجلس أحمد وفيق باشا موافقا لرأيه ، لكنه تغلب رأي القائلين بلزوم إعلان الحرب ، وكانت النتيجة خسارة الأموال والرجال والبلاد كما هو مبسوط في أخبار هذه المحاربة.

وآخر وظيفة أسندت إليه عضوية هيئة التحقيق بنظارة الضابطة العثمانية ، ومنها حسب طلبه وإلحاحه أحيل على التقاعد ، وذلك في جمادى الأولى سنة ١٣١٣ ، فلزم من ذلك الحين بيته وأخذ في إدارة أملاكه وأطيانه بالإسكندرونة وناحية أرسوز ، وتعاطى الزراعة بنوع تطبيق على الفن الحديث.

وما زال على ذلك إلى أن وافته المنية على إثر جموح جواده به وسقوطه عنه أثناء عودته من قصبة (قاب أو) مركز ناحية أرسوز ، ونقل وقتئذ إلى الإسكندرونة للتداوي فلم ينجع فيه دواء لكثرة الرضوض وعظم الجروح ، فلبى دعوة ربه في الثالث عشر من شهر شوال سنة ١٣٢٥ ودفن بمدفنه الخاص به بالمحل المعروف بقلعة الصغيرة بالإسكندرونة ، وكان الأسف عليه عظيما لما كان عليه من العلم والمعرفة والدراية في الأمور والدهاء والمعرفة بسياسة الدولة العثمانية ، وكان لها اعتماد عظيم عليه ، وانتدبته لكثير من مهام أمورها ، فكانت تظهر فيها دربته وحنكته.

وكان عارفا باللغة العربية حسن الإنشاء فيها ، وأما اللغة التركية فكان له فيها اليد الطولى ويعد في طليعة الكتاب فيها. وكان عارفا باللغة الإفرنسية والإيطالية ملما بالفارسية والعبرانية والأرمنية ، اهتم بهذه اللغة على أثر الثورة الأرمنية التي حصلت في الزيتون ، وقد بسطنا أخبار هذه الفتنة في أواخر الجزء الثالث (١).

مؤلفاته :

كان للمترجم عناية بجمع الكتب واقتنائها ، صرف فيها مبلغا عظيما ، فكان لديه مكتبة نفيسة غير أنها ذهبت طعمة الحريق الذي حصل في داره في الحوادث الأرمنية التي حصلت في الإسكندرونة في شباط سنة ١٩١٧ م الموافقة سنة ١٣٣٧ هجرية.

وله كتاب «منهاج الأرب في تاريخ العرب» يبحث عن عوائد العرب وحالتهم وعيشتهم

__________________

(١) ص ٣٨٨

٥١٠

في الجاهلية وصدر الإسلام ، ألفه على إثر إعلان ملك الأسويج والنرويج أوسكار الأول بأن من ألّف في هذا الموضوع وحاز قصب السبق فله جائزة كذا ، فكان من جملة من ألّف في ذلك المترجم ، والذي فاز بقصب السبق وحاز الدرجة الأولى العلامة محمود شكري الألوسي البغدادي في كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» ، وقد طبع مرتين الثانية في مصر سنة ١٣٤٣. وحاز كتاب المترجم الدرجة الرابعة ، وبيض من تأليفه نسختين قدم إحداهما للملك المشار إليه وبقيت الثانية عنده ، غير أن السلطان عبد الحميد كان لا يسمح في زمنه بطبع أمثال هذا الكتاب لما فيه من نشر آثار العرب وفضائلهم خصوصا إذا كان من قبل موظف في حكومته ، فبقي هذا الكتاب مهملا محفوظا في خزانة كتب المترجم إلى أن حصل الحريق التي ذكرناه فذهب فيما ذهب.

ويسعى الآن ولد المترجم ثريا بك في استنساخ نسخة منه عن النسخة التي قدمت لملك الأسويج ، وفي عزمه إذا توفق لذلك أن يسعى في طبعه.

ومن مؤلفاته رسالة باللغة التركية سماها «عبرت ياخود مرسينده إيكي دوكون» أي عبرة أو عرسان في مرسين ، وهي درس اقتصادي يفصل فيها حالة الإسراف في الأعراض المؤدية إلى الإفلاس ، طبعت في الآستانة.

ورسالة في التركية أيضا في فن الاستنطاق ، ذيّلها ببيان كيفية إصلاح المجرمين وتهذيبهم ، ووضع فيها خرائط توضح كيفية إنشاء السجون ، وقد طبعت أيضا.

وإحصاء لبلدة الإسكندرونة يحتوي على نبذة من تاريخهم ويبين ما لموقعها الجغرافي من الأهمية السياسية والاقتصادية ، وما حوته من أجناس المعادن وما فيها من ينابيع مائية صالحة للشرب ومعدنية صالحة للاستحمام إلى غير ذلك من الفوائد.

وإحصاء لبلدة حيفا نظير ذلك الإحصاء ، وكلاهما باللغة التركية ، وقدم الاثنين للمابين الهمايوني في الآستانة ونال امتنان السلطان عبد الحميد خان منهما.

ورسالة فصل فيها المسألة الصهيونية قديما وحديثا ، وبين الوسائل التي يقتضي اتخاذها والطرق اللازم سلوكها تجاه هذه القضية ، وقدم هذه الرسالة للمابين أيضا ونالت هناك القبول.

٥١١

آثاره العمرانية العامة والخاصة :

سعى بواسطة الإعانة في تأسيس مكتب رشدي ومكتب ابتدائي وعمارة دار وثلاثة دكاكين ألحقها بالمكتب الابتدائي ، وذلك في الإسكندرونة.

وأسس في حيفا مكتبا ابتدائيا للذكور وآخر للإناث. ورمم في عينتاب (٣٤) دارا للفقراء والأرامل والأيتام التي خربت دورهم على إثر الزلزلة التي حصلت هناك. وجدد عمارة جسر (قشيق) في الزيتون ، وكان قد نسف من قبل عصاة الأرمن. وأنشأ هناك ثكنة عسكرية بواسطة الإعانة مبتدئا بنفسه ثم بما جادت به أكف المحسنين وذوي الحمية. وعمر جسر عفرين الشهير وكثيرا من الجسور التي بين حلب والإسكندرونة وبينها وبين عينتاب.

ووقف بالإسكندرونة وفي ناحية أرسوز وقفا على ذريته وفي وجوه البر والإحسان ، وأشفعه بوقف ثان من جملته حمّام في الإسكندرونة من أحسن حمّامات سورية. وأنشأ غرفة لتدريس علم الحديث وغرفة للمدرس خاصة وتحتها غرفة لمبيت الغرباء الفقراء الذين يمرون من الإسكندرونة ، ومكتبا ابتدائيا للصبيان جعل راتب من يتولى التعليم فيه من غلة وقفه. وأنشأ مخفرا بموقع عين الحرامية في منتصف الطريق ما بين الإسكندرونة وأرسوز تأمينا للمارة هناك.

خلقه وخلقه :

كان رحمه‌الله مربوع القامة ، صبيح الوجه ، ممتلىء البدن ، بشوشا حتى عقب حدته ، وقلما يغضب ، يكره الكبر والخيلاء والتفاخر ، قوي الذاكرة ، محبا للصراحة في النطق ، بعيدا عن الأذى ، كارها للفسق ، متدينا مواظبا على الصلاة ، محبا للعدل وإقامة ميزانه ، وله في ذلك وقائع مشهورة وأخبار مأثورة.

ونال من الرتب الدرجة الأولى من الصنف الأول ، وعلى مقتضى ما كان عليه المترجم من العلم والفضل والدراية يقتضي أن يشغل في الحكومة العثمانية وظيفة أسمى من القائمقامية ، ولكن نفسه الأبية كانت تأبى الخضوع والتملق ، ونوال أمثال هذه الوظائف لابد له من سلوك هذه الطريق وأمثالها ، والمترجم كان بعيدا عن هذه الصفات ، فلذا لم

٥١٢

ينل من الوظائف ما يستحقها ، خصوصا وقد عرفت فيه كبراء الدولة العثمانية أن فيه نزعة عربية.

وكان قد علم نوايا الدولة الغربية واتفاقها على تقسيم الدولة العثمانية ، فكان يسعى بالتوفيق بين مصلحتها وبين النهضة العربية على طريقة اللامركزية ، وتوسيع المأذونية للولايات العثمانية ليحصل التمرين والملكة والاقتدار على الحكم الذاتي رويدا رويدا ، وفي ذلك نجاة الدولة العثمانية من خطر التقسيم ، ونهضة لأبناء الناطقين بالضاد. ولكن لم تتحقق تلك الأماني وكان ما كان من إعلان الحرب العامة وانفراط عقد الدولة العثمانية وانسلاخ الكثير من ولاياتها ، ولا ندري كيف تكون الأحوال في المستقبل فإن الله به عليم.

١٣٠٨ ـ الشيخ محمد الجزماتي المتوفى سنة ١٣٢٦

الشيخ محمد بن عبد الله بن نجيب بن عبد القادر ابن الحاج أحمد الشهير بالجزماتي (١). عالم تزينت الشهباء بحلي علومه ، وأشرقت في ربوعها شوارق فنونه ، فاستنارت بها هذه الأرجاء ، وتعطرت بطيب فضله هذه الأنحاء. كان في الفقه النعماني البحر الرائق ، وانطوى صدره منه على كنوز الدقايق.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٦٢ أو التي بعدها ، ومن حين نشأته شمر الذيل إلى طلب العلم وجد في التحصيل ، فتلقى العلوم النقلية والعقلية على جده لأمه العلامة الشيخ أحمد الترمانيني وشمل بنظره الكريم ، وتلقى علم الفرائض على الفرضي الشهير الشيخ مصطفى الشربجي.

وذهب إلى مصر في سنة ١٢٧٨ وجاور في أزهرها ست سنوات ، تلقى العلم على جملة أفاضل ، منهم الشيخ الدمنهوري والشيخ إبراهيم السقا والشيخ محمد الأنبابي ، وتلقى الفقه الحنفي عن الشيخ محمد الرافعي وعن الشيخ عبد القادر الرافعي مفتي الديار المصرية.

وبعد عودته من مصر ، وكان قد امتلأ وطابه ، شرع في نشر علمه وصار يقرأ الدروس

__________________

(١) الحاج أحمد هذا هو أول من توطن حلب قادما من تلمسان : بلدة في المغرب ، ووالده يسمى الحاج خليل الخبازة من بيت معروف هناك بالعلم والصلاح ، ولهم ثمة زوايا وتكايا.

٥١٣

في الجامع الكبير وغيره ، وهرعت إليه الطلاب وصاروا يقتبسون من أنوار علمه ويكترعون من كؤوس فضله. وحينما كان الشيخ بكري الزبري مفتيا صار لديه أمينا للفتوى ، وكذلك لما عين العلامة الشيخ أحمد الزويتيني لإفتاء حلب أقر في وظيفته وصار معه شيخنا العلامة الشيخ محمد الزرقا ، فكانا أميني دار الفتوى لديه ، وناهيك بهما علما واقتدارا.

وقد لازمته عشر سنين ممن سنة ١٣١٠ إلى سنة ١٣٢٠ ، وأول ما قرأته عليه متن «تنوير الأبصار» في الفقه الحنفي في الحجازية في الجامع الكبير ، ثم شرح «الدرر» لملا خسرو ، ثم «الدر المختار شرح تنوير الأبصار» مع مشارفة حاشية العلامة ابن عابدين عليه. وكان ابتداؤه فيه في شوال سنة ١٣١٦. وأخبرنا يوم شروعه في قراءته أن سنده في الفقه عن الشيخ محمد الرافعي الطرابلسي عن الشيخ أحمد الطحطاوي محشّي «الدر المختار» وعن الشيخ عبد القادر الرافعي عن الشيخ محمد الرافعي المتقدم عن الشيخ أحمد الطحطاوي بسنده. وكان يقرأ دروسه بدون مطالعة لفرط ذكائه وسرعة خاطره. وبقي في أمانة الفتوى إلى حين وفاة المفتي الزويتيني وذلك في سنة ١٣١٦ ، وأنهي له في الفتوى بعده من قبل الوالي رائف باشا لأهليته التامة لهذا المنصب وتضلعه في الفقه الحنفي ، ولم يقسم له ذلك لأسباب نذكرها في ترجمة الشيخ محمد العبيسي الذي صار هو المفتي في حلب بعد الشيخ أحمد الزويتيني.

ومن ذلك الحين ترك هو وشيخنا الشيخ محمد الزرقا وظيفة أمانة الفتوى ، وعيّن لها الشيخ بكري العنداني وشيخنا الشيخ بشير الغزي.

وبقي مواظبا على الدروس والإفادة للطلاب مع وجع الصدر الذي كان لا يفارقه إلى أن توفي ليلة الرابع عشر من المحرم سنة ١٣٢٦ ودفن من الغد في تربة الشيخ ثعلب الواقعة غربي محلة المشارقة وجنوبي المكتب السلطاني ، وكانت جنازته مشهودة.

وكان ماهرا في كتابة صكوك المبايعات العقارية ، يرجع إليه فيها وفي المنازعات التي تحصل في الشركات والمسائل الإرثية ، فكان يفصل بين المتخاصمين ويحكم فيهم بمقتضى الشرع.

ومما نأسف له أن لم يتصد لتأليف شيء من الكتب ، ولعل اشتغاله بالدروس وأمانة

٥١٤

الفتوى والضيق الذي كان في صدره هو المانع له من التصدي لذلك.

وكان رحمه‌الله مربوع القامة ، درّي اللون ، أشهل العينين ، مستدير الوجه ، ممتلىء الجسم ، خفيف اللحية ، لين قشرة المعاشرة ، دمث الأخلاق ، متواضعا ، كريم النفس ، بعيدا عن كل دنية ، وقورا ، محتشما.

وفي الجملة فقد كان حسنة من حسنات الشهباء وركنا من أركان العلم فيها ، عرف فضله الداني والقاصي ، وتلقى الفقه عنه كثيرون ، منهم الشيخ علي العالم قاضي حلب الآن والشيخ عمر المرتيني والمحامي الشيخ عبد القادر السرميني والشيخ أحمد سراج الدين ابن خالته بنت الشيخ أحمد الترمانيني وغيرهم.

١٣٠٩ ـ الشيخ محيي الدين الباذنجكي المتوفى سنة ١٣٢٧

الشيخ محيي الدين الباذنجكي ابن الشيخ سعيد ابن السيد عبد الواحد بن مصطفى بن عبد الرحمن النبهاني المشهور بالباذنجكي ، العالم العامل التقي المرشد.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٢. ولما ترعرع انتظم في سلك الطلاب ، فتلقى العلوم الآلية والفقهية والحديثية على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وتلقى الحساب والفرائض على الشيخ عمر ابن السيد محمد بن شيخ أفندي ، وتلقى النحو أيضا وعلم التفسير والفقه عن أمين الفتوى الفقيه الشيخ مصطفى ابن السيد محفوظ الريحاوي ، قرأ عليه حاشية الصاوي على الجلالين. وجاور في المدرسة القرناصية خمس سنين وهو دائب فيها على الاشتغال.

وأخذ الطريقة القادرية الخلوتية عن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم الهلالي ، وبقي في خدمته نحو عشر سنين ، وأبوه كان آخذا لها عن الشيخ المذكور كما تقدم في ترجمته. ولما توفي الشيخ محمد أخو المترجم ، وذلك سنة ١٢٦٠ ، قعد بعد أخيه على السجادة القادرية في المدرسة الطرنطائية داخل باب النيرب بالقرب من باب الملك ، وصار يقيم الذكر كأسلافه بعد عصر كل خميس مع الإرشاد والتسليك ، وصار له مريدون لا يحصون.

وكان لما لديه من العلم يقرأ الفقه والنحو وغير ذلك لطلبة معظمهم من أهل محلته ومريديه ، مع المواظبة على العبادة والانقطاع إليها وعدم الخروج إلى الأسواق إلا نادرا.

٥١٥

وكان رحمه‌الله على طريقة حسنة ، لا يتعاطى ما يتعاطاه بعض الجهلة المنسوبين إلى الطريق من كتابة حجب وتعاويذ لا تفهم معانيها ولا يدرى ما هي ، بل كان إذا أتي بالمرضى قرأ لهم ما تيسر من القرآن وما جاء في ذلك من الأحاديث النبوية ، ويكتب لهم تعاويذ كذلك ، وكان الناس يرون بركة قراءته وتعاويذه ويشفى الكثير منهم بإذن الله تعالى نظرا لصلاحه وتقواه وعظيم اعتقادهم فيه.

وكان رحمه‌الله حاد البصر ، كان كثيرا ما يرى هلال رمضان وهلال شوال في أول ليلة مع علو سنه ويريه لبعض أولاده ومريديه ، ويأتي حينئذ للمحكمة الشرعية ومعه من رآه من جماعته ويشهدون بالرؤية ، فيزول بذلك الشك والارتياب ، وتقطع جهيزة قول كل خطيب.

وكان رحمه‌الله درّي اللون ، مستدير الوجه ، بدينا ، إلى القصر أقرب ، نيّر الشيبة جدا ، مهابا لا يشك من رأى نورانية وجهه أن قلبه ملىء تقوى وإخلاصا.

ولم يزل على ما هو عليه إلى أن وافته المنية مساء الثلاثاء عاشر رجب سنة ١٣٢٧ ، ودفن من الغد واحتفل في جنازته احتفالا بالغ الحدود ، ودفن في حجرة في المدرسة المتقدمة ، وكان الأسف عليه عظيما. وكانت مدة قعوده على السجادة سبعا وستين سنة ، ولذا كثر أتباعه ومريدوه وصاروا لا يحصون كثرة ، رحمه‌الله تعالى.

١٣١٠ ـ عبد الرحمن زكي بك المدرّس سنة ١٣٢٧

عبد الرحمن زكي بك ابن حسين باشا المدرس ، وجيه ارتضع ثدي المكرمات طفلا ، وسطعت كواكب مجده كهلا ، وظهرت عليه أمارات النجابة منذ نعومة أظفاره ، فكانت تبشر بسمو مقداره.

حصل جانبا من العربية وأكب على درس اللغة التركية إذ كانت هي الرائجة في ذلك الحين ، فحصل منها قسما وافرا وصار له فيها الإنشاء الحسن.

وتقلب في عدة مناصب أولها عيّن مميزا في قلم مكتوبي الولاية ، ثم عيّن عضوا في مجلس إدارة الولاية بقي في ذلك مدة طويلة.

٥١٦

وكان لا يألو جهدا في قضاء مصالح الناس وإن لم تساعده الظروف على قضاء مصلحة اعتذر أحسن اعتذار. ومع وجوده في عضوية مجلس الإدارة صار عضوا في لجنة دائرة الأوقاف وفي لجنة المهاجرين وفي لجنة النافعة. وورث أملاكا وقرى عن والده ، وزادت أملاكه على ما ورثه من أبيه لعنايته بالزراعة.

وكان من صلحاء الوجهاء ، حسن الاعتقاد ، محبا لأهل العلم والفضل ، مواظبا على الصلاة. وكان لا يدع صلاة الصبح في جامع المدرسة العثمانية الواقع بالقرب من داره ، وربما أيقظ خدمة الجامع للصلاة ، وبعد عودته يقرأ جزءا من القرآن ، ثم يجلس لاستقبال الزائرين إلى الضحوة الكبرى ، ثم يذهب لمجلس الإدارة.

وكان سمح اليد ، وبيته محط الرحال ، يؤمه الولاة والمأمورون المعينون لهذه الولاية والذاهبون إلى البلاد الشرقية والآيبون منها ، إذ لم يكن في الشهباء وقتئذ فنادق منظمة كما هو اليوم. وكان الآتون للشهباء والمارون بها ينزلون في البيوت كل صنف من الناس عند صنفه ، وكان هذا هو المعتاد في البلاد السورية والمصرية والعراقية والأناضولية وغيرها. وسمعت بعض الوجهاء يقول بعد وفاة المترجم : إن زكي بك ممن بيّض وجوه الحلبيين بصدره الرحب وحسن قراه لمن أمّ منزله.

وكان يلقب بزكي بك ، ثم لما أنعمت عليه الدولة العثمانية برتبة (أمير ميران) صار يدعى زكي باشا ، أنعم عليه برتبة (روم إيلي بكلربكي) ثم برتبة (بالا) وهي أكبر الرتب القلمية.

ومن آثاره الخالدة الجامع العظيم الذي عمره في المحلة المعروفة بالجميلية ، وسبب عمارته له أنه لما عمر جميل باشا والي حلب داره خارج باب الفرج غربي نهر قويق وغربي التربة الدقماقية التي درس معظمها واتخذ منها جادة وبني في قسم كبير منها دار عظيمة هي الآن دائرة الاقتصاد العامة [وقد ذكرت ذلك في ترجمة الوالي جميل باشا في الجزء الثالث] صار الناس يبنون هناك الدور ، وبني هناك المكتب السلطاني الكبير ، وتتابع البناء فأصبحت محلة واسعة سميت في دوائر الحكومة محلة السليمية ، غير أنه غلب عليها إلى الآن اسم (الجميلية) نسبة إلى جميل باشا المتقدم الذكر ، عند ذلك رأى المترجم أن المحلة أصبحت في حاجة لبناء جامع فيها ، فاهتم في ذلك واشترى أرضا مساحتها ١٤٦٠ ذراعا بالذراع

٥١٧

النجاري وبنى فيها جامعه الذي سمي باسمه ، وكان الباني له الحاج علي صهريج البنّاء المشهور ، وصرف في عمارته نحو ١٥٠٠ ليرة عثمانية ذهبا ، وبعض الناس يقولون إن بعض هذا المصروف من وصية زوجة عمه تقي الدين باشا ، ولا صحة لذلك ، بل جميعه من ماله الخاص. وكان بناؤه له سنة ١٣١٧ وعيّن له إماما الشيخ الفاضل ابن خالي الشيخ محمد كلزية ، وهو إمامه إلى يومنا هذا ، وبنى في الجهة الشمالية من الجامع حجرتين مقبوتين بالأحجار إحداهما لسكنى الإمام والثانية لوضع أدوات الجامع ، وحجرة كبيرة معدة لتعليم أطفال المسلمين القرآن العظيم ، وبنى صهريجا مقبوا بالأحجار واقعا تحت قبلية الجامع يملأ من ماء المطر ، ووضع جرنين يملآن من الصهريج المذكور ليشرب منهما الناس.

ووقف على هذا الجامع في هذه المحلة أربعة دور متلاصقة بناها ودارا وجنينة وعرصة لبناء إصطبل مساحة الجميع ٣٣٥٥ ذراعا بالذراع النجاري كما هو موضح في كتاب وقفه المؤرخ في ثامن عشر شهر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. ومما شرطه في هذا الكتاب أن يشتري المتولي عليه من ريع هذه الدور كل سنة قبل عيد الفطر خاما وطرابيش ونعالا بمبلغ خمسمائة قرش يوزعها على الأطفال الأيتام الفقراء الذين يتعلمون في مكتبه المذكور ، جزاه الله عن سعيه أحسن الجزاء وأجزل له الثواب بمنّه وكرمه.

وكانت وفاته يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرين عن ستين عاما ، ودفن في تربة الجبيلة ، رحمه‌الله تعالى.

ولما أتم بناء الجامع امتدحه الشيخ أحمد ابن الشيخ شهيد الترمانيني مفتي حارم بأبيات مطرزا فيها اسم المترجم في أول كل كلمة من الشطرة الأولى وذاكرا الجامع في آخر كل كلمة منها بحيث صار المجموع بيتا على حدة في كل شطرة منه تاريخ البناء ، وذلك سنة ١٣١٧ ، وطرز اسمه في أول كل كلمة من الشطرة الثانية ، وهي :

(ز) زها بارق الشهباء والمنهل العذب (ب)

(م) مقاصفها يرتاح في شمها القلب

(ك) كما شاء قلبي والهوى لي منهج (ج)

(ن) نهاني النهى عن غيه وله أصبو

٥١٨

(ي) يواصلني في حندس الليل طيفها (أ)

(أ) أفيق ولي والفجر في وصلها حرب

(ب) بدوت وما في البدو قصدي ولم أحم (م)

(ح) حمى وصلها والصب بغيته القرب

(أ) ألا يا بني الشهباء هل ثم سامع (ع)

(م) مجير فلي في طيّ بلدتكم نحب

(ش) شوى قلبي الولهان وجد مبرح (ح)

(د) دعاني لها والحب منهجه صعب

(أ) أنادي وهل بعد الزكيّ محافظ (ظ)

(م) مودة من يحويه مجلسه الرحب

(ل) لرب البرايا تم بالخير سعيه (ه)

(ف) فدونك والتقوى بجامعه تربو

(ه) هويّ دجى الأسحار لله خاشعا (أ)

(ت) تراقبه الأملاك في الليل والكتب

(أ) أعدّ سبيلا ماؤه الوفر هاطل (ل)

(ي) يباح إلى الظمآن منهله العذب

(ل) له الأثر المشكور لله باقيا (أ)

(ح) حميدا وكم لله في دينه صحب

(ف) فكم ثمّ في ملك الحميد محاسن (ن)

(أ) إليه انتمت حقا وفيه لها حب

(ض) ضيا الدين في أيام دولته ولو (و)

(ر) رفعت لقلت الكون والملك والحرب

(ل) لإحسان باريه الزكيّ مناظر (ر)

(م) من الغرّ أبناء المدرس هم حزب

زكي باشا له الفضل ١٣١٧ بجامع حظه الأنور ١٣١٧ من أحمد مفتي حارم ١٣١٧.

ومما يجدر ذكره هنا أنه لما عمر الجامع اتخذ فيه منبرا ، إلا أن السلطان عبد الحميد

٥١٩

خان لما كان لا يأذن بإقامة الخطبة لما يتجدد في زمنه من الجوامع ، وذلك بسبب الوهم الذي كان مستحوذا على أفكاره ، بقي الجامع من حين أن عمر إلى سنة ١٣٢٨ لا تقام فيه الخطبة ولا تصلى فيه الجمعة. ففي هذه السنة سعى السيد بهاء بك الأميري حينما كان مبعوثا عن ولاية حلب في مجلس المبعوثين الذي عقد في الآستانة في الاستحصال على الإرادة السلطانية بالإذن بإقامة الخطبة فيه ، وتوفق إلى ذلك ، واحتفل في أول خطبة أقيمت فيه ، دعي إلى حضور ذلك الاحتفال العلماء والوجهاء ، وكان الخطيب يومئذ شيخنا الشيخ بشير الغزي وتعرض في أثناء الخطبة للثناء على من سعى في هذا العمل المبرور. وبالجملة فإن إنشاء هذا الجامع في هذه المحلة كان له وقع كبير في النفوس ، جزى الله بانيه أحسن الجزاء وأجزل له الثواب بمنّه وكرمه.

١٣١١ ـ الشيخ حسن الكيّال المتوفى سنة ١٣٢٩

الشيخ حسن ابن الشيخ طه الكيّال ، العالم الصوفي الرفاعي الطريقة.

ولد سنة ١٢٦٩. وبعد أن أتم القراءة والكتابة أخذ في تحصيل العلم ، فقرأ على الشيخ عمر الطرابيشي والشيخ إسماعيل اللبابيدي ، وكانا يأتيان إلى زاويتهم المعروفة في محلة وراء الجامع ويقرأان له الدروس ، وعلى الشيخ عبد القادر المشاطي والشيخ محمد الزرقا.

وكان في مبدأ أمره يلبس فاخر اللباس ، ثم خلع ذلك وصار يلبس خشنه ، وأخذ في رياضة نفسه وتقليل الطعام والانقطاع إلى العبادة ، وربما ذهب للاحتطاب ليأكل من ثمن كسبه الحلال ، وصار يذهب إلى مزارات حلب ويظل في كل مزار ساعات ، وحصل له شيء من الجذب ، دام على هذه الحالة نحو ثمانية عشر عاما لم يأو في هذه المدة إلى فراش ، وإذا نام ينام متربعا أو محتبيا ، وقلّ أن ينام قبل طلوع الفجر ، ويظل ليله مراقبا ذاكرا.

وصار للناس فيه اعتقاد عظيم ، وهرعوا لأخذ الطريق عنه ، وكثر مريدوه وازدحموا على حضور مجلس ذكره في كل ليلة جمعة.

وفي سنة ١٢٩٨ حج للبيت الحرام ، وذهب معه نحو عشرين من مريديه كان ينفق عليهم من ماله ، وصرف في هذه الحجة نحو ١٢٠٠ ليرة عثمانية ذهبا. وحصل معه في حجته هذه مسألة اشتهرت عنه وزادت في اعتقاد الناس فيه ، وهي أنه حينما كان هناك

٥٢٠