إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

ورثاه الشيخ محمد عياد المذكور بقصيدة غراء وهي :

مالي لاه باللاحيني (١)

وغراب البين يناديني

وصروف البين تحاربني

بحسام أزرق مسنون

تخذ الأرواح فرندا مذ

دبت في الشفرة بالهون

أنجوم الفضل قد انكدرت

فخبا منها نور الدين

أم روض الفضل غدا زلقا

زاوي زهر ورياحين

أنهار رباه غائضة

والدوح بغير أفانين

لا بل قلبي جزع من فق

د محمد الترمانيني

حبر بحر فطن طبن

أودى شهبا ببراهين

قلبي فيه ترح لما

داعيه أتاه على حين

حفت أملاك الله به

إذ سار إلى عليين

كم مهّد قاعدة وأتى

لأولي العليا بقوانين

لم يصرف همته إلا

ليحوز مقام التمكين

في منطقه أبدى غررا

ببديع معاني التبيين

ورقيق الشعر له طبع

من تقريظ أو تأبين

كلف بالشرع له عمل

بفرائضه والمسنون

كم من فيه كلم لفظت

تزري بالدر المكنون

هو شامة أهل الشام وعم

دة أقيال وأساطين

وبأنطاكية أو حلب

أو جلّق أو قنسرين

أو طرسوس أو تنيس

وطرابلس وفلسطين

فاسأل منها عنه فلكم

حظيت منه بالتزيين

فلئن آوى جدثا فيه

أضحى روض الحور العين

وأهاليه نوح غرقوا

في فلك الدمع المشحون

أو يوم نواه مسود

فيه حسرات المحزون

فصحائفه بيض خضر

ملئت بالتقوى والدين

__________________

(١) هكذا في الأصل.

٢٤١

لكنّ لنفس تسلية

ببقاء النجل الميمون

بارك فيه اللهم كما

باركت لنا في الزيتون

واجعله لنا خلفا حسنا

في المجد أشم العرنين

وصلاة الله وتسليم

لنبي يمدح في نون

والآل الغر وأصحاب

جعلوا شركا في توهين

ما حور الخلد مؤرخة

تال طوبى الترمانيني

١٢٥٠

وأشار الناظم بقوله : واسأل منها عنه فلكم إلخ إلى ما جرى معه أثناء سياحته إلى الشام وفلسطين وتلك البلاد سنة ثلاث وأربعين ومائتين من المناظرات العلمية والأدبية بينه وبين علماء هذه البلاد اعترفوا له بالفضل والنبل وسعة المدارك وقوة الحافظة وفصاحة المنطق وسرعة الانتقال ، وكان موضوع إعجابهم واستغرابهم رحمه‌الله.

١٢٠٢ ـ الشيخ حسن المدرس جد آل المدرس المتوفى سنة ١٢٥٠

الشيخ حسن بن عبد الرحمن الكلزي الحنفي ، أبو محمد العالم الفاضل المتقن الأصولي المنطقي المفسر ، الزاهد الورع التقي النقي المستبصر.

مولده بكلّز سنة ثمان وستين وماية وألف. وقرأ بها القرآن العظيم وبعض المقدمات على الشيخ أبي بكر الآلبستاني ، ثم اشتغل بالتحصيل والأخذ فقرأ على أبي عبد الله محمد المرعشي النحو والصرف ، وعلى الشيخ مصطفى أكسيوركي رسالة في المنطق وأخرى في الآداب ، وعلى فخر الدين عثمان المفتي الشهيد شرح الشمسية ورسالة في الآداب. ثم ارتحل إلى عينتاب وقرأ بها على المفتي (١) أبي حفص عمر بن محمد العينتابي الأوشاري البعض من كتب المنطق والمعاني والبيان ومصطلح الحديث والفقه ، وقرأ على أبي عبد الله محمد الضعيفي العينتابي حصة من تفسير البيضاوي وحصة من صحيح الإمام البخاري وملتقى الأبحر لإبراهيم الحلبي ، وعلى أبي الثنا محمود المقري المفتي حرز الأماني ، وختم عليه القرآن العظيم للسبع على طريق الشاطبية.

__________________

(١) في «حلية البشر» : المحقق.

٢٤٢

ثم ارتحل إلى توقات وقيصرية وبهنسه واشتغل على الفحول من علماء تلك البلاد كالبرهان إبراهيم التوقاتي وأبي عفان عثمان المفتي والسراج علي (١) الخربوطي وأبي عبد الله محمد بن الحسين الحجابي وغيرهم. وقرأ الكتب المطولة في غالب العلوم والفنون.

وقدم حلب وقرأ بها أكثر الصحيح للبخاري وحصة من صحيح مسلم ونخبة الفكر وحصة من تفسير القاضي البيضاوي على أبي اليمن تاج الدين محمد بن طه بن محمد العقاد ، وسمع عليه وأجاز له. ودرس بحلب وأقرأ واشتغل بالإفادة ، ثم ولي تدريس المدرسة العثمانية ودرس بها (ومن هنا اشتهر بالمدرس) ولازمه جماعة.

وكان من العلماء الأذكياء والفضلاء المشهورين.

وقد اجتمع فيه بحلب سنة خمس ومائتين وألف خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام ، وكل منهما قد أسمع الآخر من فوائده. ولم أقف على تاريخ موته ومحل دفنه. ا ه. (حلية البشر).

أقول : كان قدومه إلى حلب في حدود سنة ألف ومايتين ، ثم عين مدرسا للمدرسة العثمانية بعد وفاة مدرسها لمعرفته باللغة التركية وذلك على مقتضى شرط واقفها أن يكون أحد مدرسيها عالما بهذه اللغة. وممن أخذ العلم عنه الشيخ عقيل الزويتيني والشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي والشيخ مراد أفندي الجابري والشيخ أحمد العبجي وخير الدين أفندي المرعشي وإبراهيم أفندي المرعشي وابنه مفتي حلب عبد الرحمن أفندي المدرس ومحمد أسعد الجابري وبهاء الدين أفندي القدسي وغيرهم.

ورأيت في المكتبة الجابرية التي هي الآن في المدرسة الشرفية ثبتا في أوله إجازة من المترجم للشيخ مراد أفندي ابن عبد القادر أفندي الجابري محررة سنة ١٢٤٥. وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وخمسين ، ودفن في تربة الجبيلة ، في أوائلها من الجهة الغربية وحوله قبور ذريته. وهو جد الأسرة الشهيرة بحلب المعروفة ببيت المدرس.

١٢٠٣ ـ الشيخ سعيد البادنجكي المتوفى سنة ١٢٥٠

الشيخ سعيد بن عبد الواحد ابن السيد مصطفى ابن السيد عبد الرحمن النبهاني المشهور

__________________

(١) في «حلية البشر» عمر.

٢٤٣

بالبادنجكي ، والحقيقة ميدانجكي نسبة لجامع محلة ميدانجك.

سلك في الطريق على الشيخ إبراهيم الدارعزاني ، وعنه أخذ الطريقة الخلوتية القادرية وخلفه ، وصار يقيم الذكر أولا في جامع محلة ميدانجك ، ولهذا تلقب بالبادنجكي المحرفة عن ميدانجكي ، ثم بعد سنتين انتقل إلى المدرسة الطرنطائية الكائنة في محلة محمد بيك وصار يقيم الذكر هناك ، إلى أن انتقل إلى رحمة الله سنة ١٢٥٠ ودفن في تربة باب الملك.

وكان يتعاطى صنعة الحياكة ، وكان ملازما للذكر في هذه الحالة ، ورئي له كرامات ظاهرة.

١٢٠٤ ـ عبد الله بن محمد الميقاتي الغرابيلي المتوفى أواسط هذا القرن

ترجمه حسن أفندي الكواكبي في كتابه «النفائح» فقال :

الكاتب الماهر ، والأديب الشاعر ، عبد الله بن محمد ، علم الميقات ، المتجمل بمحاسن الصفات ، قطف من فنون الأدب على حداثة سنه ، ونشأ في حجر الكمال وفاق أصله في فنه. مولده بحلب سنة ١١٨١ إحدى وثمانين ومئة وألف ، ونشأ بها وتنبل ، وقرأ وحصل ، وله اشتغال بالميقات والنجوم ، وفصاحة لسان في المنثور والمنظوم ، وأخلاقه كلها غرر ، وأحاديثه عقود ودرر. وله شعر يذكر مرور النسيم ، ويماثل الدر النظيم ، وهو الآن في الأحياء ، حماه الله من البأساء. وإنه من خواص أحبابنا المترددين علينا من القديم وكل وقت وحين.

ومن شعره ممتدحا الوالد المرحوم (أحمد أفندي) وراثيا له بقصيدة حسناء ، منيفة غراء ، أعرب بها عن كمال محبته وصدق مودته ، مؤرخا بها وفاته وهي هذه :

سحائب الجود والغفران والكرم

تهمي على جدث المولى كما الديم

من ضم أوحد هذا العصر نخبة أه

ليه الأفاضل من عرب ومن عجم

قد خصه الواهب الديان سيدنا

بالعلم والحلم والألطاف والشيم

إلى أن ختمها بقوله :

ومذ سرى جاءنا التاريخ أحمد قد

أوى إلى جنة الإكرام بالقسم

وله ممتدحا لنا ومهنئا بالفتوى ومؤرخا سنة ١٢٠٤ :

٢٤٤

قد سما كوكب الأماجد ذكرا

وتحلّى برتبة العلم درّا

حيث وافت تأوي إليه سريعا

ذاك إذ كان أهلها دام دهرا

ثم لا بدع أن يقال حقيقا

إن أهل الإفضال للفضل أحرى

وبشير السرور قد جاء أرّخ

فدعا كوكب الأماجد ذكرا

وله مادحا لنا ومهنئا بعيد الفطر سنة ١٢٠٥ :

أيا مولاي يا بدر المعالي

ويا عين الأفاضل والموالي

ويا حسن الشمائل من تسامت

بك العلياء والرتب العوالي

فعيد الفطر وافاكم وأضحى

سروره وافرا بالإتصال

هنئت به ودمت بكل خير

إلى أمثاله سامي المقال

مدى الأزمان ما ضاءت بروق

وما طلعت كواكب في الليالي

وأورد له غير ذلك من النظم في مديحه.

وكتاب النفائح قد ظفرت به مخطوطا في خزانة الشيخ محمود بن الشيخ مصطفى الريحاوي وهو بخط المترجم ، وقد كتب في آخره : كمل هذا السفر بقلم الفقير إلى رحمة مولاه السيد عبد الله بن الشيخ محمد الميقاتي الغرابيلي في رجب الفرد لسنة خمس ومائتين وألف. وصدر الكتاب مقرظا له ومادحا لمؤلفه نظما ونثرا حيث قال :

وائح الزهرة لا

يعدلها عرف الزهر

لا بدع لما أحرزت

مدائح القوم الغرر

بني الكواكبي من

سناهم ثنى (١) القمر

لله ديوان فضل رحيب ، وروض مخضل خصيب ، وحديقة غرسها المعاني ، وطريقة تذهل المثالث والمثاني ، لم تزل أثمارها يانعة الجنى ، وأزهارها بارقة السنا ، تزري بغضارة البانة والإهان (٢) ، وبنضارة ميّة وبهان ، نضدها بنان سحبان اليراعة ، وأصل إنسان

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : سنا.

(٢) الإهان : عرجون الثمرة.

٢٤٥

البراعة ، أنهج حباك وأبهج مسعى ، ولا شك بأنه جمع فأوعى ، لا تقاس بند ومماثل ، وهل السّرحان مثل الأسد الباسل ، وقلت :

فما الجداول عند البحر منزلة

وما الثوابت عند البدر صورتها

لو تشوّفه المحبي لتمنى نفحة من طيب ورده ، أو رمقة العتبي لكساه من خلع القبول أفخر بروده ، كيف لا وهو عقد ثناء الأفاضل ، ومورد اجتناء المعارف والفضائل. وقلت :

أتلك روض نضير يانع الثمر

أم سفر مدح بني الزهراء كالزهر

أم بحر فضل خضم رائق بهج

منضد دره لله من درر

أم كاعب زانها لألاء طرتها

فما لديها سناء الشمس والقمر

أم شادن أغيد حاكى الجآذر وال

مهاة لحظا لماه الرافي (١) السكر

أم القلائد من نض الجمان أو ال

عقيان في نحر ذات الدل والخفر

أم الفرائد في زاهي العقود سنا

يبدو بديع معانيها لذي النظر

أم راح أنس تهادينا بنشوتها

حتى نخال معانيها جنى الثمر

أم نفحة من ثمام البيد عابقة

تضوعت بشذا فواحها العطر

أم عرف ريحانة الآداب منتشر

ساد العبير بزاكي طيبه الغضر

أم مطمح الواجد الولهان بان عن ال

سحر الحلال فأمسى منتهى الوطر

أم نشر عرف بشام الشام ضاع لها

أريجه سحرا فاغنم شذا السحر

بل قطف زهرة مدح من مديح بنى ال

زهراء والأنجم الهادين للبشر

كواكب في سما الإفضال مطلعها

لا نوء فيهم لما أبقوا من الأثر

قد خلد الله ذكراهم بكل ثنا

معطر كعرار المعهد النضر

مزين صفحات للطروس كما از

دانت بتمداحهم وصفا أولو الفكر

فكيف لا وهم الزهر الكواكب من

يفد حماهم يوافي أعظم الوزر

فيا رعى الله أوقاتا بهم حسنت

يحوي سناها بديع الحسن والصور

وأن يديم لنا مولى رفيع ذرى

يجل ذكرا عن الترديد والصدر

__________________

(١) هكذا في الأصل.

٢٤٦

صدر همام حفيد للأولى (حسن) ال

صفات والذات والآثار والسير

صافي السريرة وافي الحلم أكمله

مقدس بزكا أوصافه الغرر

بدر الكمال وشمس المجد منزلة

لألاء نوره يجلو حالك السرر

أخي مآثر أسلاف جهابذة

أعاظم قد سموا في المجد كل سري

مطول الباع مطواع البديهة لم

تلف القرائح منه مورد القصر

وعضب ذهن شباه كم ينقح من

ألفاظ حسن صفت معنى عن الكدر

تراجم أعربت عن حال ما وصفت

مع البلاغة والتحقيق في الخبر

ياما أحيلى قوافيه ومنعتها

ما بين مدح وندب غير مختصر

ألفاظه الدر أسماط ملمعة

من الفوائد قد صينت عن المذر

كأنها الرود والخود الرداح أو ال

كواعب الفائقات الوصف والحور

مخدرات رزينات منزهة

عن المثالب والأغيار والأشر

من خالص العرب العربا أورمتها

ولم يشنها حديث البدو والحضر

وإنها الأصل من أرجائهم بزغت

تسري المهامه في البيداء والقفر

لا زال لطف إله الخلق يشمله

في كل آونة من مبرم القدر

وكل آن حميد الذكر مرتقيا

ممتعا ببلوغ السؤل والظفر

ما نمق الدهر منظوم ومنتثر

وما ترنم طير في ذرى الشجر

أو ما تعبد لله الكريم فتى

بصدق قلب خلا عن وصمة الوهر

أقول : وهو من رجال الرسالة الموسومة بالهمة القدسية التي تقدمت في ترجمة العطائي الصحاف. ولم أقف على تاريخ وفاته ويغلب على الظن أنها كانت ما بين الأربعين والخمسين.

١٢٠٥ ـ عبد القادر أفندي الحسبي المتوفى سنة ١٢٥٧

ترجمه العطائي في رسالته «الهمة القدسية» التي تقدمت وأورد له ثمة ما قال على طريق الاقتباس مضمنا قوله تعالى (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ويظهر منها أنه كان فقيها أديبا.

رأيت له في مجموعة كانت عند آل حميد باشا زاده رسالة في أحكام النقود عند تراجع أسعارها وهي في ورقتين ألفها سنة ١٢١٦ ، يستفاد منها أنه كان أمينا للفتوى حينما كان

٢٤٧

عبد الله أفندي الجابري مفتيا ، ورسالة سماها «حسن السبك في صوم يوم الشك» في ورقتين أيضا ألفها سنة ١٢١٨ ، والمجموعة بخط أبي اليمن السيد محمد مهدي زاده كاتب الفتوى بحلب.

وأورد له في المجموعة المذكورة هذا الموشح الأندلسي وقد أحسن فيه وأجاد :

كيف يسلو من غدا جار الحمى

ما له غير الظبا من مؤنس

فهو يزداد ولوعا كلما

مرحت تزهو بأبهى ملبس

دور

رشأ يمزج هجرا بوصال

حيث لا تدري دنا أو نفرا

معرضا يبدو ولكن عن دلال

ثم يأتي راحما معتذرا

وإذا واصل أبدى للملال

فتراه واصلا قد هجرا

يبتغي للحب سفكا للدما

وهو لا يرضى بقتل الأنفس

حار أرباب الهوى فيه كما

حارت العين بضوء القبس

دور

عجبا للكاس يدنو نحو فيه

أله يلثم أم منه ارتشف

هل رأى قط مداما حل فيه

أم لماه العذب بالراح اتصف

قال صرف الراح لي لا أرتضيه

ثم نادى كل من ذاق عرف

إنما عندي الطلا ذاك اللمى

وهو عذب ما به من دنس

وله أشرب ما دمت وما

أرتضي غير الشراب الأنفس

دور

هذه الأغصان ما بين الرياض

مذ رأت قدك خرّت سجّدا

والأزاهير اكتست ثوب البياض

من سنا وجهك لما أن بدا

وللقياك سعى الماء وفاض

وهزار الدوح شوقا غرّدا

فانظر الطل حروفا رقما

فوق أوراق الغصون الميّس

٢٤٨

أفهمت أن الذي قد وسما

لك هذا الحسن ذات القدس

دور

يا عذولي كف عن هذا الملام

لست تدري في البرايا ما الخبر

ليس هذا الحب بل هذا الهيام

وله نار لها أقوى شرر

خل عن لوم محاريق الغرام

ما بقي منهم لجسم من أثر

ليس ذو الجهل كمن قد علما

وانتفت عنه دواعي الهجس

إن من عانى هوى تلك الدمى

فسلوه هل إلى العهد نسي

دور

وصلاة الله تترى أبدا

على طه المصطفى سر الوجود

من إلى الحق الورى حقا هدى

وأقام الدين مع خير جنود

وعلى آل وصحب سرمدا

من لهم في الله ذوق وشهود

ما أضاء النجم في أفق السما

ومحا البدر ظلام الغلس

وبعفو يا الهي أنعما

وارض يا مولاي من عبد مسي

وهذا الشعر ضرب من السحر الحلال ونوع من السهل الممتنع. وله أيضا :

إليك انتهى حبي فلا تك هاجري

فأنت منى قلبي وسمعي وناظري

وحقك إني فيك لا غير واجد

وقد حسنت يا بدر فيك سرائري

فلي في الهوى صبر جميل وعنكم

فؤادي إذا غبتم فليس بصابر

أهابك إن وافيتني متعطفا

وأخشاك إن تجفو وإن تك جابري

رعى الله من وافى بعفته الهوى

وكان مع المحبوب غير مخامر

ومن يك في دعوى المحبة صادقا

فلا يعتريه قط سوء الخواطر

فإن خطرت في الحب منك خواطر

فآثر لمن تهوى على كل خاطر

فذو الحب لا يرضى لذات حبيبه

سوى حسن أوصاف وطيب مآثر

بما منك من لطف إلى غير عاشق

بما فيك من ظرف فكن أنت عاذري

بذاك المحيا منك بالثغر باللمى

بذاك اللمى الحالي بتلك المحاجر

فمن لامني لم يدر ما بي من الجوى

ولم يدر طعم الحب غير المثابر

٢٤٩

فيا عاذلي إن رمت نصحي فلا تكن

بعذلك في حسن الحبيب مناظري

إذا رمت أن تلقى الجواهر كلها

ففي ثغر من أهوى جميع الجواهر

وله مهنئا الوزير المكرم محمد باشا في الوزارة ومنصب حلب سنة ١٢١٩ :

هذي شموس سيادتك

قد أشرقت برياستك

هذي الوزارة أقبلت

تسعى بنشر عنايتك

فالعز والأمر المطاع

لدى ركاب سعادتك

والنصر والفتح المبين

هما قرين شهامتك

فلنا البشارة حيث إنا

تحت ظل حمايتك

لا زلت تكسو بلدة

الشهباء برد عدالتك

وتبيحها باللطف

والإكرام برد عنايتك

فالشكر للمولى الجليل

على جميل إمارتك

حقا لقد سطعت على

الشهبا نجوم رعايتك

ومن السعود قد ارتدت

برداء عز صيانتك

فلذا دعوت مؤرخا

دامت سعود وزارتك

وله مهنئا في رتبة للعالم المجيد هبة الله أفندي حال كونه قاضيا في بغداد :

حاز في العلياء مجدا

وغدا في الفضل فردا

هبة الله لنا يا

ربنا شكرا وحمدا

سيد دانت له

أهل المعالي إذ تحدّى

ساد في الأقطار شاما

وعراقا ثم نجدا

كم له فيض علوم

عمت الطلاب رفدا

وتصانيف فنون

هي بالروح تفدّى

رام إدراك المعالي

وبها حقا تردّى

فأتته رتبة الشهباء تنقاد وتهدى

وهو يسموها منارا

وفخارا ثم حدا

فأنا أثني عليه

دائما حبا وودا

٢٥٠

ولقد قيل قديما

رب جيد زان عقدا

فأجابه القاضي هبة الله أفندي المذكور :

يا هماما حاز مجدا

وغدا بالروح يفدى

وسما حيث المعالي

فكساها الفخر بردا

وبدا شمس علوم

في سما العلياء تبدى

يا أخا الأفضال إني

في دعاء لك يهدى

واشتياق بي أضنى

وبجسمي قد تردى

أنت حسبي من فريد

من كريم فاق جدا

قد أتاني منك در

كان لي في الجيد عقدا

بت منه في تهان

مع سرور لي أهدى

مذ أتتني رتبة

الشهباء تهني بك حمدا

وهي في الفخر بفضل

منك يا روحي أجدى

أنت سحبان وقسّ

من يضاهيك تعدّى

دمت في الفضل فريدا

ولك العلياء تسدى

توفي المترجم سنة ١٢٥١ ألف ومائتين وإحدى وخمسين ودفن بتربة الصالحين.

١٢٠٦ ـ الشيخ محمود المرعشي المتوفى سنة ١٢٥١

الشيخ محمود أفندي ابن أحمد بن محمد ، المرعشي المولد الحلبي الموطن ، من بيت عريق في العلم والفضل والمجد في مرعش.

ولد فيها في القرن الثاني عشر ، وأخذ العلم عن علمائها ، وتنقل في البلاد لأخذ العلم ، وبعد أن برع في العلوم العقلية والنقلية باشر التدريس والاشتغال مع الطلبة في مدرسة أجداده وجامعهم المسمى (شكر لي جامعي) الذي لا يزال قائما في مرعش إلى الآن.

وكان رحمه‌الله مع ما هو عليه من العلم ميالا إلى الزهد والتقوى ، فساقه ذلك إلى أخذ الطريق والاشتغال بذكر الله تعالى وتصفية النفس من كدوراتها ، إلى أن أشرقت على قلبه أنوار الولاية وظهر منه كرامات كثيرة لا تعد رواها عنه من شاهدها منه.

٢٥١

وبقي على هذه الحال في بلدة آبائه مرعش إلى أوائل القرن الثالث عشر حيث هاجر منها إلى حلب. وسبب هجرته أنه كان في مدينة مرعش فرقتان من السكان تتنازعان السيادة فيها شأن ذلك الزمن ، وهما عائلة البيازيدية (نسبة لبيازيد بلدة من معاملات أرزن الروم) وعائلة (الدلغادرية) وهي من نسل الدولة الدلغادرية التي كانت مستولية قبلا على مرعش إلى أن استولت عليها الدولة العثمانية وأخذتها منهم ، وكان بين العائلتين تنافس وضغائن كثيرا ما كانت تؤدي إلى القتال وإهراق الدماء ، وكان الشيخ ميالا للفرقة الأولى ، وحيث إنه كان مفتي البلدة معظما ومحترما عند الدولة العثمانية ورجال حكومتها وله الكلمة المسموعة لديهم وكلمته لا ترد عندهم ، فكانت فرقته متفوقة على الفرقة الثانية ، فعزم بعض الجهال من هذه الفرقة على قتله ، واختفوا ليلا أمام داره ، وبينما كان عائدا من صلاة العشاء مع بعض طلبته أطلق أحدهم رصاصة أصابت يد الشيخ ، فخر الشيخ مغشيا عليه ، فظن الطالب الذي كان مرافقا له أنه قد قتل ، فعاد إلى الجامع وصعد إلى منارتها ونادى بأعلى صوته إن الشيخ قد قتل ، واستنفر فرقته ، فخرجت الفرقتان بأسلحتهما واقتتلتا حتى سقط من الطرفين سبعة عشر قتيلا ما عدا الجرحى ، فلما بلغ المترجم الخبر قال : لا أسكن بلدة أكون سببا لوقوع القتلى فيها. وركب من ساعته وخرج مع بعض أشياعه قاصدا حلب ، فوافاها سنة ١٢١٠ تقريبا. ولما وصلها نزل في المدرسة العثمانية ، ثم حل ضيفا على مدرسها الشيخ حسن الكلزي ، وبعد أن تعارفا وعلم كل واحد منهم قدر صاحبه وعلمه وفضله قر رأي المترجم على البقاء في حلب واتخاذها وطنا ، وقد كان في بادىء الأمر عازما على الذهاب إلى الشام والإقامة فيها كي لا يرى أحدا ولا يراه أحد ممن يعرفه ويشغله على عبادة ربه والعزلة عن الناس ، فأصر عليه الشيخ حسن بالبقاء في حلب وزوجه ابنته ، وكان للمترجم ابنة في مرعش فأحضرها وزوجها لابن المترجم عبد الرحمن أفندي ، وبقي بعد ذلك في حلب إلى أن توفي فيها.

وكان رحمه‌الله مثابرا على خطته وسيرته الأولى وهي الانقطاع إلى الله بالعبادة والزهد والتقوى ، لا تشغله الدنيا عن الآخرة ، ولا يرى عملا يؤديه إلى رضاء الله إلا عمله ، فمن ذلك أن الدولة الإفرنسية لما احتلت مصر وذلك سنة ١٢١٢ وعزمت الدولة العثمانية على إخراجها منها وصارت ترسل الجيوش من البلاد ، فكان المترجم في مقدمة الذاهبين مع العساكر إليها وجاهد ثمة مع من جاهد ، إلى أن أذن الله بالفتح ورجوعها إلى حوزة

٢٥٢

الدولة العثمانية ، وبعد عودته خرج سائحا مع بعض إخوانه إلى بغداد لزيارة ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني ، واجتمع بأكابر علمائها وفضلائها.

ولما ذاعت شهرته وبعد صيته سمع به السلطان محمود الثاني فأرسل إليه يستقدمه ليتبرك به ، فذهب إلى الآستانة وبقي فيها سنة كاملة وأقرأ أخت السلطان (أسما سلطان) وظهر هناك على يده كرامات عديدة. ولما عزم على الرجوع إلى حلب عرض عليه السلطان أملاكا ومقاطعات فلم يقبلها ولم يأخذ سوى بعض ألبسة صوفية [جوخ] وعدة مصاحف خطية.

وأما آثاره العلمية فكانت لا تتعدى علم التصوف حيث كان الغالب عليه هذه الحال (١).

ولما أبادت الدولة العثمانية العساكر الأنجكارية أنقذ المترجم رجالا كثيرين منهم من القتل بشفاعته لما كان له عند الدولة من رفعة المنزلة وحسن القبول ، مع أن إنقاذ واحد من هؤلاء من القتل كان أمرا صعبا جدا. ومع هذه المكانة كان قانعا من الدنيا باليسير راضيا بالكفاف هو وأولاده الصغار لا يملك من حطام الدنيا شيئا. وكاتبه الملوك والأمراء.

وكان قوي الجأش ماضي العزيمة لا تأخذه في الله لومة لائم ، حتى إنه لما قدم إبراهيم باشا المصري إلى حلب بادر إلى زيارة الشيخ وكان قد كف بصره وبلّغه سلام أبيه محمد علي باشا وأعرب له عن ألمه لمصاب الشيخ في بصره ، فما كان منه إلا أن أخذ في نصحه وحضه على العدل وعدم الظلم للرعية ، ومن جملة ما قاله له : [إني أحمد الله أنه كف بصري حتى لا أرى ظالما مثلك]. ولما بلغ محمد علي باشا أن الشيخ فقد بصره أنفذ إليه طبيبا من مصر لمداواته ، فلما حضر الطبيب قال له : يلزم عليك أن تلتزم السكون مدة خمسة عشر يوما وأن تكون مستلقيا على ظهرك مع تعاطي الدواء لتشفى ، فلم يقبل بذلك مخافة إضاعة الصلاة بأوقاتها ، ورجح بقاءه فاقد البصر ، إلى أن توفاه الله في حلب سنة ١٢٥١ ألف ومائتين وواحد وخمسين ، ودفن في تربة الجبيلة رحمه‌الله تعالى. ا ه. (من قلم حفيده الوجيه نافع أفندي المرعشي بتصرف قليل).

__________________

(١) رأيت من مؤلفاته في مكتبة حفيده الوجيه الحاج فاتح أفندي المرعشي كتاب «وصلة السالك إلى أقصى المسالك» وهو مختصر «غنية السالكين» في التصوف وهو شرح على «ورد الستار».

٢٥٣

أقول : وقد اطلعت عند حفيد المترجم إبراهيم أفندي المرعشي على ثبت بخط المترجم موسوم «بعقد الجوهر الثمين في أربعين حديثا من أحاديث سيد المرسلين» من أربعين كتابا جمعها العلامة الشيخ إسماعيل الجراحي العجلوني محدث الشام ، وبعد أن أورد الأربعين حديثا من أربعين كتابا ذكر إجازة الشيخ أحمد بن عبيد العطار بهذا الثبت للمترجم عن شيخه العجلوني المذكور وقال فيها بعد الخطبة : وبعد فقد اجتمعت بالعلامة الكامل والفهامة الفاضل الشيخ محمود أفندي ابن الشيخ أحمد مفتي مرعش حين قدومه مجاهدا صحبة الوزير الصدر الأكرم سنة أربع عشرة ومايتين وألف من الهجرة ، ورأيته محرزا قصب السبق في العلوم ، وفارس ميدان المنطوق والمفهوم ، وقد التمس مني الإجازة العامة مع ذكر الأسناد. وبعد أن سمع مني أربعين حديثا من أربعين كتابا التي جمعها شيخنا الشيخ إسماعيل العجلوني في هذه فأجبته لذلك .. إلخ. وفي هذا الثبت إجازة من الشيخ محمد بن مصطفى ابن عثمان الخادمي للمترجم بالطريقة النقشبندية ، وإجازة بالقراءات العشر من أبي بكر يعقوب بن كوسيح بن عمر الكمشخاني مولدا الأماسي وطنا ، وفيه أنه أخذ الفقه الحنفي عن الشيخ أحمد الدمنهوري المصري بسنده ، وفيه إجازة بكتب الحديث والتصوف من الشيخ محمد بدير المقدسي وقد سمع منه بالقدس معظم صحيح البخاري وجميع كتاب الشفا للقاضي عياض ، وإجازة بجميع مروياته وأخذ عنه الطريقة الشاذلية ، وفيه إجازة من الشيخ أحمد بن حسن الأركوني الأماسي. وأخذ الطريقة الأحمدية البدوية عن الشيخ أحمد بن عبد الوهاب بن عبد المتعال. ومن غريب ما وجدته في ثبته هذا سنده في الأذان حيث قال : إني تلقيت الأذان عن السيد علي بن السيد حسن المعروف برئيس المؤذنين في الجامع الشريف النبوي ، وهكذا إلى أن وصل السند إلى الصحابي الجليل بلال الحبشي رضي‌الله‌عنه مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو لا طوله لذكرته بتمامه لأني لم أر له نظيرا فيما اطلعت عليه من الأثبات. وممن أجاز المترجم الشيخ محمد الدرندوي المفتي بها والمدرس بمدرسة حسين باشا وهي آخر الثبت.

١٢٠٧ ـ الشيخ يوسف القارلقلي (١) المتوفى سنة ١٢٥١

الشيخ يوسف بن خليل بن محمد المنير ، المشهور بالقارلقلي (١) والسماني.

__________________

(١) في الأصل : القارقلي.

(١) في الأصل : القارقلي.

٢٥٤

ولد سنة ١١٦٥ ونشأ في طلب العلم وجد فيه إلى أن فضل ، وأخذ الطريقة الخلوتية والقادرية عن جده لأمه الشيخ عبد اللطيف بن أبي شكرة من محلة المعادي ، وهو أخذها عن الشيخ سعد اليماني الأهدلي ، وهو أخذها عن الشيخ محمد هلال بن الشيخ أبي بكر الرامحمداني.

وكان ملازما للعزلة والعبادة ويقرأ الدروس في جامع قارلق واشتهر بالنسبة إلى هذه المحلة ، وكان يقيم الذكر يوم الأحد بعد العصر وللناس خصوصا سكان تلك المحلات اعتقاد عظيم فيه ، وهو جدير بذلك لما كان عليه من الصلاح والتقوى والقناعة.

وله يوان شعر محتو على قصائد وموشحات ومدائح نبوية ومواليات. ومن مؤلفاته منظومة في الفقه على المذاهب الأربعة وهي في خمس كراريس مطلعها :

من بعد بسم الله والحمدلة

أزكى صلاتي لنبي الرحمة

لكنها ركيكة النظم ظهر لنا منها أن المترجم لم يكن من المتضلعين في العلوم الأدبية ولم يعان قرض الشعر لاشتغاله بما هو أهم وهو الإرشاد والذكر وتلاوة الأوراد. وقد أدرج أحمد عقيل المنشد الشهير هذه المنظومة في مجموعة له وهي في ١١٦٥ بيتا ، ويوجد منها نسخة في المكتبة الصديقية بحلب.

وله منظومة في الطبائع الأربع في إحدى عشرة ورقة ، ومنظومة في علم الموسيقا والأنغام وفي الأصول التي يعبرون عنها بالتم والتك ، ومنظومة في أسماء الله الحسنى وغير ذلك.

وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين ودفن في تربة قارلق رحمه‌الله.

١٢٠٨ ـ الشيخ محمد هلال السرميني المتوفى سنة ١٢٥٥

الشيخ محمد هلال بن أحمد السرميني ، جد بني السرميني العائلة القاطنة في محلة الجلّوم الكبرى.

ذكره الشيخ أبو الوفا الرفاعي في منظومته سكان حلب فيمن دفن في تربة السنابلة ووصفه بالفاضل. وقد رأيت قبره وقد كتب عليه أنه توفي في صفر سنة ١٢٥٥.

ومن آثاره كتاب في علم النحو سماه «الحقايق» شرحه تلميذه الشيخ عمر الطرابيشي.

٢٥٥

وبلغني أن له ديوان شعر لكني لم أقف عليه ولا على شيء من نظمه ، كما أني لم أقف من ترجمته على أكثر من ذلك رحمه‌الله تعالى.

١٢٠٩ ـ الشيخ محمد الكيالي الإدلبي المتوفى سنة ١٢٥٥

ترجمه صديقنا الفاضل العياشي مفتي إدلب فيمن ترجمه من فضلاء بلدته قال :

ومنهم العالم الفاضل مربي المريدين الشيخ محمد أفندي الكيالي ، انتفع بعلمه الجم الغفير. وله كتاب «رحلة إلى الديار الدمشقية».

انتقل بالوفاة سنة ١٢٥٥ ودفن بإدلب رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٢١٠ ـ الشيخ عبد الرحمن أفندي المدرس المتوفى سنة ١٢٥٦

الشيخ عبد الرحمن أفندي ابن حسن أفندي المدرس.

ولد في حلب ، ولم أقف على تاريخ ولادته ، وبها نشأ. حصل على والده وغيره إلى أن برع وفضل ، وولي إفتاء الحنفية في حياة والده لكبر سنه. وحينما أتى إبراهيم باشا لم يكن راضيا عن أعماله ، وكان يخابر الدولة العثمانية في أحواله ، فأحسن بذلك إبراهيم باشا فقبض عليه ، غير أنه لمكانته بين الأهلين خشي من البطش به فنفاه إلى عكا ، وقدمنا شرح ذلك مطولا في ترجمة الشيخ محمد الترمانيني ، ثم سمح له أن يقيم في الشام وذلك بشفاعة متصرف عكا لدى محمد علي باشا ، ولما غادر إبراهيم باشا البلاد السورية مع جيوشه عاد إلى وطنه وبقي على تصدره في الشهباء إلى أن توفي سنة ١٢٥٦ ودفن في تربة الجبيلة بجانب قبر والده.

وكان رحمه‌الله دمث الأخلاق رحب الصدر مبذول الجاه مخالطا للناس ، بخلاف والده فإنه كان ممن يحب الانزواء ويؤثر العزلة.

وخلف من الذكور تقي الدين باشا وحسين باشا وإحسان أفندي وعطاء الله أفندي وأمين أفندي وسعيد أفندي.

٢٥٦

١٢١١ ـ نصر الله الطرابلسي المتوفى في حدود ١٢٥٦

نصر الله بن فتح الله بن بشارة الطرابلسي. ترجمه صاحب مجلة المشرق في الجزء الثالث منها ترجمة طويلة نقتضب منها ما يأتي ، قال :

ولد نصر الله في حلب سنة ١٧٧٠ ميلادية ، وقد كان أبوه أتى من طرابلس إلى حلب للتجارة فتوطنها وتأهل فيها ، فولد له المترجم. ولما ترعرع أخذ يدرس مبادىء العلوم على أدباء مدينته فأتقنها بوقت قريب ، ثم حمله حبه للمعارف إلى أن يتفرغ للدروس البيانية والآداب ، فحفظ بعد قليل شيئا من أشعار العرب ونوادرهم وأخبارهم ، وكان مع ذلك عذب اللسان خفيف الشمائل جميل الطلعة ، فرغب كبار الناس في مجالسته وأعجبوا برقة محاضرته.

ودرس اللغة التركية والفارسية وتضلع منهما وصار ينظم الشعر فيهما. وممن اجتمع بهم ومدحهم بشعره يوسف لويس روسّو قنصل دولة فرانسة في حلب ، فكتب إليه من قصيدة يهنئه بعيد الفصح سنة ١٨٠٨ :

هو الماجد المفضال بالحزم والندى

ومن لم نجد في المكرمات له ندّا

غمام همى بحر طمى أسد حمى

همام سما نحو السما فاضل أهدى

وما روضة غناء لذ مقيلها

وهز الصبا النجدي أغصنها الملدا

وسح عليها القطر والبرق منتض

مهنده البتار إذ بارز الرعدا

وأكرمها فصل الربيع لحسنها

فألبسها من خير ترقيمه بردا

ونرجسها أبدى وقوفا وهيبة

وغض لحاظا حينما نظر الوردا

بأحسن منه منظرا عند نيله

وحين يلاقي الضيف أو يكرم الوفدا

أمير إذا ما زرته ولقيته

ترى السعد والإقبال من حوله جندا

وله في القنصل المذكور من قصيدة قدمها له لما فارق الشهباء :

لقد شط قلبي يوم سارت حمولكم

بسفح قويق حين أظعانكم تحدى

ودارت كؤوس اللثم عند وداعنا

وقد وخدت أيدي المطايا بكم وخدا

لحى الله أيام النوى ما أمّرها

فما أقبلت إلا وشيبت المردا

٢٥٧

أحباي لا والعهد ما خنتكم به

ولا كان حب حال أو نكث العهدا

وكان بين صاحب الترجمة وأدباء المسلمين في حلب مودة ومفاوضات في الشعر والنثر ، فمن ذلك قوله يمدح أحد كرام أسرة شهيرة وهو النقيب محمد أفندي ابن الجابري :

نعم أنجز الدهر الوعود وتمما

فشكرا لمن بالمقصد الفرد أنعما

صحا الدهر من سكر الغباوة واهتدى

وتاب وعن طرق الغواية أحجما

وآض يروم العذر عن كل ما جنى

ويطلب منا العفو عما تقدما

فأصبح وجه الحق في الحكم ضاحكا

وقد كان قبلا أربد اللون مقتما

ومنها في التخلص إلى المديح :

بلى عرجا نحو الربوع التي زهت

إذا جئتما في الحي من أيمن الحمى

فثم مغان قد تبدى سماؤها

عليها رواق المجد والسعد خيّما

وما ذاك إلا أنها قد تشرفت

بتقبيل أقدام الهمام الذي سما

محمد ابن الجابري الذي به

لقد جبر الله القلوب بعيد ما

نقيب السراة الغر من آل هاشم

مصابيح فضل إذ دجى الليل أظلما

وهي طويلة أوردها صاحب المشرق بتمامها.

وكتب إلى الشيخ هاشم أفندي الكّلاسي :

لما سمعت مسلسلا عن سادة

أن الفصاحة كلها في هاشم

يممت ناديه (١) وألقيت العصا

ورجوت يقبلني ولو كالخادم

إن جاد لي بالإرتضا فبفضله

أو لم يجد فلسوء حظ الناظم

فأجابه الشيخ :

إني شممت عبير نشر قريحة (٢)

عطرية من نظم هذا الناظم

فبمثله أهلا وسهلا مرحبا

بمسامر ومنادم لا خادم

__________________

(١) هو كما رأيته في بعض المجاميع : فأنخت راحلتي ... إلخ.

(٢) هذا البيت محرف في مجلة المشرق ، وقد أثبته صحيحا على ما رأيته في المجموع المتقدم.

٢٥٨

ولما كانت سنة ١٨١٨ حاول جراسيموس مطران الروم غير الكاثوليك في حلب أن يكره الروم الكاثوليكيين على طاعته ، فأبو إجابة طلبه ، فأخذ يدس لهم الدسائس حتى تمكن من قتل ١١ شخصا منهم فضلوا الموت في سبيل الحق على أمره ، واضطر غيرهم إلى الفرار إلى لبنان ، فأقاموا فيه إلى سنة ١٨٢٥ ، فقال نصر الله من قصيدة يصف أحوال ملته واعتداء جراسيموس على طائفته وما قاساه الكاثوليك في تلك المحنة :

دع العين مني تذرف الدمع عندما

فحق لهذا الخطب أن تسكب الدما

وخل زفير القلب يحرق أضلعا

أبت من لهيب الحزن أن تتقوما

وذر كبدي تفنى من البؤس والأسى

فحق عليها أن تذوب وتعدما

وهي طويلة أورد معظمها في مجلة المشرق.

ورحل إلى مصر سنة ١٨٢٨ واختص هناك بخدمة حبيب البحري ، فصار من كتاب الديوان تحت نظره. ولما بنى حبيب البحري قصرا في النيل سنة ١٨٣٠ م (١٢٤٦) قال الطرابلسي يهنئه بهذه القصيدة :

إن البناء دليل قدر الباني

وجماله للمرء ذكر ثان

ودليل حسن العقل ما يختاره

وبذاك تعرف قيمة الإنسان

ونتيجة الأفعال في آثارها

وجلالة الأخطار في البنيان

ومحاسن الآثار توضح ما خفى

من فضل موجدها مدى الأزمان

وهي طويلة أوردها ثمة بتمامها ، ثم قال : ثم أصاب الطرابلسي عند ولي نعمته حظوة وترقى في خدمته ، فأدخله البحري على محمد علي باشا أمير مصر في ذلك العهد ، فأكرم مثواه وأجازه. ولصاحب الترجمة فيه قصائد لم نقف عليها. ومما قاله في ذلك الزمان وصفه لخزانة مجموعات السكك القديمة في القاهرة :

أفيقوا بني الدنيا فقد وعظ الدهر

فليس لكم من بعد إنذاره عذر

ألم تسمعوا من حاز شرقا ومغربا

وضاقت به الآفاق قد ضمه القبر

فأين الملوك الصيد من خضعت لهم

رقاب الورى ثم أطاعهم القصر

وأين الأولى سادوا وبالعلم قد غدوا

فلاسفة من لفظهم خجل الدرّ

فماتوا وما أضحى لنا من تراثهم

سوى سكة يبقى لهم ضمنها ذكر

٢٥٩

فواحيرتي كيف المعادن لم تزل

ونفنى فذا أمر يضيق به الصدر

ولكن مراد الله جلت صفاته

فليس لنا إلا الرضى وله الأمر

ألا رحم الله امرءا سار صالحا

وقدم خيرا قبل أن ينقضي الأمر

وعاش الطرابلسي في مصر إلى أواسط القرن الحالي ، لكننا لم نقف على تاريخ وفاته.

وله قصائد كثيرة اغتالت أغلبها أيدي الضياع ، وأكثر ما أوردناه من شعره قد جمع شتاته بعض أدباء حلب. وله مخمّسا :

فؤاد لأغراض الحبيب تصدعا

وقلب لترحال الطبيب توجعا

فيا من حفظت العهد فيه وضيّعا

متى نلتقي حتى أقول وتسعما

لقد كاد حبل الود أن يتقطعا

جعلت هوى الأحباب دابي وديدني

وقلبي من فرط المحبة قد فني

ذهبت غراما من هواهم وليتني

فأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية يتصدعا (١)

لحا الله من حب محب ووالع

صبور على الأحباب ليس بطامع

فيا قلبي المحزون مت موت طائع

فليست عشيات الحمى برواجع

إليك ولكن خل عينيك تدمعا

وأورد له ثمة غير ذلك من الشعر وفيما ذكرناه كفاية.

وترجمه الشاعر الأديب قسطاكي بك الحمصي في كتابه (أدباء حلب) فقال ما خلاصته : أنه سار عن حلب عقيب نكبة أصابته كاد يهلك بسببها ، ثم اكتفى الحاكم بسجنه وتغريمه ضريبة فقد بها كل ما ملك حتى عجز عن أداء باقيها ، فرفده جد هذا العاجز لأمه عبد الله الدلّال أحد صدور حلب بمال وفى به ما عليه وستر خلته ، ولما تخلص من السجن فارق حلب سنة ١٨٢٨ وورد مصر واتصل بحبيب البحري ، وكان هذا رئيس ديوان الكتاب في حكومة محمد علي باشا ، فحسنت حاله وأصبح من المقدمين عنده ، ثم اتهم في إخلاصه وحسن طويته فنكب ثانية ولازم بيته إلى آخر حياته ، فمات مهملا كئيبا. وله شعر كثير غير مجموع ولا مهذب ، وفيه الغث والسمين. قال في مطلع قصيدة يمدح

__________________

(١) صواب الشطر : على كبدي من خشية أن تصدّعا. والبيت للصمة القشيري.

٢٦٠