إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

باشا باني المدرسة العثمانية ، ووقف في آخر حياته وقفين الواحد دكانان تجاه جامع المهمندار وقفه على ثلاثة رجال من الحفظة على أن يبدأ بتعميرهما أولا ثم يدفع في كل شهر ثلاثون بدل حكرهما للجامع المذكور ، ووقف وقفا آخر على ذريته ونسله.

وكانت وفاته سنة ألف وماية وخمس وسبعين. ا ه. (بعض المجاميع).

١٠٩٠ ـ ناصر جلبي الشهير بباقي زاده المتوفى حول سنة ١١٧٥

من الأسر الشهيرة في حلب أسرة باقي زاده ، وعميدها في هذا العصر ثريا بك ابن حسني بك ، وهو أديب فاضل يعد في طليعة الكتاب بالقلم التركي ، وذلك لأن تحصيله كان في المكاتب التركية ، وهو مقيم الآن في الإسكندرونة هو وأولاد أخيه ، وقد اتخذها والده الموما إليه وطنا له كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى ، وهو يتردد إلى حلب كثيرا للإشراف على وقف جده الأعلى وهو المترجم ، ووقف جده أحمد أفندي لأنه المتولي عليهما الآن.

سألت ثريا بك أن يكتب لي تراجم النابغين من عائلته والذين أشغلوا مناصب علمية وإدارية في الدولة العثمانية ، فكتب لي رسالة طويلة أقتطف منها الأصل الذي ينتسبون إليه وترجمة المترجم ، قال :

إن (باقي زاده) هو لقب عائلتنا منذ القدم ، وأصلنا من الأكراد الأيوبيين يتصل نسبنا ببطل الإسلام ومؤسس الدولة الأيوبية (صلاح الدين يوسف ابن أيوب) ، غير أني مع كل أسف لا يمكنني أن أعداد الجدود مسلسلا لذاك العهد ، لأن جميع الأوراق والمستندات والحجج الشرعية والفرمانات السلطانية والبراءات الملوكية التي كانت محفوظة في المكتبة التي أسسها المرحوم والدي حسني بك بقصبة الإسكندرون التي اتخذها موطنا ثانيا له قد احترقت مع الدار جميعها وصارت طعمة للهيب النيران بعد أن نهبت محتوياتها وما كان فيها من الآثار النفيسة والمقتنيات والكتب القيمة ، وذلك من قبل العساكر الإفرنسية الأرمنية على إثر الإشغال العسكري لدول الائتلاف وانسحاب الدولة العثمانية من سورية ووقوع حادثة ١٧ شباط سنة ١٩١٨ (١) بالإسكندرونة التي على إثرها حصلت حادثة حلب

__________________

(١) أي سنة ١٣٣٧ للتاريخ الهجري.

٢١

وذلك في ٢٨ شباط من هذه السنة ، وغاية ما يمكنني إثباته هنا هو نتيجة ما عثرت عليه بعد التحري من قيود المحاكم الشرعية وأوراق منسوخة من أصلها بقيت بأيدي البعض من أفراد العائلة نظرا لاحتياجهم إليها ، وكذا خلاصة ما علق بالذاكرة مما نقله لنا السلف وجرى ذكره في حياة والدي. ويمكنني أن أذكر لكم أول جد وقفت على اسمه من هذه القيود وتلك الأوراق التي وقعت بين يدي. أما من كان قبله من الأجداد فليس في الوسع أن أتعرض لذكرهم لأن يد الدهر قد طمست أخبارهم وذهبت بآثارهم وأحوالهم.

والذي كنت أسمعه من والدي المرحوم نقلا عن والده عن أجدادنا أن أول أجدادنا الذي قطن حلب كان ذا سطوة ونفوذ في نواحي هذه البلاد تجاوز بهما اللازم ، فاهتمت الدولة العثمانية بأمره وتداركت الأمر باسترضاء بعض أقاربه وإقطاعهم مقاطعاته وإسناد الزعامة إليه ، وبهذه الوسيلة توقفت لإلقاء القبض عليه بسهولة ونفته إلى حلب وصادرت أملاكه وأمواله وضبطت مقاطعاته وعوضته عن كل ذلك بتخصيص ثلاثة آلاف دينار في السنة على شرط أن يتناولها من بعده أولاده وأحفاده ، وهكذا كان ، فإن أجدادنا لعهد قريب كانوا يتقاضونها ، ثم صارت الدولة تنتقص منها شيئا بعد شيء إلى أن ألغتها بتاتا.

أما ذاك الجد واسمه وتاريخ نفيه وتعيين موطنه السابق واسم نواحيه التي كان زعيمها ورئيسها فهو مما غاب عنا الآن ، ولا يهدينا لحقيقته إلا قيود الدولة وسجلاتها ، وذلك وإن يكن غير مستحيل وبدائرة الإمكان إلا أنه صعب الحصول ويحتاج للنقد والوقت.

وأول من نعرفه من أجدادنا هو عبد الباقي آغا ، فقد جاء في سجل وقف حفيده (المترجم) المسجل بتاريخ سنة ١١٦٨ للهجرة ما نصه : حضر بمجلس الشرع الأنور السيد الحاج ناصر جلبي ابن المرحوم السيد عبد القادر آغا ابن المرحوم السيد عبد الباقي زاده وقرر إلخ ما ذكره في كتاب وقفه ، فيكون الموما إليه عبد الباقي آغا أول جد أثبته لنا التاريخ.

أما ناصر جلبي فقد كان من ذوي الثروة والوجاهة في حلب ، ويقف بنا العلم عند هذا الحد ولا نقدر أن نعين مولده ووفاته ، وغاية ما نقول أنه صاحب الوقف الأول المسجل سنة ١١٦٨ كما مر ذكره ، وعلى طريق الظن أن وفاته كانت حول سنة ١١٧٥. ووقفه غريب في بابه حيث شرط مساواة أولاد الإناث من الأجانب بأولاد الذكور العصبة لا

٢٢

يحرم أحدا منهم ، ولذا أصبح المرتزقة في هذا الوقف يعدون بالمئات ، ولعل غاية الواقف من ذلك والحكمة فيه أنه قصد جمع شمل نسله وعقبه ليكون ذلك سببا لتعارفهم وتقاربهم وتعاونهم وتعاضدهم وتقويتهم على العمل يدا واحدة عملا بما قيل : (المرء كثير بأخيه) ، وهي غاية شريفة لو انتظمت حالة متولي الأوقاف وحسنت أخلاق المرتزقة.

١٠٩١ ـ غياث الدين البلخي الشافعي المتوفى سنة ١١٧٥

غياث الدين البلخي الشافعي ، الشريف العالم العامل العارف الورع الزاهد ، ابن الشيخ الكامل جمال الدين ابن الشيخ العارف غياث الدين التوراني ، وتوران علم على مملكة الأزبك.

مولده كما أفاد رحمه‌الله تعالى سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ببلخ ، وهو وآباؤه ببلخ مشهورون مشايخ نقشبنديون وللناس فيهم مزيد اعتقاد ، ولم يزل بينهم بركة ذلك الناد ، إلى أن توجه عليهم طهماس فأباد نظام هاتيك البلاد ، وشتت شمل من بها من العباد ، فارتحل صاحب الترجمة بعد وفاة أبويه إلى بخارى واشتغل على علمائها إلى أن فاق الأقران ، ثم خرج منها ودخل السند والهند واليمن والحجاز ومصر والشام ، ووصل إلى حلب سنة خمس وسبعين ومائة وألف ، فأقام بها مدة في حجرة بجامعها الأموي.

ثم عزم على التوجه إلى بغداد فخرج منها إلى عينتاب فمرض هناك وعاد إلى حلب ، واشتد مرضه إلى أن توفي يوم الأربعاء قبيل الظهر ثالث عشر رمضان سنة خمس وسبعين ومائة وألف ، ودفن خارج باب أنطاكية بتربة الولي المشهور الشيخ ثعلب شرقي تربته رحمه‌الله تعالى.

١٠٩٢ ـ حسين بن أحمد الداديخي المتوفى سنة ١١٧٥

حسين بن أحمد بن أبي بكر المعروف بالداديخي الحلبي.

كان فاضلا بارعا أديبا ، ذا نكتة ومعرفة ، له باع طويل في الشعر العربي والإنشاء أيضا ، وكذلك الإنشاء التركي.

٢٣

ولد بحلب سنة خمس وتسعين وألف ، ونشأ بها وقرأ على أفاضلها.

وله تأليف سماه «قرة العين في إيمان الوالدين» ، وكتاب في السياسة ، وله تأليف حافل نظير تعريفات السيد سماه «الفيض المنبوع في المسموع» ، وله حاشية على الدرر نحو ثلاثين كراسة.

وكان له القدم الراسخ في ميدان الأدب والشعر الرائق المرغوب عند بني حلب. وكان مدرسا بمدرسة البولادية خارج باب المقام المشهور بباب الشام في حلب بتربة السليمانية المتعارفة بين الموالي.

وكان يتولى النيابات حتى استوعب نيابات المحاكم الأربع بحلب من طرف قضاتها في أزمان متفرقة. وقبل وفاته بمدة عشر سنين لزم داره ، وبالعزلة وجد راحته وقراره ، بعد أن وقع بينه وبين الشيخ طه منافسة وعداوة أدت إلى غدره ، وكانت علة قهره.

وله بديعية غراء مطلعها :

لي في ابتداء انتدائي مزنة الكرم

براعة تستهل الفضل بالقلم

تركيب سائلها يسدي لسائلها

في حل ما حل إطلاقا من العدم

فازمم زمام النوى إن النوال غدا

لحاقه يوقع الأحرار في ضرم

ما للأيادي النوادي من مكارمها

مثل الأيادي النوادي في عكاظهم

يا صاحبي صاح بي حظي الملفق من

بعدي ومن روعة الأكدار والألم

ومنها :

فالقلب كالراء وسط الهم مضطرب

مهلا أيا عصر ما يكفيك عصر دمي

فالشكل كالهاء والقلب الضئيل غدا

كالراء والميم مثل الحال في الرقم

كإبن شعبة قد صارت ليالينا

تعدو علينا بمعنى غير منهضم

ومنها :

دع التفات العذارى في الغرام وصل

إلى اكتساب العلا واسعى لها وهم

إن العواذل بالإيهام في عذلي

قد أكدوا سوء ظن الناس بالقسم

٢٤

يا لائمين على الإحسان غيرهم

نزهتم النفس عن إسداه (١) بالذمم

يزيد في بغيه خصمي مشاكلة

خصم الحسين يزيد البغي في القدم

فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم

من اقتباس دعا المظلوم في الظلم

ومنها :

يا نفس صبرا على كيد الزمان وهل

يجدي العتاب وأذن الدهر في صمم

برئت من طلب العلياء إن رجعت

عنها العزائم مني أو دنا قسمي

يا قلب لذ بشفيع المذنبين إذا اشتد الزمان بإيغال من الإزم

واجزم لنيل المعالي بالتخلص في

مدح الجناب الكريم العالي الهمم

هو الحبيب الذي ترجى إغاثته

لكل هول من الأهوال مقتحم

لنيل صعب العلا حسن التخلص لي

بمدح إبن رسول الله ذي الهمم

ومنها :

تم البديع على الوجه البديع إلى النادي البديع الذي منماه من إضم

مولاي يا واحد العليا ومانحها

ومنقذي من أليم الغدر والتهم

خذها بديعة حسن البيان لها

يعنو لها فصحاء العرب والعجم (١)

من فكرة تشتكي الآلام من زمن

قد استوى فيه حر الطير والرخم

ومنها :

تبا لدنيا ترينا من تقلبها

خيال ظل على التحقيق لم يدم

أين الذين مضوا أين الذي ملكوا

أين الذين بنوا الأهرام مع إرم

أين الذين مضوا في عصرنا وغدا

خيالهم نصب عين الفائق الفهم

أين الصدور الذي كنا نعاضدهم

على الوفاء بحفظ العهد والذمم

ومنها :

ودم مصان العلا عن منع ذي أمل

لاج لعلياك في بدء ومختتم

__________________

(١) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر.

(١) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر.

٢٥

وكانت وفاته في أوائل صفر سنة خمس وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠٩٣ ـ محمد بن شيخه صغيره المتوفى سنة ١١٧٥

محمد ابن السيد عبد القادر الشريف ، الحافظ لكتاب الله تعالى ، الشهير بشيخه صغيره ، الإمام الحنفي بجامع الأموي بحلب الصبح والمغرب سنين تنوف عن الثلاثين.

حفظ القرآن على الرجل الصالح السيد عبد الله المسوتي. وكان صيّتا حسن القراءة ، ضبط في آخر عمره لحفص ، وكان يقرأ ما تيسر من جزء وقف لقراءته في شهر رمضان الشيخ طه بن مصطفى المعروف باليوسفي وبالأحمري لسكناه داخل باب الأحمر المتوفى سنة ١١٥٤ أربعين عثمانيا.

وكان المترجم في حلقة القادرية منشدا سطا عليه مرة بعض من يحضر الحلقة بعد الفراغ وهو ذاهب إلى محله فضربه على عينه فسالت ، فأمسك الضارب وحبس ، ثم هو رحمه‌الله عفا عنه محتسبا.

أخذ طريق القادرية من عدة شيوخ كالسيد عبد اللطيف والسيد محمد بن الأصفر والشيخ صالح المواهبي وولده شيخنا الشيخ محمد المواهبي.

توفي رحمه‌الله تعالى مطعونا في غرة ذي الحجة سنة ١١٧٥ ودفن خارج باب الفرج وقد ناهز السبعين وأعقب ا ه. (ابن ميرو).

١٠٩٤ ـ محمد بن علي المشهور بحاجي أفندي المفتي المتوفى سنة ١١٧٦

محمد بن علي المشهور بحاجي أفندي الكلزي ، الفاضل الفقيه العفيف العلامة المفتي بحلب.

مولده في ابتداء هذا القرن بمدينة كلّز ، وقرأ بها ورحل لدمشق وقرأ بها ، وحج ولقي الأفاضل وأخذ عنهم. وكان أصوليا فقيها متحريا ، تعاطى خدمة الفتوى بحلب مرتين بمدرسة الخسروية من غير خادم ولا من يكتب له السؤال ، إلا في المرة الأولى كان عنده من يكتب السؤال ، ثم ترك وباشر ذلك على أتم الوجوه والتحرير والصلح بين المتخاصمين

٢٦

من غير تناول شيء منهم من الحطام حتى ولا على الفتوى في غالب الأيام ، وربما هو أعطى بعض الفقراء السائلين. ومعيشته من معلوم المدرسة إذ هو قائم بالشرط ومن أرض له معدة للزراعة في بلدته وكروم. ولا يقيم للدنيا وزنا ، ولا يجتمع بالولاة ولا بالقضاة إلا عند وصول القاضي للبلدة لضيافة مشروطة على من يكون مفتيا ، مقبل على شأنه.

حصلت له علة آخر عمره في رجليه واستمرت إلى أن توفي مطعونا ليلة الأحد ثامن عشر المحرم سنة ست وسبعين وماية وألف ، ودفن من الغد بالمدرسة الخسروية بمقبرتها ، وأعقب رحمه‌الله تعالى ا ه. (ابن ميرو).

أقول : لا زال قبره موجودا في جنينة المدرسة جنوبي القبلية.

١٠٩٥ ـ أبو بكر الوزير والي حلب المتوفى سنة ١١٧٦

ذكرت في الجزء الثالث (ص ٢٧٤) ولايته لحلب سنة ١١٧٤ نقلا عن السالنامة ولم أزد على ذلك ، ثم وقفت على ترجمته في تاريخ ابن ميرو وأنه توفي في هذه السنة ، فلذا ذكرته هنا. قال :

أبو بكر الوزير الشهير الفاضل الدراك المتقن ، تخرج على الكامل المشهور مصطفى أفندي الشهير بطاوقجي باشي وعليه تدرب ، وصاهره. وولي المناصب العديدة في الدولة العلية إلى أن أنعمت عليه الدولة بعد وفاة والي حلب عبد الله باشا الصدر السابق بمنصب حلب برتبة الوزارة ، فدخلها يوم الأحد ثاني عشري شوال سنة أربع وسبعين وماية وألف ، وعامل أهلها بحسن المعاشرة والاطراح. وكان به قلق من الصدر الوزير راغب محمد باشا بحيث إنه لا يقر له.

وفي أوائل رجب سنة خمس وسبعين وماية وألف وردت الأخبار بعزل المشير المشار إليه من حلب وتوجيه منصب مصر القاهرة له ، فاستقام بحلب إلى منتصف شعبان ، فرحل إلى مصر على طريق دمشق وزار بيت المقدس ودخل مصر برا في ثاني عشر شوال سنة خمس وسبعين وماية وألف. وفي حادي عشر محرم سنة ست وسبعين وماية وألف توفي بمصر فجأة وكثرت الروايات بموته والله أعلم بحقيقة الحال.

وفي زمنه كان الطاعون بحلب. وبالجملة فهو سامحه الله نادرة من نوادر الدهر. ا ه.

٢٧

١٠٩٦ ـ عمر العزازي الإدلبي الشاعر المتوفى سنة ١١٧٦

ذكره الفاضل برهان أفندي العيّاشي فيما أرسله إلينا من تراجم فضلاء وطنه إدلب فقال :

ومن شعراء البلدة النابغين في فن الشعر الشيخ عمر العزازي ، وله البديعية المشهورة التزم فيها ذكر النوع ، سماها «بالحرز المنيع في مدح الشفيع صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مطلعها :

براعتي وبديع المدح من كلمي

مستفتحا بمديح الزاكي الشيم

وآله خير آل حيث ما نسبوا

إليه في كل شأن من شؤونهم

يا صاح صح بي فصحبي بان ركبهم

وأطلقوني طليق المدمع السجم

لما تلفق ثوب الصبر حان دمي

من بعد بعدهم ناديت ها ندمي

هم ذيلوني بخير لاحق بندى

يروي الصدى وهو واف وافر السقم

طريق تطريف ثوب العلم لاح لهم

فلاح كالعلم المنصوب في العلم

ما شح بل سح وابلهم وصحفهم (هكذا)

ما حرفوا من أريج السلم والسلم

وضل من ظل لفظ العدل يؤلمه

فالقلب من لذع عذل فاظ بالألم

يا معنوي كلامي من يعيد فلا

تلقى جوارحه إلا أخا لخم

نزهت قولي منه عن مسالمة

رأيته بالردايا غير متهم

ومنها :

في معرض المدح ذم لا يليق فهم

الصابرون على اللأواء كالنعم

إني اقتبست من الفرقان وصفهم

بل هم أضل من الأنعام والبهم

ولو لا فوات المقصود عما نحوته من الاختصار لأتيت على آخرها وهي زهاء مئة وستين بيتا. وكانت وفاته سنة ١١٧٦. ا ه.

١٠٩٧ ـ الحاج موسى آغا الأميري المتوفى سنة ١١٧٧

الحاج موسى آغا ابن الحاج حسن جلبي ابن الحاج أحمد أمير بن محمد بن علي بن ظفر البصري الشهير نسبه بأمير زاده ، صاحب الخيرات الكثيرة والوقف المشهور باسمه.

٢٨

أصله من البصرة ، ولا يعرف على التحقيق أول من قطن من أجداده في حلب. وسبب تسمية أسرته بأمير زاده أو بأميري زاده أن جده الأعلى كان أميرا كبيرا من أعظم أمراء البصرة ، فكني هو وآباؤه بذلك.

ولد المترجم في حلب في أوائل القرن الثاني عشر ، وهو أصغر إخوته الحاج قاسم آغا والحاج إسماعيل آغا. ونشأ في كنف والده المثري الكبير على الصلاح والتقوى ، ولما ترعرع سلك مسلك أبيه في تعاطي التجارة وأخذ في الأسفار إلى البلاد النائية كالعراق والهند ، ورزق الحظ في تجارته التي كانت متصلة مع هذه البلاد ، فنمت ثروته وكثرت أمواله وأقبلت عليه الدنيا أيما إقبال. ثم ورث من أبيه ومن مماليك أبيه أموالا طائلة أيضا فكثرت بذلك أمواله بحيث صار في طليعة المثرين في حلب ، ثم وقف من أملاكه الواسعة على نفسه وعلى ذريته وقفا عظيما عرف باسمه ، وبنى جامعه المسمى جامع الخير والمشهور الآن باسمه الكائن في محلة السويقة ، وذلك سنة ١١٧٦ ، وبنى الخانين العظيمين المعروفين به في هذه المحلة وهما من جملة وقفه على مصالح الجامع المذكور وعلى ذريته ، وبنى السبيل الملاصق للخان ووقف عليه دارا مخصوصة.

وكان مع ثروته الواسعة حسن الأخلاق مطرح الكلفة متواضعا مع الكبير والصغير والغني والفقير ، لا يعتني بشؤون نفسه بل يلبس اللباس البسيط تواضعا منه.

حدثني من أثق به أن رجلا من تجار العراق أتى إلى حلب وكان يسمع بالمترجم ، فأحب أن يجتمع به ، فسئل عن مكانه فأخبر أنه في خانه في الحجرة الفلانية ، فجاء إليها فرأى رجلا بسيط الملبس عليه ثوب من الكتان العسلي جالسا على الدكة أمام مكتبه ، فلم يظن أنه منشوده الطائر الصيت لبساطة ملبسه ، فعاد راجعا يتساءل من أتباعه عن سيدهم ، فأجيب بأنه هو الرجل الذي رأيته جالسا.

ومما يحكى عن محبته للفقراء ومكارم أخلاقه أن سائلا وقف له فأعطاه ، ثم وقف له ثانية وقد بدل زيه فأعطاه ، وهكذا مرات متعددة وهو يعطيه ، وفي آخر الأمر انتهره عبد المترجم وقد كان ماشيا معه ، فالتفت إلى العبد ولامه على ذلك وأجزل العطية للسائل مع معرفته بما فعله.

وكان له أربع زوجات وأربعون حظية من الكرج والجركس ، كان يؤتى له بهن من

٢٩

الآستانة وجم غفير من الخدم والعبيد والجواري السود والبيض ، وكان ينفق عليهم نفقة واسعة بسخاء زائد. وينقل عنه أنه كانت توفيت إحدى زوجاته ، وبعد وفاتها أراد أن يتزوج بسيدة من بنات الأعيان ، فخطبها فاشترطت لقبولها أن لا يضرها بواحدة ، فوعد بذلك ، وبعد زمن قليل جاء بأربع حظيات في آن واحد ، فذكرته بوعده عاتبة ، فتبسم وقال لها : إنني لم أخلف ، وعدت بأن لا آتيك بواحدة أما هؤلاء فأربع.

وكان يأذن لعبيده في التجارة سفرا وحضرا فيستفيدون من ذلك أموالا جمة ، فكان يعتقهم ويزوجهم ممن عنده من الجواري ويهبهم من أملاكه وعقاراته ، فصار لعتقائه وعتقاء عتقائه أملاك وقفوا منها جملة وافرة لم تزل عامرة إلى الآن.

وبلغ من عطفه عليهم أنه شرط في كتاب وقفه الكبير أن يكون جميع ما يستحقه أولاده وأعقابه بعد انقراضهم لعتقائه وأعقابهم. وكان الكثير منهم قد حج إلى بيت الله الحرام ، ويحسنون القراءة والكتابة ولهم خطوط جلية جميلة ، وقطعوا في عهد مولاهم شوطا بعيدا في الوجاهة بحيث صاروا يعنونون بعنوان آغا مثله ، وأولادهم يلقبون بلقب جلبي كأولاده.

والمعروف من عتقائه الذكور إبراهيم آغا وابنه محمد جلبي والحاج سليمان آغا والحاج صالح آغا. ومن جملة من مات قبله من عبيده وخلف أموالا وأملاكا عادت لمولاه بالولاء مملوكه الشهير الحاج علي آغا الملقب بالكوله ، وكان لمملوكه هذا عبيد وعتقاء أيضا منهم عبد الله آغا وأولاده الحاج عثمان آغا أحد الواقفين ، وإبراهيم آغا ، ومنهم سليمان جلبي.

ولم يزل المترجم على وجاهته وحرمته وحشمته ورخاء عيشه وسخاء يده ومبراته إلى أن توفاه الله تعالى في السابع والعشرين من شهر شوال سنة ألف وماية وسبعة وسبعين ، ودفن في تربة العبّارة ، وجاء تاريخ وفاته (في جنان الخلد موسى قد منح) ١١٧٧ رحمه‌الله تعالى وأجزل ثوابه.

والمشهور من أولاده الذكور ستة ، وهم الحاج عيسى آغا ، والحاج عبد الله آغا ، والحاج خليل آغا ، والحاج زكريا آغا ، والحاج مصطفى آغا ، والسيد إبراهيم جلبي ، وله ولد سابع اسمه أحمد آغا توفي شابا قبل وفاة والده بسنة ، وذريته الموجودة الآن هي من نسل الأول والثاني والثالث لا غير.

٣٠

والوارد في الوثائق الشرعية من زوجاته من الأمهات من محاظيه هن خمس : الحاجة صالحة وآمنة وصفية ورحمة وعائشة ، والأخيرة منهن هي بنت الحاج إخلاص جلبي صاحب الوقف المعروف بحلب.

والحاجة صالحة هي بنت نعمة الله جلبي ابن الحاج مصطفى اللبق الآتية ترجمته. وقد جددت المسجد المعروف بمسجد المعلق في محلة السويقة وذلك في سنة ١١٨٧ ووقفت عليه وعلى مصالح القسطلين الواقع أحدهما أمام المسجد المذكور والثاني تجاه جامع زوجها عدة عقارات كبيرة عامرة هي في محلة السويقة.

قال أبو ذر في كنوز الذهب في الكلام على السهلية (هي سويقة حاتم وراء الجامع الكبير) : ومن قطيعة السهلية درب آخذ إلى الرواحية ، ثم يأخذ إلى درب شمس الدين ابن العجمي وبه مسجد معلق يقال أنشأه شهاب الدين بن عشائر ، وكان به ربعة يقرأ فيها ويدعى عقب القراءة للواقف. ورأيت في حدود الخانقاه الشمسية أن المسجد كان موجودا عند بنائها ، فالظاهر أن شهاب الدين المذكور جدده لا ابتكره. وله وقف بالقرى على قراءة سبع به أنشأه العفيف وقاعة بالقرب من آدر شيخنا المذيل (١) وصارت الآن ملكا. ا ه.

وفي محرم سنة ١١٧٧ وقف وقفه الكبير وشرط النصف من الموقوف على نفسه مدة حياته ، ثم من بعده فعلى أولاده الذكور والإناث ، ثم من بعدهم فعلى أولادهم وأعقابهم أن يكون الاستحقاق بينهم بترتيب الطبقات تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى. إلى أن قال : فإذا انقرضوا عاد وقفا على عتقائه وأولادهم كما سبق. وبهذين الشرطين وهما تشميله لأولاد الإناث وجعله مرتبا طبقات الطبقة العليا تحجب السفلى صار أولاد الإناث الذين هم بعيدون عن الأسرة الأميرية وليس لهم رابطة بها سوى أن جدة جدة جدتهم كانت من بنات أحد أولاد الواقف يستحقون في ريعه وينحصر بهم أو بأحدهم سنين طوالا ، وأولاده الصلبيون محرومون من تناول شيء من ريعه لأنهم أنزل طبقة. وشرط الواقف على هذه الصورة من الغرابة بمكان ، وقد استدعى انتباه جل الواقفين بحلب الذين أتوا بعده إلى الحيف الذي

__________________

(١) يعني به ابن خطيب الناصرية صاحب «الدر المنتخب» الذي ذيل به على تاريخ ابن العديم.

٣١

يصيب أولادهم الذكور من هذا الشرط ، فتعمدوا عدم تشميل ما وقفوه لأولاد البنات الأباعد لأنه كما قال الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ولاشتراط الواقف هذا الشرط حكاية غريبة ، وهي أنه كان في سنة ١١٦٤ وقف وقفا قبل إنشاء جامعه المتقدم مشتركا بين الخيرات والذرية ، وخصص قسمه الذري لأولاده الذكور والإناث وقال : إذا تزوجت الأنثى يعود نصيبها لأخوتها ، فساء ذلك إحدى بناته المتزوجات ، والمظنون أنها السيدة الحاجة زينب ، فعمدت بعد المذاكرة مع والدتها إلى إعمال الحيلة لتبديل فكر والدها وإرجاعه عن حصر الوقف في أولاده الذكور وحرمان البنات المتزوجات ، وهي أنه كان يوما من الأيام فأخذت زوجته تنظر إلى الأثواب واحدا بعد واحد ، إلى أن وقع نظرها على ثوب نفيس من الحرير ، فتظاهرت بالدهشة والاستغراب من وجود هذا اللباس معها وشرعت تستنطق الدلّالة عن كيفية وصوله إليها ، فقالت لها : إني مررت بالأمس على العائلة الفلانية فأعطتنيه خفية إحدى السيدات لأبيعه ، وأسرت إليّ بأنها في أشد اللزوم لثمنه ، فعندما سمعت جواب الدلّالة تظاهرت بالكدر وتنهدت وهمست بأذن زوجها قائلة : إن هذا اللباس لابنته ، وبناء على ضيق يدها اضطرت لعرضه للبيع ، فتأثر المترجم من ذلك كثيرا وأعطى الدلّالة ثمنه مضاعفا وصرفها ، وبعد ذهابها قالت له زوجته : إذا اضطرت ابنتك لبيع ثيابها وأنت حي فكيف يكون حالها وحال ذريتها بعدك! فازداد تأثرا ونجحت حيلة البنت وأمها حيث إنه ما لبث حتى غيّر ذلك الوقف بوقف آخر أعظم منه شامل لأولاد البنات.

وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ منحصر ريع هذا الوقف العظيم بسعيد أفندي الأميري المعروف بالصوراني وهو متولي الوقف الآن وشقيقته الحاجة مريم وابنة عمه السيدة أمة الله بنت أحمد أفندي ، وهم من ورثة الواقف الذكور ، والحاج صالح العداس وهو من ذرية الواقف الإناث من نسل ليلى بنت الواقف.

ولأولاد الواقف وبناته وزوجاته وعتيقاته وزوجات أولاده أوقاف كثيرة في وجوه الخير والبر ، وهي عامرة إلى الآن ، ولو ذكرنا ذلك بطريق الاستقصاء لطال الكلام فاكتفينا بالإشارة إلى ذلك.

٣٢

الكلام على جامعه المعروف باسمه :

موقعه في المحلة المعروفة بسويقة علي بجوار مدرسة النارنجية التي كانت قديما محكمة للشافعية ، تم إنشاؤه سنة ١١٧٦ ونقش فوق بابه ثلاثة أبيات مصراعها الأخير هكذا :

أرخ جامعا أوتيت سؤلك يا موسى ١١٧٦

وكتب فوق منبره ثلاثة أبيات أيضا الأخيرة منها :

وبالكلام القديم أرخ

قد جاء أن الصلاة تنهى ١١٧٦

وهنالك لوح من الخشب معلق في جدار القبلية كتب فيه ثلاثة أبيات الأخير منها :

لذلك موسى بالتقى شاد أرخوا

أساس بناء وهو للخير جامع

وقبليته حسنة البناء طولها ٢٥ وعرضها ١٧ ذراعا مع الجدران ، وأمامها رواق كان ضيقا وسع سنة ١٣١٢ ، وله صحن واسع طوله ٣٧ وعرضه ٢٦ ذراعا مع الجدران ، وكان في وسط هذا الصحن حوض كبير وراءه مصطبة تحت رواق ، ووراء المصطبة ثلاث حجر يقطنها بعض الخدمة أحيانا ، ففي سنة ١٣٤٢ أزيل هذا الحوض واتخذت تلك الحجر قصطلا كبيرا ورفعت المصطبة واتخذ موضعها مصلى وصار الناس يتوضؤون من الحنفيات ويصلون ثمة ، وبذلك حفظ هذا الماء من الأوساخ ومن النتن الذي يلحقه من الوضوء خصوصا أيام الصيف ، ولا ريب أنه عمل حسن يشكر عليه متولي الوقف الشيخ سعيد أفندي وناظره بهابك الأميري. وفوق الرواق الشمالي والحجرة التي بجانبه حجرة هي مكتب يؤدب فيه الأطفال بعض المشايخ يتناول راتبه من هذا الوقف ، وقد بني من قبل الواقف لهذه الغاية ، وشرقي الصحن خمس حجر للمدرس والطلاب والخدم. وله منارة مرتفعة مستديرة الشكل.

قال الواقف في شرط وقفه : والربع الرابع من العقارات الموقوفة يصرفها المتولي في مصالح الجامع ، فيصرف من غلة الربع الرابع في كل يوم ١٦ عثمانيا فضيا لمن يكون إماما في الأوقات الثلاثة الجهرية بمقابلة إمامته المذكورة وبمقابلة قراءته عشرا ، ويدفع في كل يوم ٨ عثمانيات فضيات لرجل يصلي إماما في وقت الظهر والعصر ، ويدفع في كل يوم ١٤ عثمانيا فضيا لرجل يؤدب الأطفال ، ويدفع في كل يوم ٤٥ عثمانيا لخمسة عشر نفرا

٣٣

من حفظة القرآن ليقرؤوا في كل يوم بعد صلاة العصر خمسة عشر جزءا ، ويدفع في كل يوم ٤ عثمانيات لرجل حافظ يقرأ سورة الكهف في كل يوم جمعة ، ويدفع كل يوم أربع عثمانيات لرجل يقرأ كل يوم سورة يسن ، ويدفع كل يوم أربعة وعشرين عثمانيا لرجل من العلماء الكرام يقرأ كل يوم الفقه الشريف والنحو للطالبين ، ويوم الاثنين والخميس يقرأ الحديث ، وفي الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان يلازم كل يوم بعد الظهر قراءة الحديث الشريف ، ويدفع أربع عثمانيات لمعيد الدرس العام بين يدي المدرس.

والمدرس فيه في عصرنا هذا العالم الفاضل الشيخ أحمد الزرقا ، وقد كان قبله والده الفقيه الكبير شيخنا الشيخ محمد الزرقا رحمه‌الله تعالى.

الكلام على الأثر النبوي الذي في هذا الجامع :

في سنة ١٣٢٨ كان الناظر على هذا الوقف بها بك الأميري في دار السلطنة العثمانية إستانبول بمناسبة انتخابه عضوا في مجلس المبعوثين ، ولما انتهت مدة المجلس وعزم بها بك على العود إلى وطنه صدرت الإرادة السنية أن يعين له وقت للمثول بين يدي حضرة السلطان محمد رشاد ، ففي الوقت المعين توجه إلى سراي بشكيك طاش وهناك استقبل من قبل رجال البلاط الملوكي استقبالا حسنا ، ثم أدخل على حضرة السلطان فلقي منه كمال الحفاوة وأحسن الاستقبال ، وبعد أن أعرب عن حبه الجم للأمة العربية والبلاد العربية دار بينهما بعض الشؤون المتعلقة بعمران حلب ومن جملتها سكة حديد بغداد ومرورها بجانب حلب ، ثم قال له : عندي من الآثار النبوية شعرتان من شعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضوعتان في حقين من ذهب ، واحدة استبقيتها لنفسي والأخرى أهديتها لك ، فشكره على إنعامه الجزيل ، فأمر له بها في الحال. ثم طلب منه السلطان أن يعيد الزيارة في اليوم الثاني ، فلما زاره قدم له السلطان رسمه في لوحة كبيرة موقعا عليه بخطه وهو محفوظ عنده.

ولما اتصل خبر هذا الإنعام بالأهلين هنا بادر وفد لاستقبال بها بك الموما إليه إلى بيروت ووفد إلى حمص ووفد إلى حماة ، ويوم وصوله إلى حلب (١) خرج الألوف من الأهلين لاستقباله وكان يوما مشهودا.

__________________

(١) كان ذلك اليوم يوم الأربعاء الموافق للسادس من رجب كما ذكرت ذلك جريدة فرات الرسمية في عددها ٢٠٧٧ وأسهبت المقال في كيفية هذا الاستقبال.

٣٤

ووضعت الشعرة النبوية في خزانة نجرت تنجيرا حسنا في قبلية الجامع عن يمين المنبر قبل حضورها داخل صندوق من الحديد ، وهي الآن فيه تخرج للتقبيل أيام المواسم ، وأخذ رسم هذه الخزانة بالمصور الشمسي. وحين عودة بها بك إلى الآستانة زار حضرة السلطان وقدم له الرسم فأظهر له ارتياحه وامتنانه ، وحين عودته أرسل معه السلطان هدية ثمينة وهي قطعة من الشال الهندي البديع لتوضع على ضريح سيدنا يحيى في الجامع الأعظم مع ستائر من الديباج مؤلفة من ثلاث قطع مطرزة تطريزا بديعا ، وقد كتبت عليها الآيات القرآنية لتوضع على الخزانة أيضا ، وكان لوضع هذه الهدية أيضا يوم مشهود وذلك في سنة ١٣٢٩.

١٠٩٨ ـ أبو بكر بن منصور المعروف بابن فنصة المتوفى سنة ١١٧٧

أبو بكر بن منصور المعروف بابن فنصه ، الشريف لأمه ، الحنفي الحلبي الفاضل الكامل ، من المنوه بهم في حلب بين رؤسائهم.

ولد بها في سنة أربع وثمانين وألف ، وقرأ على الفضلاء بها وبرع ، وصار مدرسا صاحب رتبة. وكان له لدى الحكام في أموره إقدام ، نفي وأجلي بسببه مرارا ، منها في سنة أربع وستين ومائة وألف ، أجلاه الوزير السيد أحمد باشا مع من ساق من أعيان حلب ، فاستقام في بلدة بيلان ، إلى أن عزل الوزير المذكور من حلب ووليها صاري عبد الرحمن باشا ، فعاد إليها واستمر الحال إلى أن مات.

وكانت وفاته في يوم السبت خامس جمادى الثانية سنة سبع وسبعين ومائة وألف عن ثلاث وتسعين سنة ، وأعقب ، ودفن في التربة الأمينية خارج باب قنسرين. وفنصة اسم جدته أم والده كانت من قرية من قرى حلب ، رحمهم‌الله. ا ه.

١٠٩٩ ـ حسين الدركزنلي المتوفى سنة ١١٧٧

حسين الدركزنلي الشافعي ، الصالح المبارك الواعظ الحسن الخلق والخلق.

قدم حلب بعياله ونزل بالمدرسة الجعفرية بمحلة سويقة حاتم. كان يعظ الناس بالجامع الأموي في الجانب الغربي ويتكلم باللغة التركية ، وإذا قرر كأنه منذر جيش حرصا على

٣٥

النصيحة. وكان من الورع على جانب عظيم لا يماري كبيرا ولا يمتهن صغيرا ولا يقيم للدنيا وزنا. وكان له ولد يدعى إسماعيل لم يبلغ العشرين نجيب فاضل ورع كامل أصيب به في طاعون سنة ١١٧٥ فاحتسبه وصبر ، وفي السنة التي بعدها توجه إلى الحج فتوفي آيبا من الحج قرب دمشق رحمه‌الله.

١١٠٠ ـ طه بن مهنا الجبريني المتوفى سنة ١١٧٨

طه بن مهنا الشافعي الجبريني المحتد الحلبي المولد ، العالم الفاضل المتقن العلامة المحقق ، واحد الدهر في الفضائل ، المفسر المحدث ، صاحب الإحاطة بالعلوم العقلية والنقلية. كان ألمعيا وحيدا ، له الذكاء المفرط ، كاملا بحاثا محققا مدققا ورعا زاهدا ناسكا.

ولد في سنة أربع وثمانين وألف (١) ، وطلب بنفسه وأخذ عن علماء ذلك العصر ، وحبب إليه الطلب إذ بلغ فسعى وجد واجتهد.

ورحل إلى الحجاز في سنة إحدى وثلاثين بعد المائة ، وسمع صحيح البخاري على شارحه المتقن الضابط أبي محمد عبد الله بن سالم البصري وأجاز له به وبباقي ما يجوز له. وقرأ العربية على الشيخ عيد المصري. ومن مشايخه الشيخ تاج الدين القلعي مفتي مكة والشيخ عبد القادر المفتي بها أيضا ، وأخذ عنهما وعن الشيخ يونس المصري والشيخ أبي الحسن السندي ثم المدني وغيرهم.

وعاد إلى وطنه واشتغل بالإفادة وألحق الأحفاد بالأجداد. ثم عاد إلى الحجاز في سنة إحدى وستين بعد المائة أيضا وجاور بمكة المكرمة نحوا من سنتين ، وعاد إلى وطنه.

وكتب على صحيح البخاري قطعة صالحة وصل بها إلى المغازي ، وله تراجم أهل بدر الكرام (٢) رضي‌الله‌عنهم وغير ذلك (٣) من التحريرات ، وانتفع به خلق لا يحصون كثرة. وله مداعبة لأحبابه.

__________________

(١) الصواب أن ولادته سنة ١١٠٥ كما في تاريخ ابن ميرو.

(٢) يوجد منه عدة نسخ في حلب منها نسخة بخطه عند خليل أفندي المرتيني ، ونسخة أخرى بخطه عندي وهي تنقص كراسة أكملتها بخطي من نسخة في مكتبة محمود أفندي الجزار التي كانت موضوعة في الجامع الكبير ، وبلغني أنه طبع لكني لم أره مطبوعا.

(٣) منها شرح حافل على الأربعين النووية ذكره ابن ميرو في تاريخه في ترجمة الشيخ طه المذكور.

٣٦

وكان يعاني حرفة الألاجة (١) تنسج له وتباع ، ولم يكن له وجه معيشة ولا وظيفة غير ذلك.

وله شعر ، فمن شعره الذي خدم به سيد المرسلين عاقدا للحلية الشريفة قوله :

يا أهيل النقا لقد همت وجدا

في هواكم وقد جفا الجفن سهدا

ما تناسيت للربوع بسلع

سل من الركب من تناسيت عهدا

كيف أنسى وفيكم من تسامى

في سماء السماء فخرا ومجدا

خاتم الرسل سيد الكون طه

من غدا في شمائل الحسن فردا

ذو جبين سما الهلال ووجه

أخجل البدر بالبها إذ تبدى

في أساريره سنا الشمس تجري

من سناه اهتدى الذي ضل رشدا

أهدب الجفن فوق خد أسيل

أكحل العين بالنقوس مفدّى

أفرق السن إن تبسم تلقى

مثل حب الغمام والدر نضدا

أزهر اللون أنفه كان أقنى

بالقنا للعدا أباد وأردى

شثن الكف للكراديس ضخم

راحتاه جودا من البحر أندى

ربعة كان إن مشى يتكفى

رجل الشعر ليس سبطا وجعدا

كان فخما مفخما يتلالا

خافض الطرف أكثر الخلق حمدا

بين كتفيه مثل بيض حمام

خاتم الأنبياء للخلق مبدا

ومغيث لمن أتى مستجيرا

من ذنوب فاضت على البحر مدا

وصريخ لمستريع خطوب

قد توالت عليه عكسا وطردا

ورؤوف بنا وأيضا رحيم

كم حباني فضلا وللخير أسدى

يا رسول الورى سميّك طه

قد سعى في الهوى مكبا مجدا

كلما كان يستعد لرشد

أخرته القيود عما استعدا

وهو قد حل في حماك وحاشا

أن ينال المنيخ بالباب ردا

وصلاة الإله في كل آن

مع سلام إلى ضريحك يهدى

وإلى الآل والصحاب جميعا

ما سنا كوكب بأفق تبدى

وله غير ذلك.

__________________

(١) تطلق الألاجة على ضرب من الحياكة المقلّمة. (من التركية).

٣٧

وكانت وفاته ضحوة نهار الخميس الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين ومائة وألف ، ودفن خارج باب المقام قبيل المغرب ، وقبره شمالي قبة العواميد ، وأسف الناس عليه بعد أن انقطع في بيته في أواخر صفر ومرض نحوا من عشرة أيام واختلط في مدة إقامته في بيته كثيرا. وأعقب ولدا ذكرا وبنتا.

وقد رأيت بعض من ترجمه ذكر أنه في فجر يوم وفاته وعنده جماعة منهم أولاد شقيقته وبعض أقاربه من النساء الخيرات إذ دخل عليه طائر أخضر وحام حوله مرارا والحاضرون ينظرون ذلك ويعجبون ، ثم جلس على صدره هنيهة وطار.

وقد أرخ وفاة هذا الأستاذ السيد عبد الله اليوسفي الحلبي بقوله :

بشرى لطه حيث حا

ز فضائلا عقلا ونقلا

لقد ارتضاه وقد حبا

ه الله مغفرة وفضلا

لما غدا الفردوس في

دار البقاء له محلا

أرخته بعلا الجنا

ن محدث الشهباء حلا

ا ه ومن نظمه كما وجدته في ترجمته في تاريخ ابن ميرو :

قم إلى روضة الحبيب وباكر

واغتنم فرصة الزمان وبادر

إن مرعى الشباب يعثو سريعا

وربيع السرور كالطيف زائر

والثم الثغر وارتشف ريق حب

إن لثم الثغور يجلو الخواطر

في زمان الربيع والنهر جار

في حياض الرياض والزهر زاهر

باختلاف الألوان يزهو ويزكو

باصفرار منه تسر النواظر

واحمرار كحمرة من عقيق

مع بياض كالدر للعقل باهر

وطيور على الغصون تغنى

كل إلف منها لإلف يناظر

قال : وهي قصيدة طويلة. ا ه.

١١٠١ ـ عبد الكريم بن أحمد الشراباتي المتوفى سنة ١١٧٨

عبد الكريم بن أحمد بن علوان بن عبد الله المعروف بالشراباتي الشافعي الحلبي ، الشيخ

٣٨

الإمام الفاضل المحدث الشهير ، علامة حلب الشهباء وشيخ الحديث بها العلامة المفيد ذو الهيبة والوقار.

كان عالما محافظا على السنة الغراء ، محبا لأهل الطريق والدراويش والعلماء ، لا سيما لمن يقدم لتلك الديار ، أخلاقه حسنة وأوصافه مستحسنة.

ولد بحلب في سنة ست ومائة وألف ، وقرأ على والده وانتفع به وحضر دروسه الحديثية والتفسيرية والفقه والعقائد والأصول والآلات ، ثم قرأ على جمع كثير منهم الشيخ مصطفى الحلبي (١) ، والشيخ أسد بن حسين ، وإبراهيم بن محمد البخشي ، وإبراهيم بن حيدر الكردي ، وسليمان بن خالد النحوي ، ومحمد بن محمد الدمياطي البدري ، وابن الميت الشعيفي الحلبي ، والعالم الشيخ زين الدين أمين الإفتاء ، والمحقق المولى أبو السعود الكواكبي ، والعلامة الشيخ يس ابن السيد مصطفى طه زاده وغيرهم.

وقدم دمشق أولا في سنة إحدى وعشرين ومائة وألف ، وأخذ عن جماعة منهم الشيخ أبو المواهب الحنبلي ، والأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي ، والشيخ عبد القادر التغلبي ، والمنلا إلياس الكردي نزيلها ، والشيخ أحمد الغزي ، والشيخ عبد الرحمن المجلد ، والشيخ محمد بن علي الكاملي الدمشقي وأجازه بفتح المتعال في النعال للشيخ أبي العباس المقري المغربي نزيل القاهرة عن المولى الفاضل أحمد الشاهيني الدمشقي وهو عن المقري المؤلف.

وتوجه إلى الحج في سنة ثلاث وعشرين وأخذ بالحرمين عن أجلائها منهم المحدث الكبير الشيخ أحمد النخلي ، والمتقن الرحلة الشيخ عبد الله البصري ، والشيخ أبو طاهر بن العلامة الرباني الشيخ إبراهيم الكوراني ، والولي المشهور السيد جعفر وغيرهم.

ثم رجع إلى حلب وهو مكب على القراءة والإقراء مع قيامه بخدمة والده إلى أن توفي والده وذلك في سنة ست وثلاثين ، وبعد أحد عشر يوما كف بصره فحمد الله وأثنى عليه واسترجع عند المصيبتين ، ولم يمنعه فقد بصره من الاشتغال بالعلم والحديث ، بل ازداد حرصا واشتغالا. ثم في سنة ثلاث وأربعين حج ثانيا وأخذ عن المحدث الشيخ محمد حياة السندي والعلامة الشيخ محمد الدقاق وغيرهما. ثم رجع إلى بلده ودأب في الأخذ

__________________

(١) هو الحفسر جاوي كما رأيته في ثبته.

٣٩

عن العلماء والأفاضل الواردين إلى حلب. ولما ورد الشيخ محمد عقيلة المكي والسيد الأستاذ الشيخ مصطفى الصديقي الدمشقي أخذ عنهما وبايعهما. وقبل الحجة الثانية دخل بلاد الروم واجتمع بعلمائها وحصل عنه وصار له إقبال.

وله تعليقة على الشفاء الشريف ، وتعليقة على «كنوز الحقائق في أحاديث خير الخلائق» ، و «العطايا الكريمية في الصلاة على خير البرية» ، ورسالة في ذكر بعض شيء من آثار الولي الكبير العارف الجد السيد الشيخ مراد الأزبكي نزيل دمشق ، وله رسالة في «تعزية المصاب» ، وله رسالة «في الفرق بين القرآن العظيم والأحاديث القدسية الواردة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وله رسالة متعلقة بحزب البحر ، ورسالة في قراءة آية الكرسي عقيب الصلوات المكتوبة ، ورسالة سماها «المنح الكريمية الدافعة إن شاء الله تعالى كل محنة وبلية» ورسالة متعلقة بحرز الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب فكفاه الله شرهم ، وله رسالة أخرى متعلقة باسميه تعالى الحي القيوم ، ورسالة في أدعية السفر. وله ثبت جامع سماه «بإنالة الطالبين لعوالي المحدثين» (١).

وكان رحمه‌الله تعالى انتهى إليه في زمنه علو الإسناد ، وألحق بالأباء والأجداد الأبناء والأحفاد ، مكبا على الإفادة ، حتى صار له الاجتهاد طبيعة وعادة. وله همة في مطالعة كتب القوم ، ومع ما فيه من الفضل الباهر له كرم وله رحلات إلى الروم ودمشق عديدة.

وعلى كل حال فقد كان مفيد الطالبين بحلب حاضرها وباديها ، وعلامة الشهباء وناشر العلم بناديها.

توفي في ضحوة يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى ا ه.

أقول : هو مدفون في تربة باب المقام. وفي تاريخ ابن ميرو أنه أعقب ولدين هما الشيخ محمد والشيخ مصطفى ، وقد ذكرهما المترجم في آخر ثبته وأنهما كانا مجازين من الشيخ محمد المغربي الشهير بالطيب.

__________________

(١) منه نسخة في مكتبة المدرسة الصديقية في محلة قاضي عسكر وفي مكتبة صالح آغا كتخدا ، وعندي نسخة بخط حديث كانت ناقصة أكملتها بخطي عن النسخة الصديقية.

٤٠