إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

أهلا بأكرم قادم من سادة

سادوا الأنام بطيّب الأفعال

أنت الفتى القرشيّ شبل المرتضى

وابن الجليل السيّد الكيّال

وبعد ما جلس إليه وتحادث معه أضافه في داره وبقي عنده فيها مدة كانت داره كعبة يقصدها الكبير والعظيم ما بين زائر ومستفيد. وفي هذا الوقت بلغه وفاة عمته السيدة آمنة فعاد إلى حلب ، وقد أشار عليه أخواله بتوطنها ففعل ما أشاروا به عليه.

وبدأ يتعاطى مهنة الطبابة حتى اشتهر بها ، وألف كتابا في الطب شرح فيه منظومة الشيخ حسن العطار في فن التشريح وهو موجود بخط يده ، أوله :

الحمد لله الذي لا تكيف حقيقة معرفته العلوم والأفهام ، ولا تحيط بكنه ذاته العقول والأوهام ، ابتدع الأجرام العلوية وزينها بأجمل صورة ، واخترع الأجسام السفلية وكونها على أكمل صفة محصورة ، وجعل العناصر سببا ماديا للكائنات والفاسدات ، والكون والفساد شرطا ذاتيا للمتولدات ، فيحصل منها بواسطة الخلق والتقدير الحيوان والمعدن والنبات ، وقضى من دونها على الإنسان بحسن الخلق والتقويم ، وخص من بينها بالوحي والإلهام والتعليم. ثم بعد الحمد والصلاة على الرسول عليه‌السلام القائل : العلم علمان : علم الطب للأبدان وعلم الفقه للأديان.

يقول راجي لطف ربه المتعالي ، محمد الطيار الكيالي : لما كان علم الطب بحرا لا يدرك له قرار ، وتيها واسعا لا يشق له غبار ، وقد دون في أصوله وفروعه الأساطين من اليونانيين ، ثم الفحول من أطباء المسلمين ، وكان ممن ألف فيه الإمام الأوحد الشيخ حسن العطار المصري منظومة في فن التشريح وهي من أجل المختصرات في هذا الفن أردت أن أضع له شرحا لطيفا يسفر عنه النقاب ، ويظهر ما خفي منها تحت الحجاب ، مع زيادات على المصنف تتميما للفائدة مع اعترافي بقلة البضاعة ، والعجز في هذه الصناعة ، فإني في هذا الأمر كمبين منهج في شعاب المسالك المتوعرة ، ومقنن قاعدة في كشف المدارك المتعسرة ..

إلخ.

وقد اطلع على هذا الكتاب صديقنا الطبيب النطاسي السيد عبد الرحمن الكيالي المتخرج من الكلية الأميركية في بيروت ، فكتب عليه بعد مطالعته :

٣٠١

اطلعت على كتاب «شرح منظومة الشيخ حسن العطار في التشريح» تأليف الأستاذ السيد محمد الطيار الكيالي فوجدت أن الكتاب قد ألف قبل (٦٣) سنة أي سنة ١٢٧٧ هجرية ، وهو آخر كتاب عربي كتب في علم الطب القديم ، وأن الناظم جمع في أرجوزته معظم علم التشريح ، وزاد عليها فوائد علمية كثيرة تتعلق بمعرفة النبض ودلائله المرضية ، وفي وظائف الأعضاء والأجهزة الدموية ، وفي الروح وماهيتها ، ولكن بصورة مختصرة وغامضة لا يفهمها العارف بفنون الطب إلا بصعوبة.

وأما الشيخ رحمه‌الله فقد شرح الغامض ، وفصل الموجز ، وأضاف إلى الفوائد حقائق علمية نافعة ، وذيل المنظومة برسالة في مفردات الطب مع بيان خواصها ومنافعها الأقرباذينية ، فجاء الكتاب مفيدا في محتوياته ، وسهلا في عباراته ، وجامعا في طياته خلاصة ما كتبه الأوائل في علمي التشريح والأقرباذين.

وقد استرعت نظري ثلاثة أمور هي جديرة بالتقدير.

أولا : إصابة النظر مع حسن الوصف وصحة التتبعات التشريحية التي تنطبق تماما على ما قرره الفن الحاضر ، مثال ذلك أن الناظم ذكر أزواج الأعصاب الدماغية مختصرا والشارح أبان ما نظم مفصلا فقال :

إن الأعصاب قسمان : الأول ينبت من الدماغ ، والثاني من النخاع ، وصار الحال كذلك لأن الأعضاء على نوعين : منها ما هي بعيدة عن الدماغ ، ومنها ما هي قريبة منه ، وكل منها إما باطن أو ظاهر ، فما كان قريبا أو باطنا فالأعصاب الدماغية منبثة فيه ، وما كان بعيدا أو ظاهرا فالأعصاب النخاعية منبثة فيه. واعلم أن الدماغ مقسوم في طوله بنصفين وفي عرضه بثلاثة أقسام تسمى بطونا ، والمقدم منها ألين من الأوسط ، وهو ألين من المؤخر ، ويتصغر متدرجا إلى النخاع ، وينبت من المقدم مما يلي الجبهة زائدتان من كل نصف زائدة شبيهتان بحملتي الثدي بهما يكون الإحساس بالروايح ، وفي وسط الدماغ فيما بين المؤخر والمقدم منفذ يسمى (الدروة) جوهرة قريب الغشاء. واعلم أن الأعصاب الدماغية ثمانية أزواج (في كتب الطب الحديثة هي اثنا عشر) الأول ينبت من نصفي الدماغ عند جوار الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي ، فيكون في كل نصف فرد ، ثم يتيامن النابت منها يسارا ويتياسر النابت منهما يمينا ، ثم يلتقيان على تقاطع صلبيين ، ثم ينفذ النابت يمينا

٣٠٢

إلى الحدقة اليسرى والنابت يسارا إلى الحدقة اليمنى. وهذان الفردان فيهما قوة الباصرة سارية في تجويفهما وتغشاهما الأم الجافية والرقيقة ، فإذا برزت العصبة في نقرة العين فارقتها الأم الجافية وتشظت إلى شظايا دقيقة وانتسج البعض بالبعض وصار منها طبقة تسمى الطبقة المشيمية ، ثم نفس العصبية يحصل منها ما حصل من تينك ويصير منها طبقة تسمى الشبكية ... إلخ.

ثانيا : اختصاص كل نابغة في فروع من العلوم وتبحره فيه ، وهذا يدل على درجة الرقي العلمي الذي وصلت إليه العرب في أيام تمدنهم ويكشف عن سعة استعدادهم الذهني.

ثالثا : سيرهم الفني في تتبعاتهم واستقرائهم ، فلقد عللوا كل حادثة بعلة علمية ، وسعوا لتخليص الحقائق من قيود الأوهام.

قال الشارح المرحوم الشيخ محمد الطيار الكيالي نقلا عن الرئيس ابن سينا : «لا ينبغي أن يوثق بطريق الاستدلال من أحوال البول إلا بعد مراعاة شرائط ، فيجب أن يكون أول بول أصبح عليه ولم يرافع به إلى زمن طويل ويبيت من الليل عليه ولم يكن صاحبه شرب ماء ولا أكل طعاما ، ولم يكن تناول صابغا من مأكول أو مشروب كالزعفران والخيار شنبر ، فإنهما يصبغان إلى الصفرة والحمرة ، وكالبقول فإنها تصبغ إلى الخضرة ، والمري فإنه يصبغ إلى السواد ، والشراب المسكر يغير البول إلى لونه ، ولا لاقت بشرته صابغا كالحناء ، فإن المختضب بها ربما انصبغ بوله عنه ولا يكون تناول ما يدر خلطا ولم يكن تعاطى من الحركات والأعمال والأحوال الخارجية عن المجرى الطبيعي ما يعين الماء لونا مثل الصوم والسهر والتعب والجوع والغضب ، فإن هذه كلها تصبغ الماء إلى الصفرة والحمرة ، والجماع فإنه يدسم البول تدسيما شديدا ، ومثله القيء والاستفراغ فإنهما يبدلان الواجب عن لون الماء وقوامه ، وكذلك إتيان ساعات عليه ، ولذلك قيل يجب أن لا ينظر في البول بعد ست ساعات لأن دلائله تضعف ولونه يتغير وثقله يذوب ويتغير أو يكشف ... إلخ». مما يدل على أن الأوائل لم يقصروا في تدقيق الحوادث وكشف الحقائق وأن الفكر الفني كان نبراسهم مع ضعف وسائلهم التي نجدها اليوم في معاملنا ومصانعنا. ولقد كان الطبيب في زمنهم نافذ النظر يستند على ذكائه وبصيرته وتجاربه أكثر مما هو عليه الطبيب في زمننا الحاضر ، ولهذا أقدر الطبيب الأستاذ سعيه ومقدرته العلمية

٣٠٣

في شرح الأرجوزة وكشف غوامضها وتبيانه للحقائق ووصفها كما هي ، وأتمنى أن يكون لنا أمثاله نبغاء في زماننا الذي قضى علينا بإهمال مخلدات آبائنا وفيها من الكنوز ما لا يستهان به.

١٠ ربيع الأول سنة ١٣٣٩ الطبيب عبد الرحمن الكيالي. ا ه.

إن العصر الذي نشأ فيه المترجم لم يكن آهلا برجال الطب حتى ينبغ فيما بينهم ، كما أنه لم تكن علماء الدين متوفرة حتى يتخرج على يديهم ، فما هو السبب في تقدمه بفن الطب وتفوقه بعلوم الدين. إن السبب يرجع إلى تلك المواهب التي كان يحملها وذلك العقل الفوار والذكاء النادر. تمكن بعقله وقوة إرادته وذكائه إلى أن يتعلم ويتلقى فن الطب عن شيخه ، فلما رحل لم يقف عند حد ما تعلمه بل سافر إلى إدلب وأتم ما نقصه من علوم الشريعة على أبناء عمه.

لم يكن في عصر الأستاذ الطيار عناية بفن الطب في هذه البلاد ، فاشتغاله فيه وتفوقه كما شهد له الطبيب السيد عبد الرحمن برهان واضح على علو همته وكبر نفسه. إن إنسانا يعيش يتيما ويتربى على يدي عمته في مثل سرمين في عصر انصرفت النفوس فيه عن تحصيل العلم الضروري فضلا عن مثل فن الطب ، ثم يتقدم في مضمار الحياة ويكون له منزلة كبيرة أينما توجه وحيثما سار وفي أي محل نزل لهو رجل طلاع إلى منازل العلياء والشرف ، نزاع إلى المجد الأثيل ، وهكذا كان الأستاذ الطيار فإنه لم يعرف الطب فيقف على حقائقه ، والأقرباذين فينتهي عندها ، بل كان له لسان فصيح وأسلوب في مخاطباته قلما يجاريه في عصره أحد.

وكان الأستاذ الشيخ يوسف الجمالي تنازل للأستاذ الطيار عن تدريسه بالجامع الكبير الأموي ، كما فرغ له مشيخة المدرسة القرموطية رغبة منه أن يكثر نفع الطلبة من علومه وفضله ، ومن ثمة باشر بإحياء النفوس بما يلقي عليها من علوم الدين في الجامع الكبير والمدرسة القرموطية ، ومداواة الأجسام من أمراضها حينما يرجع إلى منزله.

واستمر رحمه‌الله يشتغل بعلم الأديان وعلم الأبدان إلى أن دعاه إلى جواره فلبى نداءه في سنة ١٢٧٨ هجرية ودفن بمقبرة العبّارة.

٣٠٤

وخلف ثلاثة أولاد هم الشيخ عبد الرؤوف والشيخ طاهر والسيد عبد الرزاق.

١٢٣٠ ـ الحاج أحمد الصابوني المتوفى سنة ١٢٧٩

الحاج أحمد ابن الحاج عبد الله الشهير بالصابوني.

أصله من قرية حريتان ، توطن حلب وتعاطى صنعة الصابون واشتهر بها وصار ذا ثروة طائلة ، وعمر دارا عظيمة أمام جامع الرومي في محلة باب قنسرين وصرف في عمارتها وزخرفتها ونقشها بالدهانات البديعة أموالا كثيرة ، وكان للجامع المذكور ميضاة ملاصقة لداره ، فخربها وأدخلها في داره وبنى عوضها ميضاة داخل الجامع ، وكان بناؤه لها كما وجدته في مجموعة الشيخ عبد الرحمن المشاطي بخطه سنة ١٢٥٥. وقال ثمة : إنه لما شرع في ترميم الجامع أخرج منه عواميد عظيمة من الرخام المرمر وباعها إلى الحكومة وهي وضعتها أمام مخفر باب النصر وأنفق القيمة في عمارة الجامع. ا ه.

أقول : ومن ذلك الحين لم يفلح لا هو ولا أولاده بعد أن كان في داره من الجواري للخدمة خمس عشرة جارية ، وأخذ حاله في الاضمحلال ، وباع هو أو أولاده بعد ذلك الدار المذكورة وصاروا في أسوأ حال ، وباع مصبنته الكائنة في المحلة المذكورة أمام المارستان الأرغوني بثمانين ألفا وهي الآن تساوي آلافا من الليرات.

ومن الغريب أن الدار المذكورة لم يزل الشؤم حالا فيها إلى يومنا هذا لا يسكنها أحد إلا ويصيبه النقص إما في ماله أو في عائلته ، ومن جملة من تملكها مفتي حلب الشيخ بكري أفندي الزبري ، اشتراها من بيت القاوجي بألف ليرة عثمانية ، فلم يمض أشهر إلا وعزل من الإفتاء وأخذ حاله وجاهه يضمحل إلى أن توفي سنة ١٣١٢ كما سيأتي ، وبيعت من ذلك الحين إلى يومنا هذا عدة مرات ، وهذا مما لم يعهد مثله ، وبالجملة فهذه نتائج التعدي على أماكن الأوقاف نسأل الله السلامة بمنه وكرمه.

وكانت وفاته كما وجدته بخط المشاطي في مجموعته سنة ١٢٧٩ ودفن في مقبرة السفيري رحمه‌الله تعالى وعفا عنه.

١٢٣١ ـ الشيخ مصطفى بن هاشم الأصيل المتوفى سنة ١٢٧٩

الشيخ مصطفى بن هاشم الأصيل العالم الفاضل.

٣٠٥

ولد سنة ١٢١٦ ، وتلقى العلوم العربية والفقهية على الشيخ محمد الهبراوي والشيخ أحمد الحجار والشيخ أحمد الترمانيني وغيرهم ، وتلقى علم القراءات السبع على شيخ القراء في وقته الشيخ محمد المشاطي وبرع فيه ، وتلقاه عنه الشيخ أحمد الزويتيني والشيخ عبد القادر المشاطي والشيخ شريف الأعرج القاري الشهير والشيخ محمد الرزاز وغيرهم.

وذهب إلى مصر وجاور في الأزهر مدة ثم عاد.

رأيت له ثبتا حافلا محررا بخط أحمد بن إسماعيل الدمياطي أجازه فيه بما حواه من إسنادات ومرويات الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ محمد فتح الله الخلوتي المالكي والشيخ أحمد بن محمد الدمياطي ، والكل سنة ١٢٥١. قال الأخير في إجازته له :

وممن سلك هذه المسالك ، وذاق هذه المدارك ، الفاضل الكامل ، العالم العامل ، اللوذعي الأديب ، الفهامة الحبيب ، السيد مصطفى ابن السيد هاشم الشامي الحلبي الحنفي ، فانتظم في سلك الأفاضل الأزهريين ، وتحلى من درر تقاريرهم بكل عقد ثمين ، فشمر عن ساق الاجتهاد ، في اغتنام ذلك المراد ، حتى رجع من تلك العلوم بأوفر حظ ، ورمق بعين الإجلال ورمي باللحظ. وحين أراد الفاضل المذكور الرجوع إلى أوطانه ، بعد تحقيق نظره وإمعانه ، استجازني بعد أن لازمني في كتب عديدة ، وفنون شريفة مفيدة ، فسارعت لسؤاله ، وبادرت لتحقيق آماله. إلخ.

وكان يقرأ دروسه في مدفن الجلبي التحتاني وفي الأحمدية ، وكان ملازما للصيام والعبادة لا يفطر إلا في أيام الأعياد. وكان حسن الخط ، رأيت بخطه جزءا من سورة البقرة تسر رؤيته الناظرين. أخذ عنه الخط كثيرون ، منهم الخطاط الشهير الشيخ محمد العريف الأشرفي والخطاط الشيخ محمد الدهنة والخطاط الشيخ مصطفى الحريري. وكان حنفي المذهب.

وأخبرني ولده الحاج وحيد أن عائلتهم تنسب إلى الشيخ جمال الدين ابن نفيس المدفون في جامع المستدامية ، وأنهم إلى الآن يتناولون من وقفه.

وله شعر حسن لكنه لم يدون ، ومن نظمه قصيدة يمدح بها الحضرة النبوية وهي ومن خطه نقلت :

مني عيني أراك ولو مناما

وللأقدام ألتثم التثاما

٣٠٦

وانظر نور وجهك يا حبيبي

وأسمع إذ ترد لي السلاما

بروحي طيبة والقرب منها

فمن لي أن أنال بها الختاما

وأظفر بالجوار وبالأماني

وأبعث آمنا يوم القياما

هلموا معشر العشاق نبكي

علينا كلما نصبوا الخياما

وسار الركب للمختار طه

رسول الله من ساد الكراما

وأحيا ذا الوجود بكل جود

وأظهر نوره نعما عظاما

هو السر المصون بكل سر

وروح الكائنات بدا تماما

جميع الرسل والأملاك طرا

له خضعت جلالا واحتراما

عليهم قد تقدم في مقام

به يسمو وكان لهم إماما

وخص برؤية وبكل قرب

ويوم البعث أن له الكلاما

محال أن يفي في بعض مدح

لبيب فيه لو فاق الأناما

وكيف بمدح من أثنى عليه

إله العرش والمدح استداما

وخلّقه بما يحوي كلام

قديم عن حدوث قد تسامى

وعلّمه علوم الغيب جمعا

وفي رتب الترقي قد أقاما

أغثنا يا أبا الزهرا أغثنا

بوقت لا يفي معنا وفاما

بجاهك قد توسلنا وحاشا

إذا كنت الوسيلة أن نضاما

صلاة الله مع أزكى سلام

لكم والآل مع صحب دواما

وما قال الأصيل بصدق شوق

منى عيني أراك ولو مناما

وأخبرني تلميذه الشيخ وفا الطيبي أن له نظم المعراج النبوي وأوله :

حمدا لمن بعبده قد أسرى

ليلا لفك هؤلاء الأسرى

ومولدا شريفا مطلعه :

الحمد لله الصمد

الواحد الفرد الأحد

قال : ولما حضرته الوفاة عرضنا عليه الماء فقال : لا ، اتركوني أنا وربي.

وقدمنا بعض قصيدته التي رثى فيها شيخه الشيخ محمد الهبراوي ، وله غير ذلك من النظم.

٣٠٧

وكانت وفاته في صفر سنة ١٢٧٩ ، ودفن في تربة الجبيلة وعمره ٦٣ سنة رحمه‌الله تعالى.

١٢٣٢ ـ الشيخ عبد القادر ابن الشيخ إسماعيل الكيال المتوفى سنة ١٢٨١

الشيخ عبد القادر ابن الشيخ إسماعيل ابن الشيخ عبد الجواد الكيالي الرفاعي.

ترجمه الشيخ صالح المرتيني في أوراق ذكر فيها حوادث ووفيات سنة ١٢٨٠ و ٨١ وبعض سنة ٨٢ قال ومن خطه نقلت : آخر نهار الأربعاء غرة شهر ربيع الأول سنة ١٢٨١ توفي في مدينة حلب ولي عصره وأوانه الشيخ عبد القادر ابن الولي الشهير والقطب الكبير الشيخ إسماعيل الشهير بابن الشيخ عبد الجواد الكيال. وكان المتوفى المذكور ضاعف الله له الأجور في مقام الغرق عما سوى الله تعالى ، لا التفات له إلى دنيا أو جاه ، منخلعا من الدنيا وزخارفها ، ومن مخالطة الناس وتعارفها ، ولا يأوي إلى أهل ولا فراش ، ولا يتناول إلا غذاء جسمه من المعاش ، صيفه وشتاؤه سواء ، مقتصرا من اللباس على ثوب واحد ورداء ، حافي القدمين من خف أو جراب ، مكشوف الرأس ومع ذلك فكأنه ملك مهاب ، لم يترك ولدا يحذو من بعده حذوه ، بل له كريمة (١) عليها آثار القرب والفتوّة ، طاهرة الأنفاس ، مشهورة بذلك عند جميع الناس. وقد توفي ولم يبلغ من العمر ستين ، وكان معتقدا عند الخلق أجمعين. وله الكرامة الظاهرة ، والأنفاس الطاهرة ، وأعظم كرامة له إقامته زيادة عن ثلاثين سنة على هذا الحال ، تاركا للدنيا مشغولا بمراقبة مولاه عن النفس والعيال ، ولو أراد الالتفات إلى الدنيا وزخارفها لما منعه من ذلك مانع فقر ، لأن واردات زاويته في حلب تنوف عن ثلاثة آلاف في كل شهر. وقد دفن في زاويته المذكورة عند أبيه وأخيه فهم في أرض الزاوية قبورهم الثلاثة على صف. ا ه.

وترجمه الشيخ أبو الهدى في كتابه «تنوير الأبصار» فقال في حقه :

ولد كأبيه وأخيه بحلب ونشأ بها ، وشب رضيع ثدي الولاية والتوفيق والعناية. تلقى العلوم الشرعية عن أفاضل حلب ، وأتقن فنون الفضائل والأدب ، وكان على جانب عظيم من ظرافة الطبع وحسن الخلق ، ولا زال على هذا المنوال ، شريف الأحوال كريم الخصال ،

__________________

(١) الصواب أنه ترك ثلاث بنات : السيدة زليخة والسيدة صالحة والسيدة شريفة.

٣٠٨

حتى طرقه من الله الحال ، فتوله وهام ، وأعرض عن الحطام ، وحضر بحضيرة العرفان في خلوة الإحسان ، وخلف أخاه الشيخ محمد المتوفى سنة ١٢٥٥ في مشيخة الزاوية.

واشتهرت كراماته في الديار الحلبية اشتهار الشمس المضية ، وكم له من خارقة ، أيدتها من مطالع القدس أشرف بارقة. ثم ذكر وفاته في التاريخ المتقدم.

أقول : حدثني غير واحد بكشف ظاهر عنه ، وكرامات كثيرة لو دونتها لجاءت في أوراق ، ولا زال يتناقلها الناس ، منها ما حدثني به الحاج أحمد المصري النجار ، وهو رجل صالح مسن درّاك من أهل محلة وراء الجامع ، وقد توفي منذ سنوات قلائل قال : ذهبت في السابع عشر أو الثامن عشر من عمري إلى المقهى التي هي شمالي المدرسة الحلوية ، وكان فيها من يلعب بخيال الظل (المسمى بالخيالاتي) ، وكانت وقتئذ غاصة بالناس ، وبينما نحن كذلك إذ بالشيخ قدور الكيال قد دخل علينا وأسند ظهره إلى جدار المقهى وشخص ببصره إلى سقفها ، بقي على ذلك نحو ربع ساعة ثم ذهب ، أما الحاضرون فارتاعوا جدا لدخول الشيخ عليهم وأخذوا في الانصراف وعجبوا من دخول الشيخ عليهم في مثل هذا الوقت ولا عادة له بذلك ، فاضطر صاحب المقهى أن يطفىء ناره ويقفل المكان ويذهب إلى بيته. قال : فو الله ما كاد يصل إلى آخر السوق حتى سمع هدة عظيمة ارتاع لها الجيران ، وإذا بالسقف قد خر ، فأتينا في اليوم الثاني وشاهدنا الأخشاب والأتربة وقد ملأت أرض المقهى ، فعلمنا حينئذ مقصد الشيخ في المجيء ونجى الله من كان هناك ببركته. وهذا كشف ظاهر لا مرية فيه. ولا ريب أن هذه العائلة لم تأخذ هذه الشهرة في هذه الديار سدى. وأمثال هذه الوقائع التي أثرت في نفوس الناس ودعتهم إلى الاعتقاد في مشايخ هذه العائلة يورثه الآباء للأبناء وخصوصا العوام والنساء إلى يومنا هذا ، غير أن هؤلاء قد بالغوا في الأمر بحيث إنهم يحلفون بهم ، وأنت تعلم أنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى ، إلى غير ذلك مما جاوزوا به حد الاعتدال وحادوا به عن منهج الشرع القويم ، في حين أن الحلال بيّن والحرام بيّن. ويالله من زمننا هذا الذي أصبحنا فيه بين أناس فرطوا وقوم أفرطوا ، والاعتدال والتوسط هو الحق ، وفيه الخير والسلامة والنجاة والنجاح ومن الله التوفيق.

١٢٣٣ ـ الشيخ عبد القادر سلطان المتوفى سنة ١٢٨١

الشيخ عبد القادر ابن الشيخ محمد سلطان. ذكره الشيخ صالح الترمانيني في أوراق له ومن خطه نقلت ، قال :

٣٠٩

ليلة الخميس ثاني ربيع الأول سنة ١٢٨١ توفي في طريق الحج المبرور رجل من العلماء والصلحاء اسمه الشيخ عبد القادر ابن الشيخ محمد سلطان. صار مدة مفتيا بحلب ، وكان من الدنيا وغناها بالغا الأرب ، إلا أنه كان له رغبة في الحج إلى البيت الحرام ، فتكرر منه ذلك في أكثر الأعوام ، فكان يخرج تارة للحج متنقلا ، وتارة عن غيره بدلا. ففي هذه السنة خرج عن امرأة من الأكابر ، وفي رجوعه من طريق الشام في قرية من قراها يقال لها حسّه أدركته الوفاة. وقد كان كريم الأخلاق حسن التلاق ، في مدة فتواه لم يخرج عن طوره المعهود ، ولم يلهه منصب الفتيا عن بذل المجهود ، في خدمة الرب المعبود ، فعليه الرحمة من ربه تعالى على الدوام ، والله اسأل أن يجمعنا به في دار السلام. ا ه.

ورأيت في مجموعة لشيخنا عبد الله أفندي سلطان ولد المترجم أن والده قرأ على والده الشيخ محمد وعلى خاله الشيخ محمد الخانطوماني ، وتولى الإفتاء في حلب ، وأن ولادته كانت سنة ١٢٢٧ ا ه.

ورأيت في بعض المجاميع أنه تولى الإفتاء بحلب في العشرين من شوال سنة ١٢٧٣ بعد وفاة مفتيها الشيخ محمد الجذبة.

وله مجموعة الفتاوي التي أفتى بها مدة توليته الفتوى ، وله «مختصر الحدائق الأنسية في كشف الحقائق الأندلسية» في علم العروض.

١٢٣٤ ـ الشيخ مصطفى الأريحاوي أمين الفتوى المتوفى سنة ١٢٨١

الشيخ مصطفى أفندي الأريحاوي. قال الشيخ صالح المرتيني :

في خمسة خلت من شهر شعبان سنة ١٢٨١ توفي في مدينة حلب الشيخ مصطفى أفندي الأريحاوي المعروف بابن محفوظ. كان أمين الفتوى ، معروفا بالديانة والتقوى ، متقنا أمر الفتيا غاية الإتقان ، لا يوجد الآن في حلب مثله يقوم مقامه من أبناء الزمان ، وذلك لإقامته في هذه الخدمة مدة تزيد على ثلاثين سنة. وكان أريحاوي الأصل والمنشأ ، وصنعته وصنعة أبيه من قبله الصباغة ، فنقلته الأيام إلى مدينة حلب ، ووفقه الله لتحصيل العلم والطلب ، فسبحان الموفق لمن شاء إلى ما شاء. ا ه.

وتلقيت ترجمة هذا الفقيه الكبير من ولده الرجل الصالح الشيخ تميم قال :

٣١٠

حضر والدي إلى حلب من ريحا وهو في سن العشرين ، وقعد أجيرا عند بعض الصباغين ، ثم حبب إليه طلب العلم فتلقاه عن الشيخ أحمد الترمانيني. ثم توجه إلى مصر فانتظم في عقد طلبة الأزهر وتلقى هناك عن كثيرين ، وكان جل تحصيله على العالم الشهير الشيخ تميم ، وبعد عودته من مصر حمل كتابه وذهب للحضور على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، فاستشكل الشيخ في عبارة ، وبعد التأمل فيها كثيرا قال لمن حضر من تلامذته : إني لم أفهم هذه المسألة ، فمن كان عنده فيها علم فليقل ، فسكت من بحضرة الأستاذ تأدبا معه ، فأعاد العبارة ثانيا وثالثا ، فعندها قال المترجم : إني أعلم شيئا عن هذه المسألة تلقيته عن شيخي الشيخ تميم المصري ، ثم سرد ما عنده ، فأعجب الأستاذ بذلك وأطرق مليا ثم قال له : يا شيخ مصطفى ، من كان مثلك في هذه المنزلة لا ينبغي أن يحضر عليّ ، وعليك أن تنشر علمك في الناس. فامتثل المترجم أمره وصار يقرأ حاشية ابن عابدين في المدرسة القرناصية ، وعين مدرسا لها (١) ، وتولى أمانة الفتوى في عهد مفتي حلب تقي الدين باشا وفي أيام مفتيها محمد أسعد أفندي الجابري ثم في أيام الشيخ محمد بهاء الدين الرفاعي ، وتلقى العلم عنه كثيرون ، من أجلّهم الشيخ علي القلعجي والشيخ بكري الزبري والشيخ أحمد الزويتيني ، والأخيران توليا إفتاء حلب كما سيأتي في ترجمتهما إن شاء الله تعالى.

وكان أستاذنا الشيخ محمد أفندي الزرقا يثني على علمه وفضله وطول باعه في علم الفقه ويقول : إنه لم يكن في عصره في حلب من يدانيه في الفقه الحنفي.

وتوفي عن أربع وستين عاما ، ودفن في تربة الجبيلة رحمه‌الله تعالى.

١٢٣٥ ـ الشيخ محمد الخيّاط المتوفى سنة ١٢٨٢

الشيخ محمد الخيّاط الشافعي ، من أهالي محلة قارلق.

كان فاضلا زاهدا ، له شهرة في علم الفرائض ، وكان من القانعين من هذه الدنيا

__________________

(١) صار مدرسها سنة ١٢٥٥ بعد وفاة مدرسها العالم الفاضل الشيخ محمد الخالطوماني كما وجدته بخط الشيخ عبد القادر المشاطي في مجموعته.

٣١١

باليسير. تلقى العلم عن الأستاذ الترمانيني الكبير وغيره. ومن تلامذته الشيخ أحمد أفندي الصدّيق كما حدثني بذلك.

وكانت وفاته في الهواء الأصفر سنة ١٢٨٢ عن سبعين عاما.

١٢٣٦ ـ الشيخ صالح بن أحمد المرتيني المتوفى سنة ١٢٨٢

الشيخ صالح بن أحمد المرتيني ، الإدلبي مولدا ومنشأ الحلبي موطنا ووفاة ، أخو الشيخ عمر المتقدم آنفا.

ولد رحمه‌الله في بلدة إدلب من أعمال حلب سنة ١٢١٨ وبها نشأ ، وتلقى العلم على والده وغيره من فضلاء إدلب ، وعانى صناعة النظم والنثر وكان له منهما حظ وافر. ومن نثره اللطيف رسالة في أحوال إبراهيم باشا المصري وأعماله في هذه البلاد ، وعندي منها نسخة بخطي ، وقد أدرجت منها قسما كبيرا في الكلام على ولاية إبراهيم باشا ، وقال في آخرها إنه فرغ من تحريرها سنة ١٢٥٧ ، ومما جاء فيها من نظمه قوله :

عظم الذنب والفساد فأضحى

من على الحق ضائعا وذليلا

واستبيحت محارم الله حتى

صار شيطاننا لدينا خليلا

وقوله :

لله نشكو ولاة في البلاد سعوا

بالظلم والجور والطغيان والتلف

آذانهم عن سماع الخير في صمم

وقلبهم عن قبول العذر في صدف

ثم إنه توطن حلب سنة ١٢٦٢ ، وصار مدرسا للحديث في الجامع الأموي وفي المدرسة الصلاحية المسماة الآن بالبهائية ، وتولى أوقاف جامع البهرمية نيابة عن متوليه عبد الرحمن أفندي العلمي القدسي مدة ، وتصدى لأخذ التولية من المذكور ليكون أصيلا فيها ، وترافعا إلى الحكام ، وكان الوالي وقتئذ ثريا باشا ، وامتدحه بقصيدة طويلة على أمل الحصول على مطلوبه فلم يجده ذلك شيئا وذهبت مساعيه أدراج الرياح.

ورأيت أوراقا بخطه ذكر فيها من توفي من أعيان الشهباء في سنة ١٢٨١ و ١٢٨٢ وشيئا من تراجمهم ، وقد أثبتّ ذلك في محله. ومما جاء في هذه الأوراق أن مما تفضل

٣١٢

به علينا الملك المنان ، وحصل لنا من المعونة على غلاء أسعار هذا الزمان ، إجراء ما كان قطعه عنا عصمت باشا الوالي سابقا بحلب من وظيفتنا في الجامع الكبير وقدره مائة قرش في كل شهر ، وسبب ترجيعه أن والي مدينة حلب الآن ثريا باشا وفقه الله لمرضاته كما يشا شرع في بناء في جوار حضرة ولي الله الكبير الشيخ أبي بكر الوفائي الشهير ، والذي دعاه لبنائه نشاط ذلك المحل وطيب هوائه ، فحين أكمله بنيانا وجمله بأنواع التجملات حسنا وإتقانا ، خطر في البال أن أعمل له تهنئة بما صنع ، وأبث له الشكوى بما جرى لي من الأذية من سلفه ووقع ، وكان شروعي في ذلك قبل توجهه إلى تنظيم عربان الأزوار ، القاطنين على أطراف الفرات في القفار ، فقابلناه بما قلناه ، وطلبنا من إحسانه ما رجوناه ، فألهمه الحق تعالى بإجابتنا إلى ما سألناه ، وأمر بعوده من غرة شهر أيلول حسبما أملناه ، وربنا كافاه على ذلك الإحسان ، بنصره على الأعراب ذوي الطغيان ، فأدخلهم تحت رابطة الحكم على الإطلاق ، وانقطع عن الناس ضررهم من حدود الشهباء إلى صدر العراق.

وهذه هي التهنئة الحاوية على تاريخ تلك الأبنية :

بناء شاده ركن المعالي

على النهج الأتم أتى سويا

إلى أن قال :

ولما أن بنى حرما مصانا

من الأكدار مبتهجا بهيا

أتيت مهنئا بقريض نظم

لباب علائه الباهي المحيا

وقلت لملتج بحماه أرّخ

جدار ربوعه يحكي الثريا

١٢٨١

ومن نظمه هذا التخميس وقد رأيته في مجموعتين :

سيوف لحظك في الأحشاء صائلة

وشمس حسنك للأفكار شاغلة

تفديك نفس محب فيك قائلة

يا رب إن العيون السود قاتلة

وإن عاشقها لا زال مقتولا

سبحان من زانها في السحر مع حور

حتى غدت فتنة تجري على قدر

أنا الأسير بها كهلا وفي صغر

وقد تعشقتها عمدا على خطر

ليقضي الله أمرا كان مفعولا

٣١٣

ومن نظمه كما وجدته في بعض المجاميع :

طلعت شموس السعد من بعد المغيب

وصفا الزمان لنا وقد وافى الحبيب

وحدائق الأفراح أينع غصنها

لما تبدى صاحب الحسن العجيب

غر الكواكب مذ رأين جبينه

قالت لبدر التم مالك لا تغيب

أفديه من ظبي كحيل لواحظ

عذب المقبّل ماجد زاك أديب

ضاعت عقول أولي النهى لما انثنى

بملابس الترفيل والقد الرطيب

لو جاءني منه البشير بقربه

ووهبته روحي لكنت أنا المصيب

(يا قلب لا تيأس وإن طال المدى

واعلم بأن الله ذو فرج قريب)

أيضام عبد يستجير بجاه من

ركب البراق وكلم الرب المجيب

سر الوجود خلاصة الموجود من

خير الجدود وصاحب الصدر الرحيب

كنز التقى ظبي الأجادع والنقا

من قد رقي بالمجد والفضل الحسيب

فهو الرسول أبو البتول ومن له

تسعى القفول ويهرع الصب الكئيب

يا صاحبي يمم حماه ولا تحد

عن بابه العالي فحاشا أن تخيب

وأعد عليّ مديح أفضل شافع

في يوم حر يجعل الولدان شيب

وقل الصلاة مع السلام عليك ما

ناح الحمام ودمدم الحادي اللبيب

وللمترجم ابن أخ فاضل اسمه الشيخ محمد ، وقد وقع لي كراسة بخطه أعطانيها بعض بني المرتيني المقيمين في إدلب ذكر فيها حوادث وقعت سنة ١٢٧٠ في حلب وإدلب وغيرهما ، وفيها عدة منظومات لعمه المترجم اخترت منها هذه الأندلسية وذكر أنه نظمها قبل سكناه بحلب وهي :

قد جرى الدمع من العين دما

عندما ذكرت ما كنت نسي

وإذا جزت بأكناف الحمى

عطفت عيني لذاك المجلس

يا رعى الله زمانا سمحت

لي به الأيام يوما وذهب

فيه أنفاس التهاني نفحت

وكؤوس الراح تجلى من ذهب

شربت منه ظباء شطحت

في ميادين الصفا حين غلب

حسنهم أخجل أقمار السما

فتراهم كالجوار الكنّس

٣١٤

وعلى أصداغهم قد رسما

جلّ من أيّدنا بالحرس

يا مليك الحسن جدلي بالوصال

فالحشا ذاب ولم يبق رمق

طال ما راقبت طيفا أو خيال

وإلى مغناك طرفي قد رمق

إن يكن بعدك عزا ودلال

فارحم القلب الذي فيك احترق

أو يكن قصدك تضني مغرما

فاتق الله بقتل الأنفس

فقتيل الحب والبيض الدمى

حلل الفردوس حقا يكتسي

قسما بالجيد والخصر الرقيق

وبورد الخد أو آس العذار

وبمن من أجله صرت رقيق

لي حلا في حبه خلع العذار

لست أبغي بعده خلا رفيق

مدة العمر وإن شط المزار

ومعاذ الله أن أنسى لما

نلت منه في ظلام الحندس

كيف أسلو من بأحشاي رمى

نار وجد كشهاب القبس

كل من رام من الله المنى

فليعوّل نحو باب المصطفى

الذي شرف أرجاء منى

وختام الرسل أهل الإصطفا

لذ بعلياه ولا تخش العنا

وبذاك الظل كن مكتنفا

وأعد ذكراه بين الندما

طيب الألحان زاكي النفس

وإذا مستك أو صاب الظما

بكؤوس المدح راحا فاحتسي

برسول الله إني مستجير

من تباريح التجافي والنوى

معدن الإحسان والفضل الغزير

خير من صام وصلى ونوى

مانح الجود لذي القلب الكسير

من له في الحشر حوض ولوا

كم له الضب صريحا كلما

وهو الشافع في كل مسي

وعليه الله صلى كلما

هزم الصبح جيوش الغلس

ورضاء الله يهدى بالدوام

لأبي بكر المكنّى بالعتيق

٣١٥

من غدا في حبه يلقى الهيام

من عذاب الله ناج وعتيق

وإلى الفاروق والشهم الهمام

صهر خير الخلق عثمان الصديق

وعليّ من به الدين سما

بطل الهيجاء أقوى فارس

وعلى آل رسول الله ما

عشقت عيني لطرف ناعس

وكانت وفاته في رابع عشر رجب سنة ١٢٨٢ ، ودفن خارج باب قنسرين في تربة الكليباتي. وأعقب عدة أولاد منهم من مات ولم يعقب ذكورا ، ومنهم من أعقب ذكرا وهو الشيخ إسماعيل ، والشيخ إسماعيل أعقب خليل أفندي والشيخ عمر أفندي والشيخ محمود أفندي ، فالأولان لا زالا في قيد الحياة ، ولخليل أفندي ولدان هما نبيه بك وإسماعيل أفندي ، ونبيه بك هو حاكم حلب الآن تولاها في السنة التي نحن فيها وهي سنة ١٣٤٥ في ١٩ المحرم الموافق ٢٩ تموز سنة ١٩٢٦.

١٢٣٧ ـ سيدي الجد الشيخ هاشم الطبّاخ المتوفى سنة ١٢٨٢

الشيخ هاشم ابن السيد أحمد ابن السيد محمد الشهير بالطبّاخ ، جدي والد أبي.

ولد رحمه‌الله سنة ألف ومائتين وعشرين أو قبل ذلك بسنة ، ولما ترعرع تلقى مبادىء العلوم الآلية والفقهية على الأستاذ الكبير الشيخ إبراهيم الدارعزاني وعلى غيره من فضلاء ذلك العصر ، وحصل طرفا صالحا من العلم ، وأخذ الطريقة الخلوتية القادرية على الأستاذ المذكور ولازم زاويته ، إلى أن توفي فلازم بعده ولده الشيخ محمد وسلك على يديه وصار يختلي معه الخلوة الأربعينية في كل سنة ، ثم خلّفه وألبسه العرف على جاري عادتهم فيمن يخلّفونه ، والعرف هو عمامة كبيرة بيضاء ، ولا زالت هذه العمامة محفوظة عندي.

ورحل سيدي الجد إلى الآستانة فصار له فيها القبول التام ، وعرض عليه القضاء فأبى وقال : إن لنا صنعة أغنانا الله بها عن القضاء ، لأنه مع الاشتغال بالعلم والتدريس كان يتعاطى صنعة البصم المشهورة بالبصمجي ، وهي صنعة أبيه من قبله ، فإنه مكتوب على لوح قبره في تربة السنابلة : السيد أحمد ابن الحاج محمد الطباخ البصمجي.

وكانت وفاته سنة ١٢٤٢.

٣١٦

وكان سيدي الجد على جانب عظيم من الصلاح والتقوى وحسن الأخلاق ، كثير التهجد ، ملازما للعبادة ، مكبا على مطالعة كتب السادة الصوفية ، واقتنى كتبا خطية نفيسة كثيرة توزعها أولاده ثم بيعت بعد ذلك ، ومنها الآن جملة وفيرة في مكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ، وعلى كثير منها خطه. وأنفس هذه الكتب كتاب «الجامع لآداب الراوي والسامع» للحافظ الخطيب مجلدان في عشرين جزءا ، وهي نسخة قديمة يغلب على ظني أنها محررة في القرن السادس وعليها خطوط كثير من الحفاظ وكبار العلماء ، وكتاب «أسرار التنزيل» للفخر الرازي ، و «شرح منظومة الإمام النسفي» في الخلاف ، و «جزء عبد الله بن المبارك» في الحديث ، و «شرح المناوي الكبير على الجامع الصغير» وغير ذلك من النفائس.

وكان يقرأ الدروس في مسجد العمري وفي مسجد الزيتونة كلاهما في محلة الجلّوم ، وفي مسجد الشيخ حمود في محلة باب قنسرين حسبة لله تعالى لا يتناول شيئا من الوظيفة لاستغنائه بصنعته وتجارته.

وكان ملازما للزاوية الهلالية يحضر الذكر الذي يقام فيها يوم الجمعة بعد العصر ، وخطب فيها مدة طويلة. وكان مع عكوفه على المطالعة وملازمته للعبادة والتهجد وقراءة الأوراد متأنقا في ملبسه ومطعمه سخي اليد كثير الصدقة كثير التفقد لأخوانه وأصدقائه وصولا للرحم مبذول الجاه لا يرد من قصده بحاجة يقوم بذلك أتم قيام.

وكان رحمه‌الله بدينا مربوع القامة عظيم الأذنين أبيض الوجه مستديره ، يعلوه احمرار ، عظيم الهيبة ، مكللا بالوقار والحشمة ، تدل هيئته على صلاح عظيم وقلب نيّر. حدثني غير واحد من العارفين به والمعاصرين له بعدة كرامات عنه يطول الكلام لو ذكرتها ، وحسبه ما كان عليه من التقوى والاستقامة والتمسك بالسنة السنية. وكان يتعمم بالزنانير الهندية على نسق كثير من العلماء في ذلك العصر ، إلا في الجمعة والأعياد وعند حضور مجلس الذكر فكان يلبس العرف الذي قدمنا ذكره.

وقبل وفاته بعدة سنين سلم دار طباعته وقد كانت ملاصقة لداره الكبيرة في محلة الجلّوم لأولاده الثلاثة : عمي الشيخ عبد السلام أفندي ووالدي الحاج محمود أفندي وعمي الشيخ علي أفندي ، ولزم البيت لا يخرج إلا قليلا ، وازداد في الانكباب على المطالعة والاجتهاد

٣١٧

في العبادة ، إلى أن وافاه اليوم المحتوم في ثامن رمضان سنة ١٢٨٢ ، ودفن بجانب قبر والده في تربة السنابلة خارج باب أنطاكية ، وكان مرضه أياما قلائل. ولما حضرته الوفاة طلب إبريقا فتوضأ ، وكان ذلك قبيل العشاء ، وأشار إلى من كان عنده بالخروج ، قال : فخرجنا وبعد ساعة رجعنا فدخلنا عليه فرأيناه قد توفي وهو ساجد ، أغدق الله عليه سحائب رحمته وصيب رضوانه.

تحقيق في نسب عائلتنا

سمعت من سيدي العم الشيخ علي أفندي غير مرة أن سيدي الجد كان يحدثهم أن نسبنا يتصل بآل البيت النبوي ، وكان لنا نسب محفوظ عند بعض أجدادنا ، وكانت دار سكناه في محلة قلعة الشريف ، فسقط في هذه الدار بيت ذهب ما كان فيه ومن الجملة النسب. وقلت في ترجمة الشيخ حسن بن علي الطباخ خطيب الخسروية المتوفى سنة ١١٤٠ إنه يغلب على ظني أن المترجم هو جدي الأعلى وإني ما زلت آخذا في البحث. وقد وجدت بعد ذلك في كتاب وقف السيد أحمد أفندي طه زاده واقف المدرسة الأحمدية المحرر سنة ١١٦٦ أن من جملة الشهود في الكتاب السيد أحمد ابن السيد حسن خطيب الخسروية ، فيغلب على ظني ظنا يكاد يكون يقينا أن السيد محمد المذكور في أول ترجمة سيدي الجد هو ابن السيد أحمد ابن الشيخ حسن ابن السيد علي ، فيكون جد والدي السيد أحمد قد تسمى باسم جده.

ورأيت نعت الشيخ حسن المذكور بالسيد في غير موضع ، منها ما رأيته في خطبة الكتاب المسمى «بالطلب الروي في شرح حزب الإمام النووي» للشيخ مصطفى الصديقي البكري ، فإنه قال في خطبة هذا الكتاب : (ورد علي الصديق الحسن السيد حسن خطيب الخسروية ذو اللسن فجرى ذكر الإمام الهمام محي الدين يحيى النووي قدس الله روحه ... إلخ). ثم ذكر في آخره أنه فرغ منه في شعبان سنة ١١٤٠ ، وتقدم أن وفاة الشيخ حسن كانت في ختام شهر ذي الحجة من هذه السنة ، فيستفاد من ذلك أنه حين توجهه للحجاز مر بالقدس فاجتمع بالشيخ مصطفى الصديقي ، ثم ذهب للحجاز وتوفي في هذه السنة.

وهذا الكتاب رأيت منه في مكاتب حلب عدة نسخ ، وعندي منه نسخة على هامشها

٣١٨

تصحيحات كثيرة تدل على أنها نقلت عن نسخة المؤلف باسم الجد السيد حسن حين مروره بالقدس وبقيت محفوظة عندنا إلى الآن.

ومنها ما ذكره الشيخ عبد الكريم الشراباتي في أوائل ثبته حيث قال ما ملخصه : ومن جملة مشايخي الشيخ زين الدين كاتب الفتوى شددت إليه الرحلة مرة ثانية وكان معي أخي الشيخ عبد الوهاب الشعيفي ، فأجازنا بجميع مروياته ، وقال : إن ثبتي عند السيد حسن الطباخ.

وقال في أواخر هذا الثبت : ومن مشايخي أبو السعود أفندي الكواكبي حضرت درسه أول ما دخلت بيته المعمور في مختصر المعاني حين كان يقرؤه للمرحوم السيد حسن الطباخ. وأنت تعلم أن النعت بالسيادة لا يعطى في ذلك العصر إلا لمن كان شريف النسب حقا وخصوصا حين النعت في الكتب والأثبات والإجازات.

هذا مبلغ علمي الآن ومنتهى معرفتي في نسب أسرتي ، على أن على العاقل أن لا يكتفي بمجرد النسبة الهاشمية والصلة بالعترة النبوية ويقول حسبي نسبي ، بل عليه أن يكون كما قال ذلك الشاعر :

لسنا وإن أحسابنا كرمت

يوما على الأنساب نتكل (١)

وأن يجعل نصب عينيه قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢) ذلك خير له وأبقى. نسأل الله حسن التوفيق والهداية لأقوم طريق ، فإنه لا حول ولا قوة إلا به.

١٢٣٨ ـ حسن أفندي العيّاشي المتوفى سنة ١٢٨٤

حسن أفندي ابن محمد أفندي العيّاشي الإدلبي الذي تقدمت ترجمته.

كان رحمه‌الله من المشهورين بمكارم الأخلاق وسعة الصدر والصدر الرحيب والكرم

__________________

(١) رواية العجز : يوما على الأحساب نتكل. ويليه :

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثل ما فعلوا

والبيتان منسوبان في الحماسة إلى المتوكل الليثي ، وفي الحيوان إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ، وفي الأمالي بدون نسبة.

(٢) الحجرات : ١٣.

٣١٩

الذي ما عليه من مزيد. تولى نقابة الأشراف ببلدته إدلب ، وامتدحه الشعراء بالقصائد الغراء. وكانت ولادته سنة ١٢٠٢ وتوفي سنة ١٢٨٤ رحمه‌الله تعالى.

١٢٣٩ ـ مؤيد بك ابن أحمد بك ابن إبراهيم باشا زاده المتوفى سنة ١٢٨٤

مؤيد بك ابن أحمد بك ابن إبراهيم باشا زاده ، أحد وجهاء الشهباء وأعيانها.

صار قائم مقام في إدلب وعضوا في مجلس التحقيق ، ثم صار قائم مقام في بلدة بازرجق ، ومرض هناك فأتى إلى حلب وتوفي بها سنة ١٢٨٤ ، ودفن في تربة الصالحين.

ومن آثاره سبيل عمره في محلة الفرافرة تحت القلعة وهو ملاصق للدار العظيمة المشهورة بدار أحمد أفندي كتخدا ، وفي سنة ١٣٤١ رفع الجرن الذي كان هناك واتخذ المكان مركزا لماء عين التل.

١٢٤٠ ـ الشيخ عمر بن محمد الطرابيشي المتوفى سنة ١٢٨٥

الشيخ عمر بن محمد بن عمر المخملجي ثم الطرابيشي ، ينتسب إلى محمد قضيب البان الحلبي.

ولد في حلب سنة ١٢٢٠ ، وقرأ القرآن على الشيخ محمد الفاخوري في المدرسة الشرفية ، ثم تلقى مبادىء العلم على الشيخ محمد السرميني ، قرأ عليه كتابا له في النحو سماه «الحقائق» ثم شرحه المترجم ، وقرأ على الشيخ محمد الترمانيني ، ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني فقرأ عليه كتبا كثيرة ذكرها المترجم في ترجمة شيخه المذكور نقلت إلينا عن مجموعة له ترجم فيها أشياخه قال فيها :

وقد تشرفت بقراءة جملة من الكتب عليه ، فمنها «شرح الأجرومية» للشيخ خالد ، و «الأزهرية» ، و «شرح القطر» للمصنف وابن عقيل والأشموني مرتين ، و «مغني اللبيب» مرتين ، و «تفسير الجلالين» مرتين ، و «التصريح شرح التوضيح» مرتين إلا قليلا من أوله ، و «شرح إيساغوجي» مرتين ، و «شرح السلم» للأخضري مرتين ، و «شرح السلم» للملوي مرتين ، و «حكم ابن عطاء الله الإسكندري» ، و «متن

٣٢٠