إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

بها جوزيف لويس روسو وكان قنصلا لفرنسا في حلب

لك الله من ظبي غدا يقنص الأسدا

أجهلا رميت الصب باللحظ أم عمدا

(وهي التي قدمنا أبياتا منها). وله من قصيدة :

أعيدي زورة المضنى أعيدي

فليل الوصل عندي يوم عيد

مؤلّفة النفار فجعت فيه

أمالك عن صدود من صدود

وأورد له أيضا شيئا من شعره وقال : وفيما يظن أنه مات في حدود ١٨٤٠ م وهي توافق سنة ١٢٥٦ ه‍.

١٢١٢ ـ الشيخ سعيد الحلبي المولد الدمشقي الوفاة المتوفى سنة ١٢٥٩

الشيخ سعيد بن حسن بن أحمد الحلبي المولد ثم الدمشقي الحنفي ، شيخ علماء دمشق وعمدة أحبارها ورئيس فضلائها وقدوة أخيارها ، العالم العلامة والحبر الفهامة ، فقيه زمانه وناسك أوانه ، مفيد الطالبين ومربي المريدين.

كانت ولادته في حلب سنة ١١٨٨ ونشأ بها ، ثم ورد إلى دمشق سنة ١٢٠٧ واستوطنها ، وأخذ العلم عن محدث الديار الشامية محمد الكزبري والعلامة الشيخ شاكر العقاد وغيرهما من علماء عصره ، وتصدر للإقراء والتدريس مدة حياته فانتفع به وتخرج عليه من دمشق وغيرها عدد كثير لا يحصون ، سيما في الفقه الحنفي فإنه انفرد به في عصره ، وأخذ عنه الكثير من أهل طبقته ، وأجل من أخذ منه العلامة السيد محمد ابن عابدين وهو تلميذ من جهة وأخوه في الطلب من جهة أخرى ، فقد اشتركا في قراءة «الدر المختار» على العلامة الشيخ شاكر العقاد. وقد تولى المترجم تدريس البخاري الشريف تحت قبة النسر في الجامع الأموي نيابة عن أحمد أفندي المنيني ، واستمر المترجم على ذلك إلى وفاته.

وكان له في دمشق الحل والعقد والأمر والنهي ، وكان محترما موقرا ينقاد إليه الكبير والصغير ، ويؤثر عنه آثار حسنة ، منها ثباته في أيام دخول إبراهيم باشا صاحب مصر إلى الشام سنة ١٢٤٧ ومدافعته عن الأهلين بما أثبت له عند الله أجرا وعند الناس حمدا وشكرا.

وبالجملة فقد كان إماما عالما جهبذا فاضلا خاشعا عابدا ناسكا زاهدا ، علمه على

٢٦١

مر الدهور منثور ، وفضله على كر العصور مذكور. وما زال على حالته الحسنى ومقامه الأسنى إلى أن توفي يوم الاثنين ثالث رمضان سنة ١٢٥٩ ودفن بمقبرة باب الفراديس بالذهبية قريبا من قبر شيخه العقاد ، وأعقب أولاده العالم الوجيه الشيخ عبد الله أفندي والفاضل الشيخ محمد والشيخ عبد المحسن أفندي رحمهم‌الله تعالى. ا ه. (روض البشر في أعيان القرن الثالث عشر).

وترجمه الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي في تاريخه «تعطير المشام في مآثر دمشق الشام» وذكر أن من جملة مشايخة الشيخ نجيب القلعي الدمشقي ، وقال في وصفه : إنه كان إماما جليلا مهابا مربيا مؤدبا ، ونوادره في تأديبه تلامذته شهيرة غريبة ، منقطعا للإقراء والإفادة في حجرته المجاورة لباب الكّلاسة (في الجامع الأموي) ، انفرد في وقته بحسن مسراه وسمته. ا ه.

أقول : وفي رحلتي إلى الشام سنة ١٣٣٨ اجتمعت بحفيده الشاب المهذب الشيخ حمدي الحلبي القيّم على الجامع الأموي بدمشق وأطلعني على مكتبة جده وهي موضوعة داخل حجرته في المكان المعروف بالكلّاسة ، وقد وقفها جده على الطلبة ، ورأيت فيها الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ وهو في مجلد ضخم بخط الحافظ البقاعي تلميذ المؤلف قال في آخره : إنه ابتدأ في كتابته سنة ٨٥٥ وفرغ منه سنة ٨٥٩ ، وقد نسخ هذه النسخة عن نسخة أخرى نقلها عن نسخة المؤلف. وقد نقلت أثناء إقامتي في دمشق ما في التاريخ المذكور من تراجم أعيان الشهباء في القرن الثامن.

١٢١٣ ـ الشيخ محمد البادنجكي المتوفى سنة ١٢٦٠

الشيخ محمد ابن الشيخ سعيد ابن السيد عبد الواحد البادنجكي.

ولد سنة ١٢٢٠. كان رحمه‌الله من أهل الجذب ، قعد على السجادة بعد والده في الزاوية الطرنطائية ومكث إلى أن توفي سنة ١٢٦٠ ودفن بجانب والده بتربة باب الملك.

١٢١٤ ـ الشيخ عبد الرحمن الموقّت المتوفى سنة ١٢٦٢

الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن الشهير بالموقت ، وقد تقدمت ترجمة والده وجده.

٢٦٢

كان رحمه‌الله شيخ القراء والمحدثين بحلب ، تولى بعد وفاة والده الميقات وجميع وظائف والده بالجامع الكبير الأموي. وكان حسن الصوت متفننا في علوم القراءات.

توفي في اليوم السابع عشر من شهر رجب سنة ١٢٦٢ ألف ومائتين واثنتين وستين ودفن في تربة الصالحين جانب والده رحمه‌الله تعالى.

١٢١٥ ـ محمد أفندي الجندي المعري المتوفى سنة ١٢٦٤

الشيخ محمد أفندي الجندي المعري مفتي المعرة. قال الشطي في «روض البشر» :

ترجمه لنا ولد حفيده صاحبنا الأديب الفاضل سليم أفندي الجندي حفظه الله فقال :

ولد بمعرة النعمان سنة ١٢١١ ، وولي الإفتاء بها مرتين وبحمص مرة ، ووجهت عليه حصة من فراشة الحرم الشريف النبوي. وكان عالما جليلا مدققا نبيلا أديبا وقورا خبيرا باللغة التركية. أخذ العلم عن أبيه وعن جماعة من أجلّهم الشيخ محمود أفندي المرعشي الحلبي والسيد محمد الكيلاني الحموي ، وأخذ عنهما الطريق الخلوتي ، وأخذ الطريقة القادرية عن السيد علي الكيلاني وأقامه خليفة وألبسه الخرقة. وكان معظم تحصيله وقراءته على سيدنا الشيخ أعرابي الحموي الأزهري الشهير بابن السايح وعلى الشيخ محمد أفندي الأزهري الشهير بابن المفتي. وما منهم إلا من مدحه وبشر به.

وله مؤلفات تعلن بفضله ، فمن المنثور المولد الشريف النبوي ، والموعظة الحسنة ، وشرح (قينا قينا) لعبة للأولاد ، وشرح (يا اشميسة اطلعي لي) أنشودة لهم على طريق السادة الصوفية أتى فيهما بما يدهش الحجى ويذهل الأبصار. ومن المنظوم البديعية ، والتخاميس الباهرة ، والتشاطير البديعة ، وأسئلة وأجوبة. وله غير ذلك تعاليق عديدة في الفقه والعلوم العربية.

ولم يزل قائما بخدمة الإفتاء والتدريس العام والخاص وبث العلوم للطالبين إلى أن لحق بربه وفاز بحظوة قربه ، وذلك في سابع شوال سنة أربع وستين ومايتين وألف ودفن في تربتنا المعروفة في المعرة بالجهة الغربية حذاء قبر أبيه ، صب الله عليه سجال رحمته وأنزله خير منزل.

٢٦٣

وبنو الجندي منهم في دمشق وحمص والمعرة. وللمترجم ولد اسمه أمين أفندي سكن دمشق وتولى إفتاء السادة الحنفية فيها ، وكان عالما وشاعرا أديبا ا ه.

ويجدر أن نذكر هنا حكاية لطيفة ذكرها جميل أفندي الجابري الحلبي في مجموعته ، وهي أنه لما عين محمد رشدي باشا الشرواني واليا على دمشق سنة ١٢٧٩ ، وكان مفتيها وقتئذ الشيخ أمين أفندي الجندي ، وكان بينهما مودة سابقة وصحبة أكيدة ، فظن أمين أفندي أنه الآن قد صفا له الزمان وذاق حلاوة المنصب لما كان بينهما من وحدة الحال ، وقد كانا منتسبين إلى علي فؤاد باشا الصغير ، فلم تمض أيام قلائل إلا وكتب الشرواني إلى دار الخلافة بلزوم عزل أمين أفندي من منصب الإفتاء وإسدائه إلى الشيخ محمود أفندي حمزة بدون سبب ، وبعد أن تم الحال على ذلك وجد الباشا المشار إليه بمحفل عظيم حوى الكثير من أفاضل دمشق ووجهائها وفيهم أمين أفندي الجندي ، فأخرج الباشا ورقة حاوية على بيت من الشعر وهو :

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

عند التقلب في أنيابها العطب (١)

وطلب من فضلاء الحاضرين تخميسه ، وكان قصده ظاهرا أن يقف على بداهة الفضلاء منهم وباطنا التبكيت على أمين أفندي ، فأخذ فضلاء الحاضرين يتبارون في ذلك ، وأظهر كل واحد منهم ما عنده من المقدرة الشعرية ، وأما أمين أفندي فإنه امتنع عن تخميسه واعتذر بقلة البضاعة واشتغال البال ، فلم يقبل اعتذاره وألح عليه الحاضرون بتخميسه ، ولما لم يجد بدا من ذلك أخذ القلم وكتب ارتجالا :

لا تغترر بليال نام حارسها

ولا بدولة فسق أنت فارسها

واحذر أسود الوغى يوما تدانسها

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

عند التقلب في أنيابها العطب

وناول الورقة للباشا ، فلما قرأها خجل خجلا زائدا وندم على ما فرط منه.

١٢١٦ ـ الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي المتوفى سنة ١٢٦٤

الشيخ محمد أبو الوفا بن محمد بن عمر الرفاعي.

__________________

(١) البيت منسوب إلى عنترة.

٢٦٤

ولد سنة ١١٧٩ ، ولما ترعرع شرع في تحصيل العلم فقرأ على الشيخ حسن المدرس والشيخ إسماعيل المواهبي والشيخ قاسم المغربي ، وقرأ على والده وأخذ الطريقة الرفاعية والشاذلية عنه كما قرأته بخط ولده الشيخ محمد بهاء الدين في إجازته لسيدي العم الشيخ عبد السلام الطباخ ، وهي موجودة عندي.

كان رحمه‌الله عالما فاضلا وأديبا بارعا ، ذكر شيئا من ترجمة نفسه في إحدى مجموعتيه اللتين ذكر فيهما عدة تراجم لعلماء عصره ، وقد نقلنا عنه جميع ما ذكره كما رأيته معزوا إليه ، قال :

إن الذي كان سبب ولعي بطلب العلم وواسطة الفتوح في مدة يسيرة هو الأستاذ الشيخ إسماعيل الكيالي ، وذلك أني كنت مع المرحوم سيدي الوالد في زيارته في المكان الذي هو قرب الجامع الكبير قبل أن يعمر زاوية كما قدمته في ترجمة أخيه الشيخ علي ، وكنت مراهقا فسألني : أي شيء تقرأه من العلوم؟ فقال له الوالد : الآن مشتغل بالكتابة ، قال : ما لنا وللكتابة ، نحن مرادنا طلب العلم والتعلم ، هذا ألزم لنا من غيره.

ثم إن الوالد تلاقى مع شيخنا مصطفى أفندي الكوراني يوما وهو راجع من قراءة الورد الشاذلي يوم الثلاثاء بعد العصر وذكر له رغبته في حضوري عنده في الرضائية حيث إنه انسلخ من كتابة المحكمة الشرعية وتعين مدرسا هناك ، فقال له : أهلا وسهلا ، أصير ممتنا ، ففي اليوم الثاني وهو الأربعاء بكرت لحضور الدرس ولازمته مدة استقامته في الرضائية واستفدت منه الفضل الكثير في زمن يسير ، ولم تطل المدة واصطفى الله مصطفى رحمه‌الله إلى الدار الآخرة ، حشرنا الله وإياه في زمرة الأبرار مع المصطفين الأخيار ، والحاصل كان ذلك بنفس الأستاذ قدست أسراره. ا ه.

ترجمة الشيخ محمد تراب دفين الزاوية المشهورة به في محلة السفاحية

مع شيء من ترجمة الشيخ أبي الوفا الرفاعي

قال الشيخ أبو الوفا : ولما قدم عبدي باشا الوزير حلب سنة ١١٩٤ وشرف حضرة شيخنا الشيخ محمد تراب الأوقاتي في ذلك الأثناء ذهب للسلام عليه أكابر الناس والعلماء والمشايخ ، ومن الجملة والدي ، وكنت صغيرا ، فصحبني معه ، فلما دخل مجلس الشيخ احترمه وأجلسه مكانه وجلست لصغر سني في آخر المجلس ، فصار الشيخ يتكلم مع أبي

٢٦٥

وينظر نحوي ، ثم قال : إني أشم رائحة طيبة وأظنها من هذا الغلام ، فطلبني فتوقفت حياء ، فأشار إليّ الوالد فقمت إليه وقبلت يده ، فرحب بي وقال : هذه الرائحة الطيبة من هذا الغلام ، وصار يتأملني ، ثم قال لوالدي : هذا سيصير شيخ هذه التكية فيما بعد. ثم صار بينه وبين الوالد ألفة تامة ، وصار في كل جمعة يذهب إلى التكية لحضور الذكر وأكون معه إلى سنة ١١٩٩ ، فطلبني من والدي لأجل أن يحرر لي إجازة الخلافة ويخلفني كما كان أشار إليه سابقا ، فتوقف الوالد وتردد إلى أن أجاب بعد أن أخبره أنه مأمور بذلك وإن لم يجبني إلى ذلك يخشى على ولده العطب ، فأجاب وحرر الشيخ إجازة الخلافة بأمره ، وأطعم اللقمة للمشايخ أرباب التكايا ، إلى أن جاءت سنة ١٢٠١ وصار الطاعون وطعنت من الجملة وشاع الخبر بوفاتي ، فذهبوا وأخبروه فلم يصدق ، وقال : هذا لا يموت الآن بل يقيم على بسطي مدة طويلة معلومة عندي بسبب أني مأمور بخلافته وأنه يقيم كذا سنة على البسط ، ففي هذه الأثناء أتى الخبر أن خبر موته غلط عن موت والدته ، وكانت توفيت ذلك اليوم ، ثم إنه حضر لعيادتي مع بعض المشايخ وطيب خاطري ورطبني وأقام إلى أوائل المحرم سنة ١٢٠٦ ، فاتفق أني كنت عنده ذلك اليوم فقال : يا ولدي أنا بقيت عندك مسافرا وأعيش خمسة عشر يوما بعد هذا اليوم ، فقلت : يا سيدي جعلني الله فداك ، ما هذه البشارة! فقال : سترى. ثم أصبح في اليوم الثاني موعوك المزاج إلى تمام الخمسة عشر ليلة الجمعة الخامس عشر من المحرم فتوفي ليلتها ، وقبل وفاته أوصى أن يدفن في محل خلوته التي يخلو بها حال حياته للذكر ودعا لي ، ففي اليوم الثاني باشرنا تجهيزه. ودفناه حيث أوصى قبل صلاة الجمعة رحمه‌الله تعالى.

وكان بشرني أن التكية سيكون لها وقت تعمر فيه ويحصل لها وقف يكون فيه إدارة لها ، فورد في سنة ١٢٤٢ حضرة رضا علي باشا مع يوسف باشا السيروزلي وكان كتخداه ، فتعرض لتعميرها وفوض إلي ذلك ، فأصرفت في ذلك بالتدبير والتوفير نحو سبعة آلاف قرش جزاه الله خيرا. ثم عزل يوسف باشا عن ولاية حلب وتوجه معه وغاب مدة ، ثم عاد هو واليا بالفرمان ، فتعاطى الأحكام وجرى له مع الأهالي مجريات وانتصر عليهم ، وجاءته الوزارة ، ووقف للتكية دارين يحصل منهما منفعة ودكانا في سوق خان الحرير ، ولما تصدى لتعمير التكية بحسن النية عمر الله له دنياه ، وخرج من حلب لولاية بغداد لإخراج داود باشا والقبض عليه وإرساله إلى الآستانة ، فنجحت أموره وانتصر على داود

٢٦٦

باشا وضبط الأموال وأرسله إلى الدولة وحاز بذلك قبولا تاما عند السلطان ، وإلى تاريخه وهو سنة ١٢٥٦ وهو والي بغداد منصور اللواء نافذ الأحكام. وكان طلبني سنة ١٢٥٣ وأرسل لي خرج الطريق ، فتوجهت إلى بغداد ومعي ولدي محمد بهاء الدين وزرنا حضرة قطب الدائرة حضرة سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني وما في بغداد من المشايخ ، وعمت بركاتهم علينا ، وحصل لنا من الوزير المشار إليه تمام الإكرام والاحترام والإقبال التام ، وعدنا بسلام إلى الوطن والحمد لله ، ونرجو الله أن يعمر آخرته كما عمر دنياه لأنه من أهل الاعتقاد التام في أهل الله والتأدب معهم. ا ه.

وترجمه الشيخ محمد أبو الهدى أفندي الصيادي في كتابه «قلادة الجواهر» فقال : ومنهم (أي من السادة الرفاعية) العالم الفاضل ، والنحرير الكامل ، صاحب المناقب المشهورة ، والمآثر المذكورة ، الشاعر الأديب ، واللسن الأريب ، ناصر الفقراء ، وقدوة المشايخ والعلماء ، الشيخ الحاج محمد وفا الرفاعي الحلبي. أخذ الطريقة الرفاعية عن أبيه ، وأبوه أخذها عن شيخ وقته السيد خير الله ابن السيد أبي بكر الصيادي الرفاعي شيخ المشايخ بحلب الشهباء. أقام الشيخ محمد وفا المذكور منار الطريقة الرفاعية بعد أبيه وجدد مراسمها وأخذ عنه الجم الغفير. طاف البلاد وذهب إلى دار السعادة قسطنطينية ، وسافر قبلها إلى بغداد ، ويقال إنه تشرف بزيارة الغوث الرفاعي رضي‌الله‌عنه. وكان صاحب جاه عظيم عند الحكام ، ومحفوظ الحرمة والشان عند الخاص والعام ، ومع كل شهرته وما هو عليه حفظ ذمة العهد لأشياخه آل خير الله وببركتهم أعزه الله وحماه ، وقد شيد الله قدره وتمم في بلاده أمره ، ولم يزل رفيع المكانة مرموقا بأبصار التعظيم ، حتى مات ودفنوه بمقبرة الصالحين بحلب وقد ناهز السبعين. ا ه.

أقول : وللمترجم نظم رائق منسجم لا كلفة فيه ، ينبي عن فكرة وقادة وذهن ثاقب وتضلع في العلوم الأدبية. فمن نظمه مشطرا كما وجدته في بعض المجاميع الحلبية :

ما زال يرشف من خمر الطلا قمر

حتى غدا ثملا ما فيه من رمق

وراح يشربها جنح الدجى عللا

حتى بدت شفتاه اللعس كالشفق

وقام يخطر والأرداف تقعده

وخصره ناحل قد زين بالنطق

يا للنهى من عذيري في هوى رشأ

ظبي نفور يحاكي البدر في الأفق

جذبته لعناقي فانثنى خجلا

وغض طرفا فوا وجدي ووا حرقي

٢٦٧

فضرج الخد بالنعمان من غضب

وكللت وجنتاه الحمر بالعرق

وقال لي برموز من لواحظه

يا شيخ أهل الهوى يا شيخ كل تقي

ماذا تقول وقد قال الرواة لنا

إن العناق حرام قلت في عنقي

وله ديوان حافل اطلعت عليه قد افتتحه باستغاثة بسور القرآن قال في أوائلها :

يا ربنا أنل فؤادي وطره

بالسورة المذكور فيها البقره

بآل عمران وبالنساء

اقض مرادي وأنل منائي

بالسورة المذكور فيها المائده

اخذل عدوي وأزل مكائده

وهي على هذا النمط في ختامها :

افتح لنا يا ربنا بالفاتحه

واجعل تجاراتي دوما رابحه

وقال رحمه‌الله مخمّسا البردة الشريفة وسماها «تطريز البردة وتطريد الشدة» ، وقد بدأ بتخميسها في إدلب سنة ١٢١٧ ومطلعها :

على م يا من أفاض الدمع كالديم

تبكي وتعلن بالأشجان والسقم

وممّ مزج الدما بالدمع من ألم

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

أشمت من أبرق بالأنس باسمة

أم هل شجاك غراما نوح حائمة

أم ذاك من فرط أشواق ملازمة

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من إضم

وله مشطرا والأصل للمولى عبد الرحمن الجامي شارح «الكافية» :

بالله يا ريح الصبا

اللطف شأنك والكرم

مني إليك أمانة

إن جزت في أرض الحرم

بلّغ سلامي روضة

وجه الوجود بها ابتسم

سمت السماء لأنها

فيها النبي المحترم

وله مخمسا والأصل للمولى طه زاده علي أفندي :

هو الحب كم يقضي بإتلاف مهجتي

ويأمرني أن أدفع الوجد بالتي

وكيف وقلبي ذاب من فرط حسرتي

بليت بظبي نافر رام قتلتي

٢٦٨

ولم يدر قتل النفس شيء محرّم

بثثت له شوقي ووجدي فلم يفد

وملّكته روحي وقلبي فلم يرد

ومن نال وصلا منه يوما فقد سعد

كتمت الهوى خوفا عليه ولم أجد

معينا لشوقي وهو بالحال يعلم

أكابد منه طول عمري محنة

ويزداد هجرانا عليّ وقسوة

وما كنت أدري أن أقاسي لوعة

وخلت الهوى عذبا وللصب منحة

ودمعي غدا مني إليه يترجم

لساني له فيما أقاسيه ناطق

وقلبي للقياه مدى الدهر خافق

وطرفي من خوف على البعد رامق

ومالي ذنب غير أني عاشق

أسير غرام بالنوى أترنم

نعم منيتي قلبي عليك قد احتوى

وما رام تبديلا وما مال للسوى

فهل حسن أن تحرق القلب بالجوى

أبيت حزينا من جوى البعد والنوى

وفي مهجتي نار من العشق تضرم

فإن قلت من أضناه شوق أقل أنا

وأروي حديثا في هواك معنعنا

ولو ذبت من حر التباعد والعنا

فجدلي بعفو منك يا غاية المنى

فيرحم ربي كل من كان يرحم

لأنت بجيش الحسن خير مؤيد

ملكت زمام الظرف من كل أغيد

فلا تستمع خلّي كلام مفنّد

ولا تمتنع عني بحق محمد

وأنعم بقرب أيها المتكرم

بعشقك هذا الصب ضل وقد غوى

أيا من لأنواع المحاسن قد حوى

وبعدك أعياني وللقلب قد كوى

فإن كان ذنبي العشق للغير والسوى

فأنت كهمز الوصل عندي مقدّم

فإن كنت لا تهواه إلا تكلفا

وتتركه يقضى أسى وتأسفا

فعفوا وصفحا فالذي قد جرى كفى

وهذا الرجا فاقبله مني تعطفا

وإلا يفد يا حب عشت وتسلم

عساك بوصل من نوالك تنعم

لصب بنيران الجوى يتألم

بماضيّ لحظ أحور منك أقسم

لئن لم تصلني يا حبيبي أعدم

٢٦٩

شفائي وسقمي منك والله أعلم

وله في هذا الديوان عدة قدود وموشحات لحنها لعنايته بعلم الموسيقا والأنغام ، وكان يعد من أركان هذا الفن في حلب ، وكانت تلك القدود تغنى بين يديه في حلقة الذكر ، ومن جملتها موشح مشهور متداول قاله حينما كان متوجها لدار السعادة سنة ١٢٢٠ مطلعه :

يا مجيبا دعاء ذي النون

في قرار البحار

استجب دعوة المحزون

قد دعا باضطرار

دور :

يا إلهي طالما أدعو

موقنا بالنجاه

ولحالي وقصتي رفع

لك يا سيّداه

أنت منك العطاء والمنع

أنت أنت الإله

لك أمر بالكاف والنون

ولك الاقتدار

أنت من ظلمتي تنجيني

فالبدار البدار

ومنه دور :

ملجم البحر منك بالقدره

أنت نعم العتاد

ألجم الضد واكفني شرّه

واقض لي بالمراد

رب واجعل هلاكه عبره

لجميع العباد

وأذقه العذاب بالهون

وارمه بالدمار

رب باغ في الناس مفتون

في خراب الديار

ومنه دور :

ربّ بدّل عسري بتيسير

وأنلني القبول

بجزيل من حسن ميسور

ما إليه وصول

رب وافتح أبواب تدبيري

واقض لي بالدخول

وعلى ما أروم كن عوني

واكسني بالوقار

بمنائي أقرّ لي عيني

أنت بالعبد بار

٢٧٠

وهو في سبعة عشر دورا اكتفينا منه بهذا المقدار.

وقدمنا في الرسالة الموسومة «بالهمة القدسية» تضمينه لقوله تعالى (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) في جملة من ضمن هذه الآية.

ومن شعره قصيدة نظمها حين قامت الفتن بين الأنجكارية والسادة وتعدى أولئك على هؤلاء وأتوا بالفظايع من الأعمال في الحادثة المعروفة بحادثة جامع الأطروش ، وقد أشرت إلى هذه القصيدة في الجزء الثالث (ص ٣٠٠) وهي :

لا يأمنن صروف الدهر إنسان

ولا نوائبه فالدهر خوان

فكم أباد من الماضين من ملك

له بسطوته عز وسلطان

أين الملوك التي ذلت لعزتهم

كل الرقاب ومن خوف لهم دانوا

أين الجبابرة العادون أين أولو

الأخدود أم أين كسرى أين ساسان

دعوا أجابوا فصاروا عبرة وخلت

منهم ديار وأحياء وأوطان

فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم

فليعتبر من له للحق إذعان

وهكذا الدهر لم تؤمن عواقبه

له إلينا إساءات وإحسان

تبارك الله ما الأسواء دائمة

وكلما قد مضى آن أتى آن

كل المصائب قد تسلى نوائبها

إلا التي ليس عنها الدهر سلوان

هي المصيبة في آل الرسول فقد

سارت بأخبارها في الناس ركبان

من آل بيت رسول الله شرذمة

من النوابغ أحداث وشبان

آووا لبعض بيوت الله من فرق

من العدو وللأعداء عدوان

فجاء قوم من الفجّار تقصدهم

بكل سوء لهم بغي وطغيان

لما أحاطوا بهم إليهمو التجؤوا

فأمّنوهم ولكن عهدهم خانوا

وحالفوهم على فوز بأنفسهم

لكنهم ما لهم عهد وأيمان

وكيف صح قديما عهد طائفة

ضلت وليس لهم في القلب إيمان

سلّوا عليهم سيوف البغي واقتحموا

كما تهجّم جبّار وشيطان

وباشروا قتلهم بما بدا لهم

فبعضهم ذابح والبعض طعّان

أو باقر لبطون أو ممثل او

ضراب سيف وفتاك وفتان

٢٧١

أو مقتف إثر مهزوم ليقتله

وقلبه لدم الأشراف ظمآن

أو كاسر عظم مقتول وقاذفه

كما تكسّر أصنام وأوثان

أو خائض بدماء القوم مفتخر

بالسفك مستولع بالهتك ولهان

وكل هذا وآل البيت ما رفعت

لهم عليهم يد والرب ديّان

إن يستجيروا بجاه المصطفى شتموا

أو بالصحابة سبوا ليت لا كانوا

أو يستغيثوا يغاثوا من دمائهم

أو يستقيلوا الردى فالقلب صوّان

فلو سمعت عويل القوم من بعد

إذ يستغيثوا لهدت منك أركان

يا رب مستنصر من ليس ينصره

تحت السيوف طريح النفس غلبان

يا رب والدة كبت على ولد

فمزقوه وما رقوا وما لانوا

يا رب أرملة ريعت بصاحبها

وحولها منه أيتام وصبيان

ألا ذوو نجدة ألا ذوو همم

ألا ذوو غيرة للحق أعوان

ألا عصابة حق للتقى انتسبوا

لنصرة الدين أكفاء وأقران

ألا أماجد ذبوا عن نبيهم

ألا حماة لعرض المصطفى صانوا

هذا جزاء رسول الله من فئة

قلوبهم ملؤها إثم ونيران

آذوه في آله وأحرقوا دمهم

وما عدا كل هذا شأنه شانوا

وهل يطاق سباب المصطفى علنا

وهل تطيق سماع الشتم آذان

لا خير في عيشة والمصطفى هدف

لأسهم الطغي ذا والله خسران

إن لم تقوموا بكف الشتم عنه فمن

يقم به ولكم بعزه شان

وأنتم يا رعاة الناس بينكم

كتب الحديث وآيات وقرآن

قوموا لنصرة دين الله واعتصموا

على أناس لهم للحق خذلان

إن تنصروا الله ينصركم ويهدكم

ويستبين لكم في الدين برهان

لا زلت أنشد بيتا صيغ من درر

منظم فيه ياقوت ومرجان

(ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان)

وله أيضا في هذه الحادثة :

الله أكبر من خطب له شان

قد شاب من هول ذاك الخطب ولدان

رزية أصبح الإسلام في كدر

صمّت بموقعه لا شك آذان

٢٧٢

مصيبة ألجمت كل الورى ولها

لقد تداعى لكسر القلب إيوان

مصيبة فطرت أحشا الأنام لها

لم يرضها ركب قسيس ورهبان

عمت كدورتها كل الورى وغدت

لها الذي الدهر عنوان فعنوان

عمت كدورتها الآفاق وانصدعت

قلوب أهل النهى والأنس والجان

إذا الرسول ينادي عترتي ظلمت

سلطانك اليوم لا يقهره سلطان

يزيد سيدكم والشمر قائدكم

إلى الجحيم فبئس الدار نيران

أفي المساجد قتل النفس فخركم

وهتك حرمة من بالحق أعوان

فما لكم من جزا يوم الجزاء غدا

لكم من الله طرد ثم نيران

في يوم لم يغنكم مال ولا فئة

تحميكم باللظى والبغي جيران

يوم الجزا ورسول الله خصمكم

فما لكم حجة في ذا وبرهان

يا ويحكم فاستعدوا للجواب فلا

تغنيكم فيه إخوان وخلان

يا ويحكم يوم تأتون الحساب على

وجوهكم فيه ترذيل وخسران

هذا ولم تنتهوا والدهر ينشدكم

بيتا دعائمه در وعقيان

(ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان)

وله عدة مؤلفات وهي :

(١) رسالة في خواص الأسماء السهروردية وسلسلة أسناده بالإذن بها.

(٢) مجموع فوائد ومجربات له مأذون بها من أشياخه.

(٣) رسالة فقهية في أركان الدين الخمسة.

(٤) القصيدة الهجائية وشرحها لأحد الأفاضل.

(٥) الفصول الوفية في السادة الصوفية مشتمل على مقدمة وعشرة أبواب.

(٦) منظومة في ٧٥٦ بيتا (١) نظم فيها من دفن في كل تربة وزاوية من علماء الشهباء وأوليائها.

__________________

(١) عندي من هذه المنظومة نسختان بخطي في كل واحدة منهما زيادات على الثانية وتغاير في الأبيات ، وقد ذيل هذه المنظومة الشيخ محمد الصابوني من مجاوري المدرسة العثمانية فذكر من دفن في هذه الترب من الأعيان من سنة ١٢٦٤ إلى قبيل وفاته سنة ١٣١٦ ، وأول من ذكر منهم المترجم حيث قال فيمن دفن في تربة الصالحين :

قلت وقبر الشيخ وفا الرفاعي

قد شكر الله له المساعي

ناظم هذا الرجز الوجيز

الفائق الرائق والعزيز

هنا وقربه ابنه مفتي حلب

الشيخ بهاء الدين لطف وأدب

٢٧٣

(٧) الصوافح الرافية (١) في الفواتح الكافية مجهول.

(٨) رسالة في بحث سجود القلب الذي ذكره سيدي محيي الدين ويليه مختصر ترجمة سيدي محيي الدين.

(٩) رسالة نظم بها الأولياء والصحابة لأعلى الترتيب وترجم كل واحد منهم بالانفراد.

(١٠) رسالة في بيان الجوامع والمساجد والمدارس والتكايا التي في حلب لم أطلع عليه.

(١١) مولد نثر أوله : يا من أظهر كبرياء مجده.

(١٢) مولد نثر أوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.

(١٣) مولد نظم أوله : بعد حمد الله رب العالمين (مطبوع).

(١٤) شرح الجلجلوتية وبيان خواصها.

(١٥) مولد أوله : الحمد لله الذي أفاض من قبضة فضله المحمود على صفحات الوجود.

(١٦) مولد أوله : الحمد لله الذي أظهر شموس أنوار النبوة المحمدية.

(١٧) مولد أوله : الحمد لله الذي أطلع في سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة.

(١٨) رسالة في خواص دائرة سيدي أبي الحسن الشاذلي.

(١٩) رسالة استغاثة.

(٢٠) رسالة في خواص حرف القاف ، ويليه دعاء لطيف وورد ، ويليه قصيدة استغاثية له.

(٢١) رسالة ضبط بها أسماء أهل بدر على القاعدة النحوية وترجم بعضهم ، ويليه استغاثة بأسمائهم بالانفراد والترتيب.

وكانت وفاته رحمه‌الله تعالى سنة ١٢٦٤ ، دفن في تربة الصالحين تجاه جدار مقام إبراهيم من الشرق.

ورثاه الشاعر المجيد سعيد أفندي القدسي بقصيدة طويلة قال فيها :

بكائي لفقد النازحين يزيد

وحزين عليهم وافر ومديد

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : الوافية.

٢٧٤

وأجفان عيني بالدموع تقرحت

ومنهن فوق الخد سال صديد

وفتت ناعيهم فؤادي ومهجتي

وإني على حمل الهموم جليد

جزعت فقالوا ما عهدناك هكذا

فقلت إليكم فالمصاب شديد

خلعت جلابيب التصبر عندما

تذكرت حبي والمزار بعيد

يحق لعيني تهجر النوم والكرى

إلى أن يلينا سائق وشهيد

ويحسن مني أجعل العمر مأتما

وأندب ندبا ما عليه مزيد

مضت زهرة الدنيا وزال صفاؤها

ولم يبق من نيل الغموم محيد

فليت الليالي أطبقت عين صبحها

على أن أيام المصيبة سود

ويا ليتني ما كنت شيئا أو انني

لحقت بربي أن يقال وليد

ولم أدرك الدهر الذي قل خيره

وساء به ندب وسر وليد

مضى القوم أهل العزم والحزم والحجا

ومن رأيهم في الحادثات سديد

مضى العلماء العاملون فما لنا

يلذّ لنا بين الأنام هجود

همو وارثو علم النبيّ محمد

وهم لحمى دين الإله عمود

بهم رفع الباري العذاب عن الورى

كذا محكم التنزيل جاء يفيد

وفضّل بين العالمين وحيدهم

وهل فوق هذا مادح وحميد

أقاموا كراما ثم ساروا أعزة

وذكر علاهم ثابت وجديد

بهم كانت الدنيا تلألأ بهجة

وفيهم بناء المسلمين مشيد

وفي عصرنا قد كان منهم بقية

به كل يوم للبرية عيد

هو السيد الحبر الإمام أبو الوفا

ملاذ الورى بحر العلوم فريد

مجدد هذا القرن درة عقده

ومن نوره في الخافقين يفيد

أتى عند ما بالجهل مدت ظلامة

على الكون حتى ضل فيه رشيد

وأعوز أهل الأرض للدين مرشد

خبير بأحكام الإله مفيد

فما هو إلا أن قضى سيف عزمه

وضم إليه طالب ومريد

وقام على ساق الهدى طول عمره

يعلم شرع المصطفى ويفيد

إلى أن ملا الآفاق علما وحكمة

وحدّث عنه سادة وعبيد

فكم في ذرى الشهباء حبر محقق

وكم آخذ في الدين عنه وحيد

فضائله في الأرض ليست خفية

وقد سار منها في البلاد مزيد

٢٧٥

وفي كل إقليم إذا ما ذكرته

يقولون هذا في البرية سيد

وهي طويلة نكتفي منها بهذا المقدار وهو معظمها.

وترجمه الأديب قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» فقال في صفته :

إنه كان ربعة ممتلىء الجسم أبيض اللون صبيح الوجه أسود العينين مليح الأنف والفم على غاية من الجمال ، وورث حسن الصوت عن أبيه وجده ، وكان يلقب بالزينة كجده لما اجتمع له في صوته من الحسن والجهارة ، وكان كلما رتل في الجامع أو في زاويته يجتمع الناس من كل حدب وتصعد النساء إلى السطوح لشغفهم باستماع صوته. وكان يقيم الأذكار الشاذلية مع أبيه في الزاوية المعروفة بمسجد خير الله في محلة الأكراد بحلب وهي المشهورة بالزاوية الرفاعية ، وهي زاويتهم الأصلية ، وله غيرها أربع تكايا ، ولما أدرك العجز والده انتقلت إليه مشيخة الطريقة.

ووقعت منازعة بينه وبين بعض مشايخ حلب على إحدى التكايا التي كانت تحت توليته ، فقصد القسطنطينية ولقي من حفاوة وزرائها وكبرائها به ما يقصر عنه الوصف ، ومدحوه ومدحهم بالمنثور والمنظوم ، ثم عاد إلى حلب وقد زودوه ببراءة سلطانية تمنع كل حاكم فيها استماع أي دعوى عليه في التكية المذكورة.

[ثم قال] : ومما نحفظ من غزله قطعة من موشح رويناها في كتابنا «منهل الوراد» وهي :

يا مهاة البان يا ذات الدلال

جل من أبدع ذا الوجه الجميل

غلب الوجد وليل الهجر طال

وأنا المغرم بالفرع الطويل

قدك المياس لو لا الأزر سال

فاكشفي عن وجنة الخد الأسيل

لأرى نقشا عليه رسما

ناعم الوشي طري الملمس

وله :

رفع الحجب عن بدور الكمال

مرحبا مرحبا بأهل الجمال

سادتي سادتي بحقي عليكم

إنني عندكم عزيز وغال

لم يعد لي حبيب قلب سواكم

زال رسمي وحال حال خيالي

ومنها :

٢٧٦

ملكوني بلطفهم ورضوا بي

عبد رق فسدت بين الرجال

ومنها :

وإذا ما الصدود أفنى وجودي

رحموني وأنعموا بالوصال

١٢١٧ ـ الشيخ محمد المشاطي المتوفى سنة ١٢٦٥

الشيخ محمد بن أبي بكر ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم المشاطي ، أحد الحفاظ المشاهير.

تلقى علم القراءات السبع على الشيخ محمد العقاد ، وبعد وفاته قرأ على أخيه الشيخ طه ابن الشيخ محمد العقاد ، وأتقن علم القراءات وصار له اليد الطولى.

توفي يوم الخميس تاسع عشر ربيع الثاني سنة ١٢٦٥ كما وجدته مقيدا بخط ولده الشيخ عبد الرحمن المشاطي في مجموعته وعمره نحو خمس وستين سنة ، ودفن في تربة الصالحين.

وخلف الشيخ عبد الرحمن هذا والشيخ عبد القادر وعبد المجيد أفندي ، فالشيخ عبد الرحمن كان إمام الشافعية في الجامع الأموي ، وتوفي سنة ١٣٢٥. والشيخ عبد القادر كان أحد الحفاظ المشهورين وإماما للشافعية في صلاة الفجر في الجامع الأموي ، وكانت وفاته سنة ١٣٠٠. وعبد المجيد أفندي كان تولى نقابة أشراف حلب ، بقي فيها سنتين في نواحي سنة ١٢٩٥ ، ثم انتزعها منه الشيخ أبو الهدى الصيادي وسعى في نفيه إلى يافا ، وبقي هناك ثلاثين سنة ، وبعد إعلان الدستور العثماني أعيد إلى حلب ومنها توجه إلى الآستانة أملا باستعادة النقابة ، وتم له ذلك غير أنه على أثر ذلك توفي هناك سنة ١٣٢٧.

والشيخ إبراهيم المذكور هو مدفون في صحن جامع المشاطية في المحلة المسماة بهذا الاسم فوق محلة بانقوسا ، ولم أقف على تاريخ وفاته ولا على شيء من ترجمته.

وقد تقدم ذكره في الكلام على جامع المشاطية في ترجمة الشيخ سعد اليماني.

١٢١٨ ـ مصطفى بن أبي بكر الكوراني المتوفى سنة ١٢٦٥

الشيخ مصطفى بن أبي بكر الكوراني ، العالم الفاضل الشاعر الأديب.

لم أقف على شيء من ترجمته ، غير أني وجدت عند بعض أحفاده مجموعة بخطه فيها

٢٧٧

كثير من شعره ، وظهر لي من هذه المجموعة أنه كان يجيد اللغة التركية ويكتب فيها كتابة حسنة مع قلة من يحسن ذلك في ذلك العصر ، وشعره وسط ، وقد انتقيت منه هذه القصيدة النبوية :

خليليّ عوجا بالعقيق ويمما

معاهد أشواق بها الوجد قد نما

وإن شئتما نورا أضاء بيثرب

ولاحت بروق الأنس من ذلك الحمى

فجدّا بسير تبلغاني به المنى

وحوزا بذاك الجد جدا ومغنما

ألا بلغا عني النبي محمدا

صلاة وتسليما سليما معظما

نبيا كريما قد حباه إلهه

بفضل فخيم حيث كان مفخما

لقد كان حقا والخلائق لم تكن

فأعظم بمن في الخلق قدما تقدما

وما زال في الأصلاب ينقل نوره

إلى الشهم عبد الله جاء متمما

لآمنة الفضل العميم بحمله

فطوبى لها نالت كمالا محتما

بمولده السامي تبدّى سرورنا

وغنى هزار الحمد مدحا ورنما

فيا سيدا ساد البرايا بفضله

وأوصلهم كل النوال تكرما

أغثي أغثي عند كربي وشدتي

أجرني أجرني إن كربي تحكما

وكن لي شفيعا من ذنوبي فإنني

كثير ذنوب أرتجيك الترحما

وأدعوك يا خير النبيين منشدا

عليك إله العرش صلى وسلما

وقصيدة في صفات العين وهي :

احفظ أخيّ صفات العين والبصر

وكن بحفظكها في العلم ذا بصر

فالواسع العين في حسن يقوم بها

يدعى به [أنجل] الألحاظ والنظر

أما شديد سواد العين [أدعجه]

ومع شديد بياض صاحب [الحور]

و [الأزرق] الأخضر الأحداق منظره

ومع دنو بياض [أملح] اعتبر

و [أشكل] من سواد العين خالطه

لون احمرار بدا فيه بلا نكر

وإن يكن زاد فيه الاحمرار فذا

[بالأشهل] امتاز بين الناس والبشر

وناظر عرض أنف [أقبل] وإلى

محاجر [أحولا] سماه كل دري

وإن [أغطشه] من كان ناظره

قد احتوى الضعف حتى في سنا القمر

أو كان ذا الضعف في العينين مع صغر

[فأخفش] وهو عن حسن اللحاظ بري

٢٧٨

ومن إذا أظلم الليل الدجيّ فلا

يرى فذلك [أعشى] فاستمع خبري

وقوله وهو تعريب عن شعر تركي :

ما كنت أعلم أن الدهر يفجؤني

بالخطب وهو عن الأقوام في شغل

لا عتب مني على دهر دهيت به

سواد حظي مكتوب من الأزل

وكانت وفاته سنة ١٢٦٥ كما أخبرني بعض أحفاده.

١٢١٩ ـ الشيخ محمد الهبراوي المتوفى سنة ١٢٦٧

الشيخ محمد بن الشيخ أحمد الهبراوي.

كان رحمه‌الله من العلماء الأعلام ، ذا نظر نقاد وفكر وقاد ، تقدم في كل فن على أهله ، حتى اعترف الكل بفضله. وكان في علم الحديث البيهقي الثاني ، أو الحافظ ابن حجر العسقلاني. وأما الأصول فصدره فيه جمع الجوامع ، وهمع الهوامع. حفظ رحمه‌الله الكتاب المجيد ، بالإتقان والتجويد ، ثم عكف على اجتناء ثمر العلوم واقتطاف أزهار الفنون ، وشارك والده الشيخ الإمام ، في الأخذ عن بعض أشياخه الأعلام ، منهم الشيخ محمد سعيد الديري والشيخ قاسم المالكي والشيخ إبراهيم الهلالي والشيخ عبد الرحمن العقيلي ، وأجازه بالعلوم كلها بإجازة محررة سنة ١٢٣٤. ولما سما ما سما ، وطال أوج السما ، أخذ يؤلف ويصنف ، وانتهت إليه بعد أبيه رتبة التدريس حتى أصبح العلم على المنابر ، فمنها مواده المسماة «بالكواكب الدرية المضية على شرح العلامة الملوي على السمرقندية» ، و «شرح على الدور الأعلى» ، و «مواده الكبرى» على التوضيح لابن هشام ، كتب منها ثمانية كراريس ، و «مواده على تحرير شيخ الإسلام» ، كتب منها أربعة كراريس ، وشرحه في علم الحرف المسمى «بالوتر والشفع في شرح عظائم النفع» ، وهي منظومة شريفة في أسرار الحروف ، أولها :

أصول علوم الحرف نقطة مركز

عليها مدار الأمر في جملة الملا

وشرح على رسالة له في النكاح ، وشرح على منظومة والده في أركان الصلاة ، وعدة من الموالد الشريفة أطال فيها النفس ، وقد عبثت بها أيدي الزمان فدخلت في خبر كان.

٢٧٩

وكان رحمه‌الله محمدي الذات فالاسم ، صدّيقي الثبات والحزم ، فاروقي الهمة عثماني الحياء والحلم ، علوي الفضل والعلم. وكان لا يستطاع لهيبته عليه الرضوان ، أن يشرب بين يديه الدخان ، قائما من صغره على قدم الجد والاجتهاد في العبادات والرياضات والمجاهدات. وكان رحمه‌الله فصيح العبارة مليح الإشارة ، حسن النظم والنثر ، ومن نثره الشهي في الكلام على اسمه الفتاح ما نصه : هو الذي بعنايته يفتح كل مغلق ، وبهدايته يكشف كل مشكل ، فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ، ويخرجها من أيدي أعدائه ، ويقول : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(١) وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه ، ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سماؤه وجمال كبريائه ، ويقول : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)(٢) ومن بيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق فبالحري أن يكون فتاحا ، وينبغي أن يتعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية ، وأن يتيسر بمعونته ما يتعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ، ليكون له حظ من اسمه الفتاح. ا ه.

وكانت وفاته رحمه‌الله لخمس وعشرين من شهر المحرم سنة ١٢٦٧ ، ودفن بمقبرة سيدي كليب الطاهوي بجانب قبر أبيه الشهاب أحمد.

ورثاه تلميذه الشيخ مصطفى الأصيل بقصيدة في واحد وستين بيتا قال في مطلعها :

يا قوم بالصبر الجميل تدرعوا

فاليوم أكباد الورع تتقطع

اليوم هد من الشريعة ركنها

وعفت معالمها وتلك الأربع

اليوم غاب عن الحقيقة بدرها

فظلامها من بعده لا يقشع

اليوم زيل عن الطريقة فخرها

فغدت وناديها قفار بلقع

اليوم حل بديننا وبأهله

خرق ليوم قيامة لا يرقع

اليوم مات محمد بن محمد

خير الورى من في الخليقة يشفع

اليوم مات الهبرويّ محمد

أستاذنا العلم الهمام الأورع

بدر الهدى بحر المواهب والندى

رب المعالي والإمام الأورع

قطب الوجود مجدد العصر الذي

آثاره كالشمس فينا تسطع

__________________

(١) الفتح : ١.

(٢) فاطر : ٢.

٢٨٠