إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

له مدة طويلة ، ولا ندري إلى ماذا يؤديهم البحث. ولا ينافي ذلك لزهده رحمه‌الله في هذه الدنيا وإعراضه عنها إذا كان القصد من المال صرفه في سبيل الخير وفي المصالح العامة. نعم ينافي ذلك لو كان القصد به الوصول لحظ نفساني والتبسط في المآكل والمشارب والمناكح ، وقد علم من حال الشيخ رحمه‌الله مدة تزيد عن ستين سنة أنه كان بعيدا عن كل ذلك ، وهذه المدة الطويلة كافية للاختبار والوقوف على حقيقة أحوال الشيخ من التقوى والورع والزهد ومجاهدة النفس والعزلة عن الناس مما أصبح معروفا مشهورا مستفيضا بين جميع الناس.

وخلاصة القول فيه أنه كان عالم هذه الديار وبركة هذا الأقطار ولا بدع إذا قلنا إنه كان لهذه الأمة في هذا القرن ممن جدد لها أمر دينها ، فقد رأينا الكثير من تلامذته وممن سمعوا دروسه العامة من العوام على جانب عظيم من الصلاح والتقوى وحسن المعاملة أثرت في أعماق قلوبهم أنفاسه الطاهرة ومواعظه الحسنة ، فجلت عنها الصدأ أو أزالت عنها ما غشيها من ظلمة الجهالة ، فاستنارت بنور المعرفة واهتدت إلى الصراط المستقيم. ولم يزل بين ظهرانينا بقية من هؤلاء الصلحاء إلى اليوم ، والكل مجمعون على أنه لم يأت بعده مثله في علمه وأحواله رحمه‌الله تعالى وقدس‌سره.

١٢٥٤ ـ علي بن سعيد الجابري المتوفى سنة ١٢٩٤

علي أفندي ابن سعيد أفندي ابن محمد أسعد بن عبد القادر بن مصطفى بن أحمد بن أبي بكر بن أسعد ، المشهور بالجابري ، أحد وجوه الشهباء وسراتها وأعيانها.

ولد سنة ١٢٤١ ، ولاحت عليه أمارات النجابة منذ حداثته ، وحبب إليه الفضل وأهله والتحلي بمكارم الأخلاق ، فكان متواضعا دمث الأخلاق واسع الصدر سمح الكف. أنشأ بستانا كبيرا في السمت المعروف بسمت باب الله (بابلّا) سمي بستان باب الله ، وصرف عليه مبالغ طائلة وعمر فيه أبنية وقصورا واتخذه مسكنا له ونزلا وصارت الناس تهرع إليه ، فكان لا يرى خاليا من الضيوف ، منهم من يتناول الطعام ويعود ، ومنهم من يبيت عنده.

وبعد أن تولى عدة مناصب في حلب طلب إلى الآستانة ليكون عضوا في مجلس (شورى

٣٦١

الدولة) وذلك سنة ١٢٨٥ ، وصادف بعد وصوله إليها أنه خرج مع بعض رجال الدولة إلى منتزه على ساحل البحر ، فقال له ذلك الرجل : (أي علي أفندي نصل بوغازي بكند كزمي) أي : هل استحسنتم هذا الخليج؟ فقال له : (أفندم بوغاز عالمك معده سني أكشتمس) أي إن هذا الخليج أفسد معدة العالم ، فأخفاها له ذلك الرجل الحسود ، وحكاها للصدر الأعظم وقتئذ أمين عالي باشا ، فتأثر من ذلك وبلغ المترجم تأثر الصدر منه. ولما تمم الصدر بناء قصره في محلة (مرجان يوقوشي) عمل وليمة حافلة دعا إليها معظم رجال الدولة ، وكان المترجم في جملتهم ، فقبل تناول العشاء خطر له بيت فسطره في ورقة وقدمه للصدر وهو : (بثبني صدر جهاني أيده الله معمور) فسر الصدر به لما فيه من حسن التورية ، وقبل الورقة ووضعها بين عينيه ، وكان ذلك سببا لزوال ما كان بقلبه عليه ، ولم يزل مقربا منه رفيع المنزلة عنده ، إلى أن توفي الصدر ونال وقتئذ من الرتب الرتبة الأولى من الصنف الثاني ، وكانت تلك الرتبة قل من ينالها ممن كان خارج مركز السلطنة ، وقد كان نال قبل ذلك الرتبة الثانية وذلك سنة ١٢٧٥.

وله جدول سماه [سلسلة الكحائل] في الخيل قدمه للسلطان عبد العزيز فوقع لديه موقع الاستحسان وكوفىء على ذلك برتبة نيشان المجيدي الثالث.

وبعد أن بقي في الآستانة مدة معينا في مجلس (شورى الدولة) عاد إلى حلب لمرض ألم به فألزمه الفراش سنة وستة أشهر ، وكانت وفاته في شهر صفر سنة ألف ومايتين وأربع وتسعين ، ودفن في تربة الجبيلة قرب قبر جده لأمه الشيخ حسن أفندي المدرس رحمه‌الله.

١٢٥٥ ـ الشيخ علي القلعجي المتوفى سنة ١٢٩٥

الشيخ علي القلعجي ، الفقيه الحنفي.

تلقى العلم على الشيخ مصطفى الريحاوي وغيره من فضلاء عصره ، وكان ممن يشار إليه في الفقه الحنفي ، وكان يتعاطى البيع والشراء في دكان له في سوق الصابون ، ولم يمنعه ذلك من الاستفادة والإفادة وكان على جانب عظيم من التقوى والصلاح ولين الجانب وحسن الأخلاق. وفي أواخر عمره ترك البيع والشراء وعين مدرسا في المدرسة القرناصية بعد وفاة شيخه الشيخ مصطفى.

٣٦٢

ولم يزل مكبا على الإفادة والتدريس إلى أن توفاه الله سنة ١٢٩٥ ، ودفن في تربة السيد علي الهزازي.

وممن تلقى عنه الفقه الحنفي أستاذنا الشيخ محمد أفندي الزرقا ، وكان يكثر من الثناء على علمه وفضله ودقة نظره ، وحسبه ثناء مثل هذا الأستاذ عليه.

١٢٥٦ ـ الشيخ عبد المعطي النحيف المتوفى سنة ١٢٩٥

الشيخ عبد المعطي بن عبد القادر البابي أصلا الحلبي موطنا.

ولد سنة ١٢٢١ ، وتلقى العلم على الشيخ محمد الجذبة مفتي حلب والشيخ مصطفى الريحاوي الفقيه الحنفي والشيخ أحمد الترمانيني ، قرأ عليه النحو والصرف والحديث والحساب ، وتلقى أيضا على الشيخ مصطفى الشربجي الآتي ذكره. وبرع في هذين العلمين وصار مشارا إليه فيهما.

وعين مدرسا في مدرسة الأسدية الجوانية في محلة باب قنسرين ومحدثا في جامع الطواشي داخل باب المقام وواعظا في جامع الخسروية.

وله من المؤلفات «شرح نظم الأجرومية» للعمريطي ، و «شرح متن العزي» في الصرف في (٦) كراريس ، و «شرح متن السخاوية» في علم الحساب وهو في ثلاثة كراريس ، و «شرح اللمع» في علم الحساب الهوائي وهو في كراستين ، فرغ من تأليفه سنة ١٢٨٦ ، و «شرح السراجية» في علم الفرائض. رأيت هذه المؤلفات بخطه عند ولده الشيخ عبد الله أفندي.

وما زال في مدرسته المتقدمة يفيد الطلاب إلى أن توفي في الخامس والعشرين من رمضان سنة ١٢٩٦ ، ودفن في تربة الكليباتي خارج باب قنسرين ، وخلف ثلاثة أولاد توفق لطلب العلم منهم ولده الشيخ عبد الله أفندي المتقدم وآلت إليه وظائف أبيه في هذه المدرسة وغيرها ، وهو مشهور كوالده في علم الفرائض والحساب ، ورمم المدرسة المتقدمة وعمر فيها عدة حجر ، وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ بلغ ٧٣ سنة.

٣٦٣

١٢٥٧ ـ الشيخ شهيد الدار عزاني المتوفى سنة ١٢٩٨

الشيخ شهيد الدار عزاني ، نسبة إلى دارة عزة : قرية من قرى حلب في غربيها مشهورة بنسج الخام المسمى بخام الدرعوزي ، يباع منه في أسواق حلب بكثرة لمتانته.

ولد المترجم سنة ١٢٣٥ بالقرية المذكورة ، ولما ترعرع أتى إلى حلب فقرأ بها على الشيخ أحمد الحجار والشيخ عقيل الزويتيني والشيخ أحمد الترمانيني والشيخ هاشم عيسى. وغلب عليه التفقه في مذهب الإمام الشافعي وفي المعاملات.

وله شرح على قطر الفاكهي ورسائل متعددة.

واستقام في دارة عزة إلى أن توفي بها سنة ١٢٩٨.

وله شعر حسن ، منه ما كتب به من القرية المذكورة إلى ولده الشيخ أحمد بحلب :

يا أيها الولد العزي

ز عليك في الشهبا الإقامه

واصبر على جور الزما

ن بها ولا تخشى دوامه

ستراه من بعد الإسا

ءة مقبلا يرخي زمامه

فالعسر مثل الضيف أو

كالطيف لا بل كالغمامه

حذرا تطيع النفس إن

في البرّ حسّنت الإقامه

فمتى نظرت إلى أبيك

فسل من الله السلامه

هلا اعتبرت به فقد

أضحى نديما للندامه

يرنو إلى من دونه

فيراه في حلل الكرامه

ويرى حقارة نفسه

فيلومها ليت الملامه

ألقى هواه به إلى

أهلية الحمر الضخامه

وتكاثرت أعداؤه

أزروه إذ تركوا احتشامه

أبدوا له حبا وفي الأثنا

لقد خفضوا مقامه

رضعوا له ثدي الأما

ني بعد أن زعموا فطامه

فالله يمنحنا جميل

اللطف في دار القيامه

٣٦٤

١٢٥٨ ـ الشيخ شريف المقري المتوفى سنة ١٢٩٨

الشيخ شريف ابن الشيخ إبراهيم المحبّك المقري الشهير.

كان في أوائل عمره يتعاطى صنعة البصم المعروفة [بالبصمجي] ، فخرج يوما إلى ظاهر حلب فرأى رجلا معه حمار عليه عدل دقيق ، فوقع العدل ، فاستنجد بالمترجم وسأله معاونته في تحميل العدل ، فلبى طلبه ، وفي أثناء تحميله وقع العدل على رجله اليسرى فانكسرت من الركبة وتعطلت بتاتا ، فقطعت وصار بسببها أعرج ، فاتخذ له حجرة في الجامع الكبير ، فأشار عليه الأستاذ الترمانيني أن يلازم المقرىء الشهير الشيخ سعيد الركبي ويتعلم القرآن العظيم غيبا ويتلقاه عنه ، فامتثل أمره ولازم الشيخ سعيد في دار القرآن العشائرية في الجامع ، وفي مدة وجيزة أتقن القرآن العظيم حفظا من رواية حفص.

حدثني تلميذه الحافظ الشيخ محمد بيازيد شيخ دار الحفظة الآن عن شيخه المترجم قال :

كنت يوما هناك ، فإذا بالشيخ أحمد الترمانيني قد فتح باب المكتب وقال : يا شيخ شريف ، قد خرج لك الإذن في إقراء القرآن وتعليمه. وأمره أن يفتح مكتبا على حدة ، وأمر الشيخ عقيل الزويتيني أن يضع ولده الشيخ أحمد الذي صار مفتيا في حلب ، فكان أول من قعد عنده وأول من حفظ القرآن عليه. ولما تصدى للتعليم هرع الناس للتعلم عنده في المسجد الكائن في سوق الحرير أمام الخان المعروف بخان البنادقة (١) وأقبلوا عليه إقبالا عظيما لما كان عليه رحمه‌الله من الصلاح والتقوى والنصح في التعليم ، ولا يمكن أن يحصى عدد الذين تعلموا عنده القرآن تلاوة في المصحف وعن ظهر قلب ، ومئآت ممن أدركنا من أهالي الشهباء يقولون كان تعلّمنا عنده ، ولم يزل منهم عدد ليس بقليل في قيد الحياة من حفظة وغيرهم ، والكل مجمعون على الثناء عليه وعلى صلاحه وورعه وتقواه وصفاء سريرته. وكان لا يمل من القراءة ويقرأ في كل يوم ختمة مواظبا على قيام

__________________

(١) هذا المسجد كان عليه آثار القدم ولا أدري ما اسمه قبل أن يتخذه المترجم مكتبا ويسمى باسمه ، ولم أقف على اسم بانيه ولا متى بني. وفي سنة ١٣٤٣ خربته دائرة الأوقاف واتخذت موضعه ثلاثة حوانيت بعد أن أعطت جانبا منه للجادة وعمرت المسجد فوق هذه الحوانيت عمارة حسنة ، وذلك بمساعي مدير الأوقاف الحالي السيد يحيى الكيالي ، وقد نقش اسمه فوق باب المسجد.

٣٦٥

الليل وقراءة القرآن فيه والتهجد. وللناس فيه اعتقاد عظيم ، وكان كثير من المرضى يستشفون بقراءته لهم فيشفون بإذن الله تعالى ، وظهر منه كرامات يتحدث الناس بها في مجالسهم إلى يومنا هذا.

وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين رحمه‌الله تعالى.

وحدثني تلميذه الحافظ المتقدم الذكر أن الشيخ شريف رحمه‌الله كان كثير البكاء من خشية الله ، حتى إنه أثّر ذلك في سجادته التي يصلي عليها ، وكان أثر ذلك ظاهرا عليها. قال : وعدته في مرض موته فحدثني أنه رأى كأن القيامة قد قامت وأخذ للحساب فقعد هناك وقرأ عشرا من القرآن ، قال : فلما انتهيت من القراءة أخذت إلى ذات اليمين.

قال : وكان مربوع القامة أسمر اللون ، يلف على رأسه الزنانير الهندية على نسق كثير من أهل العلم في ذلك العصر. وعمر ٦٣ سنة. وكان عمر لنفسه قبرا في تربة الشعلة ، ثم بدا له أن يدفن في تربة الكليباتي عند أقاربه فقال للتربي : بع القبر لمن شئت فإني قد بدا لي ما هو كذا وكذا ، قال : فرأى الشيخ قاسم الخاني المدفون في هذه التربة فقال : يا فلان ، رضيناك جارا لنا وأنت تعرض عنا ، فعاد حينئذ إلى وصيته الأولى ، ولما توفي دفن بالقرب منه.

١٢٥٩ ـ الأديب رزق الله حسّون المتوفى سنة ١٢٩٨

رزق الله بن نعمة الله حسّون.

ولد في حلب سنة ١٨٢٥ (١٢٤١ ه‍) وتوفي في لندن سنة ١٨٨٠ (١٢٩٨ ه‍).

كاتب تصرف في الشعر والإنشاء كما يتصرف بالعبيد الأمراء. أطال وأوجز ، واختصر وأعجز. شن على الحكومة التركية بقلمه غارة شعواء ، وقضى بعيدا عن بلاده وفي نفسه منها أشياء. درس في مدرسة دير بزمّار بلبنان ، ثم قصد القسطنطينية واتصل بفؤاد باشا الوزير المشهور ، إلى أن جاء هذا سوريا سنة ١٨٦٠ في الخطب المعروف بحادثة الشام ، فاصطحبه وقلده ترجمة أوامره فيها إلى العربية ، ثم عاد معه إلى القسطنطينية فقلده نظارة مكس الدخان (التبغ) فاتهم بنقص فاحش في مال خزينتها ووشي به ، فسجن ثم هرب

٣٦٦

من السجن. وبعد أن قصد كثيرا من البلاد ألقى عصا الترحال في مدينة لندن.

وكان متبحرا في العربية وسائر فنونها ، مطلعا على أخبار العرب ، راويا لأشعارها ، لا يرضيه غير شعر جاهليتها. وكان يجيز لنفسه ما ورد في شعرها من الزحافات والسنادات وسائر عيوب الشعر التي جمعها

الخليل وتحاماها الشعراء من بعده. وله شعر كثير فيه شيء وافر من ذلك ، وقد طبع منه «أشعر الشعر» وهو ستة أسفار من التوراة نظمها وأحسن في بعضها كل الإحسان ، وله رسالة سماها «النفثات» عرّبها نظما ونثرا عن كريكوف شاعر الصقالبة ، وهي حكم مروية على ألسن الطير والبهائم شبيهة بكليلة ودمنة ، وفي بعضها من حسن السبك والانسجام ما جرى على ألسنة قرائها في العربية مجرى الأمثال ، كقوله في ختام القصيدة المعنونة بشركة الأربعة المتفقة :

أنّى اشتهيتم فكونوا الجالسين فما

على يديكم تأتّت نغمة الطرب

ومن نظمه يتشوق إلى ولده ألبير في جزيرة الأمراء بالقسطنطينية :

نفحات الشمال حيّ الجزيره

حي ألبير واستزيدي سروره

راح يمرح في الرياض وطورا

كغزال البقاع يبدي نفوره

شبهه ليس في بني الناس لكن

في الملائك صورة وسريره

نزّل الحسن والبهاء عليه

خالق الحسن آية مشهوره

قد تخيلته بفكري وقلبي

نازع يجتلي على البعد نوره

حجّبوني في حجرة وحموا عن

مقلتي أن يزورني أو أزوره

يا صبيا على حداثة سن

يكتم السر لا يزيح ستوره

أرقد الليل فوق صدري عن عك

س الضياء على محياك صوره

ما تأملتها بكيت التياعا

ضارعا أن تراك عيني قريره (١)

وله أيضا من السجن يستعطف فؤاد باشا :

فؤاد يا ذا الملك عطفا على

غرسك يذوي في شقا محنته

__________________

(١) رأيت هذه الأبيات في ديوانه «النفثات» وكذا بقية الأبيات التي بعدها مذكورة فيه.

٣٦٧

إن لم تغث عبدك من ذا الذي

يحميه أو ينجيه من نكبته

ومنها :

ارحم عبيدا لك واستبقه

للولد المحبوب من مهجته

فو الذي حقق ظني بما

أرجو من الإنصاف أو رحمته

أمسيت في الحبس كفرخ القطا

من كرب الحزن ومن شدته

وكان أشعر ما يكون إذا تعرض للهجاء ، وكان بصيرا بنقد أغلاط سواه كما ظهر مما كتبه في الرد على العلامة أحمد فارس وسواه. على أنه مع رسوخ قدمه في معرفة اللغة وشواردها وآدابها ووقوفه على كثير من نوادر كتبها في العلم والشعر ونسخه كثيرا منها من جوامع القسطنطينية ومكاتب أوربا قد بدرت من قلمه في الشعر والنثر هفوات كثيرة كقوله في جمع المغارة مغائر بدل مغاور ، وكقوله الشجار على لغة الجرائد بدل الشجر أو التشاجر ، والشجار لا يؤدي معناهما ، وكقوله خصم الحساب بمعنى قطع الحساب ، ولعل لفظ حسم أقرب إلى المعنى وهي عامية. وكل ذلك عجيب وقوعه من قلمه مع رسوخه في علم اللغة كما ذكرنا (١).

ثم لما امتدت به النكبة ألقى عصا الترحال في بلد لندن. وأكثر ما وصل إلينا من شعره ونثره كان مما كتبه فيه. وكأنه لما يئس من العود إلى بلاده أعاد نشر جريدته «مرآة الأحوال» وكان نشرها في القسطنطينية مدة ، وكان يكتبها في لندن بخطه الحسن ويطبعها على ورق صقيل رقيق جدا. ثم يبعث بها في البريد في غلف مختومة إلى أطراف الأرض ، وفيها من الفصول الشائقة ومقالات الانتقاد على سياسة الحكومة العثمانية يومئذ والتنديد برجالها والتشنيع على جور عمالها وطرق ارتكابهم في مظالمهم (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ)(٢) ما أيقظ الجفون وحرك السكون ، ولم ينشرها حتى أدركته المنون.

ومما يروى له هذان البيتان :

قدر الله أن أموت غريبا

في بلاد أساق كرها إليها

__________________

(١) ويلاحظ القارىء في المقطوعة الشعرية الأولى كثرة الاختلال في الوزن.

(٢) يس : ٧٨.

٣٦٨

وبقلبي مخبّآت معان

نزلت آية الحجاب عليها

وقال لي بعض الأدباء : إنه رآهما في كتاب من كتب الأدب لشاعر قديم ، فإن صح أنهما للمترجم فعندي أنهما بكل شعره (١). ا ه (مجلة الشعلة بقلم قسطاكي بك الحمصي).

أقول : وممن نسب هذين البيتين إلى رزق الله حسون وجزم بذلك الخوري فسقفوس جرجس منش في مقالته المنشورة في هذا العدد من المجلة بعنوان «حب الوطن» ، والأديب البحاثة عيسى إسكندر المعلوف في ترجمته المطولة المنشورة في المقتطف (مجلد ٣٦ صفحة ٢٢٩) والتي نقلها جرجي زيدان في تاريخه «مشاهير الشرق» ، والخوري فسقفوس جرجس شلحت في مجلة الورقاء الحلبية (سنة ١ ص ١٠١) ، والفيكونت فليب دي طرازي في تاريخ الصحافة العربية (مجلد ١ ص ١٠٩) ، والأديب شكري كنيدر في جريدة التقدم الحلبية. والبيتان ليسا له بل هما قديمان لم نقف على ناظمهما إلى الآن ، إنما شطرهما الأديب عمر اللبقي الحلبي أحد رجال تاريخ المرادي المتوفى سنة ١١٨٩ ه‍ كما تقدم في ترجمته وقد قال :

قدر الله أن أكون غريبا

بين قوم أغدوا مضاعا لديها

ورمتني الأقدار بعد دمشق

في بلاد أساق كرها إليها

وبقلبي مخدرات معان

حين تبدو تختال عجبا وتيها

صرت إن رمت كشفها فأراها

نزلت آية الحجاب عليها

ورزق الله حسون كانت وفاته سنة ١٢٩٨ ه‍ و ١٨٨٠ م ، فبين وفاته ووفاة الفاضل اللبقي مائة وتسعة أعوام ، فتحقق من هذا أن المترجم كان يكثر من إنشادهما فظنهما بعض من سمعهما منه أنهما له ، والحقيقة ما قلناه ، وقد نشرت هذا التحقيق في مجلة الشعلة المتقدمة في العدد الثالث من السنة الثانية.

ولرزق الله حسّون في «مشاهير الشرق» لجرجي زيدان ترجمة حافلة نقلها عن مجلة المقتطف (ج ٣٦ ص ٢٢٩) وهي بقلم الأديب البحاثة عيسى إسكندر المعلوف أحد

__________________

(١) أعيد نشر هذا المقال في كتابه «أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر» والعبارة الأخيرة فيه بعد قوله : لشاعر قديم : وقد صح ذلك بشهادة غير واحد من الأدباء ، فكأنه تمثل بها مرة ، فظن راويهما عنه أنهما له.

٣٦٩

أعضاء المجمع العلمي في دمشق وصاحب مجلة الآثار نقتطف منها ما يأتي ، قال :

نشأت أسرة حسّون الأرمنية في بلاد العجم ، وقيل في ديار بكر ، فجاء جدها الأعلى وسكن حلب وولد أولادا تفرقوا في البلاد ، وبقي أحد أولاده في حلب ولد له بها المترجم.

وتعلم مبادىء القراءة وأتقن الخط على الشيخ سعيد الأسود الحلبي الشهير بجودة خطه وما ترعرع حتى انتقل إلى دير بزمّار [في لبنان]. ولما أتم دروسه فيه عاد إلى مسقط رأسه حلب. وكان يمارس التجارة لأن والده كان غنيا. وكثيرا ما كان يختلف إلى دار قنصلية النمسا في حلب حيث كان والده ترجمانا فيها فيتمرن على أعمال الترجمة في القنصلية.

ثم ذهب إلى أوربا وطاف في لندن وباريس ، وجاء مصر واستنسخ كتبا كثيرة لأنه كان ولوعا بالمطالعة كثير الميل إلى صناعة الخط الذي عرف بيتهم بها كما أشار إلى ذلك بقوله من قصيدة :

لا خاملا لا دنّيا منشئي حلب

فسل وهاك بفضلي يشهد القلم

ثم عاد إلى الآستانة وتقرب من رجالها ونال منزلة عندهم.

ولما انتشبت حرب القرم بين روسيا والدولة العلية وتداخلت فيها الدول أنشأ المترجم جريدة (مرآة الأحوال) في دار السعادة ، فكانت أول جريدة عربية فيها ، وكان يصف فيها حرب القرم ومواقعها. وأصدر مجلة عربية عنوانها (رجوم وغسّاق إلى فارس الشدياق) نشر منها عددين في لندن ردّ فيهما على أحمد فارس الشدياق صاحب (الجوائب) على أثر ما حدث بينهما من الخصام الشديد. ثم عطل مرآة الأحوال ونشر مجلة عربية طبعت في لندن سنة ١٨٧٩ كانت تصدر كل خمسة عشر يوما مرة عنوانها (حل المسألتين الشرقية والمصرية) وهي أول مجلة عربية شعرية لأنها كانت قصائد تبحث في هذه المواضيع ، فاجتمع منها مجلد بقطع ربع في أكثر من ثلاث مائة صحيفة.

ثم انقطع بعد ذلك إلى النسخ والاشتغال بتصحيح حروف الطباعة العربية في أوربا ومساعدة كثير من المستشرقين حتى بلغ ما استنسخه من نفائس الكتب أكثر من عشرين ، أهمها ديوان الأخطل وديوان ذي الرمة ونقائض جرير والفرزدق وصبح الأعشى في صناعة

__________________

١ و ٢ انظر تاريخ الصحافة العربية لفيليب دي طرازي صفحة ٤٧ وصفحة ٧٧.

١ و ٢ انظر تاريخ الصحافة العربية لفيليب دي طرازي صفحة ٤٧ وصفحة ٧٧.

٣٧٠

الإنشا للقلقشندي والمتمم لابن درستويه والأناجيل المقدسة ترجمة أبي الغيث الدبسي الحلبي وديوان حاتم الطائي ، وهذا طبعه ، ولا تزال بعض مخطوطاته في مكاتب روسيا وفرنسا وإنكلترا حيث كان يتردد بين هذه الممالك. وجاء حلب قبل وفاته بسبع سنوات متنكرا فتفقد مكاتبها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة (١) ثم عاد إلى إنكلترة التي اتخذ معظم سكناه فيها.

وأهم ما وصلت إليه يد البحث من مؤلفاته ومطبوعاته هو :

[١] «النفثات» (٢) ، وهو قسمان : أولهما في تعريب قصص كريكوف شاعر الصقالبة التي وضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة ولافونتين الفرنسي في خرافاته ، عربها نظما في ٤١ قصة تقع في ٦٩ صفحة ، وألحق بها نخبة من منظوماته وبينها قطعة عرض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق ، حتى إن الشدياق لما انتهت إليه قال فيها عبارته الشهيرة : (كان حسون لصا وله سرقات فأصبح صلا وله النفثات).

[٢] «أشعر الشعر» وهو نظم سفر أيوب الصديق ، وهو مطبوع في المطبعة الأميركية ببيروت سنة ١٨٧٠ ، وفي أشعر الشعر من الركاكة والجوازات الشعرية ما يدل على اضطراب بال المؤلف حين نظمه وسرعة إعداد بعض الأسفار الأخرى ، فلم تمسه يد النقد ولا جال فيه خاطر التهذيب.

[٣] «السيرة السيدية» وهو عبارة عن مزج الأناجيل الأربعة المعروفة بالبشائر ، طبع في مطبعة الأمير كان في بيروت في ١٩٠ صحيفة.

[٤] رسالة مختصرة في الطباعة العربية والاقتصاد فيها ماديا ووقتا ، وقد وجدت منها نسخة بخطه الجميل في مكتبة أسقفية الأرثوذكس بحلب فاستنسختها سأنشرها قريبا لفوائدها.

[٥] ديوان حاتم الطائي المشهور بكرمه ، استنسخه عن نسخة قديمة وطبعه في لندن سنة ١٨٧٢ في ٣٣ صفحة.

__________________

(١) أقول : ومن آثاره الجزء الثاني من «الأعلاق الخطيرة في تاريخ الشام والجزيرة» لابن شداد الحلبي المتوفى سنة ٦٨٤ ، وهو موجود بخطه في المكتبة اليسوعية في بيروت. انظر المقدمة.

(٢) رأيته مطبوعا في ٨٤ صفحة طبع في هرتفرد استفان أوستن سنة ١٨٦٧.

٣٧١

[٦] كتاب «المشمرات» طبع في (سانباولو) من أعمال البرازيل ، وسعت بطبعه إدارة جريدة المنظر منذ بضع سنوات.

[٧] «حسر اللثام» وهو كتاب جدلي تم تأليفه سنة ١٨٥٩ ، ولا أظنه طبع.

وذكر المترجم كثيرون من المستشرقين وآخرهم ثناء عليه المسيو كليمان هوار الفرنسي في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية. ا ه ما اقتطفناه من ترجمته من مشاهير الشرق.

١٢٦٠ ـ الشيخ عبد القادر الحبّال المتوفى سنة ١٣٠٠

الشيخ عبد القادر بن عمر بن صالح الحبّال الزيبري نسبا الحنفي مذهبا ، الفقيه الصوفي ، أحد علماء الشهباء وفقهائها المشار إليهم.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٣٧ ، وأكثر من الأخذ على علماء عصره خصوصا الشيخ أحمد الحجار الشهير ، فإنه لازمه مدة طويلة واستفاد منه علما جما. ثم تصدر للتدريس فكان ممن تلقى عنه الشيخ كامل الهبرواي والشيخ أحمد المكتبي والشيخ بكّور الريحاوي والشيخ عبد الرحمن الجليلاتي وغيرهم ، وأكثرهم أخذا عنه شيخنا الشيخ أحمد المكتبي.

وأجازه في دمشق الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الكزبري ، ومن مصر الشيخ إبراهيم السقا المصري ، رأيت إجازته له وهي موقعة بخطه وختمه ومحررة سنة ١٢٩٧.

وأخذ الطريقة القادرية عن الشيخ إبراهيم الهلالي المتوفى سنة ١٢٨٨ ولازمه في زاوية بني الهلالي الكائنة في محلة الجلّوم.

وألف عدة مؤلفات ، منها شرح الأوراد الخمسة القادرية سماه «الفوائد المرضية» ، و «رياض الرائض» شرح نظم مقدمة الفرائض والنظم له ، ونظم تنوير الأبصار في الفقه الحنفي سماه «نتيجة الأفكار نظم تنوير الأبصار» وشرحه. وقد رأيت هذه المؤلفات الثلاثة بخطه عند حفيده. إلا أن نظمه في منتهى الركاكة ، وربما خرج في بعض الأبيات عن الوزن ، وذلك لأنه لم يكن ممن عانى صناعة النظم والنثر وهي لا تنقاد لمن لم يرزق جودة القريحة إلا بعد كثرة التمرين والممارسة. وأما علم المترجم وفقهه فهو مما لا ريب فيه كما حدثني بذلك غير واحد من معاصريه وعارفيه ، لكنه أضاعه في هذا النظم.

٣٧٢

وعيّن مدة طويلة قيّما على المكتبة الأحمدية ، وأظنه بقي في هذه الوظيفة إلى أن أدركته المنية.

وكانت وفاته في السابع والعشرين من شعبان سنة ألف وثلاثماية ، ودفن في تربة الكليباتي خارج محلة باب قنسرين بالقرب من قبر شيخه الشيخ أحمد الحجار في الجهة الغربية من التربة بينهما أذرع قليلة ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٦١ ـ علي باشا شريّف المتوفى سنة ١٣٠٠

علي باشا ابن سعيد أفندي ابن نعمان بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب الشهير بشريّف ، أحد أعيان الشهباء ووجوهها وصدر من صدورها ومن بيت قديم فيها.

خلف والده خمسة أولاد : علي باشا هذا وأحمد بك ومصطفى بك وعبد الله بك وأمين بك ، وكان المترجم أكبرهم وأنجبهم ، ظهرت عليه مخايل النجابة والبراعة في حداثة سنه وعنفوان شبابه ، ودخل السلك العسكري وصار كتخدا عند المشير عمر باشا السردار الأكرم. ولما نشبت الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الروسية سنة ١٢٧٠ كان المترجم في جملة من حضر هذه الحرب التي كان النصر فيها حليف الدولة العثمانية ، وأبلى المترجم فيها بلاء حسنا ، وحينما عزم على التوجه لحضور هذه الحرب مع الجند الذي كان معه امتدحه الشيخ أبو النور أفندي الكيالي الإدلبي بقصيدة طويلة قال في أولها :

خطرت بقوام كالسمهر

هيفا بلواحظها تسحر

فتنت بجمال مشرقه ال

وضاح حكى نجما أزهر

سلبت لب العشاق بكو

كب مطلعها الزاهي الأبهر

وقسيّ حواجبها اللاتي

بغنى دعج المقل الأحور

وسواد الطرة أقلقني

بصباح الغرة كم أسهر

تغزو العشاق بذي حور

يصمي الأحشاء ولا يظهر

ورحيق الثغر مراشفه

ما الند وما المسك الأزفر

لاحت كالبدر بليل الشع

ر وسقم الخصر فكم مرمر

وضياء النحر بعقد الدر

هلال الصدر حكى مرمر

٣٧٣

صدت أسماء بلا سبب

هجرت ناديت لما أهجر

أو ما شاهدت مدامعه

كخطوط الماهر إن سطّر

إني بصبابة قيس يا

ليلى ومحياك الأنور

ما همت بغيرك لا وفتى

ليث الهيجا بطل قسور

العالي المجد عليّ الجد

عظيم السعد حلا مظهر

نجم قد لاح برتبته

فلك الجدوى قمرا أبدر

أسد شهدت بفتوته

أن قال أنا ألسر عسكر

بعزائمه قوّى قلبا

من ذي جبن وله صبّر

وغدا تلقاه أمام النا

س يغير بعزم لا يحسر

وعلى زمر الأعدا يسطو

بنجيب كالطود الأعفر

شوقا يهتز الرمح له

والترس بصاحبه الأبتر

وإذا الوطساء علت لهبا

وتقاعس فسطلها الأغور

فعليّ يبدو حينئذ

بكعوب للأعداء تنحر

ثم قال :

وشريف الأصل شريف ال

جد شريف الاسم علي حيدر

إن جاء على متن الدهما

قال الرائي هذا عنتر

أو قام لبذل المال ترى

بأنامله مزنا يحدر

كتب الرحمن براحته

إنا أعطيناك الكوثر (١)

ما خاب مؤمله كلّا

بل آب بنيل لا يحصر

ثم قال في ختامها :

__________________

(١) رأيت في بعض المجاميع أبياتا للأديب بطرس كرامة ضمّن فيها هذه الآية فأحببت إيرادها هنا للطافتها وهي :

ظبي ياقوت مراشفه ال

وهاج تكلل بالجوهر

وسما بسما عرش الوجنا

ت إله جمال لن ينكر

تروي عن معظم قدرته

رسل الأحداق لمن أخبر

ونبي الحسن لقد صلى

في جامع خديه الأزهر

قالت شفتاه لمرتشف

(إنا أعطيناك الكوثر)

٣٧٤

نجل الكيال أتى يهدي

غرر التمداح كما العنبر

خذها يا ذا المفضال ولا

تنظر للناظم إن قصر

فيها بشرى بالنصر لكم

والمدح مع السعد الأكبر

وعلي يسمو أرّخ جاها

وعساكرنا بعلي تنصر

١٠ ـ ٤٠٨ ـ ١١٢ ـ ٧٤٠

١٢٧٠

ولما وضعت الحرب أوزارها عين متصرفا إلى البصرة سنة ١٢٧٥ ، ثم أورفة ، ثم صنجق بيازيد من أعمال ولاية أرزن الروم ، ثم أرزنجان ، ومنها عين إلى اليمن لما شقت عصا الطاعة على الدولة العثمانية في جهات عسير وحاولت إزالة سلطتها عنها ، وكان مع المترجم ألفا جندي ، فحارب بها تلك القبائل الثائرة وحاصر الحديدة مدة ، ودامت هذه الحرب نحو ثمانية أشهر ، وقتل من الثائرين عددا غير قليل ، وفي آخر الأمر انقادوا إلى الطاعة وخمدت نيران تلك الفتن ، وكان ذلك في سنة ١٢٨٥ ، ثم عين متصرفا في بني غازي من أعمال ولاية طرابلس الغرب ، ثم إلى الدير ، ثم إلى كربلا ، وتوفي وهو متوجه إليها في رمضان من سنة ١٣٠٠ ودفن في عانة في زاوية بني الراوي رحمه‌الله تعالى.

١٢٦٢ ـ الشيخ أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١٣٠٠

الشيخ أحمد بهائي بن محمد مسعود ابن الحاج عبد الرحمن بن محمد بن محمد ابن الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد الشيخ أبي يحيى الكواكبي.

ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ، وتلقى العلوم النقلية والعقلية على أشياخ عصره في الشهباء ، منهم الشيخ شريف الرزاز ، والشيخ عثمان الكردي المدرس في المدرسة العثمانية ، والشيخ حسين البالي الذي قدم من غزة واشتهر بالغزي.

وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ بكري البلباني. وكان شديد الصحبة للشيخ أبي بكر الهلالي ، يمضي معظم أوقات فراغه معه في الزاوية الهلالية.

وأقرأ في المدرسة الكواكبية والمدرسة الشرفية وفي الجامع الأموي منذ وجهت إليه جهة التدريس فيه ، وذلك سنة ثلاث وثمانين ومائتين. واشتهر بعلم الفرائض وتحرير الصكوك ،

٣٧٥

واشتغل بأمانة الفتوى مدة ، وعين عضوا في مجلس إدارة الولاية.

وكان ربعة أسمر اللون نحيف الجسم أسود العينين وخطه الشيب في أواخر عمره ، وكان رقيق الحاشية ظريف المحاضرة لا يمل منه جليسه ، حسن الخلق جدا ، وربما أوقفه ذو سؤال زمنا غير يسير وهو يستمع له ولا ينصرف حتى يكون السائل هو المنصرف.

وكان وقورا مهابا قنوعا متصلبا في دينه وقافا عند الحق.

وكان يعرف اللغة التركية إذ كان يندر من يعرفها بحلب خصوصا من العلماء. وحدث مرة أن انحلت نيابة القضاء في حلب وتأخر قدوم النائب ، فأراد الوالي إذ ذاك أن لا تتراكم الأشغال في المحكمة الشرعية ، فكلف رئيس الكتاب أن يتولى القضاء وكالة ، فقال له :

لا يجوز توكيل الوالي ولا ينفذ قضاء من يوكله ، فقال له : أنا وكيل الخليفة فلي أن أوكل ، فأبى عليه القبول ، فتكدر منه وأخرجه من عنده. ثم إنه أراد تنفيذ مقصده فكلف المترجم إلى الوكالة ، فأجابه إلى ذلك ، فسر جدا وكتب له في الحال منشورا بتوكيله إياه في القضاء ، فذهب إلى المحكمة الشرعية وصار الناس يتطلعون إلى صنيعه كيف يوفق بين أمر الوالي والحكم الشرعي ، فكان يسمع للخصمين ويضبط مقالهما ثم يشير عليهما بالصلح ويريهما أحسن وجه للاتفاق ، ولا يزال يعظهما بالموعظة الحسنة حتى يتصالحا فيكتب بينهما صكا وقد حصل المطلوب من للقضاء. وإذا أتى عليه خصمان عن المصالحة قال لهما : أتحكمانني بينكما؟ فيحكمانه ، فيكتب صكا بتحكيمهما ثم يحكم بينهما ويؤخر تسليم صك الحكم إلى حضور النائب ، ثم لما حضر النائب أمضى كل ما تم من قبل المترجم وختم صكوكه. وقد اكتسب شهرة عظيمة بهذا الصنيع فكان من بعد ذلك وقفا على الإصلاح بين الناس ، وربما حضر مجلسا لإصلاح بين خصمين فوجد الخصم الذي دعاه غير محق ، فكان لا يألو جهدا في نصحه وإرجاعه إلى طريق الحق ، وإنما كان موفقا في ذلك لأنه إنما كان يقصد وجه الله تعالى.

وكان متوليا على جامع جده أبي يحيى وخطيبا وإماما فيه.

وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاثمائة وألف ، ودفن في جامع جده المتقدم رحمه‌الله تعالى ، وخلف ولدين أحدهما السيد الشيخ عبد الرحمن أفندي المشهور

٣٧٦

صاحب «أم القرى» و «طبائع الاستبداد» المتوفى سنة ١٣٢٠ وستأتي ترجمته ، والثاني صديقنا الفاضل الأديب السيد الشيخ مسعود أفندي من أعضاء مجلس النواب العثماني سابقا والعضو في مجلس التمييز في دمشق الآن.

٣٧٧

أعيان القرن الرابع عشر

١٢٦٣ ـ الشيخ مصطفى الشربجي الفرضي المتوفى سنة ١٣٠١

الشيخ مصطفى بن محمد الشربجي (بضم الشين وسكون الراء وفتح الباء).

وكان رحمه‌الله من العلماء العاملين والصلحاء المشهورين ، وله اليد الطولى في علم الفرائض ، وانتهت إليه الرياسة فيه وتلقاه عنه الكثير. وكان وقورا محتشما مهابا مقبولا لدى الخاص والعام قانعا من دنياه بما تيسر.

حدثني تلميذه الشيخ أحمد بن محمد ابن الشيخ بكري المعروف بالمرحوم قال : خدمته اثنتين وثلاثين سنة فما رأيته قال لأحد : أعطني وظيفة كذا ، بل كان متى دعي إلى تقسيم تركة أو حضور مبايعة يتوجه وما يعطى له يأخذه ويضعه في جيبه ، قليلا كان أو كثيرا.

وبقي قريبا من ستين سنة يقرأ علم الفرائض في بيته ، وكان يقرأ من الظهر إلى العصر.

وكان سكناه في محلات الجديدة ، وكان الكثير من الناس إذا حصل فيما بينهم نزاع وخلاف يتحاكمون إليه ويرجعون إلى قوله ، حتى مسيحيو حلب ، فقد كانوا يتركون المحاكم ويترافعون إليه لعلمهم أنه كان وقّافا عند الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم.

ولم يزل على حاله إلى أن توفاه الله يوم الثلاثاء في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثمائة وألف عن مائة عام أو تنقص قليلا ، فيكون قد استغرق القرن الماضي بتمامه. وكانت جنازته مشهودة حضرها الوالي وقتئذ جميل باشا ، وكان كثير المحبة والزيارة له ، وأمر أن يحضر جنازته تلامذة المدارس جميعها اعتناء بشأنه واعترافا بفضله ومقامه ، وكنت وقتئذ في جملة من شهد جنازته مع تلامذة مكتب الزينبية الكائن في محلة الفرافرة وعمري ثماني سنين ، وكنت في ذلك الحين أجوّد القرآن وأتلقى الخط ومبادىء الحساب فيه عند الشيخ محمود المرتيني ، ودفن في مقبرة السيد علي ، وأسف الناس لموته أسفا عظيما ، رحمه‌الله تعالى.

٣٧٨

١٢٦٤ ـ الشيخ محمد شهيد الترمانيني المتوفى سنة ١٣٠١

الشيخ محمد شهيد ابن الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد العزيز أيضا ابن الشيخ عبد السلام ابن الشيخ محمد ابن الشيخ عبّود بن أحمد بن نعمة ابن الشيخ عيسى ، دفين قرية الطرينة من أعمال ريحا.

ولد سنة ألف ومايتين وسبع وثلاثين بقرية ترمانين ، وقدم لحلب فتوطنها في محلة قلعة الشريف وهو ابن عشر سنين ، وشرع في طلب العلم ، فتلقاه عن الشيخ أحمد الترمانيني والشيخ أحمد الحجار والشيخ عمر شيخه زاده. وأخذ علم الحديث عن الشيخ عبد القادر الحبّال والشيخ عمر الأبزماوي.

ولما برع وظهر فضله وعلمه عين مدرسا في الشعبانية والسيافية وجامع الحدادين وجامع التوبة والجامع الكبير ، وصار إماما في جامع عبيس.

وكان على جانب عظيم من الصلاح والتقوى ، وجاور في مدرسة الشعبانية مدة طويلة. وكان مؤثرا للانزواء فيها قليل الاختلاط بالناس ، دعي لأن يكون رئيسا للكتاب في المحكمة الشرعية فأجاب بعد إلحاح عظيم ، ولم يبق إلا أياما قلائل واستعفى وقال : إن هذه الوظيفة لا تصلح لي. ولم يزل مكتفيا بما يحصل له من الراتب القليل في الوظائف المتقدمة.

ولم يزل على حاله وزهده وورعه ونشر ما عنده من العلم إلى أن توفاه الله سنة إحدى وثلاثمائة وألف عن خمسة وستين عاما ، ودفن في تربة الكليباتي خارج باب قنسرين رحمه‌الله تعالى.

وممن تلقى عنه العلم من الذين فضلوا بعده الشيخ محمد الكلاوي والشيخ بكري العنداني والشيخ محمود الريحاوي والشيخ مصطفى أسعد والشيخ عبد الرحمن الجليلاتي والشيخ عبد الله الأتاربي والشيخ أحمد البدوي الجميلي والشيخ حمادة البيانوني والشيخ حسن الكيالي والشيخ مصطفى الدار عزاني الهلالي وشيخنا بالإجازة الشيخ كامل الهبراوي ، وهو الباقي في قيد الحياة من هؤلاء في هذه السنة (أي سنة ١٣٤٥) وقد بلغت سنه الثمانين حفظه الله تعالى.

٣٧٩

١٢٦٥ ـ محمد سعد الدين أفندي الجابري المتوفى سنة ١٣٠٢

محمد سعد الدين أفندي ابن سعيد بن محمد بن أسعد أفندي الجابري ، أحد وجهاء الشهباء وسراتها.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٨ ، ووالدته بنت الشيخ حسن أفندي المدرس المتوفى سنة ١٢٥٠.

نشأ نشأة حسنة وحبب إليه من صغره طلب العلم ، فحصل طرفا صالحا منه. وكانت قراءته على الشيخ حسين الغزي والشيخ عبد القادر سلطان والشيخ صالح المرتيني وغيرهم ، قرأ على هؤلاء العلوم العربية والفقهية. وكان يكثر المطالعة في كتب التاريخ ، ورزق قوة الحافظة فكان يحاضر في مجالسه في كثير منه. وكان حسن الاعتقاد في أهل الطريق يكثر التردد إليهم مثل الشيخ محمد اليماني الأهدلي القاطن في الجسر وغيره ، وأخذ عنهم بعض الأوراد فكان يواظب على تلاوتها.

وتولى عدة مناصب ، فصار عضوا في مجلس التمييز ومجلس الدعاوي ، وعضوا في مجلس إدارة اللواء ، وتولى رئاسة المجلس البلدي سنة ١٢٨٨ ، وحاز من الرتب باية أزمير يعني موالي ، وحمدت سيرته في المناصب التي تولاها لحسن مداراته وسياسته.

وكانت وفاته في العشرين من شعبان سنة ١٣٠٢ ، ولم يمرض سوى نحو سبع ساعات كان يشكو بها من وجع في ظهره وصدره ، ودفن بتربة الجبيلة بجانب أخيه علي أفندي بالقرب من قبر جدهما لأمهما الشيخ حسن أفندي المدرس ، وأعقب ولدين هما جميل أفندي ومحمد سعيد أفندي رحمه‌الله تعالى.

١٢٦٦ ـ الشيخ محمد راغب الطرابيشي المتوفى سنة ١٣٠٢

الشيخ محمد راغب الطرابيشي الحلبي ثم البابي ، أحد العلماء الأتقياء والفضلاء الصلحاء.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٢٦ ، ولما ترعرع أقعده والده في صنعة الفتّال ، وفي سنة ١٢٤٠ توفي والده فأتى إلى أخيه الشيخ عمر إلى الزاوية الهلالية فقعد عنده أياما ، فسأله عن سبب

٣٨٠