إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

وعندئذ أقام مدرس المدرسة الشيخ أحمد الزرقا نجل أستاذنا الكبير الشيخ محمد الزرقا دعوى على وكيل المتولين يطلب فيها منعه من التشبث بكتاب الوقف المذكور ، لأنه ليس له قيد موثوق في سجلات المحكمة. وطالت المرافعة بينهما ، ولم يزل أحمد جودة مصرا على قطع رواتب المجاورين ، فتفرق لذلك من كان فيها وصرفوا وجوههم عن الالتفات إلى هذه المدرسة ، وبقيت عدة سنوات ليس فيها سوى بضعة أشخاص وكادت تخلو من الطلاب وتصبح خالية خاوية.

وفي سنة ١٣٤٢ اهتمت دائرة الأوقاف بأمرها بعض الاهتمام وألزمت وكيل المتولي أن يقبل الطلاب من أهالي حلب وغيرهم ، وذلك على أثر القرار الذي أعطي من قبل مجلس الأوقاف الأعلى الذي عقد في دمشق سنة ١٣٤٠ (وقد أوضحت ذلك في الكلام على المدرسة الأحمدية) فرتّب فيها ثلاثون طالبا وصارت تعطى لهم الرواتب ، غير أنه لم يطبق عليها النظام الموضوع للمدرسة الخسروية ، لذا لا ينتظر أن تأتي بالفائدة التي نتطلبها ما دامت هذه حالتها.

وليست هذه المدرسة بالمدرسة الفذة في عدم الانتظام ، بل في الشهباء عدة مدارس على شاكلتها تتجلى لك حالتها إذا سئلت عن وارداتها وعن حالة التدريس فيها ، وحينئذ يأخذك العجب إلى أقصاه وتأسف لتلك الأموال الطائلة والواردات الهائلة التي تذهب سدى ، ويتبين لك أن هذه المدارس لو اعتني في أمرها وصرف ريعها في السبيل الذي تستحقه لحييت تلك المعاهد العظيمة بالعلم والعرفان وجادت على هذه الديار وعلى غيرها من البلاد بوابل الفوائد ، ولا أدري أيبتسم ثغرها برؤية محيا ذلك اليوم أولا.

١٢٩١ ـ الحاج يوسف الداده الشاعر المشهور المتوفى سنة ١٣١٦

الحاج يوسف الداده بن حسن دده بن عمر دده البيرامي ، نسبة إلى التكية البيرامية ، الحلبي.

كان في حلبة الأدب من السابقين ، وفي صوغ عقود النظم والنثر من المجيدين ، مع رقة طبع ألطف من النسيم ، وحسن معاشرة تعيد العافية للسقيم ، ولطيف محاضرة تهتز طربا لها الأغصان ، وتبدد بها عن الفؤاد غياهب الأحزان.

٤٤١

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٢ ، وفي ابتداء نشأته تلقى العلوم الأدبية والدينية على الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني وغيره من علماء ذلك العصر. ثم رحل إلى مصر والشام وبقي هناك مدة ولقي من بهما من الفضلاء.

وأخذ في نظم الشعر إلى أن برع فيه وصار من الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان في ذلك العصر ، وهو مجيد في أكثر ما نظمه ونثره ، وأوتي جودة القريحة وسرعة الخاطر.

وجمع شعره ونثره في مجلد ضخم اطلعت على نسختين منه هما عند الشيخ يوسف الجمالي شيخ التكية البيرامية وفي مكتبة صالح آغا كتخدا ، وأول الديوان : الحمد لله الذي أهلّ بدور البيان من شارق البراعة ، وجلا عرائس المعاني على منصات البلاغة ، وأعجز ببديع كلامه القديم من تقدم أو تأخر ، وجعله تذكرة لمن تذكر وتبصرة لمن تبصر إلخ. وله نظم «الأجرومية» في ١٦٠ بيتا ذكرها في ديوانه ، أولها :

الحمد لله على ما وهبا

وزان بالذكر الحكيم العربا

وله رحلة دلت على مهارته في صناعة النثر أيضا أولها : لما قضى عليّ الرحيم الرحمن ، بفرقة الأوطان وجوب البلدان ، وحملتني يد الاقتدار ، فطافت بي على الأقدار إلخ.

ونظم «السنوسية» في التوحيد في عشرين بيتا ، وهي موجودة في ديوانه ومطلعها :

ثلاثة في حكمها العقل انحصر

لم يلف رابعا لها من اعتبر

وله نظم أصول الطريقة القادرية وسبب تنقلهم من حال إلى حال مطلعها :

إلى جليس الذاكرين أحمد

طول المدى وغيره لم أعبد

وهي في نحو مائة وخمسين بيتا.

وخمّس «البردة» البوصيرية وهي موجودة في ديوانه أيضا ، قال في مطلعها :

ما بال وجدك نام غير منصرم

تساير النجم أنى سار في الظلم

يا ساهر الليل حتى الصبح لم تنم

أمن تذكر جيران يذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

غنّت حمامات نجد غير سالمة

بما تجن وأنّت غير راحمة

٤٤٢

أم فاح نشر زرود طي قادمة

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من إضم

وله معارضا قصيدة أبي الطيب التي مطلعها :

بأبي الشموس الجانحات غواربا :

بأبي الغصون المائسات عواطفا

اللابسات من الجمال مطارفا

الناظمات من النجوم قلائدا

والمبرزات من الصباح سوالفا

الفاتنات محاسنا والبارقا

ت مباسما واللينات معاطفا

الصائلات على الأسود الحاميا

ت عن النهود المانعات مراشفا

المرسلات على الهضاب أساودا

والمشهرات على الخدود مراهفا

الآخذات على القلوب مواثقا

والمبديات إلى العيون طرائفا

المخلفات وعودهن الناقضا

ت عهودهن الناكصات خوالفا

أسبلن ليلات ولحن كواكبا

ونفرن غزلانا وملن وصائفا

عاهدننا ألّا تزال عيوننا

بدم الحشاشة في الخدود ذوارفا

وتركننا نلقى الهوان مع الهوى

ونمل من شكوى الغرام صحائفا

وارحمتا للعاشقين قلوبهم

أبدا تظل من الظباء رواجفا

وله مهنئا الشيخ حسن الكيالي عند إيابه من الحجاز :

هزوا القدود وأرهفوا الأجفانا

فسلوهم للعاشقين أمانا

عقدت على تلف النفوس عهودهم

فسلوهم من ذا أباح دمانا

وتضافروا بضفائر ما أرسلت

إلا ومدت للحشا ثعبانا

غيد تذل الأسد عند لقائهم

فرقا ويرتجع الكميّ جبانا

نظموا الدراري في عذيب ثغورهم

وعلى النقا اتخذوا المعاطف بانا

حلوا حصا الياقوت في وجناتهم

وبنوا لكوثر ثغرهم مرجانا

ومنها في التخلص :

يا قلب لا تبرح هنالك إنما

عوّضت بالصخر الأصم جمانا

٤٤٣

آويت للحسن بن طه حيث قد

أولاك من إحسانه إحسانا

ومن حكمياته :

أمن الليالي قد أمنت نوائبا

ومن الأفاعي السود بتّ مقاربا

وطمعت في نيل السعادة قاعدا

وقنعت بالأمل الكذوب مداعبا

خامرت عقلك بالأماني إنما

منّتك نفسك لا محال غرائبا

صفو الليالي مستعار ربما

انكدرت فصيّرت الصباح غياهبا

ولرب نازلة أمنت وقوعها

نصبت حبائلها فكنت الناصبا

وكذاك من ترك التحفظ دأبه

إن عاتب الأيام كان معاتبا

أدب الفتى خير وجودة رأيه

من أن ينال مناصبا ومراتبا

فمآل من يؤتى الولاية عزله

ويظل غاد في البلاد وآيبا

ولربما مالت بمالك ليلة

فأعادت الذهب المدنّر ذاهبا

شرط المروءة ما ائتمنت فلا تخن

وإذا استشرت كن المشير الصائبا

فعلى القلوب من القلوب شواهد

ستراك إما جاهدا أو لاعبا

ولو اعتبرت بما كرهت وجدته

عين الذي قد كنت فيه الراغبا

إن الحكيم بأصغريه فكم ترى

جيشا كبيرا عنه ولى هاربا

فإذا تبصر كان نجما ثاقبا

وإذا تكلم خلت درا ذائبا

وإذا استطال بأسمر في أبيض

أبصرت مسودّ الكتاب كتائبا

قدر الفتى ما كان يحسن صنعه

لو كان فيه راغبا أو راهبا

حرص الحريص بغير عرض بدعة

لم تبرح الأخيار عنه جانبا

لا تسلبنّك حسن رأيك فترة

لا خير في السيف الصقيل إذا نبا

في نفس مخبرك اليقين لما أتى

وبما أحب المرء قال وجاوبا

ولربما كان الصدوق وإنما

نظر الطيور على الثغور مراكبا

ما كل برق خلته بك ممطرا

كلا ولا كل النجوم كواكبا

إن كنت تعتب كل خل مذنب

لم تلق في تلك البرية صاحبا

لهواك هون لا يطاع فلا تكن

في غيه نحو التهاون واثبا

حب الغواني في الأنام غواية

طبعت على قلب الجهول قوالبا

٤٤٤

نوب إذا حققتهن بحكمة

ألفيتهن مع الزمان مصائبا

فإذا فرحن فواحشا وإذا

غضبن فواضحا وإذا حزن نوادبا

وودادهن على شبابك إنما

يكرهن منك إذا رأينك شائبا

اربأ بنفسك أي مجد شامخ

إن قمت للمجد المؤثّل طالبا

كم في الخمول كريم أصل ساقط

ويسود من لا أم فيه ولا أبا

شرف تسيل به النفوس على الظبا

نعم النصيب لمن أراد مناصبا

لابد من كأس الحمام فشربه

بالعز أحلى ما يهنىء شاربا

إيداع سرك في صديقك بدعة

فإذا أزيع فكن لذلك حاسبا

فلربما انقلب العدو مسالما

ولربما رجع الصديق محاربا

ولربما كبت الجياد براكب

ولربما قتل السلاح الضاربا

فاصحب على حسن الوقاية إنما

يفنى الزمان إذا أردت تجاربا

والماء لون إنائه إن صافيا

فإذا تكدر كان ألون غالبا

لا تنتظر وعدا تساء بمطله

ما ثم واف سالبا أو واهبا

قد كان عرقوب بيثرب واحدا

واليوم أصبحت الأنام عراقبا

أبناء هذا الدهر دهر مثله

تلد العقارب مثلهن عقاربا

أنت الملوم بما تلوم به السوى

والذنب ذنبك لا تكن متواربا

أنت المفرط والحكيم مقدر

فلمن إخالك ساخطا ومغاضبا

والصبر أجمل في الأمور جميعها

للطيش تلقى دون عقلك حاجبا

شكواك للإنسان عيب ظاهر

فمتى شكوت عددت منك معائبا

حمل الجبال ولا سؤالك هين

إن عدت منه غانما أو خائبا

ويد تمد لغير خالقها أرى

في قطعها بعد التسنن واجبا

في بيع ماء الوجه غبن فاحش

لو أن شريت مشارقا ومغاربا

والصدق في كل الأمور سفينة

تنجو وتنجي في البحور الراكبا

والكذب أقبح مقتنى لو يقتنى

لا ترتضي من أن تكون الكاذبا

والصوم عن نطق الفضول فضيلة

أعلى وأسلم مفعلا وعواقبا

إن السنان عن اللسان لقاصر

مهما استطال مناصلا وكواعبا

بالعلم ترقى من قصدت من العلا

فاطلبه تلقى في العلوم رغائبا

٤٤٥

ولسانك الثاني يراعك فابتهج

ببراعة الإنشا تكون الكاتبا

وكل الأمور إلى مدبّرها ترى

بين انطباق الجفن منك عجائبا

وأنب إلى المولى وتب متندما

إن الإله يحب عبدا تائبا

وإذا الزمان عدا عليك وجئته

بالمصطفى المختار كنت الغالبا

ا ه

ومن بديع نظمه :

تبسم عن ثناياه فخلنا

لآلىء في رحيق من عقيق

وأبرز نكتة في الخد تحكي

ثريا في سماء من شقيق

أراد بالنكتة حبة حلب التي تعرف بحبة السنة. ومن نظمه في هذا الباب :

مذ حل في حلب قامت تقبله

يا حسن ما غادرت في الخد من أثر

في موضع اللثم منه نكتة ظهرت

كما بدا أسد في دارة القمر

وله :

إذا أتبعت حسن الخط إنشا

فوائده تزيد ولا تبيد

وأتقنت الحساب وكنت عبدا

إلى مولاك أنت إذا رشيد

وله :

ومهفهف يهوى أبوه شقيقه

ويهيم وجدا عمه في خاله

وفروعه ذهبت تحب أصوله

فأخو الصبابة لا تسل عن حاله

وله :

ومن العجائب أن أعد لقاتلي

قلب المهلهل وارتجال الأصمعي

وإذا تلاقينا بهت فلم أجد

نطقا يساعدني ولا قلبي معي

وبالجملة فإن شعره رقيق منسجم لا كلفة فيه.

وفي سنة ١٢٨٠ توجه إلى كفر تخاريم من أعمال حلب وأقام هناك مدة وصار يتنقل في سلقين وحارم وقرقنيا وغيرها ، وعمر في حارم بيتا في قلعتها وكان غالب إقامته فيها.

٤٤٦

وفي أواخر حياته حضر إلى حلب وبقي فيها سنتين ، ثم رجع إلى أرمناز وبها توفي سنة ١٣١٦ رحمه‌الله تعالى.

١٢٩٢ ـ الشيخ محمد فاتح الهبراوي المتوفى سنة ١٣١٦

الشيخ محمد فاتح ابن الشيخ محمد خير الدين الهبراوي الحسيني الحلبي.

ماجد عجنت طينته من ماء الذكاء والنباهة ، وتزين جيده من حين نشأته بحلي الأدب والنبالة. ولم يبلغ سن الشباب إلا وقد سار في سبيل الفضائل شوطا بعيدا ، وكاد يعتلي ذروتها ويبلغ منتهاها لو لا أن عاجلته المنية ومدت يدها إلى ذلك الغصن فقصفته على طراوته ، ولم ترع فيه إلا ولم تحفظ له عهدا.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٩٢ ، ونشأ في حجر والده ، وحفظ القرآن العظيم في مدة يسيرة. ثم أخذ في التفقه على مذهب الإمام الشافعي ، فلم تمض مدة وجيزة إلا وقد برع فيه وجلس للتدريس على مذهب ذلك الإمام بتقرير يشفي الغليل ، مع التحلي بلباس الصلاح والتقوى واشتغاله بالأوراد والعبادة بحيث يسهر معظم لياليه إلى وقت الأسحار.

ولم يزل دائبا على ذلك حتى انصرفت همته إلى الاستزادة من تلك المناهل العذاب ، فعزم على اقتعاد غارب الاغتراب ، وإن كان في السفر نوع من العذاب ، وسافر من الشهباء في ربيع الأول سنة ١٣١٤ قاصدا دمشق الشام ، ولما حل بهاتيك الديار وشاهد من كان هناك من العلماء الأعلام ، ألفوه وأحبوه ، وتمكنت محبته لما شاهدوه فيه من الذكاء والفضل على حداثة سنه. وأقام هناك مدة ، ثم استأنف السير إلى الديار المصرية ، ومر في طريقه على القدس وزار تلك الأماكن المقدسة ، ولما ألقى عصا التسيار في تلك الديار جاور بجامعها الأزهر وأخذ في التلقي عن علمائها الأعلام بهمة زائدة ، ساهرا الليالي للاقتطاف من ثمار العلوم والارتشاف من كؤوس المعالي ، مع مواظبته على ما كان عليه من العبادة والأذكار. وفي يسير من الزمن صار هلاله بدرا واستنار في سماء الكمال وحفظ صحيح البخاري عن ظهر قلب. وأقام ثمة نحو ثلاث سنين مكبا على التحصيل ، فوافاه الأجل المحتوم ليلة عيد الفطر سنة ١٣١٦ ، فكان المصاب به جللا والخطب عظيما. ولو اتسعت له فسحة الأجل لوجدت الشهباء فيه منتهى الأمل ، ولكان اليوم إنسان عينها والسابق في حلبة ميدانها.

٤٤٧

وكانت له على صغر سنه اليد الطولى في صناعتي النظم والنثر ، وقد أبقى من آثاره رسائل وقصائد أرسلها لصديقه الشيخ محمد مراد الشطي الدمشقي ، وقد جمع هذه الرسائل الشيخ محمد جميل الشطي ابن أخي الشيخ محمد مراد المذكور وطبعها باسم «الرسائل الفاتحية» ، فمن نظمه قصيدة أرسلها في ١٢ محرم سنة ١٣١٣ وهي مثبتة مع الرسائل المتقدمة قال في مطلعها :

ما هب من جلّق الفيحاء ريح صبا

إلا وقلبي إلى تلك الرياض صبا

وما سرت من غوير السفح سارية

إلا وهزت فؤادي نحوه طربا

وما بدت لعيون الصب بارقة

من ذلك الحي إلا صاح وانتدبا

حيّ الحيا حيّ أحبابي الأولى سكنوا

فيه ومدوا على هام السهى طنبا

حيّ به الميت حيّ فانتجعه تجد

بدور تمّ زهت في حسنها عجبا

من كل أغيد وضاح الجبين لو ان

جلى سنا وجهه للبدر لاحتجبا

ناريّ خدّ به وجدي قد التهبا

فضّيّ جسم به عقل الورى ذهبا

ما سل في فئة العشاق أحوره

إلا ونادوا على الإطلاق واحربا

إلى أن قال في التخلص إلى المديح :

تبارك الله ما أحلاه من بشر

روحي فداه وإن أمست له سلبا

خط العذار على خديه تحسبه

خط المراد المفدى سيد النجبا

وكان الشيخ محمد مراد المذكور من المبرزين في حسن الخط كما ذكر في ترجمته في أول هذه الرسائل.

١٢٩٣ ـ الشيخ محمد الورّاق الشاعر الموسيقي المتوفى سنة ١٣١٧

الشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن صادق المعروف بالورّاق.

ولد في سنة ١٢٤٧ أو قبل ذلك بقليل. ولما ترعرع تعاطى بعض المهن ، وصار يتردد إلى الزاوية الهلالية الكائنة في محلة الجلّوم الكبرى ، ولازم حلقة الذكر ورئيس المنشدين فيها الموسيقي البارع الحاج مصطفى البشنك المنشد المشهور ، فعلق به ولازمه مدة طويلة

٤٤٨

ملازمة الظل لصاحبه وتتلمذ له وتخرج عليه في علم الموسيقى والأنغام ، وصار مساعدا له في الإنشاد في الزاوية المذكورة ويرافقه أينما ذهب ، إلى أن توفي البشنك سنة ١٢٧٢ فاستقل بعده في رئاسة الحلقة.

وكان بدا له أن يتطلب العلوم العربية والأدبية والشرعية ، فقرأ على الشيخ أحمد الكواكبي والشيخ عبد القادر الحبّال النحو والصرف والفقه والحديث. ثم اتصل بالشيخين الشيخ عبد السلام الترمانيني فقرأ عليه حصة وافرة من علم الحديث ، والشيخ أحمد الزويتيني مفتي الحنفية فقرأ عليه الفقه الحنفي.

وبعد أن أخذ بحظ وافر من علم العربية والأدب في مدة وجيزة لما كان عنده من الذكاء الفطري عني بنظم الشعر والقدود وصار يلحنها ويلقيها أثناء الذكر ، وشاع بذلك ذكره وبعد صيته ، ومع هذا فقد كان حيث أدركته حرفة الأدب في ضيق من معيشته ، تعاطى صنعة العطارة مدة فكان يعيش منها ومن الراتب القليل الذي كان يتناوله من الإنشاد في الزاوية المتقدمة.

ثم إنه رفع إلى الوالي جميل باشا قصيدة امتدحه فيها ، فسعى في تعيينه بقراءة جزء في الجامع الكبير براتب مائة قرش أعني ليرة عثمانية ذهبية في كل شهر ، وترك الإنشاد في أواخر عمره لكبر سنه.

وأمّ الناس بالوكالة في الجامع الكبير في محراب الحنفية مدة طويلة ، ثم في المسجد الكائن داخل خان القصابية ، فكان يعيش بهذه الوظائف القليلة عيشة الكفاف.

ولم تزل هذه حالته إلى أن وافاه الأجل المحتوم ليلة الاثنين سادس عشر ذي الحجة سنة ١٣١٧ وذلك يوافق ثالث نيسان سنة ١٣١٦ رومية كما هو محرر في الدفتر المحفوظ عند ناجي الكردي رئيس خدمة الجامع الكبير الذي يقيد فيه وفيات موظفي الجامع جميعهم في حينها ، ودفن في تربة السفيري في التربة الوسطى منها.

وترجمه الأديب قسطاكي الحمصي في مجلة الشعلة وفي كتابه «أدباء حلب» فقال :

إنه كان عالما فقيها ، وفي علمي اللغة والحديث نبيها ، وهو آخر عالم فقدته البلاد السورية في فني الموسيقى والألحان العربية ويروى أن له عدة مجاميع ضمنها من الطرائف

٤٤٩

والظرائف طائفة مما له ولغيره ، فهل في الحمى أديب عالم بمكانها فينتضيها انتضاء السيوف من أجفانها ، ويبرزها إبراز النفائس من صوانها.

وكان أوصى أن لا يحنّط ، وظن بعضهم أن ذلك لفرط شحه ، فإن كان ما دفعه إلى ذلك ما ظنوه فهو من الغرابة بمكان.

وكان يقرض الشعر ، ولم يصل إلينا إلا ما نثبته هنا. ثم أورد له تخميسا وأبياتا من قصيدة ، وقال في صدر ترجمته إن وفاته كانت سنة ١٣٠٨.

أقول : إن من حدث الأديب المترجم بأن المترجم أوصى أن لا يحنّط فقد افترى عليه أشد الافتراء ، وبحثت عن ذلك كثيرا من عارفيه وذويه فأنكروا ذلك أشد الإنكار. وقوله إن وفاته سنة ١٣٠٨ هو أيضا خطأ محض ، وكيف تكون وفاته في هذا التاريخ وقد ذكرت في ترجمة شيخه الشيخ أحمد الزويتيني المتوفى سنة ١٣١٦ الأبيات التي نظمها المترجم ونقشت على لوح قبره ، وأن الورقة التي كتب فيها تلك الأبيات هي عندي بخطه ، والصواب في وفاته ما قدمناه.

وكان بيني وبين ولد له اسمه بشير معرفة تامة ، فقد كنت أنا وهو في المدرسة المنصورية ، وقد هاجر إلى مصر منذ سنين وهو لا زال فيها إلى الآن ، فبعيد وفاة والده أطلعني على ديوان أبيه ، فاستعرته منه ونقلت منه ثلاثين صحيفة من قصائده وتخاميسه وتشاطيره وقدوده ضمن مجموع لا زال محفوظا عندي ، سنثبت هنا قسما منها ، وأما قصيدته التي امتدح بها الوالي جميل باشا التي أشرنا إليها فهي منشورة في عدد (٦٩٦) من جريدة الفرات الرسمية المؤرخ في رابع ذي القعدة سنة ١٢٩٩ وهي :

عود عيد وفى لنا بقبول

أم حبيب قضى لنا بالوصول

أم رياح بنفحة المسك هبت

أم شفاء لمدنف وعليل

أم بشير أتى بلقيا حبيب

أم شموس تنزهت عن أفول

أم صباح بدا بطالع سعد

أم سنا طلعة الوزير الجليل

أشرقت في الربوع بعد احتجاب

فهدتنا إلى سواء السبيل

يا لها نعمة بها أنعم الله

علينا وكم شفت من غليل

فله الحمد والثنا كل آن

وله الشكر في الضحى والأصيل

٤٥٠

من عبيد لم يعرفوا قدر ما هم

فيه من نعمة وفضل جميل

يا وزيرا به العدالة تنمو

كل وقت في كل عصر وجيل

أنت ظل ما ضل من قال يوما

في حماكم من تحت ظل ظليل

أنت غيث أتيتنا بعد محل

بل وغوث بكل خير كفيل

أنت ليث أردى العداة بحزم

وبعزم وخير باع طويل

شنّع المرجفون لما ارتحلتم

أن نويتم فراقنا بالرحيل

فاستعذنا بالله مولى الموالي

واعتصمنا بمحكم التنزيل

وسألناه بالمشفّع طه

سيد العاملين أزكى رسول

أن يديم الإقبال والعز دوما

لجميل الأفعال زاكي الأصول

الوزير المشير في كل خطب

قامع المعتدين غوث الدخيل

خير وال وتاج كل رئيس

قام بالعدل وفق ما في النقول

فاستجاب الدعاء مولى البرايا

وأباد الأعداء بالتنكيل

سيدي والذي حباك مقاما

عز شأنا برفعة وقبول

بك شهباؤنا اكتست ثوب عز

نسجته أيدي الكرام الفحول

من رقوا في العلا أعز مقام

قد تسامى في عزه عن مثيل

فهمو آل عثمان من قد

عطّر الكون ذكرهم بالشمول (١)

سادة أشرقت بدور المعالي

من سناهم على الربا والطلول

فهم الحسنات في جبهة الدهر

وذكر همو شفاء العليل (٢)

كم أفاضوا على البرية جودا

من جداهم وأنعموا بالجليل

وعلينا تفضلوا بوزير

جل قدرا ما إن له من عديل

جمّل الله ذكره بالمعالي

إذ حباه من فضله بجميل

فرع مجد نما بدوحة عز

فوقها هيبة المليك الجليل

يا خليليّ والخليل المواسي

منكما من يحب نفع الخليل

عللاني بذكره بامتداح

إن قلبي يطيب بالتعليل

__________________

(١) في صدر البيت اختلال ، ولعل الصواب : فهمو نسل آل عثمان ...

(٢) في البيت اختلال ، ولعل الصواب :

فهم الحسنيات في جبهة الدهر وذكراهم شفاء العليل

٤٥١

يا لقومي وكم له من مزايا

أحيت المرملين بعد محول

كم ضريح لما جد قد عفته

من مرور الأيام وقع السيول

كم وكم مسجد ومكتب قرآ

ن رماه البلى بسهم وبيل

فأعاد الرميم بعد عفاء

وحباه من فضله بالجزيل

يا هماما سما وطاب نجارا

وانتسابا إلى أعز مقيل

هاك مني عقيلة بنت فكر

ذات حسن قد أهديت لجميل

تتهادى كأنها ذات خدر

ترجو منك القبول غب الوصول

قد تحلت من وصفكم ببديع

يا هنائي إن أتحفت بقبول

زادك الله رفعة وسرورا

وابتهاجا بخير نجل نبيل

وابق واسلم ولا برحت مغيثا

للهيف ودمت خير مقيل

ما عليك الشهباء أثنت وقالت

بلسان عن الوفاء كليل

طاب عيشي وقد صفا حيث إني

لذت في جاهك العريض الطويل

أو أتاك الورّاق يهدي مديحا

عود عيد وفى لنا بالقبول

وقال يمدحه أيضا :

طاب الصبوح فأيقظ راقد السّمر

والفجر لاح وغنّى بلبل السحر

وألسن الشكر تتلو الحمد معلنة

بمدح تاج الملوك السادة الغرر

عبد الحميد الذي قامت بدولته

شعائر الدين في بدو وفي حضر

فإنه قد حبانا من مكارمه

بخير وال جميل الورد والصدر

فالله يجزيه عنا كل آونة

نصرا وحفظا له من حادث الغير

يا كعبة المجد يا ذا الحمد يا حرم

اللاجي إليه وأمن الخائف الحذر

يا شامل الجمع من جود ومن كرم

وجامع الشمل بين النصر والظفر

ويا جميل المساعي دام عزكم

روض السماح لديكم يانع الثمر

لله درّ همام بالجميل لقد

سماكم فسموتم كمّل البشر

إن الملوك حسام أنت جوهره

والسيف من غير ماء غير مشتهر

لو لا وجودكم يا سادتي قسما

لكان فجر المعالي غير منفجر

٤٥٢

إن جزتمو بمحل المحل صار بكم

خصب المراعي ويجري الماء في الحجر

وهذه دولة كالجسم أنت لها

روح وكالعين فيها أنت كالحور

فإن زهت كسماء كنت كوكبها

وإن زكت كرياض كنت كالمطر

لو بعض نوركم للشمس ما احتجبت

أو للبدور بدت في أكمل الصور

يفنى الزمان ولا تفنى مآثركم

فلا محا الله منكم طيب الأثر

وقد أتى عبدك الورّاق ممتدحا

يرجو القبول وهذا غاية الوطر

وله مخمسا وهو ما نقلته من ديوانه ومن مجموعة أخرى :

بانت سعاد وحبل الود قد صرمت

وأودعت في الحشا نارا وما رحمت

بالله إن بعدت عن ناظري ونأت

خذني بعيسك يا حادي فإن ظمئت

ردها دموعي ولا تأمن من الغرق

لعل بالقرب أن أحظى ولو نفسا

فإنني بالنوى قد ذقت كل أسى

ويا حويدي أنخ بي إن أتيت مسا

وحسبك النار من أحشاي مقتبسا

واحذر تداني مكان القلب تحترق

وله في المغنّي المشهور طاهر النقش المتوفى سنة ١٣٠٥ وهو كما حدثنا عنه عارفوه ممن جمع فيه حسن الصوت وجمال الصورة :

تغنّى فأغنى طاهر بغنائه

عن الناي والقانون إذ ردد اللحنا

فلم أر من شاد وعينيه مثله

بحسن وحسّ يملأ العين والأذنا

وله فيه تذييلا على أبيات ابن إسحق الزاهي :

تبدت فهذا البدر من كلف بها

وحقك مثلي في دجى الليل حائر

وماست فشق الغصن غيظا جيوبه

ألست ترى أوراقه تتناثر

وفاحت فألقى العود في النار نفسه

كذا نقلت عنه الحديث المجامر

وقالت فغار الدر واصفر لونه

كذلك ما زالت تغار الضرائر

وغنت فماج الكون وجدا كأنما

يغنّيك في ربع المسرة طاهر

وله فيه :

٤٥٣

وبي أغنّ يغنّيني فيطربني

ما روقت فيه أفكاري عن الغزل

وكلما كرر الإنشاد قلت له

لا فضّ فوك بغير اللثم والقبل

وله فيه غير ذلك. وله مخمسا :

سيوف لحظك في الأحشاء صائلة

وشمس حسنك للأفكار شاغلة

تفديك نفس محب فيك قائلة

يا رب إن العيون السود قاتلة

وإن عاشقها لا زال مقتولا

سبحان من زانها بالسحر مع حور

حتى غدت فتنة تجري على قدر

أنا الأسير بها كهلا وفي صغر

وقد تعشقتها عمدا على خطر

ليقضي الله أمرا كان مفعولا

وله مخمسا :

ولرب ظبي باللواحظ صادني

وإليه من بعد التعفف قادني

وبردفه المرتجّ لما شاقني

ذاكرته عهد الوصال أجابني

كم ذا تطيل من الكلام المؤلم

فأجبته للوصل شمت دلائلا

وعليك لم أدع وحقك باخلا

فلوى وعني قد غدا متشاغلا

فأريته الدينار أنشد قائلا

أين المفر من القضاء المبرم

وله مخمسا :

وظبي قدّ أحشائي بقدّ

يميس بقامة زينت بجعد

حبيب لا يشان بخلف وعد

له خال على صفحات خدّ

كنقطة عنبر في صحن مرمر

سبى بجميل طلعته فؤادي

وخلّفني أهيم بكل واد

له ثغر حلا وردي وزادي

وألحاظ كأسياف تنادي

على عاصي الهوى ألله أكبر

وله مخمسا :

٤٥٤

غرامي بتذكار الأحبة قد نما

وقلبي من تلك اللواحظ كلّما

وكم قلت إذ مر الحبيب على الحمى

عفا الله عن عينيك كم سفكت دما

وكم فوّقت نحو الجوانح أسهما

محبك قد أودى الغرام بلبه

وعنك فلا يوما يميل وربه

فيا من لنا لذّ الهيام بحبه

أكل حبيب حاز رق محبه

حرام عليه أن يرق ويرحما

فعطفا على صب بحبك هالك

ورفقا به يا ذا اللحاظ الفواتك

فكم قلت مذ أضحى اصطباري متاركي

تحكمت في قلبي لأنك مالكي

بروحي أفدي المالك المتحكما

يمينا فلا أسلو هواك مدى المدى

ولو لامني اللاحي عليك وفنّدا

فيا من زكا خالا وخدا مورّدا

هنيئا لطرف بات فيك مسهّدا

وطوبى لقلب ظل فيك متيما

وهذه الأبيات للشيخ محمد ابن الشيخ محيي الدين محمد بن علي بن العربي الأديب البارع سعد الدين. ولد بملطية سنة ٦١٨ ، وكان شاعرا محسنا له ديوان. توفي في سنة ٦٥٦ ودفن بدمشق عند أبيه.

ووجدت في بعض المجاميع بعد البيت الأخير بيتين آخرين وهما :

أما القد من ماء الشبيبة مرتو

فيا خصره الممشوق لم تشتكي الظما

حمى ثغره عني بصارم لحظه

فلو رمت تقبيلا لذاك اللمى لما

وله مخمسا أبيات العارف بالله الشيخ أبي العباس المرسي :

فنون حديث العشق عني تؤثر

ومرسل دمعي فوق خدي مسطّر

وكم من مريد قال لي ليس يحصر

أعندك من ليلى حديث محرر

فإيراده يحيي الرميم وينشر

فقلت له والحب يا صاح مضّني

وأنحلني الشوق المقيم وعلّني

إذا شئت عن ليلى تسائل فأتني

فعهدي بها العهد القديم وإنني

على كل حال في هواها مقصّر

٤٥٥

إليها اشتياقي دائما يستطيرني

ومن فيضها الهطّال كم ذا تعيرني

ومن صدها يا قوم من ذا يجيرني

وقد كان منها الطيف قدما يزورني

ولمّا يزر ما باله يتعذر

وقد لذ لي ذلي لعز جمالها

وطاب افتضاحي في الهوى لدلالها

فما بالها عني اختفت بجلالها

فهل بخلت حتى بطيف خيالها

أم اعتلّ حتى لا يصح التصوّر

شفائي لقاها والتباعد ممرضي

وعمر اصطباري في الهوى غير منقض

فكيف إلى الأغيار أصبو وأرتضي

ومن وجه ليلى طلعة الشمس تستضي

وفي الشمس أبصار الورى تتحير

فحمدي لها أني مقيم ببابها

ألوذ وأستجدي لذيذ خطابها

وقد شملتني عطفة من جنابها

وما احتجبت إلا برفع حجابها

ومن عجب أن الظهور تستّر

وله مخمسا :

ثق برب منعم مولي الجميل

وادّرع صبرا على الخطب الجليل

واستمع ما قاله الشهم النبيل

كن غني النفس واقنع بالقليل

مت ولا تطلب معاشا من لئيم

فوض الأمر إلى رب العباد

فله في كل مقدور مراد

إن ترم تسلك في طرق الرشاد

لا تكن للرزق مهموم الفؤاد

إنما الرزق على المولى الكريم

وله عروض (لا لا تجيني النوما) :

دع يا عدولي اللوما

فالعشق قد حلالي

يا طلعة الكمال

يا باهي الجمال

زهى عقد اللآلي

في ثغرك الشهيّ

دع يا عذولي

القد غصن بان

والعطف خيز راني

٤٥٦

والعشق قد دعاني

لخدك النقيّ

دع يا عذولي

بقدك المياس

وجيدك الألماسي

ووجهك النبراس

بالوصل جد وحيّ

دع يا عذولي

صلّ ذا الجلال

والجود والنوال

على النبي والآل

في الصبح والعشيّ

وصل سلامي دوما

لمعدن الكمال

وله عروض (العواذل ليه تلمني) من نغمة الصبا أصوله صاده :

إن تواصل أو تزرني

أيها الظبي النفور

ليت شعري من يلمني

فيك يا وجه السرور

لو تزور

دور :

طاب وقتي يا حبيبي

وزمان الأنس راق

ورد خديك النصيبي

قد تجلى فوق طور

وهو نور

دور :

روّق الصهبا ورنّم

باسم من يهوى الفؤاد

أيها الساقي وزمزم

كاس أنسي بالحبور

كم تجور

دور :

برحيق الثغر حيّا

منيتي باهي الجمال

ودعا قلبي شجيّا

عندما هز النحور

والخصور

دور :

صلّ يا مولى البرايا

وتفضل بالسلام

ثم عمم بالتحايا

صفوة المولى الغفور

الشكور

وله عروض (الليلتين وليلتين وليّا) نغمته عشاق أصوله يكرك :

٤٥٧

يا ربة المحاسن البهيّا

قوامك الخطي سطا عليّا

كأسمر

لازمة :

بالله يا ذات الخديد القاني

رفقا بصب مستهام فاني

بمظهر

جبينك الوضاح عالي الشان

بدا كبدر قد سما مضيّا

وأنور

دور :

هيّا لروض الأنس والإيناس

يا مفردا بعادل مياس

كسمهر

واجل على الصوت الرخيم كاسي

ما بين نسرين غدا زكيّا

وعنبر

دور :

هيفاء حيت بالرضاب الشافي

من ثغرها الدري حلا ارتشافي

لسكر

بديعة الشؤون والأوصاف

بلحظها كسرى غدا شجيّا

وعنتر

دور :

فريدة الجمال من رآها

بروحه لو لم يجد سواها

لأمهر

سبحان من بالحسن قد حباها

وزان منها منظرا بهيّا

          وصوّر

دور :

صلى إله العرش بالسلام

على النبي وآله الكرام

          وحيدر

ثم على أصحابه الفخام

لعل أن أغدو بهم نجيّا

          بمحشر

وله غير ذلك من القدود والتشاطير والتخاميس والقصائد وحسبنا هذا المقدار.

قلنا في صدر الترجمة : إن المترجم تلقى علم الموسيقا والأنغام عن الحاج مصطفى بن بكري البشنك ، فهذا الرجل كان آية في هذا الفن ونابغة من نوابغ ذلك العصر ، فارس لا يجارى وبطل لا ينازل ، أذعن له أبناء هذا الفن واعترفوا بأنه السابق في حلبة هذا الميدان وصاحب القدح المعلى.

وقرأت بخط الشيخ عبد الرحمن المشاطي ، وهو ممن أدرك البشنك ويعرفه حق المعرفة ،

٤٥٨

أنه كان يدق النقرظان (وهو المسمى في عرفنا بالنقاريات) في التكية المولوية في حلب ، وكان يضع النقرظان خلف ظهره ويدق وحوله النايات وغيرها من الآلات ، وأنه كان إذا دخل لجمع ليلا يجلس على كرسي ويحدث من ألف ليلة وليلة عن ظهر قلب ما يناسب الجمع ، إن كانوا علماء فمما يناسبهم وإن كانوا من الوجهاء أو الشبان فكذلك. فدقه على الآلة على هذه الصورة مع عدم الخلل في ذلك يدل على مهارة تامة في علم الموسيقا ودربة بالغة منتهاها ، وتحديثه على الشكل المتقدم يدل على قوة حافظته وحسن استحضاراته.

وحدثني من أثق به أنه كان يقال : لو رمي الحاج مصطفى البشنك من فوق منارة الجامع الكبير إلى صحنه لما حصل له شيء من الضرر ، لأنه لا يهوي إلا على الأصول ، فلا يصل إلى الصحن إلا على رجليه فلا يناله لذلك أدنى ضرر.

وحدثني أيضا أنه كان في بعض الليالي في فرح ومعه مسيحي ماهر في دق النقرظان ، وكان شيخا مسنا ناهز الثمانين وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة ، فبينما كان يدق في النقرظان إذ به قد أخطأ في دقة ذهب منه (تك) فنظر إليه البشنك نظرة مغضب وأخذته الحدة لغلطته وعدها شيئا نكرا ، ولم يسعه إلا أن ضربه بالدف الذي كان بيده على عمامته الكبيرة وقال له : ويحك لقد أذهبت (تكا) لا يقام له ثمن. وتناول النقرظان ووضع عوديه بين إبهامي رجليه وصار يدق بهما دقا محكما لا يختل فيه مثقال ذرة ، وبيده الدف يضرب عليه ، فتعجب الحاضرون من عظيم مهارته.

وكانت وفاته سنة ١٢٧٢ ، ودفن في تربة السفيري بجانب الشيخ قاسم الخاني في قبليه.

ومكتوب تحت اسمه :

قد كان صاحب هذا القبر جوهرة

نفيسة صاغها الرحمن من صدف

إلخ البيتين المشهورين ، وفي ذلك تنويه بعظم شأنه وتقدير أهل عصره له. ولم يخلفه في حذقه في هذه الصناعة والضرب على الآلات أحد مثله في هذه الديار ، حتى إنه يضرب به المثل إلى الآن فيقال لكل من تقدم أمام قوم أو برز في أمر : هو البشنك.

على هذا الأستاذ تلقى الورّاق دروسه الموسيقية وبه تخرج في الأنغام والألحان ، فكان

٤٥٩

خليفته في هذا الفن بلا مدافع ، وإليه انتهت الرئاسة فيه بلا منازع.

وإنا نذكر لك نبذة من طريقة الوراق في الإنشاد ، وبها تعلم أن الإنسان لا يبلغ هذه المنزلة مع الذكاء المفرط إلا بعد عناء كثير وتمرين طويل ، وبذلك تقف على مقدار رقيّ هذا الفن في الشهباء في القرن الماضي والعصور التي قبله ، وتخيل في نفسك مقدار ما كان يدخل على النفوس من الطرب حين كان الإنشاد على هذه الصورة ، وتعلم انحطاط هذا الفن في هذا العصر وأنه أصبح خلاعة ومجونا قد خرج فيه أربابه عن حدود الحشمة والآداب ، وخصوصا بعد ما فشا السماع في الديار المصرية والسورية والعراقية والتركية من العاهرات الفاجرات ، فصار المقصود من السماع الخلاعة والفجور لا المهارة الفنية ولا الصناعة الأدبية.

وكان الوراق رحمه‌الله لا ينتقل من إنشاد إلى شغل أو من شغل إلى إنشاد أو من شغل إلى شغل إلا لمناسبة ، إما للوزن والقافية أو للمعنى لما يصح أن يجعل الثاني مقولا للقول الأول أو غير ذلك مع الأساليب الموافقة للصناعة من الأصول والطبقة والنغم وتصوير النغم ، فبينما كان ينشد مثلا :

رعا الله أرعانا ودادا لخله

وبلّ من الأشواق أشجان أشجانا

ولا بلغ المأمول منا أملّنا

ولا اكتحلت بالسهد أجفان أجفانا

وإذا به قد انتقل إلى شغل :

يا سيد كل الغيد

ما ضر لو وافانا

يا من لقاه عيدي

وصاله أحيانا

وبينما تراه ينشد مثلا :

قبل صحبي إلى المدامة صح بي

وإلى كل سرب يا صاح سربي

بأبي ظبية من السرب لاحت

طال عتبي لها وما طلّعت بي

ثم قالت يا مولعا بهوانا

ما تقل بي فقلت قد مات قلبي

وإذا به قد انتقل إلى شغل على هذا الروي فيقول :

حادي الركب لنحو حبي سربي

وعج بي نحو الشعب

٤٦٠