إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

أتي له برجل مقعد ، فقرأ له ما تيسر فقام في الحال بإذن الله تعالى. وشاع ذلك في مكة ، ولا زالت تتناقل هذه الحكاية إلى الآن.

وحج ثانية في سنة ١٣٠٤ وكان معه نحو ٣٠ شخصا ينفق عليهم نفقة واسعة ، وقد باع للأولى والثانية بعض أملاكه التي ورثها عن أبيه وصرف ثمنها في هذا السبيل.

ولما كان هناك بلغه أن أناسا من العبيد عليهم ضريبة لأسيادهم يؤدونها لهم مياومة ، فاشتراهم واعتقهم ، وكانوا ثلاثة عشرة عبدا.

وأعتق في حلب ثلاثة من العبيد وسبعا من الجواري ، وزوّج بعضهم.

ورحل في سنة ١٣٠٢ إلى القدس الشريف على قدم التجريد ، وكان معه عدة من مريديه ، وزار من هناك ، ومن جملة من كان معه أخي الكبير الشيخ محمد رحمه‌الله ، وكان من خواص مريديه بل أول مريد لديه لما كان عليه من العلم. وكان قبل سفره إلى مكة ومجاورته بها ملازما للشيخ يكاد لا يفارقه ، وكانا متساويين في السن ، فكان يأتي سيدي الأخ إلى الزاوية كل ليلة غالبا ويطالعان سوية في كتب الصوفية مثل «الإحياء» وغيره ، وكانا عالمين باصطلاحاتهم عارفين بكلامهم معرفة تامة ، وكانت محبتهما لبعضهما محبة خالصة لا يشوبها شيء من المنفعة الدنيوية ، وهي التي يسميها الصوفية المحبة في الله. وبعد أن سافر أخي إلى مكة للمجاورة والتجارة كانت المكاتبات لا تنقطع فيما بينهما ، ولما حج الشيخ حجته الثانية كان أخي هناك ، فلقي هو وإخوانه من أخي كل ما فيه راحتهم. وظلت المكاتبات بينهما إلى أن توفي أخي رحمه‌الله سنة ١٣٠٧ كما تقدم في ترجمته.

وبعد أن عاد من حجته صحا من جذبه وعاد إلى لبس فاخر اللباس ولازم زاويته للإرشاد وإقامة الذكر ، ومريدوه كل يوم في ازدياد ، حتى أصبحوا لا يحصون كثرة.

وكان من شأنه أن يسمر مع زائريه إلى الساعة الرابعة والخامسة ويذاكرهم في مسائل علمية وأدبية وتاريخية. وقد كان له إلمام في التاريخ ومعرفة تامة في الأنساب خصوصا أنساب العائلات الشهيرة في حلب ، ويعظهم بالمواعظ الحسنة بما يرقق قلوبهم ويوجب إقلاعهم عن المعاصي والدنيئات وتخلقهم بالأخلاق الحسنة ، ويؤلف فيما بينهم بحيث يصدق في

٥٢١

حقهم قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(١).

وتزوج رحمه‌الله ست زوجات جمع بين أربع. وحدثتني زوجته السيدة الشريفة عائشة بنت الحاج صادق الموقت ، وهي بنت أختي من الرضاعة ، فإن أمها السيدة فاطمة بنت السيد الحاج محمد الطباخ شقيق جدي وعم والدي كانت رضعت من والدتي ، قالت : كان الشيخ بعد أن ينتهي من سمره مع الناس يدخل إلى منزله الداخلي إلى بيت من يكون دورها ، وتكون متهيئة له مترقبة حضوره ، فإذا أتى قامت بواجب خدمته من تقديم القهوة والنارجيلة ، وبعد أن يتحدث مع إحدانا يأخذ في مطالعة الكتب ، وربما أسمعنا ما فيه عظتنا ومسائل فقهية يقتضي أن يتعلمها النساء ، ونظل معه هكذا إلى الثلث الأخير من الليل ، فينهض إلى التهجد وقراءة أوراده إلى أن يؤذّن الفجر ، فعند ذلك يؤدي الصلاة وينام ولا يزيد نومه على خمس ساعات ، وربما نام أقل من ذلك ، وبعد أن يستيقظ يقوم فيتوضأ ويأخذ في صلاة الضحى ، ويتناول لقيمات إن لم يكن أصبح صائما ويخرج إلى الزاوية. بقي على ذلك ثمانية عشر عاما إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى ا ه.

وكان كثير الصدقة ، يقوم بمؤنة كثير من البيوت. وعمر مسجدا صغيرا في أول محلة العقبة قبيل الخان المعروف بخان كامل.

وكان مربوع القامة أبيض الوجه خفيف اللحية ، الحمرة لا تفارق عينيه ، وهي أمارة الشهامة وقوة النفس ، عظيم المهابة يهابه كل من رآه ، سواء في ذلك من عرفه ومن لم يعرفه ، لا يزور أحدا من الحكام ولا الأمراء ولا يرغب في أن يقابلهم ، وبعد جهد حتى قبل زيارة جميل باشا والي حلب ، ولا يزور أحدا من الأغنياء ، بل كان الجميع يسعون لزيارته والتبرك بتقبيل يده وحضور مجالسه المفيدة الخالية عن اللغط ولهو الحديث.

ولم يزل على حرمته وحسن طريقته إلى أن توفي بعلة الصدر ليلة الجمعة تاسع عشر المحرم سنة ١٣٢٩ في الأيام التي حصلت فيها الثلوج العظيمة ودامت نحو أربعين يوما واشتد فيها البرد إلى أن وصل إلى ٢٠ أو ٢٢ تحت الصفر ، وكثر الموت في تلك السنة خصوصا في القادمين إلى حلب من الأطراف والخارجين منها إلى غيرها ، فقد مات أشخاص كثيرون

__________________

(١) الحجرات : ١٠.

٥٢٢

في البراري لشدة البرد من كثرة الثلج الذي بلغ أزيد من ذراع في كثير من الأماكن ودام أياما ، وتعرف هذه السنة بسنة الثلج ، وصارت تاريخا لوفاة أناس وولادة آخرين ، ولذا كان مشيعو جنازة الشيخ يوم وفاته قليلين ، ولو لا ذلك لكان له جنازة حافلة نظرا لكثرة مريديه ومحبيه وعظيم اعتقاد الناس فيه ، ودفن في تربة العبّارة خارج باب الفرج ، رحمه‌الله تعالى وأغدق عليه سحائب رضوانه.

ورثاه غير واحد من شعراء عصره ، منهم الشاعر الفاضل السيد محمد أفندي الحريري مفتي حماة ، قال في مطلع مرثيته :

لفقد كبّارنا تجري مآقينا

دمعا يكاد لظى مجراه يكوينا

وما البكاء بمطف لوعة سكنت

منا القلوب ولا السلوان ينسينا

ما حلية العبد في الأمر المحتم

والإله جلّ له ما شاءه فينا

وهي طويلة. ومنهم الأديب الفاضل الشيخ كامل الكيّالي الإدلبي قال في مطلع مرثيته :

قفا نبك من ذكرى حبيب نغادره

حيارى عليه الدهر كنا نحاذره

قفا فقفارا عن بعيد أرى الحمى

ولست بدار كيف بادت حواضره

قفا أو قفا دمعي على غير نعيه

ولا تطلبا قلبي فقد طار طائره

قفا أرشداني أين أغدو وأحسنا

فما (حسن) بعد (ابن طه) أثابره

وهل بعده من مرشد عن حقيقة

إلى الرشد تهدي السالكين زواهره

وهي طويلة في ٨٢ بيتا ختمها بقوله :

عليه سلام الله ما دام ذكره

وما جده (الهادي) تحج حظائره

وما زال مخضل الرياض ضريحه

بمزن الرضى ما أفعم الكون عاطره

وما (كامل) الأشجان يندبه المدى

قفا نبك من ذكر حبيب نغادره

١٣١٢ ـ عبد الفتاح الطرابيشي الشاعر المتوفى سنة ١٣٣٠

عبد الفتاح بن محمد أمين بن عبد الفتاح بن محمد أمين بن عبد الكريم بن يوسف ابن محمد دخيل الله المشهور بالطرابيشي ، الشاعر الأديب ، من سكان محلة السفّاحية.

٥٢٣

ولد سنة ١٢٧٧. ونشأ ملما بالقراءة والكتابة ، وفي العشرين من العمر حبب إليه حفظ القرآن العظيم ، فباشر في ذلك ، ولفرط ذكائه وقوة حافظته حفظه في ستة أشهر ، ثم حفظ دلائل الخيرات. وفي أثناء ذلك لازم شيخنا الشيخ محمد السراج في جامع الرومي وأخذ عنه بعض المقدمات النحوية ، فصار له نوع معرفة فيه ، غير أنه صار يقرأ بعد ذلك بدون لحن إلا قليلا ، وذلك لكثرة مطالعته في الكتب الأدبية والدواوين الشعرية ومشافهته العلماء والفضلاء ، خصوصا شيخنا العلامة الشيخ بشير الغزّي. ثم حفظ كثيرا من المقامات الحريرية ، وعني بقرض الشعر. وما زال يعلو فيه شرفا ويهبط واديا إلى أن تحسن شعره وصار مقبولا لدى الأدباء ، ثم جمعه في ديوان حافل استعرته من أبناء أخيه وبقي عندي أياما فإذا هو قد استهله بقصيدتين طويلتين مدح بهما الشيخ علي اليشرطي شيخ الطريقة الشاذلية ، مطلع الأولى :

غرام أقام القلب مني وأقعدا

وصيرني فوق التراب مسهّدا

ومطلع الثانية :

لاحت بمظهركم في الكون أسرار

فأشرقت في قلوب الناس أنوار

ويغلب على شعره التغزل والهجو ، وهو في هجوه أحسن منه في تغزله. وقد أكثر في شعره من التشطير والتخميس والتطريز للأسماء ، فمن شعره متغزلا :

هذا الجمال له في الذكر آيات

وفي الأنام وما يحكى روايات

حسن بديع أراد الله يظهره

فكنته وبدت منك العلامات

غدوت سلطان حسن في الملاح لذا

في خدك الخال بانت منه رايات

محوت كل جمال فيه حين بدا

للناظرين وهذا المحو إثبات

لله درك من ظبي خلقت كما

تهوى ولله في هذا إرادات

أصبحت فتنة هذا الكون منذ نصبت

سهام لحظك في العشاق كسرات

تغدو القلوب إذا ما مست منعطفا

لها من الوجد كرّات وفرّات

حكيت بدرا بنور قد زها وعلا

وفاته منك لفتات وقمزات

يا يوسف الحسن يا من عزّ عن شبه

كم في الهوى لك قد حنّت زليخات

فتنت في طرفك الماضي القلوب لذا

في صحن خدك منها بان حبات

٥٢٤

أفدي قواما كرمح ظل معتدلا

له بكل قلوب الناس طعنات

وخمر ثغر تفوق الشهد ريقته

لذيذ طعم وكم لي فيه سكرات

إني لأعجب من ضدين قد جمعا

وذاك في الخد نيران وجنات

نبي حسن أتى يبدي الغرام لنا

من قام في لحظه الفتان فترات

دعا القلوب فلبته على عجل

وصححت ما ادعى منه الإشارات

تلقى إذا ما بدا الأبصار حاسرة

كالشمس تحفظه منها أشعات

فيا رعى الله من ذلت لسطوته

أسود غيد لها في الحرب صولات

وله مورّيا باسم رشيد :

بروحي غزالا من بني الروم أهيفا

تسامى بحسن ما عليه مزيد

إذا ضلت العشاق في ليل وجهه

هداهم بصبح الوجه منه رشيد

وله مورّيا :

بروحي غزالا صاد قلبي بلفظه

وحاز كمال اللطف والظرف والذوق

لقد ذبت شوقا في الأنام بحبه

ولا عجب أن ذبت في الحب من شوقي

وله مؤرخا بناء منارة الساعة خارج باب الفرج ، وقد ذكرت ذلك في الجزء الثالث (ص ٣٩١) :

قد شيد بالشهبا منارة ساعة

تزهو بإتقان وحسن براعة

في دولة الملك الحميد المرتجى

الثاني الذي ساس الورى بدراية

وبهمة الوالي الرؤوف أخي الحجا

وصنيع قوم من أعاظم سادة

فهم رجال قد روى تاريخهم

لعلائهم حتى قيام الساعة

وقال مما يكتب على فوطوغراف :

قد قلت لما الشمس أبدت رسمكم

كيما يكون لحسنكم أبهى أثر

لله در الشمس لو لا نورها

ما أبصرت كل الورى وجه القمر

وقال أيضا :

٥٢٥

لما تزايد وجد الشمس في قمر

كسته نورا بديعا يدهش النظرا

وصورته على بعد لرؤيته

والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا

وله مشطّرا :

شكوت إلى الحبيبة حين راحت

تماطلني وقلبي ذو شجون

فألوت جيدها عني وأمّت

إلى قاضي المحبة تشتكيني

فقلت لها ارحمي ضعفي فقالت

مقالك بات ضربا من جنون

أتطلب رحمة في العشق مني

وهل في العشق يا أمي ارحميني

ومن بديع شعره تخميسه لرائية أبي فراس الحمداني ، وأوله :

أرتني وجها دونه الشمس والبدر

وثغرا به تزهو اللآلىء والدرّ

وقالت وقلبي لا يزعزعه الهجر

أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

فإن شؤون الحب وجد وروعة

وسقم وتبريح وشوق وفجعة

فقلت ولم تعثر بعيني دمعة

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له سرّ

فديتك قلبي كم أضرّ به الجوى

وما ضل عن نهج الغرام ولا غوى

ولست شديد الحبل بالحب والقوى

إذا الليل أضواني بسطت يد النوى

وأذللت دمعا من خلائقه الكبر

فكم أذكرتني من أحب نوائحي

وأجرت عيوني من دموع سوافح

وللغيد إن حنت وأنّت جوانحي

تكات تضيء النار بين جوانحي

إذا هي أذكتها الصبابة والفكر

ألا من لصب قد أطالت ديونه

مهاة ولم تصلح بوصل شؤونه

أقول لها والسقم أبدى شجونه

معللتي بالوصل والموت دونه

إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر

جمالك يا ذات المحاسن دلني

على حسن لطف بعد عزي ذلني

٥٢٦

ومن أجل حب في هواك أعلّني

بدوت وأهلي حاضرون لأنني

أرى كل دار لست من أهله قفر

وقال في آخره :

وإني فتى قد شاع في الناس فضله

وفاق على الآفاق بالكون أصله

وأنى لهم إبعاد مثلي وفصله

وقائم سيفي فيهم دق نصله

وأعقاب رمحي منهم حطم الصدر

تركت أهيل الحي مذ بان صدهم

وقاطعتهم لما تشاءم ودهم

فلا تفتكر مهما تعاظم عدّهم

سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

وسوف يعض الدهر صاح بنابه

عليهم ويسقيهم كؤوس مصابه

وليس لهم غيري لرد عذابه

ولو سدّ غيري ما سددت اكتفوا به

وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر

فهيهات أن يأتي الزمان بمثلنا

رجالا تخاف الأسد من يوم حربنا

فنحن كرام نلقي بالبشر بيننا

ونحن أناس لا توسّط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

فليس مدى الأيام تلوى رؤوسنا

لنذل ولا نرضى لئاما تسوسنا

وإن بالوغى للفخر نادت عروسنا

تهون علينا بالمعالي نفوسنا

ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر

لقد بان منا الفضل في سائر الملا

وأصبح شمسا للنواظر يجتلى

ولم لا وإنا بالمفاخر والولا

أعزّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا

وأكرم من فوق التراب ولا فخر

وقال في باب التزهد :

تأمل ليس غير الله باقي

ولا حصن من المقدور واقي

ولا مال يذبّ ولا نوال

ولا جاه ولا سمر الرقاق

لعمري إن عزّ المال ذلّ

إذا ما كان يجمع للمحاق

٥٢٧

هي الدنيا فكن يا صاح منها

على حذر فحسبك ما تلاقي

حذار حذار لا تركن إليها

فشيمتها الخديعة بالنفاق

فدعها والسلام عليها إني

رأيت رفاقها بئس الرفاق

(هكذا)

فهل للمرء فيها غير ثوب

ولقمة جائع وشراب ساق

فقل للجاهل المغرور مهلا

ستشرب مشربا مر المذاق

وتندب حين لا يجديك ندب

وتصبح بعد عزك بالوثاق

ألا يا مالك الأموال رفقا

فإنك ميت والمال باقي

تأن أيها الجاني تأن

فما لك دون رزقك من تراق

فخير الناس في الدنيا سرور

كثير الخير محمود السباق

وأفضل سيرة إن رمت تلقى

كتاب الله أفضل ما تلاقي

مضى ذكر الملوك فأين كسرى

وقيصر أين هارون العراق

وأين من ابتنى (١) الهرمان قدما

وأضرم نار حادثة السباق

مضوا كل فلم يبق سوى من

تفرد بالبقاء بلا شقاق

وأضحوا بعدما كانوا ملوكا

عبيدا يرتجو (هكذا) فضل العتاق

فما يا صاح في الدنيا صديق

صدوق صدقه عقد النطاق

يريك الود إن أبذلت مالا

ويلوي كشحه وقت النفاق

فلا تأمن لغير الله طرا

ولو آلوا لودك بالطلاق

فعش فردا وثق بالناس شرا

وحاذر في اصطباحك واغتباق

وقال من طريق الحماسة والفخر :

سواي جزوع من أقل المصائب

فيهوى دنيّ العيش بين المضارب

وإني لا أخشى زماني وصرفه

ولا أبتغي إلا قراع الكتائب

لي الهمة العليا إلى الغاية التي

أنال بها في المجد أعلى المراتب

لقد أدّبتني يقظة الرأي والحجا

كما أدّبت غيري ضروب التجارب

__________________

(١) في الأصل : بنى.

٥٢٨

إذا النفس ناجتني بمطلب راحة

أريها بعزمي عكس ما في المطالب

فما عاقني عن مطلب العز عائق

وما عابني إلا كثير المعايب

ومن كان مثلي كامل الحلم والوفا

قليل أعاديه كثير المصاحب

وهل لي معاد غير حاسد نعمة

وأحمق ذي جهل رديء المشارب

قنوع من الدنيا الدنية بالمنى

يرى السلم فيها من أجلّ المكاسب

يعد ذنوبي حجة حسب زعمه

وما لي ذنوب غير بذل الرغائب

أحب الذي يغدو محبا إلى العلا

وأكره من يكفيه أخذ المواهب

وإن أطرب الأقوام عود ومنشد

فإن التذاذي صاهلات السلاهب

وإن حنّ غيري للحسان فإنني

أحنّ إلى ضرب السيوف القواضب

عجبت لمن أمسى يشبب بالدمى

ويمدح ربات الخدور الكواعب

فلو كان يدري المجد والفخر والعلا

تخيّر لثم الترب دون الترائب

فهيا بنا يا دهر إن كنت تبتغي

قراعي وحارب إن أردت تحاربي

لعمرك قد خابت ظنونك إنما

أنا الصادح المحكي بين الأعارب

رويدك لا تدري لمن أنت طالب

فخل سبيل الغي واتبع مآربي

فما كل مطلوب يقدر للفتى

ولا كل ممنوع يفوت لطالب

وإني من القوم الذين بجدهم

تساموا على كل الكرام النجائب

إذا سالموا كان السلام بقولهم

وإن ضاربوا كانوا أسود المضارب

تقول لي العلياء وهي عليمة

بشدة حزمي واشتهار مناقبي

بحقك ما هذا التواني وإنني

أراك غفولا عن منال المناصب

عهدتك ذا عزم وحزم وهمة

وقلب جسور عند وقع النوائب

فقلت لها إني كما تعهدينه

ولكنما الأيام ذات عجائب

ذريني فقد حنّت قلوصي للسرى

وضاقت بذرعي واسعات السباسب

فلا صاحب إلّا سنان وصارم

ولا مؤنس إلا حداة الركائب

جدير لمثلي أن تراءى له العنا

بملعبه يعتاض غير ملاعب

فلو لا انتقال البدر ما كان كاملا

ولا راقبت مرآه عين مراقب

وبالمكث يبقى سائغ الماء آسنا

ويعذب إذ يجري لدى كل شارب

يلومونني [ه] الأعداء فيما أرومه

ولم تدر أن اللوم شر العواقب

٥٢٩

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني

خلقت كما أهوى ونلت مطالبي

سلامي على الدنيا إذا كان أهلها

يواسون فيها كل كاس وكاسب

وقال مضمنا بيت ابن الوردي :

(واهجر الخمرة إن كنت فتى)

ذا عفاف يبتغي خير العمل

وإذا استعملتها كنت كمن

ترك الأنس وبالهم اشتغل

إنما الهم جنون عجبي

من أناس قد رضوا ذاك الخبل

هل سوى المجنون يبغي شربها

(كيف يسعى في جنون من عقل)

وفي هذا المقدار كفاية.

وكان مربوع القامة ، نحيف الجسم ، أسمر اللون ، معروق الوجه ، أحول ، خفيف الروح ، له حانوت في سوق العطارين يتعاطى بيع الطرابيش فيه. ولخفة روحه وحسن محاضرته وسرعة أجوبته كان يؤم عشاق الأدب ومحبوه ويحاضرونه ، غير أنه كان يغلب عليه في محاضراته المجون ، ولا يلقي بالا لما يصدر منه ، ولذلك كثرت هفواته وسقطاته. ومن العجيب أنه لم يعمل بمقتضى أبياته الأخيرة ، بل كان سامحه الله يتناول من أم الخبائث ، فأثرت في جسمه تأثيرا بينا وزادت في نحافته ، ثم ساقته إلى مرض الفالج الذي يعتري الكثير ممن يتعاطاها ، وذلك في سنة ١٣٢٩ ، فلزم الفراش وأضاع في مرضه حواسه.

ولم يزل يقاسي آلام السقام إلى أن سقته المنية كاس الحمام ، وذلك ليلة الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة ١٣٢٠ ، ودفن في تربة باب المقام ، رحمه‌الله وعفا عنه. وعاش عزبا.

وقول الأديب قسطاكي بك الحمصي في ترجمته في كتابه «أدباء حلب» إنه توفي سنة ١٣٣١ هو سهو ، والصواب ما ذكرناه.

١٣١٣ ـ الشيخ محمد البدوي المتوفى سنة ١٣٣١

الشيخ محمد ابن الشيخ أحمد بن محمد المشهور بالبدوي ، من عشيرة بني جرادة ، العالم الفاضل الزاهد الورع.

ولد رحمه في أراضي دابق ودويبق سنة ١٢٤٩. وتعلم القراءة والكتابة عند أبيه ،

٥٣٠

وكان من حين نشأته محبا للعلم مجبولا على التقوى والزهد. وبعد وفاة أبيه أتى إلى حلب وذلك في سنة ١٢٧٥ وأقبل على الاشتغال وتحصيل العلم ، فقرأ النحو والصرف وفقه الشافعي وبعضا من تفسير البيضاوي على الشيخ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، ولازمه مدة طويلة ، وكان جل تحصيله عليه ، وكان للشيخ عناية خاصة فيه لصلاحه وورعه ، وقرأ المغني والشفا والشمائل والبخاري ومعظم مختصر السعد على الشيخ عبد السلام الترمانيني ، والدر المختار في الفقه الحنفي مع حاشية العلامة ابن عابدين على الشيخ علي القلعجي ، والطريقة المحمدية على الشيخ أحمد الزويتيني مفتي الحنفية. وقرأ على الشيخ إسماعيل اللبابيدي والشيخ مصطفى مدرس المدرسة العثمانية والشيخ أحمد الحجار. ودرس بنفسه كتابين في فقه الإمام مالك وكتابا في فقه الإمام أحمد بن حنبل.

وجاور في السيافية والإسماعيلية والقرناصية ، وأخيرا جاور في العثمانية ، وبقي فيها مدة طويلة يدرس فيها الفقه الشافعي والصبان على الأشموني في النحو وغير ذلك.

وكان قلّ أن يخرج من هذه المدرسة ، ولا شغل له إلا إفادة الطلاب والتعبد ، قليل الاختلاط بالناس ، ملازما لحجرته ، إذا رأيته من بعد تخال فيه سمة البساطة والغفلة وليس كذلك ، بل كان ذكيا نبيها ، لكنه يتغافل ، يدلك على ذكائه أنه كان حفظ القرآن عن ظهر قلب في شهر واحد في شهر رمضان ، كان يحفظ كل يوم جزءا مع الإتقان ، وكان يحفظ متونا كثيرة. وكان كثير الترنم بتائية الإمام السبكي ومنظومة الوعيظي ، وكان كثير التلاوة ولا يفتر كشيخه الشيخ أحمد الترمانيني عن قراءة فاتحة الكتاب وجعلها ورده ، قانعا من الدنيا بالكفاف ، لا يمسك ذهبا ولا فضة ، متوكلا ، معروفا بكرم النفس وسماحة اليد ، يتحرى المال الحلال على قدر إمكانه ويصرفه على نفسه وإخوانه.

ولد له ولد سماه باسم أبيه أحمد ، عاش تسع سنين ومات ، فاحتسبه ولم يعقب بعده ، وربما قصد للرقيا والكتابة وتظهر بركة نفسه وكتابته بإذن الله تعالى.

وألف حاشية حسنة مطولة على شرح العلامة السعد التفتازاني لمختصر الزنجاني في الصرف سماها «الفتح الرباني على شرح العلامة التفتازاني» في ٢٨٠ صحيفة ، وعندي منها نسخة خطية ، ويوجد منها في الشهباء عدة نسخ. وله مؤلف آخر في علم المنطق سماه «فتح الوهاب على مغني الطلاب» في ١٧٠ صحيفة.

٥٣١

وكان مربوع القامة إلى الطول أقرب ، بدينا ، وقورا ، ساكنا ، حسن الشيبة ، خشن الثياب ، يقتصر أيام الصيف على ثوب أبيض مفتوح الجيب إلى أنصاف ساقيه على مقتضى السنة. وبالجملة فإن سيما العلماء العاملين كانت بادية عليه يتراءى ذلك لرائيه لأول نظرة.

وكانت وفاته سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وثلاثين ، ودفن في تربة الجبيلة ، رحمه‌الله تعالى.

١٣١٤ ـ الشيخ محمد الكلّاوي المتوفى سنة ١٣٣٤

الشيخ محمد بن طالب بن سعيد بن أمين بن محمد الكلّاوي (بكسر الكاف وتشديد اللام) نسبة إلى كلّة : قرية من أعمال حلب تابعة لقضاء إدلب.

ولد في قرية كلّة وبها نشأ ، ثم لما ناهز الاحتلام أتى به والده إلى حلب وأدخله المدرسة الشعبانية ، وأخذ في تحصيل العلم فقرأ على الشيخ شهيد الترمانيني ، والشيخ الزاهد الشيخ إسماعيل اللبابيدي ، والشيخ أحمد الترمانيني ، والشيخ علي القلعجي ، والشيخ حسين ناجي الكردي مدرس الأحمدية ، والشيخ عبد السلام الترمانيني ، وشيخنا الفقيه الشيخ محمد الزرقا. ولما فضل وتنبّل أخذ في التدريس في المدرسة الشعبانية ، ودرس في المدرسة الهاشمية كما سيأتي في ترجمة الشيخ محمد رضا الزعيم.

وكان شافعي المذهب بارعا فيه ، قرأ فيه عدة كتب ، وله معرفة تامة في الفقه الحنفي أيضا. ويتعاطى كتابة الصكوك واللوائح ويرتزق من ذلك. وعيّن مرتين أو ثلاثا في رئاسة كتّاب المحكمة الشرعية ، إلا أنه كان ينازع في ذلك ولا يهنأ في البقاء فيها مدة طويلة.

وله عدة تعاليق على عدة كتب ، منها تعليقات على حاشية البناني على جمع الجوامع في أصول الفقه الشافعي ، ومنها تقريرات على حاشية الشيخ سليمان الجمل على شرح المنهج لشيخ الإسلام القاضي زكريا في الفقه الشافعي ، وتقريرات على حاشية الدر لابن عابدين في الفقه الحنفي ، وتقريرات على حاشية بافضل في الفقه الشافعي ، وتقريرات على «مجلة الأحكام العدلية» ، وتقريرات على حاشية الدسوقي على المختصر للسعد التفتازاني ، وحواش لطيفة على حاشيتي القونوي والشهاب الخفاجي على تفسير القاضي البيضاوي. وبالجملة فإن تعاليقه كانت كثيرة يفعل ذلك في كل كتاب يقرؤه.

٥٣٢

وحصلت له كائنة قضت أن تقبض عليه الحكومة العثمانية وعلى ولده الشيخ توفيق وتنفيهما إلى جزيرة رودس. وخلاصة هذه الحادثة أن إمام مسجد الكيزواني في محلة العقبة ، ويقال له الشيخ عبد العزيز العلاني ، كان لا يقوم بأمر المسجد كما يجب ، فتحرك أهل المحلة عليه وأخذوا يسعون في رفعه من الإمامة وقطع علاقاته بوقف هذا الجامع ، فلاذ الإمام برجل كان ساكنا في هذه المحلة منفيا من قبل السلطان عبد الحميد خان اسمه رضا بك ياقولي ، فتداخل هذا بالأمر مع أهل المحلة فلم يفد شيئا ، وعزله متولي الجامع بإصرار أهل المحلة ، فعندئذ كلف رضا بك إمام المسجد أن يقيم دعوى على المتولي وأن مثله لا يعزل إلا بموجب شرعي وبعزل القاضي. وترامى الإمام علي رضا بك أن يكلم الشيخ محمد الكلّاوي المترجم حينما يزور رضا بك ، وكان صديقا له ، أن يوكل له شخصا يطمئن هو له ليدافع عن قضيته ، فدعا رضا بك للشيخ محمد الكلّاوي وللشيخ محمد البيانوني لمنزله وكلفهما مساعدة العلاني وأنه هو يقوم بما تحتاجه هذه الدعوى من نفقات المرافعة ، ووضع أهل المحلة محاميا من قبلهم ، وأخذت هذه القضية دورا مهما وتحزب للطرفين أناس ، وكان رضا بك كل يومين أو ثلاثة يستدعي المترجم لمنزله ويذاكره في هذه القضية وسير المرافعة فيها ، فيوما كان عنده فتذاكرا في الشؤون العامة ، فجرهم الحديث لأسباب قيام الأرنوؤط وقتئذ (ورضا بك هو من عظماء الأرنؤوط) وما يجريه الاتحاديون في الآستانة وغيرها من الخروج عن حدود الشرع وتقبلهم للمدنية الغربية بجميع حذافيرها وعملهم بقوانينها ونبذهم الشريعة الغراء بتاتا.

فقال له المترجم : لو كان هؤلاء الثائرون قائمين لإعلاء كلمة الله وتأييد الشريعة المحمدية لكان قيامهم مشروعا ، وحيث إن قيامهم ليس لهذه الغاية فإنهم لا ينجحون ولا يتوفقون. فأجابه : إن قيامهم ليس إلا لانتهاك حرمات الشرع. وأشار عليه أن يكتب ثلاث عرائض : الأولى تتضمن أن ترك العمل بالشريعة الغراء والاستعاضة بالقوانين الأوربوية لا يجوز شرعا ، وعليه نطلب إبطال هذه القوانين والرجوع إلى ما أمر به الشرع المبين ، إذ لا يوجد شيء لا يكون قد نص عليه في الفقه الإسلامي ، وإن كنتم غير قادرين على هذا العمل فإن هناك من العلماء من يؤسس لكم قانونا على وفق الشرع ، وإن لم تعملوا به فإنا سنقاتلكم إلى النهاية.

فحررت العريضة بهذا المآل ، وأرسلت مع شخص مخصوص من قبل رضا بك لتسلم

٥٣٣

إلى علماء وأشراف (ياقوه) بلدة رضا بك ليقدموها إلى الآستانة ويطلبوا العمل بمقتضاها.

والعريضة الثانية قدمت في البريد إلى علي بك ابن رضا بك المتقدم ، وكان وقتئذ مبعوثا في مجلس المبعوثين عن أهالي (ياقوه) ليقدمها للمجلس ويقدم معها تقريرا له يقترح به العمل بما فيها.

والثالثة قدمت للمشيخة الإسلامية في الآستانة ، وهذه وقع عليها رضا بك والشيخ محمد الكلّاوي المترجم وولده الشيخ توفيق والشيخ حمادة البيانوني والشيخ عبد العزيز العلاني إمام المسجد وأحمد أفندي الحسبي وأحمد أفندي الخياط الكاتب في دائرة كتابة العدل الآن ، وكلهم من أخصاء المترجم.

فالتي قدمت لباب المشيخة أطلع شيخ الإسلام للصدر الأعظم عليها. وكان وقتئذ في الآستانة جمعية دعيت الجمعية المحمدية وتوسعت وتشعبت هناك ، فاهتمت لها الحكومة العثمانية الاتحادية وخشيت العاقبة ، فأوعزت إلى ناظر الداخلية أن يرسل إلى والي حلب يأمره بالقبض على الموقعين على هذه المضبطة ويرسلهم مخفورين إلى الآستانة ، فكان ذلك وقبض عليهم وعلى رضا بك ، وذلك في ربيع الأول وربيع الثاني من سنة ١٣٢٧ وسنة ١٣٢٥ رومية وسنة ١٩٠٩ ميلادية ، إلا الشيخ محمد البيانوني فإنه تمكن من التواري وصار ينتقل من قرية إلى قرية ومن بيت إلى بيت ، والحكومة هنا لم تشدد في القبض عليه لعلمها بعدم تداخله ، ولما كان عليه من البساطة ، وأرسل الباقون إلى الآستانة.

وقد ظن بالآستانة أن لهؤلاء علاقة بالجمعية المحمدية ، لأن مآل مطالب الفريقين واحد ، وظن أن ذلك من تحريكات السلطان عبد الحميد وأن رضا بك من أعوانه ومروجي فكرته ، وكان الأرنؤوط من محبي السلطان عبد الحميد.

والرسول الذي كان يحمل العريضة إلى بلاد الأرنؤوط ألقي عليه القبض في سلانيك لاشتباههم به ، وأخذت منه العريضة مع كتاب رضا بك المرسل معه لكبراء بلاد الأرنؤوط الذي يحثهم فيه على تقديم هذه العريضة وطلب تحقيق ما فيها. واستنطق هناك الرسول عما هو حادث في حلب ، فحدثهم بالقصة واجتماع المترجم برضا بك وما جرى بينهما ، وأرسلت تلك الإفادات إلى الآستانة وأودعت جميع الأوراق إلى ديوان الحرب هناك ، وكان يرأس الديوان خورشيد باشا ناظر البحرية ، فأخذت إفادات المقبوض عليهم ، وأخيرا حكم

٥٣٤

عليهم بالإعدام. وبتوسط علي بك ابن رضا بك المبعوث الأرنؤوطي وتوسله لدى محمود شوكت باشا ناظر الحربية بدّل حكم الإعدام بالنفي المؤبد إلى جزيرة رودس ، فأرسلوا إليها وبقوا هناك ثلاث سنوات وأربعة أشهر ، ثم بتوسط مبعوثي حلب وقتئذ نافع باشا الجابري والشيخ بشير الغزي وبواسطة علي باشا المصري عم سعيد حليم باشا الصدر الأعظم إذ ذاك صدر الأمر السلطاني بالعفو عنهم ، فأطلقوا عندئذ وعادوا إلى حلب ، وكان ذلك سنة ١٣٣٠.

وكانت وفاة المترجم في السابع والعشرين من ربيع الثاني سنة ١٣٣٤ ، ودفن في تربة الشيخ ثعلب الملاصقة للمكتب السلطاني ظاهر حلب في غربيها ، رحمه‌الله تعالى.

١٣١٥ ـ الشيخ محمد رضا الشهير بالزعيم الدمشقي المتوفى سنة ١٣٣٤

الشيخ محمد رضا بن محمد بن يوسف الدقّاق الشهير بالزعيم ، الدمشقي المولد والمنشأ.

ولد سنة ١٢٧٤ ، ونشأ في طلب العلوم والتحلي بالكمالات. قرأ في الشام على الشيخ ملّاطه الكردي والشيخ محمد الطنطاوي وملا ناصر الدين الجيلاني وملا عيسى الكردي نزيلي دمشق. وتلقى فنون الأدب على العلامة الشهير الشيخ طاهر الجزائري ، والحديث وعلم الوضع والبيان على الأستاذ بدر الدين المغربي المحدث الشهير وأجازه إجازة عامة.

ورحل إلى مصر ودخل الأزهر فجاور فيه سبعة أشهر ، حضر فيه على الشيخ زين المرصفي والشيخ محمد البيسوني والشيخ محمد الأنبابي. ثم عاد إلى دمشق وأتم تحصيله فيها. ثم أخذ في نشر علمه في الشام وضواحيها.

ثم رحل إلى الآستانة سنة ١٣٠٤ ودخل في امتحان مفتي آلاي وعيّن في هذه الوظيفة. وأرسل إلى طرابلس الغرب مع حسن أديب باشا وأخذ في نشر العلم هناك ، وتلقى عنه عدة من أهاليها. ثم عاد منها إلى دمشق. ثم عيّن لامتحان الطلبة للقرعة العسكرية في قيسارية ، فتوجه إليها وبقي هناك سنتين.

ولما حصلت الثورة الحورانية سنة ١٣١١ رافق الحملة التي أرسلت من طرف الحكومة العثمانية لتأديب الخارجين عليها من أهالي الجبل. وفي سنة ١٣١٢ عادت الثورة إلى ما

٥٣٥

كانت عليه ، فأرسل مع الجيش أيضا وذلك لمعرفته بعقائد الدروز وأحوالهم ، فكان القواد يستفيدون من رأيه وخبرته بأهل تلك الأماكن ، وأصيب بعدة رصاصات جرحته جروحا بليغة وشافاه الله منها ، ونال لما أبلاه في قمع هاتين الثورتين رتبة ووساما من الرتبة الرابعة.

ثم عيّن إلى حلب سنة ١٣١٣ فأتى إليها وتوطنها نحو عشر سنين وامتزج مع أهاليها تمام الامتزاج ، وأخذ في إقراء الدروس في داره ، وهرع إليه كثيرون من الطلبة لهمته في قراءة الدروس ومواظبته على ذلك بحيث لا ترى للملل أثرا في فؤاده. وكنت في عداد من أخذ عنه ، لازمته نحو أربع سنين قرأت عليه شرح لامية الأفعال والشافية في علم الصرف وحصة وافرة من حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك وشرحي السلم للدمنهوري والباجوري في علم المنطق وشرح آداب البحث العضدية مع حاشية الصبان عليها وشرح العلامة الدمنهوري المسمى بالجوهر المكنون على منظومته في علم المعاني والبيان والبديع والكافي في علمي العروض والقوافي ، وكتب لي إجازة حافلة بخطه مؤرخة في ثالث عشر ذي القعدة سنة ١٣٢٣ وصدرها بقوله :

[الحمد لله رافع رتب الراغبين إليه ومانع الراغبين عنه خير ما لديه].

وأقرأ مدة إقامته في حلب حاشية البناني على المختصر وحاشية الخضري مرتين ، ومتن المنهج ومتن جمع الجوامع في الأصول ومتن الشمسية في المنطق وغير ذلك. وبالجملة فقد انتفع به غير واحد من الطلبة أثناء إقامته هنا.

وكان هاشم أفندي الدلّال باشي من وجهاء الشهباء المتوفى سنة ١٣٢٨ عمر سنة ١٣٠٩ مدرسة في محلة الفرافرة ملاصقة لجامع الزينبية وجعلها طابقين ، ولكنه لم يقف لها وقفا ، فأهملت وظلت مغلقة الأبواب إلى سنة ١٣٢٠ ، ففيها اهتم بعض أرباب الخير بأمرها وندب المترجم لفتحها والتدريس فيها ، وأعانه بشيء من المال ، فأجابه إلى ذلك ، وجمع لها من أهل البر والإحسان ما تمم به نواقصها من أبواب وحديد وغير ذلك ، وشرع في التدريس فيها حسبة ، فكان أول مدرس بها وعمرها بالطلبة. وفي سنة ١٣٢٢ أمر المترجم بالتوجه لمرعش مع جنده ، فتوجه إليها ووكل في التدريس فيها الشيخ محمد الكلّاوي ، فكان يدرس فيها إلى أن توفي سنة ١٣٣٤ ، وبوفاته أهملت ثم أغلقت أثناء الحرب العامة ، ثم صارت مسكنا للفقراء إلى سنة ١٣٤٢ ، ففيها اهتم بأمرها مدير الأوقاف

٥٣٦

الحالي السيد يحيى الكيّالي ، فرممها وجعلها دارا للحفّاظ وعيّن لها ثلاثين طفلا يحفظون فيها القرآن العظيم ، وعيّن لذلك الحافظ المتقن الصالح الشيخ محمد بيازيد من خواص تلامذة الحافظ الشهير الشيخ شريف ، وهي إلى الآن على ذلك ولنعم العمل.

عودا إلى الترجمة :

ولما كان بمرعش أقرأ شرح الجزرية للقاضي زكريا ومعظم الجامع الصغير في الحديث وغير ذلك. وتوجه أثناء ذلك إلى الزيتونة فأقام فيها مدة خشية من تعديات الأرمن القاطنين في تلك النواحي ، فكان يقرأ دروسا عامة للجنود المرابطة هناك. وحصل وهو هناك مرض الحمى (التيفوئيد) وانتشر في الجيش وفتك فيه فتكا ذريعا ، فكتب القائد هناك إلى مقر قائد الغرفة في حلب ، لأنه كان مرتبطا به بما حصل فطالت المدة ولم يأت الجواب ، فكتب المترجم كتابا إلى عزة باشا العابد الكاتب الثاني للسلطان عبد الحميد شرح فيه الحالة ، فأطلع عزة باشا السلطان على هذا الكتاب ، وحينئذ صدر الأمر بالمبادرة لتأسيس مستشفى للجنود بمرعش ، وأنجز ذلك بمدة وجيزة ، وساعد أهل الخير في مرعش بإهداء هذا المستشفى كثيرا من اللحف والفرش والثياب للجنود.

وفي سنة ١٣٢٤ عاد إلى حلب وسكن في محلة آقيول ، وصار يقرأ دروسا في مسجد العريان الكائن في هذه المحلة. وصادف سقوط الجدار القبلي في هذا المسجد لتهاون المتولي عليه في أمر عمارة المسجد ، فطلب منه أهل المجلة أن يسعى في عزله ونصب غيره ليقوم بأمر هذا المسجد ووقفه ، وهكذا حصل. ولما لم تكن واردات وقف هذا المسجد كافية جمع من أهل البر والإحسان مبلغا رمم فيه ذلك الجدار ، وعمر فيه حجرا جعلت مدرسة وحوض ماء إلى غير ذلك ، وثابر على قراءة الدرس فيه (١).

ثم حصل في أثناء ذلك الانقلاب العثماني ، وذلك في سنة ١٣٢٦ ، وصارت الفتن تنسل من كل حدب ، فكان للمترجم اليد البيضاء في تهدئة الخواطر والحض على لزوم الألفة والاتحاد ، وألقى خطبا كثيرة في هذا الموضوع في أنطاكية والإسكندرونة وإدلب والمعرة وغيرها من معاملات حلب.

__________________

(١) بعد أن غادر المترجم الشهباء أهمل أمر هذا المسجد وتلك المدرسة ، فاتخذها الخطاط الشهير الشيخ محمد علي الخطيب لتعليم مبادىء العلوم وتجويد الخط ، وهو فيها إلى هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥.

٥٣٧

ومن آثاره اهتمامه في هذه السنين بأمر المدرسة الخسروية وأمر خانها المشهور المعروف بخان قورت بك ، وسعى إلى عزل متوليه السابق ، واسترجع بعد محاكمات طويلة الخان المذكور إلى أوقاف المدرسة وصار هو متوليا. ولما اجتمع لديه مقدار من ريع الوقف شرع في ترميم المدرسة وبناء حجر فيها ، وجدد الرواق الشمالي جميعه على هيئته التي تراها.

وكان ذلك سنة ١٣٣٠ ، وقد بينت ذلك في الكلام على هذه المدرسة في الجزء الثالث (ص ١٥٧). ثم نقل المترجم إلى الشام لخلاف حصل بينه وبين والي حلب فخري باشا وواليها حسين كاظم بك ، فلذا لم يتمكن من تتميم ما كان عزم عليه في أمر هذه المدرسة.

وفي أثناء ذلك حصلت الحرب البلقانية ، فرافق الجيوش التي أرسلت إلى هناك ، وكان يحرض العساكر التي تحت إمرته على الجهاد ويشجعهم ، وكان في طليعة الزاحفين نحو أدرنة وفي جملة العساكر الذين دخلوها ، وصعد إلى منبر جامع السلطان سليم وألقى فيه خطبة هامة حامدا شاكرا على هذا الفتح العظيم.

ولما وضعت الحرب أوزارها رجع مع فرقته إلى الشام. وبعد أن أقام فيها مدة ذهب معها إلى المدينة لحفظ الخط الحجازي من تعدي العربان عليه ، وبقي ثمة نحو أربعة أشهر ، ثم عاد إلى الشام. وبعد أن أقام فيها مدة وجيزة أعلنت الحرب العامة ، وذلك في ١١ رمضان سنة ١٣٣٣ ، وأخذت الدولة العثمانية تجهز الجيوش الجرارة وتحشدها في أطراف مملكتها ، فتوجه المترجم مع العساكر التي أرسلت نحو ترعة السويس ، وذلك تاسع عشر صفر سنة ١٣٣٤ ، ولم يأل جهدا في التحريض على الجهاد والثبات في الحرب. وفي ليلة الثلاثاء الموافق للثامن عشر من ربيع الأول سنة ١٣٣٤ زحفت تلك الجيوش نحو الترعة والمترجم معها يحرضها ويدعوها إلى الثبات ، فوصلت إليها قبيل الفجر ، فأخذت الرشاشات الإنكليزية تقذف بنيرانها على تلك الجيوش ، فلم تستطع العبور ، وعزمت على الثبات في مواضعها ، وأخذت في حفر الحفر لتقيها من تلك القذائف النارية ، إلا أنها لم تستطع البقاء لأن القذائف كانت تنهال عليهم كالمطر الغزير ، فأمرت تلك الكتائب بالرجوع ، فشرعت في ذلك ، فمر المترجم من مكان كانت نيران الأعداء مسلطة عليه فأصيب المترجم بشظية ذهب بها شهيد المعركة. وعند عصر ذلك اليوم بلغ ولده الشيخ صلاح الدين ، وكان

٥٣٨

مرافقا لهذا الجيش أيضا استشهاد أبيه ، فذهب إلى ذلك الموضع وواراه في حفرة هناك ، رحمه‌الله تعالى وأجزل ثوابه.

وكان المترجم أسمر اللون ، مستدير الوجه ، عظيم الرأس ، كث اللحية ، قصير القامة ، بدينا ، قوي الجسم جدا. وكان مقداما جريئا كثير الحركة والمداخلة مع الحكام بقصد إصلاح ما فسد من الأمور ، ولا تفتر له في ذلك عزيمة.

ومع ما كان له من المساعي في حلب وغيرها فإنه لم يخل من ألسنة الناس ، وكانوا يعدون أقدامه جنونا وجرأته تهورا ، وما أحراه بقول الشاعر :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالناس أعداء له وخصوم

وإنما ترجمناه في تاريخنا مع أنه ليس على شرطنا ، إذ ليس هو ممن ولد في حلب ولا ممن توفي فيها ، لآثاره العمرانية العديدة التي قام بها في حلب ، ولأنه ممن تلقينا بعض العلوم عنه واستفدنا منه كما تقدم.

١٣١٦ ـ محمد أسعد باشا الجابري المتوفى سنة ١٣٣٤

محمد أسعد باشا ابن علي غالب أفندي ابن سعيد أفندي ابن محمد أسعد أفندي ابن عبد القادر أفندي ابن مصطفى أفندي الجابري ، السريّ ابن السريّ والوجيه ابن الوجيه ، وقد تقدمت تراجم آبائه في محالها.

ولد المترجم سنة ١٢٧٠ ، ونشأ نشأة صالحة بعيدة عن الإلمام بالسفاسف ودنيئات الأمور. وأول ما تولاه من الوظائف أن صار عضوا في محكمة البداية ، وذلك في سنة ١٢٩٨ ، ثم انتقل إلى محكمة الاستئناف في سنة ١٣٠٤ وبقي فيها سنتين ، وفي سنة ١٣٠٦ عين عضوا في مجلس إدارة الولاية ، بقي إلى سنة ١٣١٤ ، ففيها أعيد إلى عضوية محكمة الاستئناف فبقي أربع سنوات ، ثم اعتزل ولزم بيته إلى سنة ١٣٢٠ ، ففيها أعيد لعضوية مجلس الإدارة ، بقي فيها إلى سنة ١٣٢٤ ثم استقال ، ثم أعيد إليها في سنة ١٣٢٥ وبقي إلى نواحي سنة ١٣٣٠ ، ففيها استعفى ولزم بيته إلى حين وفاته ، وتخلل ذلك أنه توجه وكيلا لمتصرفية أورفة. وحينما ابتدأت الثورة الأرمنية في جهة الزيتون أرسل لإهماد نار

٥٣٩

تلك الفتنة ثمة ، وذلك أيام الوالي حسن باشا أشقورده لي في سنة ١٣١٣.

وكان رحمه‌الله شهما غيورا ، لا يألو جهدا في قضاء حوائج الناس لدى الحكام ، خصوصا في مجلس الإدارة الذي قضى فيه مدة طويلة ، مستقيما عفيفا حسن الاعتقاد مواظبا على الصلاة محبا للعلم وأهله والأدب وذويه ، لذلك كان يغشى منزله العلماء والأدباء فيرون منه مزيد الإقبال. ولمحبته للعلم ورغبته في إحيائه رمم مسجد الدليواتي الكائن بالقرب من منزله في محلة الفرافرة ، وبنى فيه ست حجر للطلبة وحجرة للمدرس ، وعيّن له مدرسا شيخنا العلامة الشيخ أحمد المكتبي الفقيه الشافعي على أن يدرس فيه الفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه ، وقصد بذلك إحياء فقه الشافعية الذي كاد يدرس لقلة علماء الشافعية بحيث لم يبق في الشهباء من يشار إليه فيه سوى شيخنا المتقدم ، وسبب ذلك إقبال الطلاب على التفقه على مذهب الحنفية ، لأن الإفتاء والقضاء والمعاملات على ذلك المذهب بمقتضى أوامر سلاطين الدولة العثمانية ، والناس على دين ملوكهم. وكان افتتاح هذه المدرسة وابتداء التدريس فيها يوم السبت في عشر ربيع الثاني سنة ١٣٢٣ ، وقرىء يوم افتتاحها المولد النبوي حضره بعض العلماء والوجهاء.

وشرط المترجم أن يكون الطلاب من الغرباء. وبقي شيخنا الشيخ أحمد المكتبي مدرسا فيها إلى حين وفاته ، وذلك في سنة ١٣٤٢ ، وخلفه في التدريس فيها تلميذه الشيخ سعيد الإدلبي وهو باق إلى الآن. وصرف المترجم على هذه الحجر وترميم هذا المسجد ٣٠٠ ليرة عثمانية ذهبا ، ووقف له خانا في محلة باب النيرب في بوابة الشيخ جاكير وثلاثة دكاكين في طرف الخان ، غير أن الوقفية لم تسجل بعد.

ومن آثاره مسجد عمره في محلة الصفا ووقف له دكاكين عمرها في جانب المسجد.

وعمر مسجدا في قرية حليصية وفي قرية فافين ، ومسجدا في قرية تل قراح ، والقريتان الأخيرتان ملحقتان بقضاء عزاز.

ومن آثاره نشر كتاب «بدائع الصنائع» ذلك الكتاب الجليل في الفقه الحنفي للإمام الكاساني الحلبي المتوفى سنة ٥٨٧ ، فإنه طبع على نفقته ونفقة ابن عمه الحاج مراد أفندي الجابري في سبع مجلدات في مصر في المطبعة الجمالية ، وقد قدمنا ذكر ذلك في ترجمة الإمام الكاساني.

٥٤٠