إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

١
٢

٣
٤

٥
٦

تنويه وشكر

ها هو ذا الجزء السابع والأخير من كتاب «إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء» يصل إلى يدي القارىء كما نرجو له من الضبط والتصحيح والإخراج ، ولا شك في أن لدار القلم العربي بحلب الفضل في نشر هذا الكتاب النفيس ودعمه بكل ما يتطلبه من إمكانات مادية وإعداد علمي ، ولا عجب في ذلك ، فقد أخذت هذه الدار على عاتقها مهمة نشر الذخائر التراثية والكنوز التاريخية التي من شأنها تمكين بنيان العلم وصرح الثقافة.

ولابد من إزجاء خالص الشكر وجميل العرفان إلى الباحث الفاضل الأستاذ محمد كامل فارس الذي بسط يد المعونة في تدقيق نصوص الكتاب ومعارضتها بأصولها ، وأمدنا ببعض الإرشادات القيمة والملاحظات المغنية التي كان يستخلصها من مكتبته التاريخية العامرة وينتزعها من خبرته الأثرية الأصلية ، حتى كان المرجع في كل مشكل والمستشار في كل معضل ، ابتغاء الوصول إلى ما يفيد العلم ويخدم المعرفة ويرضي المؤلف رحمه‌الله.

كما سيكون له الفضل في وضع معظم الفهارس العامة المفصلة التي تسهل على الباحثين والدارسين الرجوع إلى ما في الكتاب من المعارف الواسعة والمعلومات التاريخية والأثرية الهامة ، وهذا ما سيختص به الجزء الثامن إن شاء الله.

فعسى أن نوفق إلى ذلك ، والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.

محمد كمال

٧
٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تتمة أعيان القرن الثاني عشر

١٠٨٣ ـ محمد بن علي الجمالي المتوفى سنة ١١٧٣

محمد بن علي بن مصطفى المعروف بالجمالي ، الحنفي الحلبي العالم الأديب ، ناظم اللآلي.

ولد في حلب سنة ثمان ومائة وألف ، ونشأ بها وأخذ العلم عن علمائها كالشيخ سليمان النحوي والشيخ حسب الله ، وأخذ الفقه أيضا عن الشيخ السيد محمد الطرابلسي نزيل حلب ، ومن مشايخه السيد يوسف الحسيني الدمشقي مفتي حلب ، وخدمه في كتابة الفتوى حين تقلدها ، وأتقن وأجاد ومنه استفاد.

وكان له قدم راسخ في النظم والإنشاء ، وحصل له الملكة التامة في الفقه. وكان دمث الأخلاق يلاطف الناس ، له الإنشاء البليغ والنظم البديع.

ومن شعره قوله في عقد حليته عليه الصلاة والسلام :

حبذا طيب طيبة الفيحاء

مهبط الوحي مستقر الرضاء

بلدة أينعت خمائل نور

ثم أضحت مخضلة الأرجاء

شرفت بالنبي طه التهامي

أكرم الخلق أشرف الأنبياء

كمّل الله خلقه وحباه

حلية توجت بكل بهاء

كان فخما مفخما يتلالا

وجهه بالضيا كبدر السماء

__________________

(١) (تنبيه) : لا تنس ما قدمناه في الجزء السادس من أن ما نذكره في هذا القرن بدون عزو هو مأخوذ عن «سلك الدرر» للعلامة المرادي.

٩

ضخم الرأس والكراديس ذا مسربة وهي آية النجباء

أزهر اللون أدعج العين أقنى الأنف رحب الجبين ذي اللألاء

أشنب الثغر أفرق السن وضاح المحيا ذا لحية كثاء

أهدب الجفن بارع الحسن عذب النطق يمّ التقى كثير الحياء

ظاهر البشر كان يفترّ عن أمثال حب الغمام باهي السناء

عنقه جيد دمية في صفاء

ونقاء كالفضة البيضاء

ربعة بين منكبيه بعيد

واسع الصدر كامل الأعضاء

بادنا أشعر الذراع طويل الباع ششن الكفين بحر السخاء قوله الفصل لا فضول ولا تقصير طلق اللسان عذب الأداء محرزا من جوامع الكلم الغرّ فنون البلاغة الغراء

وإذا ما مشى تكفا كأن عن

صبب إنحطاطه أو علاء

جملة إلتفاته والهوينا

مشيه إن مشى ذريع الخطاء

خافض الطرف دائم الفكر جمّ الشكر والذكر صادق الأنباء أجود الناس أصدق الناس أسمى الناس قدرا من خص بالعلياء

بين كتفيه مثل بيض حمام

خاتم وهو خاتم الأنبياء

ومن نظمه قوله ممتدحا بها صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

بعلياك يا شمس النبيين والرسل

غدت سائر الأملاك والرسل تستعلي

ملكت زمام المجد ختما ومبدأ

وحزت مقام الحمد في موقف الفصل

وتوجت تاج العلم والزهد والتقى

وصدق الوفا والنصح والبر والعدل

وبالغت في الإبلاغ حتى لقد غدا

بصدقك صدع الدين ملتئم الشمل

وكم لك حقا معجزات خوارق

أضاءت لنا كالشمس في أفقها المجلي

ولدت كريما من كرام منقلا

بأطهر أصلاب مصانا عن الدخل

وضعت مجيدا رافع الرأس حامدا

لربك مختونا وسربلت بالفضل

فأنعم بميلاد النبي الذي به

لنا شرف سامي الذرى وارف الظل

إلى أبيات أخر ذكرها المرادي. وأورد له قصيدة أخرى نبوية.

١٠

وله مخمسا أبيات الحاجري بقوله :

غريمي غرامي فيك يا من إذا بدا

جمال محياه أبان لنا الهدى

ترفق فقد أشمت في حبك العدا

أيا حرم الحسن البديع الذي غدا

ومن حوله عشاقه تتخطف

إلى كم أقاسي في الهوى لوعة النوى

وقد جد بي وجدي وصبري قد ثوى

فيا من بلام الخد للحسن قد حوى

عسى عطفة من واو صدغك في الهوى

أعيش بها والواو ما زال يعطف

لئن غبت عن عيني وشطت معاهد

فإني على الأشجان فيك مكابد

وحوشيت عما قال عني حاسد

فإن غرامي بعد بعدك زائد

وحقك عما كنت تدري وتعرف

وله مقتبسا :

معشر العذال إني

لي بسر الحب علم

لا تظنوا بي سلوّا

إن بعض الظن إثم

وله عاقدا :

الراحمون لقد أتى يرحمهم

رب العلا الرحمن نصا محكما

يا أيها الناس ارحموا من قد غدا

في الأرض يرحمكم غدا من في السما

وله عاقدا حديث حسان الوجوه :

قد توسمت فيك يا قرة العين نجاحا ودفع كل كريه

جازما حيث قال خير البرايا

اطلبوا الخير من حسان الوجوه

وله تخميس بيتين من بين المصراعين :

مالي إذا وضع الكتاب وسيلة

تجدي إليّ ولا لديّ فضيله

وعيون آمال النجاة كليلة

مني فلا أمل ولا لي حيله

أنجو بها من هول يوم الموعد

إلا اعتراني بالذنوب وأنني

ما زلت دهري للمعاصي أجتني

١١

وركبت متن غوايتي فأضلني

وأضعت أوقاتي سدى لكنني

متمسك بلواء آل محمد

وله مضمنا :

يا رب قد وافيت بابك ضارعا

أرجو رضاك وأنت أمن اللائذ

متوسلا بمحمد وبآله

هذا مقام المستجير العائذ

وله أيضا :

أمعذبي من دعج نجلاويه قد

قرطست أحشائي بهم نافذ

وقلبتني حتى خفيت عن الخفا

وسددت بالهجر المبيد منافذي

فأتيت كعبة حسنك الزاهي بها

متشبثا لما غدوت منابذي

أرجو حنانا منك يزلف نائيا

هذا مقام المستجير العائذ

وله في التلميح إلى المثل كقابض الماء باليد :

وخصر يحاكي يا ابن ودي نحو له

لجسم معنى بالصبابة مكمد

إذا رمته ضما يقول لطافة

ألم ترني كالقابض الماء باليد

ومن غرامياته هذه القصيدة البديعة التي مطلعها :

أما والهوى إني بحسن التجلد

أروح بهجري كل وقت وأغتدي

أكابد تبريحا عن الصد والقلى

ومالي براح عن غرام مسهد

وهي طويلة جدا ، وله غير ذلك.

وكانت وفاته سلخ رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى ا ه.

أقول : قد كنت اطلعت على ديوانه في بعض المكاتب في حلب ، غير أنه لم يتيسر لي نقل شيء منه.

١٠٨٤ ـ حسين بن مصطفى الزيباري المتوفى سنة ١١٧٣

حسين بن مصطفى بن حسن الزيباري الحلبي ، الشيخ الفاضل الأديب.

١٢

ولد سنة أربع وتسعين وألف ، وأقام بمدرسة الشعبانية بحلب مدة خمسين سنة ، وأكب على الطلب حتى برع في الأدب ، وكان له اسم بين شعراء حلب ، فمن شعره قصيدة مدح بها أحد حكامها مطلعها :

من الله أرجو نصرة الحق والشرع

بأمن ويمن دائم الخصب والنفع

بمقدم أهل الجود والمجد والهدى

وميض المحيا في العلا طيب الطبع

سليمان سيف الله ذي الفخر في النهى

فضيل كسعد الدين والسيد السبع

ومنها :

ودمت قرير العين ما جن غاسق

وما بزغت شمس على الوتر والشفع

ومنها :

لذلك وافانا البشير مؤرخا

سليمان سيف الله بالحق والشرع

توفي بحلب سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠٨٥ ـ عبد المعطي بن معتوق المتوفى سنة ١١٧٤

عبد المعطي بن معتوق الحلبي البيري ، نسبة إلى بيرة الفرات ، الحنفي الصالح الورع.

كان صاحب ثروة ، ثم قعد به حاله فاشتغل بالنسخ وتجويد الخط ، فكان له الخط الحسن ، أخذ ذلك بدمشق عن الرجل الصالح الشيخ محمد العمري الدمشقي المشهور ، وعاد لحلب فانتفع في الخط به الكثير.

وكان شكلا حسنا وله المنادمة العجيبة والمطارحة الغريبة ، مع الصلاح والتقوى والتخلي للعبادة. وكان له في يديه ورجليه أصابع زائدة قطع بعضها ، وهذه الزيادة في الأصابع استمرت في عقبه أيضا ، وكان يكتب عن نفسه بألتي برمق ، ومعناها بالعربية ست أصابع. وكانت له الحظوة عند الولاة فمن دونهم.

توفي رحمه‌الله تعالى ونفعنا به بداره الكائنة بمحلة الجلّوم ثامن عشر ربيع الثاني يوم الأربعاء سنة أربع وسبعين ومائة وألف ، ودفن خارج باب قنسرين في التربة التي فيها مزار

١٣

الشيخ عبد الرزاق أبي نمير ، وكانت له جنازة حافلة رحمه‌الله تعالى.

١٠٨٦ ـ علي بن مصطفى الدبّاغ الميقاتي المتوفى سنة ١١٧٤

علي بن مصطفى الملقب بأبي الفتوح الدبّاغ المعروف بالميقاتي الشافعي الحلبي ، صاحب العلوم الغزيرة والتصانيف الشهيرة ، العالم الإمام المحقق المحدث الأديب الماهر النحرير الشيخ البارع المدقق القدوة.

كان أحد من أنجبتهم الشهباء في زماننا واشتهروا بالفضل والأدب ، وكان له في كل فن القدح المعلّى ، عليّ الهمة ، كاشفا في المعلومات كل مدلهمة.

ولد في سنة أربع ومائة وألف ، وقرأ القرآن ، واشتغل بطلب العلم على جماعة كالعالم الشيخ أحمد الشراباتي ، والفاضل الشيخ سليمان النحوي. وارتحل إلى دمشق وأخذ بها عن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ محمد الغزي مفتي الشافعية والشيخ عبد الكريم الخليفتي المدني والشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي والشيخ أبي الطاهر الكوراني المدني والشيخ محمد عقيلة المكي والشيخ أبي الحسن السندي نزيل المدينة والشيخ محمد المعروف بالمشرقي المغربي والشيخ منصور المنوفي والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ أبي المواهب الحنبلي الدمشقي والشيخ محمد بن علي الكاملي الدمشقي. وله مشايخ كثيرون من أهل الحرمين ومصر والقدس وغير ذلك.

وكان له المعرفة التامة بالأنساب والرجال والتاريخ. وكان موقتا بجامع بني أمية بحلب.

وله من التآليف شرح على البخاري وصل فيه إلى الغزوات ، وحاشية على شرح الدلائل للفاسي.

وكان شعره رائقا نضيرا ، وله مقاطيع وموشحات وغير ذلك ، فمما وصلني من ذلك قوله :

لطلعة وجه المصطفى النور كله

على حسب استعداد رائيه نورها

هي الشمس تعطي الشيء ظلا بمثله

وإن قلت (١) الجدوى فمنا قصورها

__________________

(١) في الأصل : دلت ، والصواب ما أثبتناه نقلا عن سلك الدرر.

١٤

وله تضمين الحديث الشريف المسلسل بالأولية :

أول ما أسمعنا أهل الأثر

مسلسل الرحمة عن خير البشر

للراحمين يرحم الرحمن إر

حموا لمن في الأرض تحظوا بالبشر

إن الجزا يرحمكم من في السما

وحسبنا رحمته من الظفر

وله في النعل الشريف :

لنعل طه من التشريف مرتبة

تهدي إلى حاملي تمثاله نعما

فاجعل على الرأس تمثالا لصورته

وقبّل النعل إن لم تلثم القدما

وانظر إلى السر منه للمثال سرى

وكل مثل حذوه صار ملتثما

وله :

من شرف الحب وتخصيصه

أن يلحق الأدنى بعالي الرتب

لذا جعلت الحب للمصطفى

وشاهدي ألمرء مع من أحب

وله :

في رؤية المختار من خلفه

كما يرى قدامه في الشهود

اختلفت آراء من قبلنا

والحق بالعين بهذي الحدود

ولا عجيب أن يرى بعضه

من هو عند الكل عين الوجود

وله مضمنا :

وفى لي حبيب بالوعود وعندما

طمعت بوصل لا يقاومه شكر

تبدى رقيبي واعترتني هزة

كما انتفض العصفور بلله القطر

والأصل فيه قول بعضهم :

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض ... الخ البيت (١).

وقد ضمنه أحد الأدباء في المجون فقال :

__________________

(١) البيت لأبي صخر الهذلي.

١٥

رعى الله نعماك التي من أقلها

قطائف من قطر النبات به قطر

أمد لها كفي فأهتز فرحة

كما انتفض العصفور بلله القطر

ومن نثر المترجم ونظمه ما كتبه مقرظا به على رسالة الأديب البارع الشيخ سعيد ابن السمان التي ألفها في المحاكمة بين الأمرد والمعذّر ، وهي طويلة ساقها المرادي بتمامها وقد دلت على رسوخ قدمه في الأدب ، وختمها بقوله :

ونعود لأصل المسألة فنقول : وليس من الكمال حب الرجال ، ولله در من قال : ليس الحب إلا لذوات الجمال. وقال بعض السادة الرؤساء : استراح من اقتصر على النساء. شعر :

أحب النساء وحب النساء

فرض على كل نفس كريمه

وإن شعيبا لأجل ابنتيه

أخدمه الله موسى كليمه

ومن البين عند أهل النظر ، أن رجلين تحت لحاف خطر ، فربما يتثلم العامل وينوب مفعول به عن فاعل.

من قال بالمرد فإني امرؤ

إلى النسا ميلي ذوات الجمال

ما في سويدا القلب إلا النسا

يا حسرتي ما في السويدا رجال (١)

وأحسن ما يقع به الاقتداء والاتساء : (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء).

وارحمتا للعاشقين تحملوا

خطر السرى وعلى الشدائد عولوا

بل وارحمتا لعشاق الصور المشتغلين عن المؤثر بالأثر ، لو عاودوا النظر لوقعوا على جلية الخبر. رأى بعض من صحبنا صورة استحسنها ، فعاود النظر ليتزود نظرة أخرى منها ، فكشف عن بصره فرآها ميتة يتناثر الدود عنها ، فتاب واستغفر من ذلك الشهود ،

__________________

(١) أحسن ما رأيت في هذا الباب ما ذكرته مجلة الزهراء المصرية (ج ٣ ص ٧٢) للملك الأمجد الحسن ابن الملك الناصر صلاح الدين من الأسرة الصلاحية :

أحب الغادة الحسناء ترنو

بمقلة جؤذر فيها فتور

ولا أصبو إلى رشأ غرير

ولو فتن الورى الظبي الغرير

وأنى يستوي شمس وبدر

ومنها يستمد ويستنير

وهل تبدو الغزالة في سماء

فيظهر عندها للبدر نور

١٦

ورجع لما هو المطلوب والمقصود.

لو فكر العاشق في منتهى

حسن الذي أسباه لم يسبه

ويحه كلف بما لا يدوم ، وافتتن بالموجود المعدوم ، وغفل عن الحي الباقي القيوم. من نظر في مصارع إخوانه علم أنه أخيذ ، ومن فكر في كرب الخمار تنغصت عنده لذة النبيذ. من أحس بلفظ الحريق فوق جداره ، لم يصغ بسمعه لنغمة العود ورنة أوتاره ، رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولا. ولله در ساداتنا النقشبندية ، فإنهم بنوا أمرهم على هذه القضية ، فالحازم الذي يجعل الحب حيث يرقيه ويرفعه ويعليه ، ويخلصه ويزكيه ، ويطهر بصيرته عن نظر الأغيار ، ويوقفه تحت مجاري أقدار الواحد القهار ، ويسمعه النداء الدائم ، ابن آدم أنا يدك (١) اللازم ، وينزهه عن مدارك القوى الحسية والمشاعر الجسمية ، ويعبر به عن بحار المعارج الروحية ولذات المعارف السبوحية.

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له منها نصيب ولا سهم

اللهم اقسم لي ولأخي من ذلك أوفى قسم وأوفر نصيب ، وفرّغ قلوبنا من حب غيرك فإنه لا يجتمع مع حبك حب الغير يا سميع يا مجيب.

يا واحدا متعدد الأسماء

أدعوك في ختمي وفي مبدائي

وإليك أرفع راحتي متوسلا

بشفيعنا السامي على الشفعاء

أن تحفظ المولى الذي أفكاره

صاغت بديع النظم والإنشاء

ذاك السعيد محمد السامي إلى

أوج العلا لحيازة العلياء

المعتلي ببيان كل عويصة

والمعتني بغرائب الأنباء

هو أفقه الشعراء غير مدافع

في الشام بل هو أشعر الفقهاء

فاق الرفاق بفطنة وبلاغة

وبراعة وفصاحة وذكاء

لو كنت من فئة تقول بأغيد

ما ملت في التشبيه للغيداء

لله درك يا أديب زماننا

كيف اهتديت لغامض الأشياء

فالقول دونك مذهب ابن نباتة

أو رب زد في حيرتي وعنائي

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وفي سلك الدرر : بدك.

١٧

كم ذا تستر خيرة في حيرة

هذا المقام نهاية الصلحاء

فاسكن إذا سكن الفؤاد وعش به

متنعما بالرتبة القعساء

وإليكها رعبوبة جاءت على

قدر مجللة بفرط حياء

قدمت عذري والكريم مسامح

وهديتي التسليم غب دعائي

وله غير ذلك.

وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع ربيع الأول سنة أربع وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وله موشحة عارض بها الأديب حسين أفندي الصالحي يمدح بها حلب الشهباء وأفاضلها الأدباء ومطلعها :

حلب الشهبا وهاد النظر

ومهاد قد تعالت عن نظير

وهي مذكورة بتمامها في تاريخ ابن ميرو ، ولها شرح يظهر أنه لنفس المؤلف على طريقة الأدباء بين ما فيها من النكت الأدبية والمحسنات البديعية ، وقد أشرنا إليها في المقدمة.

وله مضمنا كما نقلناه عن تاريخ عبد الله ميرو قوله :

أقول وقد طال التصابي إلى الحمى

وأجفان عيني بالمدامع تهمع

لئن كان هذا الدمع يجري صبابة

على غير سعدى إنه لمضيع

وله مذيلا :

ألا إن الجمال يهاب طبعا

وتخضع عند رؤيته الأسود

وذاك لأن مولانا جميل

بنور جماله امتلأ الوجود

وله وقد أجاد :

زمان اللبيب على ضد ما

يريد فيلقى عناء طويلا

إذا ما ترجاه في ممكن

رأى واجبا جعله مستحيلا

ا ه.

١٨

١٠٨٧ ـ الشيخ سعد اليماني المتوفى سنة ١١٧٤

سعد بن سعيد الأهدلي المرادعي اليماني ، المقيم بحلب مدة تنوف على أربعين سنة.

صحب أول دخوله حلب الشيخ الصالح محمد هلال شيخ القادرية ، وجلس معه لتربية الأطفال بالمكتب الكائن بمسجد البهرمية بحلب مدة طويلة ، ثم أذن له في افتتاح الذكر وقراءة الأوراد وجعله خليفة له بحياته ، واجتمع عليه جماعة أخذوا عنه طريق القادرية. وسكن ... (١) ثم بجامع المشاطية وبه دفن في قبلية الجامع المذكور باجتماع كلمة جهلة من أهل تلك المحلة ومن إخوانه ، وقبله كذلك كان دفن شيخه المذكور في صحن زاويته المعروفة به بمحلة الجلّوم.

وكان الشيخ سعد المذكور معتقدا صالحا أقعد قبل وفاته ، وكان يحمل في محمل صغير على ظهر دابة لأي مكان كان. وكان شديد السواد كأنه نوبي ، إلا أنه كان يحدث أنه لم يمسه الرق وأنه من اليمن وخرج من تلك الناحية وهو صغير ، وهو ثقة فيما حدث.

توفي سابع عشرين ذي الحجة سنة أربع وسبعين وماية وألف ودفن من الغداة وقد ناهز الثمانين ، ولم يعقب. ا ه.

الكلام على جامع المشاطية :

هذا الجامع واقع في محلة المشاطية خارج بانقوسا ، ولا يعلم تاريخ بنائه ، غير أن في الصحن محرابا مزخرفا قليلا يدل شكل بنائه أنه مما بني في القرن التاسع أو العاشر ، ومنارته تدل على ذلك أيضا.

وقبليته مستطيلة طولها ١٣٧ قدما وعرضها ٣٧ قدما وذلك مع الجدران وفيها قبر المترجم كما تقدم. وهناك خزانتان ممتلئتان مصاحف مخطوطة وهي مهملة وفي حاجة إلى الترميم ، وبعضها جميل الخط يقتضي أن يحفظ في الخزائن ، وليس في القبلية من الآثار ما يستحق الذكر.

وله صحن واسع طوله ٩٠ قدما وعرضه ٤٢ ، وهناك قبر يعرف بقبر الشيخ إبراهيم

__________________

(١) فراغ في الأصل.

١٩

المشاطي لم أقف له على ترجمة ، وشمالي الصحن مصطبة واسعة فيها محراب كانت قديما مسجدا على حدة ، وقد كتب على ظاهر المحراب أن صاحب الخيرات الحاج محرم بن فتح الله سنة ١١٣٢.

وفي الجهة الغربية من الجامع زاوية لبني الناشد يظهر أنها بنيت في زمن الشيخ عبد القادر الناشد الكبير خليفة الشيخ سعد اليماني ، وقد كانت وفاته سنة ١٢٠٤ ولم أقف له على ترجمة ، ووقفت على تاريخ وفاته في مجموعة الشيخ عبد الرحمن المشاطي.

١٠٨٨ ـ حسين بن محمد الديري المتوفى سنة ١١٧٤

حسين بن محمد الديري ، نسبة إلى الدير بقرب رحبة مالك ، الحلبي الشافعي الشريف.

قرأ على والده المذكور ، وكان والده مشهورا بالصلاح يقرىء بعض المقدمات للمبتدئين ، ويقرىء بعض الأجزاء الحديثية في الأشهر الثلاث بأموي حلب ، واقتفى أثره ولده المترجم في القراءة واتخذ لفاقته التربة الخشابية الكائنة بمحلة باب قنسرين سكنا له ولعياله.

وتوفي سنة أربع وسبعين ومائة وألف سادس عشر جمادى الآخرة وأعقب ودفن (بياض بالأصل). ا ه (ابن ميرو).

أقول : لعله دفن في تربة الصالحين ، فإن أخاه الشيخ عبد القادر دفن فيها كما سيأتي في ترجمته.

١٠٨٩ ـ عبد الوهاب آغا شريف المتوفى سنة ١١٧٥

الحاج عبد الوهاب آغا ابن محمد ابن الحاج عثمان آغا ابن الشيخ عبيد الله ، وقيل إن محمد بن عمر بن عثمان بن عبيد الله أصله من حدة : قرية صغيرة في الحجاز بين جدة ومكة ، من عشيرة تيم التي ينسب إليها أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه.

كان رحمه‌الله يتعاطى التجارة وصار ذا ثروة طائلة ، وله شهادة في كتاب وقف عثمان

٢٠