إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

١١٩٢ ـ الشيخ إبراهيم الهلالي الملقب بالشيخ الكبير المتوفى سنة ١٢٣٨

الشيخ إبراهيم بن محمد بن دهمان ، الحلبي الشافعي القادري ، برهان الدين ، الفاضل الذي طوى على الفضل أديمه ، والعالم الذي انتشر به الكمال حديثه وقديمه ، من أشرق في أوج الكمال طالع سعده ، وارتقى على كاهل الكمال بنيان مجده ، واسطة عقد الأفاضل ، وكعبة طواف ذوي الفضائل والفواضل ، الفقيه الورع الزاهد ، والمحدث الصوفي العابد.

ولد بدارة عزة : قرية من أعمال حلب سنة خمس وخمسين وماية وألف ، ودخل أيام شبابه حلب واجتمع بخاله الشيخ العارف أبي بكر بن أحمد الهلالي القادري وأخذ عنه الطريقة واعتنى بشأنه.

ثم ارتحل إلى مصر سنة ثمان وسبعين ولازم الشيوخ في الأزهر وقرأ عليهم وحضر دروسهم ، وأكثر من الأخذ والاستفادة والسماع ، فقرأ على أبي داود سليمان بن الجمل وهو أجل من انتفع به ، والشيخ أحمد الفالوجي ، وسيدي محمد بن علي الصباغ ، وسيدي أبي عبد الله محمد الأمير ، والشهاب أحمد بن محمد الدردير ، وأبي الصلاح أحمد بن موسى العمروسي (١) ، وأبي الحسن علي بن أحمد الصعيدي المالكي ، وحسن غالي الجداوي ، ومحمد ابن حسن السمنبودي المنير ، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن الجوهري ، وصفي الدين محمد بن أحمد البخاري وغيرهم ، فأخذ عنهم ولازمهم وانتفع بهم.

وأخذ الطريقة الخلوتية عن سيدي الشيخ محمود بن يزيد الكوراني الكردي الشافعي خليفة الأستاذ الحفناوي.

وسمع على الكثير وانتفع ، واشتغل بالعلم والطريقة ، وتفوق ورأس على أقرانه وتقدم عليهم بوافر فضله وحسن بيانه.

ثم قدم إلى حلب سنة ثمان وتسعين وماية وألف ، فدرس بها ولزمه الناس. وبعد مجيئه مات ابن خاله الشيخ أبو الضياء هلال بن أبي بكر الحلبي القادري في أواخر سنة ثلاث ومائتين وألف ، فاستقر مكانه شيخا في زاويتهم الكائنة في محلة الجلّوم ، وأقام مجلس التوحيد

__________________

(١) في الأصل : العروسي.

٢٢١

والأذكار وأوقات المواعيد على العادة ، ولزمه أبناء الطريق ، واختلى الخلوات المتعددة ، ومع ذلك كان لا ينفك عن الإقراء والتحديث والإفادة.

ونقل الشيخ خليل أفندي المرادي في بعض تعليقاته أنه دخل حلب سنة خمس ومائتين وألف ، فاجتمع بالمترجم المرقوم ، وسمع من فوائده ، وزاره في زاويته وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية. ا ه (حلية البشر).

وترجمه الشيخ أبو الوفا الرفاعي فقال : إبراهيم بن محمد الشافعي الدار عزاني ، نسبة إلى دارة عزة من أعمال حلب ، وهي وقف على الجامع الكبير بحلب ، العالم الجليل المرشد المسلك.

قرأ على علماء عصره ، وأخذ الطريق عن سيدي محمود الكردي الخلوتي خليفة الأستاذ الكبير الحفني رضي‌الله‌عنهم. حصل طرفا صالحا من العلم في مصر ، وبقي مخشوشنا ضيق العيش مكتفيا بما يحصل له من معلوم الأزهر ، إلى أن حصل له الإذن بالتوجه إلى حلب ، فقدمها وجلس على سجادة القادرية في الزاوية الهلالية في محلة الجلّوم مكان خاله وجده الشيخ هلال والشيخ أبي بكر الهلالي قدست أسرارهم ، وكثرت تلامذته ومريدوه ، ورزق الحظ في الطريق ، واتسعت دنياه ولم يلق لها بالا ، وبقي على التقشف في الملبس.

وكان سمته سمت علماء مصر وأشياخها ، يلبس المقلة وهي الكسوة الخلوتية ، ويعتكف كل سنة مع الأخوان أربعين يوما خلوة قادرية خلوتية. ورزق إناثا وذكورا ، فالذكور محمد وعبد السلام وعبد اللطيف. وأطبق الناس على جلالة قدره وعظموه وهو حريّ بذلك.

وعمر إلى أن ناهز الثمانين ، وتوفي أواسط ربيع الأول سنة ١٢٤٨ ودفن في الزاوية مع أسلافه. وكان يحبني ويفضي إلي ببعض أسراره ، ولما حضرت جنازته أعطاني أولاده ورقة فيها نسخة تلقين بعد الدفن وقالوا : إن والدنا أوصانا أن تلقنه أنت بما في هذه الورقة على القبر ، ففعلت كما أوصى رحمه‌الله ورحم أسلافه آمين. ا ه.

حدثني الشيخ مصطفى النحاس وهو رجل معمر منور أدركته وقد ناهز التسعين من العمر ، وقد توفي في حدود سنة ١٣٢٠ ، بحكاية لطيفة عن الأستاذ المذكور لا بأس بإيرادها هنا ، وكذا سمعتها من الشيخ مصطفى الهلالي من ذرية المترجم ، قالا ما معناه :

٢٢٢

لما كان الأستاذ الشيخ إبراهيم بمصر صادفه أنه بقي يومين لم يذق طعاما لضيق ما في يده ، فخرج من الأزهر وشرع يطوف في شوارع مصر لعل الله يرسل له من يدعوه إلى طعام يسد به رمقه ، فدخل بعض الدروب فرأى دارا لها باب كبير ، وهو ينادي على صاحبه بلسان حاله : إن صاحب هذه الدار ذو نعمة شاملة وثروة طائلة ، فدخل الدار وهي ذات طابقين ، فلم يجد في الطابق التحتاني أحدا ، فدخل المطبخ فرأى هناك خزانة فيها ألوان من الطعام الفاخر ، فكان عامل الجوع يدفعه إلى التناول منه ونفسه الشريفة تأبى أن تتناول طعاما ليس ملكا له ولم يدع إليه ، وبقي على ذلك نحو ساعة وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وفي آخر الأمر أغلق الخزانة وخرج ولم يذق من الطعام شيئا ، وخرج من الدار قاصدا الأزهر.

أما صاحب الدار فكان قاعدا في بيت في الطابق العلوي ، وكان ينظر إليه من النافذة من حين دخوله إلى حين خروجه ، ولما أبصر منه ما أبصر فأخذه العجب وعلم أنه لم يدخل ولم يبق هذه المدة في المطبخ إلا لأمر عظيم ، وأحب الاستطلاع على كنه هذا الأمر ، فاستدعى خادمه وأمره بمناداة الشيخ إليه ، ولما حضر سأله عن أمره ، فلم يخف عليه شيئا منه ، فعظم الشيخ في عينه كثيرا خصوصا بعد ما علم أنه من طلاب الأزهر النابغين ، فاستدعى للحال شيخ الأزهر ودعا بعض أصدقائه وعقد نكاح بنته على الشيخ إبراهيم ، فبقيت معه مدة طويلة ، ولما حضر إلى حلب أحضرها معه وهي أم أولاده الذين ذكرهم الشيخ أبو الوفا الرفاعي في مجموعته.

هذا ما بقي في فكري من هذه الحكاية ، لأن بين سماعي لها من الشيخين المذكورين وبين تحريري لها هنا نحو عشرين سنة.

وترجمه تلميذه ومريده الشيخ عمر الطرابيشي في مجموعة له بخطه فقال :

هو الشيخ الإمام العلامة البحر الفهامة ، المحقق المدقق ، شيخ الإسلام والمسلمين في عصره ، وشيخ الفرقة الناجية في زمانه ، الجامع بين الشريعة والحقيقة ، والقامع لمن حاد عن جادة الطريقة ، الحائز قصبات السبق في تحقيق العلوم الشرعية ، وتدقيق الفنون العقلية والنقلية ، الفقيه المحدث المفسر الأثري النحوي الأصولي الصوفي النظار القانت الخاشع الأواه ، ولي الله بلا نزاع ، العارف بالله الداعي إلى الله الدار عزاني مولدا ، الأزهري قطنا ،

٢٢٣

الحلبي قطنا ومدفنا ، الإبراهيمي المنير والكوكب المضيء للسائرين ، الشافعي مذهبا ، القادري والخلوتي طريقة ، الرفاعي البدوي مشربا.

أخذ الطريق عن خاله صاحب الأحوال العلية والأنفاس الزكية ، صاحب المجاهدات والتقشف والرياضات ، سيدي الشيخ أبي بكر الهلالي ، فسلك على يديه ورباه أحسن تربية إلى أن ترعرع ، وقرأ جملة من الفقه والنحو وعلوم العربية ، ثم أذن له في الرحيل إلى مصر للمجاورة ، فجاور بالأزهر وتفقه على جملة من المشايخ العظام أهل تحقيق وتوفيق ، ولازم صحبة سيدي سليمان الجمل ، كان فقيها أنور ، وعمدة الفقهاء الشافعية في الأزهر ، له المؤلفات الحافلة ، منها حاشية على الجلالين ، وحاشية على المنهج ، وشرح الدلايل ، وشرح بانت سعاد وغير ذلك.

ثم أخبر أن خاله مات سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف ، فألهمه الغفور الودود بأن يأخذ العهد من سيدي الشيخ محمود الملقب بالكردي ، فسلك على يديه المقامات ، ولقنه الذكر بحسب قابليته ، وألبسه التاج وأذن له بالتسليك وإقامة الذكر والتكلم على الناس. وتسلم مجلس شيخه في حال حياة شيخه بالإذن الإلهي. ثم حصل الإذن بأن يرجع إلى حلب ويرشد الناس بها ، فرجع إلى حلب بعد إقامته في الأزهر إحدى وعشرين سنة في الجد والاجتهاد في العلم والطريق ، فعكفت عليه الناس من الآفاق ، يأتون من كل فج على قدم وساق ، لأخذ العلم والطريق ، وتحقيق المسائل والتدقيق.

ثم مرض ابن خاله الشيخ أحمد بن الشيخ أبي بكر ، فبعث وراء صاحب الترجمة وقال له : قد أذن لك بالجلوس على السجادة في طريقة القادرية في زاويتي ، فقال له الشيخ : إن شاء الله أنت تقوم من مرضك وترشد إخوانك ، فقال له : لا بل أنت قم وتسلم كما حصل الإذن ، فتسلم وسلك المريدين من أقرب طريق ، وأرشدهم إلى مقام التحقيق ، فتمت نفحاته ، وكثرت فتوحاته ، وصار متكلما على الناس بإرشادات القوم ، وصارت له الخلفاء المرشدون إلى دين الله القويم المتين.

وكان متبحرا في علمي الحقيقة والشريعة ، وكان جبلا لا تزحزحه الأهوال ، ولا تهزه نعماء الرجال ، ولا تظهر منه رائحة دعوى قط ، بل إذا أراد أن يستشهد لشيء يقول : كان خالي يفعل كذا أو يقول كذا ، أو كان شيخي الشيخ محمود الكردي يقول كذا أو

٢٢٤

يفعل كذا ، ولا ينسب له حالا ولا قالا.

وكان يحب العزلة عن الولاة فلا يأتي قاضيا ولا حاكما ولا كبيرا إلا عن ضرورة ، بل هم يأتونه متبركين بل طالبين لدعائه. وكان إذا طلبت منه مسألة علمية أو دعاء لأحد أو استشارة يجيب على الفور ، بل يمهل مقدار درجة أو أكثر أو أقل ، ثم يجيب بجواب سديد في غاية من التدقيق والتحقيق ، ولا يشير في أمر إلا ويكون فيه الصواب ، وإذا خالفه أحد في شيء ندم غاية الندم ، بل لا يسع أحد مخالفته.

وكان له أساليب عجيبة في علم السياسة والقيافة والفراسة ، فإذا تكلم مع الحكام قادهم إلى الحق بشعرة ، أو مع الصوفية بألطف إشارة ، ومع العوام والعلماء بأوضح عبارة.

وكان مجلسه وقارا وحياء ، وأتباعه إذا جلست حوله كأن الطير على رؤوسهم ، وهم معظمون وموقرون في قلوب الناس متبعون للسنة المحمدية مشهورون بالأدب والكمال ، فإنه كان مربيا لأخوانه لا يسامحهم في هفواتهم ولا يواجههم بها ، بل يعرض بمن وقع في هفوة كما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) فصاحب الهفوة يعلم أنه المراد من بين سائر الحاضرين.

ومرة رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فلاة ناصبا صيوانا وهو يصلي إماما بالناس ، فعجلت المشي لإدراك الصلاة معه ، فسلم تسليمتين فجئت من على يمينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقبل يده الشريفة ، فنظرت إلى يدي فرأيت فيها غمرا (١) لا تصلح لأخذ يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأحنيت ظهري وقبلت يده بفمي ولم أمس يدي بيده لما فيها من الغمر ، فنظر إليّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : لابد أن الهلالية أهل أدب ، فشهد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن انتسب للهلالية بالأدب ، ولم أر أحدا منهم مثلي متضمخا بالأوساخ ، وصار منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما صار فكيف هم. وكانت كراماته تظهر على يده وهو يخفيها.

وقال له مرة أحد الولاة : أريد أن أجعل لك قناقا وحرما ، فقال له : نعم الأمير

__________________

(١) الغمر : السّهك وريح اللحم وما يعلق باليد من دسمه.

٢٢٥

إذا أتى إلى الفقير ، وبئس الفقير إذا ذهب إلى الأمير. وكانت الولاة وإن كبر مقامهم الدنيوي لا يرضون إلا بتقبيل قدمه أو ركبته ، وهذا شيء طويل الذيل فلا نطيل بذكره.

والحاصل أنه كان ممن جمع بين العلم والعمل والرياسة وحسن السمت وحسن الخلق والسخاء والحياء. عاش نحو الثمانين سنة ما عهدت له صبوة ، ومآثره وكراماته غزيرة.

وكانت وفاته سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف ، ودفن في زاويته المسماة باليوسفية بحلب. وقد تشرفت بأخذ العهد منه وقد كنت حديث السن ومع ذلك أعي ما يقول وأصغي له وأعمل به. ا ه.

أقول : أجمعت كلمة من أدركناهم من الطاعنين في السن على جلالة قدر المترجم والثناء على علمه وفضله وورعه وزهده وحسن إرشاده ، وعلى هذه الشاكلة كان علماء الطريق وبهذه الصفات كانوا مرشدين حقا ، ولكن قد تبدلت الآن هذه الأوضاع وتغيرت تلك الأحوال واختلط الحابل بالنابل وتصدى للإرشاد من هو في حاجة إليه ، وأصبح الحال كما قال الشاعر :

أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

ولا ريب أن المتصدين للإرشاد والتسليك إذا اتسموا بتلك السمات الكريمة واتصفوا بهذه المزايا العالية يعودون بجلائل الفوائد على هذه الأمة ، ويؤدي ذلك إلى ترقية أخلاقها وتحسين حالتها ، وإنما الأعمال بالنيات والله من وراء القصد.

١١٩٣ ـ أحمد بن محمد الرفاعي شقيق أبي الوفا المتوفى سنة ١٢٣٨

قال أبو الوفا في مجموعته :

أحمد بن محمد بن عمر الرفاعي ، الشريف الحافظ المتقن المجود الصالح العابد ، أخي وابن أبي وأمي ومن أنا وإياه ربينا في حجر واحد.

كان رحمه‌الله نظيف السريرة حسن السيرة ، لا يعرف المماراة ولا التلون. تزوج بابنة مصطفى الوفائي أولا ، ثم بابنة المولوي وأجلسته في التكية الإخلاصية ثانيا ، من أول سنة ١٢٢٢ ، وقام بالخدمة قياما تماما ، ولازم هناك على الصلوات الخمس والأوراد ،

٢٢٦

يعتكف الأبعينية معي حيث كنت أعتكف هناك. وكان رحمه‌الله يعرف لي حقوقا كثيرة.

ولم يزل على ذلك إلى أن مرض يومين وتوفي بعد وفاة الشيخ إبراهيم الدار عزاني بيومين سنة ١٢٣٨ ، ودفن على عمه عبد الله غربي قبر والده وجده. ا ه.

١١٩٤ ـ الشيخ مصطفى الزويتيني المتوفى سنة ١٢٣٨

الشيخ مصطفى بن عبد الله الزويتيني ، الحلبي موطنا ، الشافعي مذهبا ، القادري طريقة.

كان زاهدا في الدنيا ، عالما جليلا متفننا ، مكبا على طلب العلم وإفادته للناس ، وكان شديد الشفقة والرأفة على خلق الله تعالى. قرأ على الشيخ قاسم المغربي ، واستقام في مدرسة النابلسي وراء الجامع الكبير الأموي يفيد الناس ، وقرأ عليه جماعة ، منهم الشيخ محمد الترمانيني ، والشيخ محمد الخانطوماني ، والشيخ درويش الساعاتي ، والشيخ محمد المشهور بابن الجذبة ، وابنه الشيخ عقيل الزويتيني ، وانتفع به خلق كثير.

سافر إلى القسطنطينية سنة ١٢٢٤ واستقام هناك مدة ، ثم عاد إلى حلب. وكان فقير الحال جدا.

توفي سنة ١٢٣٨ ، ودفن في تربة السفيري ، وعلى قبره بناء بالأحجار رحمه‌الله. ا ه. (أبو الوفا).

١١٩٥ ـ أبو بكر الكوراني المتوفى سنة ١٢٤١

أبو بكر بن مصطفى بن أبي بكر الكوراني الحنفي ، الشريف ابن الشريف. كان فاضلا أديبا سليم الباطن. قرأ على والده وعلى عمر الشريف الخفاف وعلى إسماعيل المواهبي ، وحصل طرفا من الفقه.

وكان كثير الضحك في الجد والهزل ، ثم صار رئيس الكتاب بالمحكمة الكبرى ، وصار ما بين بعد قصر البربر (هكذا) القاضي أيام راغب باشا والي حلب سنة ١٢٢٧ ، ثم صار سنة ١٢٣٨ نقيب الأشراف ، إلى أن توفي سنة ١٢٤١ رحمه‌الله تعالى.

٢٢٧

وكان بيننا وبينه قرابة من جهة الإناث ، وكان كثير الصمت إلا من الضحك ، لا يذكر أحدا بسوء ، حسن الأخلاق لين العريكة. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).

وعثرت على أوراق بخطه مقتطعة من مجموع فيها شيء من شعره ، من ذلك ما كتبه نظما إلى محمد أفندي اللبق مجاوبا له عن قصيدة وردت منه يعاتبه فيها على بعض الأمور ، قال :

لافض فوك لقد أبدعت في الكلم

يا سيدا فاضلا يا عالي الهمم

يا من غدا بين أهل الفضل جوهرة

وفضله وذكاه شاع في الأمم

أنت الذي فقت حسان الذي شملت

أشعاره غررا في سالف القدم

أنت الذي فقت أسلافا فما أحد

من مشبه لهم في العرب والعجم

أنت الذي حزت في الشهباء منزلة

في الشعر قلّ وفي نثر وفي كرم

قد نلت ما رمت من رب العباد وقد

حباك ربك بالأفضال والنعم

لا تعتبن فمثلي لا اقتدار له

على امتداح صديق خص بالحكم

فاقبل بحقك عذرا لست موضحه

يا حبذا مدحه بدئي ومختتمي

١١٩٦ ـ الشيخ علي بن جانم الإدلبي المتوفى سنة ١٢٤٢

الشيخ علي بن جانم الإدلبي. كان من الشعراء المجيدين ، موصوف بسرعة الجواب والاستحضار.

وله شعر رائق وبداهة قوية ونكات شهية ، منها أنه سافر مرة إلى بلدة يافا ولم يكن يعرف بها أحدا ، فنزل في مسجدها الجامع في حجرة الخطيب ، إذ كان الغالب إذ ذاك أن الجامع مأوى الغريب ، ثم توجه يطوف في أنحاء البلدة لقضاء حاجياته ، وعند المساء عاد للبيت فوجد الخطيب قد دفع متاعه لرجل خارج الجامع من أصحاب الحوانيت وأوصاه يدفعه إلى الشيخ الإدلبي متى حضر ، فلما أعلمه الرجل بما فعل الخطيب كتب على باب حجرة الخطيب :

خطرت ليافا أبتغي الجود والندى

وأصبحت في ثوب العفافة أرفل

فقفّل أبواب الرجا دون مطمعي

خطيب بيافا تبّ ذاك المقفّل

٢٢٨

ومن قصائده مادحا السيد محمد أفندي العياشي السالف ذكره بقوله :

مطالع الحسن والإحسان والحسنى

لاحت لنا من مجالي وجهك الأسنى

لدى ربوع الرضا ضاءت صباحته

إشراقها عن مصابيح الغنى أغنى

وقد تغنى هزار السعد مذ بزغت

شمس السيادة منها أشرق المغنى

هلم يا منشد الألحان غن لنا

راق الزمان وفي أفراحنا دعنا

وهات قرقف أفراحي تطوف بها

هيفاء تزري غصون الروضة الغنا

لمياء إن خالستنا سحر مقلتها

سحيرا اختلست ألبابنا منا

خود سقتنا الهوى من كأس وجنتها

عن السوى في الهوى كاساتها صنا

غزالة غازلتنا غزل مقلتها

فن التصابي جعلناه لنا فنا

وافت تعاهدنا حفظ الوفاء لها

كلّا عهود الوفا والله ما خنا

يا ظبية فتنت قلبا له ملكت

به الظبا فتكت عن أعين وسنى

لنا قلوب بأسما قط ما ولعت

ولا سليمى ولا علوى ولا لبنى

لكن لها وله بالأكرمين وهم

آباء أحمد بشراهم بذا يمنا

بشر به حسنا كالبدر طلعته

ألمى أزجّ جميل أكمل أقنى

فالصبح يفترّ عن لألاء غرته

والفجر لما بدا عن فرقه أثنى

أنّى يضاهي جمالا والعناية قد

مدته من جده خير الورى أنّى

يا حسن ما وافقت أيام مولده

لدى ربيعين جاءت تزدهي حسنا

لا زال ينشأ والأيام باسمة

من طيبها لا يرى أبهى ولا أجنى

من آل مجد عريض طاب محتدهم

سموا بعز رفيع أشرف المعنى

جرثومة الفخر تروي عن محامدهم

وسودد الفضل في تمداحهم غنّى

لما سموا ببني العيّاش عاش بهم

نزيل رحب حماهم عيشه الأهنى

قرت بهم عين مرقاة العلا فعلوا

أولي النهى والسهى من قدرهم أدنى

آل البتول بنو الزهراء زاكية

أعرافهم نشرها قد عطر الدهنا

هم الكرام هم للواردين وهم

للائذين تراهم منهلا حصنا

هم الكماة حماة الخافقين وهم

لكل بيت رفيع قد غدوا ركنا

ألا أباهي به بكر القريض ألا

رامت بأوصافهم تجلى لهم حسنى

٢٢٩

وهل أرى كفؤها إلا أبا حسن

وهل لها غير ناديه حمى أمنا

نجل ابنه حسن أضحى يؤرخها

فردا هدى أحمد الأوصاف والمثنى

وله غير ذلك من الأشعار. توفي سنة ١٢٤٢.

١١٩٧ ـ إسماعيل أفندي شريف المتوفى سنة ١٢٤٢

إسماعيل أفندي ابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب أفندي شريف.

كان والده من كبار التجار في حلب ، وعاش من العمر تسعين عاما. وأما المترجم فإنه نشأ في التجارة كأبيه ، ثم صار متسلم حلب سنة ١٢٤٠ ، وعين على الحج بوظيفة أمين الصرة وجدد دار الحكومة في جسر الشغر كما هو محرر على بابها ، وذلك يفيد أنه كان حاكما فيها. وفي سنة ١٢٤٢ وهي السنة التي توفي فيها وقف أملاكه على ذريته وذرية أخيه نعمان أفندي ، وشرط لطلبة العلم المجاورين في المدرسة

القرناصية التي هي بالقرب من دار المترجم في كل شهر ألفا ومائتي غرش ، وهو الواقف الثاني على هذه المدرسة (١).

وكانت وفاته سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين في الشام.

وأخوه نعمان أفندي صار نقيب الأشراف في حلب ، ومنح رتبة موالي أعدمته الحكومة في قرية تلشعير وقبره معروف فيها.

وسبب ذلك أن الوالي الذي كان وقتئذ في حلب طلب منه مائتي ليرة لقاء وظيفة المتسلمية التي كانت في عهدة أخيه إسماعيل ، فامتنع من ذلك مؤملا أن ينالها بما كان له من النفوذ ، وصار يتعاطى الأسباب في عزل الوالي ، ويكتب إلى الآستانة في سوء إدارته وسيىء سيرته ، فبلغ الوالي ذلك وحدث بهذا الحديث لأحمد بيك ابن إبراهيم باشا ، فحينئذ دفع هذه الدراهم أحمد بك وصار متسلما ، وعندئذ استحصل الوالي أمرا من الآستانة يقضي بذهاب المترجم إلى عينتاب لتحقيق بعض الأمور عن اليكيجارية ، فحينما وصل إلى قرية تل شعير من أعمال أعزاز بات بها ، فأصبح مقتولا من قبل الجند الذين في رفاقته ، ودفن في هذه القرية. ويقال إن ذلك كان بإغراء الوالي لقاء معاكسته له.

__________________

(١) انظر الحديث عن جامع القرناصية في الجزء الخامس ص : ٥٧.

٢٣٠

ومن آثاره بناء سبيل أمام مخفر باب النصر في أول الجادة التي تصعد منها إلى محلة الفرافرة ، وقد توهن في المدة الأخيرة فجعلته دائرة الأوقاف دكانا وآجرته وذلك سنة ١٣٤٣.

وخلف المترجم من الأولاد سعيد أفندي والحاج يوسف باشا المشهور. أما سعيد أفندي فإنه حينما أتى إبراهيم باشا المصري إلى هذه البلاد استصحبه معه إلى حمص وحماة ، حينما توجه للحرب التي كانت بينه وبين الدولة العثمانية هناك وكلفه أن يصرف على عساكره وغرمه أموالا طائلة ، فمات قهرا سنة ١٢٥١ وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وستأتي ترجمة يوسف باشا إن شاء الله تعالى.

١١٩٨ ـ أحمد بن إبراهيم الخلاصي الطبيب المتوفى سنة ١٢٤٤

أحمد بن إبراهيم الخلاصي ، الطبيب الخطيب بجامع الصروي بالبياضة.

أخذ الطريق الأحمدي من محمد الملثم الشريف ، وأقام التوحيد بزاوية أبي ذر في محلة الجبيل.

كان حذقا بالطب. كان لي زميلا في الحج سنة ١٢٣٠ ، واختلى خلوة أربعينية في زاوية أبي ذر ، وأخذ الطريق عن عبد المعطي زوين ، وصار يختلي خلوة شاذلية.

توفي سنة ١٢٤٤. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).

وهو أول من عرف من بني الخلاصي الأطباء.

١١٩٩ ـ أحمد بن عبد الله الجابري المتوفى سنة ١٢٤٤

الشيخ أحمد بن عبد الله بن مصطفى بن أحمد الجابري الشريف ، أمه من بيت الحجازي الباني.

ولد سنة ١١٩٤ ، ونشأ في حجر والده ، وطلب العلم وحصل منه طرفا صالحا ، وقرأ على قاسم المغربي وعلى عمر الخفاف وصالح بن سلطان وغيرهم.

٢٣١

وكان ذكيا فطنا ذا شهامة ووجاهة وجثة.

حج سنة ١٢١٠ في حياة والده ، وكان لي حبيبا ولقلبي محبوبا ، وكان لا يفضي بأسراره لأحد غيري.

تولى فتوى حلب سنة ١٢٢٣ وكان له سيرة حسنة عند جميع الناس ، وكان معتمد الوزراء لهم فيه ظن حسن ، يكرمونه ويوقرونه ويعتبرونه. وكان محلول القلم باللسان التركي منشئا أديبا شاعرا يقصده الناس لعمل التساويد الرفيعة ، وكان ورعا في أمر الفتوى مدققا ، بقي إلى سنة ١٢٤٤. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).

وللشيخ عبد القادر الحسبي مهنئا أحمد أفندي المذكور بزواجه سنة ١٢١٢ :

وافت على سجع الحمام

تشدو الحداة من الهيام

والروض مخضلا تراه

كأنه سقي الغمام

وترى الغصون تمايلت

طربا كأن بها الغرام

وغدا بشير الأنس يعلن

بابتهاج وابتسام

لزفاف من قد جاز من

أسلافه أعلى مقام

هو أحمد الأوصاف

والأفعال سلمه السلام

لا غرو إذ هو نجل من

فيه المحاسن بالتمام

الفضل والإفضال مع

حسن البلاغة في الكلام

شهدت له كتب العلوم

بأنه مفتي الأنام

وقضت له أهل الفضائل

أنه اليوم إمام

فبذاته للمستفيد على

الإفادة قد أقام

لا زال محفوفا بألطاف

العليّ على الدوام

فلقد أتيت مؤرخا

هذا زفاف ابن الكرام

١٢١٢

وللشيخ عبد القادر الضرير الحافظ مادحا أحمد أفندي المذكور :

شرّفت يا نجل الكرام ونورت

فيك الديار وغردت أطيارها

٢٣٢

واستبشرت فيك الأكارم وانجلت

أسرارها وتبددت أكدارها

هذي الرياض تمايلت أغصانها

طربا بكم وتبسمت أزهارها

والورق صادحة على أفنانها

ولها يلذ بمدحكم تذكارها

إن الأكارم حيث حلوا بقعة

طابت معالمها وأكرم جارها

فلتهنؤوا يا سادة سادوا الورى

وببلدة الشهباء هم أقمارها

شيدتم للعلم بيتا لم تزل

أركانه تهدي الورى أنوارها

لا زلتم في ظل عز دائم

مع رفعة يسمو بكم إظهارها

يا من إذا أمّ النزيل ديارهم

فاضت عليه من الندى أنهارها

عذرا لمادحك الذي بطشت به

أيدي الزمان ومكنت أظفارها

فامنحه يا مولاي منك قبول ما

أهدى إليك وإن وهى مقدارها

أنتم كرام لا يزال مريدكم

في غبطة تبقى بكم آثارها

ا ه (من مجموعة عند مصطفى أفندي اليكن).

١٢٠٠ ـ الشيخ محمد بن عثمان العقيلي المتوفى سنة ١٢٤٥

الشيخ محمد بن عثمان بن عبد الرزاق (١) بن إبراهيم بن أحمد العمري العقيلي الحلبي الشافعي ، العالم الفقيه الفاضل الديّن الصالح الورع الزاهد المتفنن العابد.

مولده سنة ثلاث وستين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده ، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وتلاه وجوده ، وحفظ الشاطبية ، وأخذ القراءات للرواة السبع بالإتقان من طريق الشاطبية ، واشتغل بتحصيل العلوم ، وأخذ عن والده وانتفع به وتخرج عليه وأكثر من الاستفادة لديه ، وسلّكه وأجازه بالإجازة العامة ، وأجاز له جماعة من المحدثين غب القراءة والسماع ، منهم عطاء الله بن أحمد المصري نزيل مكة ، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي الحلبي ، والشهاب أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي ، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني الحلبي وآخرون.

__________________

(١) في «حلية البشر» : عبد الرحمن.

٢٣٣

ولما مات والده في المحرم سنة ثلاث وتسعين وماية وألف قام خليفة بعده ، كما خلفه ولزمه تلامذة والده وأحبابه. وأقام الأذكار والتوحيد ، واشتغل بإلقاء الدروس.

واجتمع بالسيد محمد خليل المرادي سنة خمس ومائتين وألف وأخذ كل منهما عن الآخر واستجاز كل الآخر.

وكان على طريق مستقيم ومنهج قويم ، ولم يزل على قدم التقوى والعبادة والإفادة والاستفادة وإقامة الأذكار وإرشاد الناس إلى أن اختار الآخرة ، والرحلة إلى الدار الفاخرة. بعد ألف ومائتين وخمسة. ا ه. (حلية البشر).

أقول : كانت وفاته رحمه‌الله سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين ، ودفن مع آبائه وأجداده في تربة السيد علي. وقال في «حلية البشر» بعد قوله في عمود النسب العمري العقيلي : (وتقدم بقية نسبه في ترجمة أخيه عبد الرحمن أبي البركات وأبيه عثمان أبي الفضل في حرف العين). ولم أر ترجمة لأخيه في الكتاب المذكور ولا لأبيه ، على أن أباه من رجال القرن الثاني عشر ، وقد ترجمه العلامة المرادي في «سلك الدرر» ولم يذكر تتمة نسبه. وقد استخرجت ذلك من النسب المحفوظ عند العائلة المذكورة فقال : إن أحمد المتقدم هو ابن عبد الرزاق بن شهاب الدين أحمد بن يوسف ابن الشيخ صالح عقيل بن أبي بكر عبد الرحمن بن برهان الدين بن شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن الشيخ أحمد سويدان ابن الشيخ عقيل المنبجي قدس‌سره ابن أحمد البطايحي بن زين الدين عمر ابن سالم بن عبد الله الزاهد ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

وأما عبد الرحمن أخو المترجم فقد كان عالما فاضلا أيضا ، وتولى إفتاء الشافعية بحلب ، وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين ودفن في التربة المذكورة ، وخلفه على السجادة ولده الشيخ أحمد ، ولم تطل مدته سوى سنة واحدة ، فإنه في سنة ست وأربعين توجه إلى الحجاز وتوفي هناك في تلك السنة ، وخلفه ولده الشيخ عبد الرحمن وتوفي سنة ١٢٧٠ ، وخلفه الشيخ أحمد ابن الشيخ عبد الرحمن وتوفي سنة ١٣٠٦.

١٢٠١ ـ الشيخ محمد بن عبد الكريم الترمانيني المتوفى سنة ١٢٥٠

الشيخ محمد نور الدين بن عبد الكريم بن عيسى بن أحمد بن نعمة الله بن علي الحلبي

٢٣٤

الترمانيني (١) الأزهري الشافعي ، مفتي الشافعية في الديار الحلبية.

كان آية من آيات الفضل ونابغة من نوابغ الدهر علما وعملا وذكاء ونبلا وخلقا.

ولد في قرية ترمانين في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وماية وألف ، وبعد أن حفظ القرآن العظيم وقرأ مقدمات العلوم العزبية والدينية على والده وعلى بعض فضلاء حلب رحل إلى الجامع الأزهر في مصر ، وذلك في سنة عشرين ومائتين ، فعكف فيه على تحصيل الفنون والعلوم ولازم دروس أعيان علماء الآزهر كالشيخ محمد الشنواني والشيخ حسن القويسني والشيخ حسن العطار والشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ الفضالي وغيرهم من أفاضل الجامع الأزهر ، فما لبث بضع سنين حتى مهر وبهر. ثم عاد إلى حلب سنة ثلاث وثلاثين وكان العلم فيها آخذا في الانحطاط لسبب الأوبئة التي حصلت في حلب ، وقصفت يد المنون غير واحد من العلماء فيها ، وما كاد يستقر أمره حتى اشتهر فضله وعلا ذكره وهرع إليه الأهلون ، فتصدر للإفتاء والتدريس وصار مدرسا في الجامع الأموي الكبير ومحدثا في مدرسة العثمانية ومدرسا للمدرسة القرناصية.

وفي سنة ثمان وثلاثين أسند إليه منصب الإفتاء على مذهب الإمام الشافعي وصار مدرسا في المدرسة الرحيمية بالقرب من جامع المستدامية وسكن في الدار الملاصقة للمدرسة الموقوفة على من كان مدرسا فيها عملا بالتعامل القديم ، ولم يأل جهدا في نشر العلم والإرشاد.

ثم شرع في التأليف فألف حاشية على منهج الطلاب في مذهب الشافعي في مجلدين ، وهي موجودة بخطه عند حفيده الفاضل صديقنا الشيخ إبراهيم ابتدأ في تأليفها حينما كان مجاورا في الأزهر وأتمها في حلب. ومما قاله في آخرها : وقد وافق الفراغ من تتميمها ليلة الجمعة في أول ليلة خلت من شهر رمضان لسنة تسع وأربعين ومائتين بعد الألف من الهجرة ، وذلك بمدرسة الرحيمية في زمن قلت فيه الرغبات وانعدمت فيه المروءات واستوى

__________________

(١) نسبة لترمانين وهي قرية واقعة غربي حلب تبعد عنها ثماني ساعات ، وهو فيها من بيت معروف بالعلم والصلاح ويدعى بيت الشيخ نسبة لجد أبيه الشيخ أحمد المدفون في القرية المذكورة والمتوفى سنة ١١٨٦ ، وكان عالما عاملا وقبره لا زال موجودا فيها ومكتوب عليه :

رحم الله ضريحا

لذوي الحاجات يقصد

ضم قطب الوقت أرّخ

شيخ أهل العصر أحمد

ومالكو القرية الآن من أحفاده.

٢٣٥

فيه المؤمن والكافر والتقي والفاجر ، وذلك زمن استيلاء الدولة المصرية على الأقطار الشامية التي كانت على العباد من أعظم الرزية ... إلخ.

وله شرح على عقود الجمان في المعاني والبيان سلك فيه طريقة المتقدمين في ايجاز العبارة وحسن البلاغة ، فرغ من تأليفه في جمادى الثانية سنة ١٢٥٠ في الرحيمية كما ذكر في آخره. وله مجموعة فتاوي على مذهب الشافعي مشتملة على الحوادث التي سئل عنها وأجاب. وله شرح لطيف على الآجرومية في النحو ألفه باسم ولده الشيخ عبد السلام. وله شرح على متن التهذيب في المنطق.

وسرح في ميادين الأدب فكان له في النظم والنثر يد طولى وقدم راسخة ، وله مجموعة مشتملة على غرر القصائد والأشعار والمحاورات الأدبية التي جرت بينه وبين زملائه المجاورين أيام التحصيل.

ومن بديع شعره تخميسه لقصيدة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي وهو :

ما هذه الدار للأخيار من دار

إن كنت تدري فما ذا الهم يا داري

واصبر إذا دارت الأيام أو دار

من عادة الدهر صفو بعد أكدار

فلا تكن فيه في هم وأكدار

إن التغير والتبديل شيمته

فارتح وكن رجلا طابت سريرته

وإن أصابك من دهر مضرّته

صبرا فأي امرىء دامت مسرته

وأي دهر تراه غير غدّار

إياك تغترّ والأوقات تصرفها

إلى المعاصي والأغيار تعرفها

واغرس ثمار التقى والزهد تقطفها

واترك غرورك بالدنيا فزخرفها

غر الفراش فأرمى النفس في النار

وإن رأيت حقودا في رداك سعى

وجدّ في البغي والإيذاء واتسعا

فاسمع لقولي وكن للنصح مستمعا

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا

يؤذى برجم فيعطي خير أثمار

من رام تصفو له أيامه غلطا

لا بد لليسر من عسر وإن سخطا

فكن إذا جادت الأيام منبسطا

واصبر إذا ضقت ذرعا والزمان سطا

٢٣٦

لا يحصل اليسر إلا بعد إعسار

فلا تكن في أمور الدهر في هوس

وفي تهانيه كن منها كمقتبس

وقل لمن رام صفوا غير منعكس

لم يخل من نكد الأيام ذو نفس

حتى الحجارة في بلوى بنقّار

للموت لا تنس بل كن خائفا حذرا

واعمل لدار البقا ما دمت منتظرا

وإن ترد منصب السادات والأمرا

دع التفكر في دنياك محتقرا

عظيم لذاتها تحظى بأسرار

واترك أخا الجهل يسعى في ضلالته

ولا تجالسه تكسب من رذالته

عليك بالعلم تحظى في جلالته

إياك والجهل فارغب في إزالته

لابد يغتر من في ظلمة ساري

إن كنت تقبل مني ما أقول تجز

على صراط قويم والكمال تحز

فزن كلامي بميزان العقول ورز

لا تصحبنّ سوى ذي الفضل منه تفز

وإن صحبت جهولا فزت بالعار

اسمع كلاما صحيحا غير مشتبه

مع من أحب يكون المرء فانتبه

فاصحب كريما ظريفا في تأدّبه

من يصحب البوم يأتي للخراب به

والعطر يكسبه أصحاب عطّار

لا تأس من حاسد آذتك جفوته

وقد أهاجت بك النيران سطوته

فالعود ألحقه بالطيب حرقته

وفي امتحان الفتى تبدو فضيلته

لا تعرف الخيل إلا يوم مضمار

كن خائف الله فيما أنت تعلمه

من راقب عل الله يرحمه

تب توبة من عظيم الجرم تعدمه

إياك تنسى حقير الذنب تعظمه

من القراريط يأتي كل قنطار

وماء وجهك عن قبح المذلة صن

ولا تسل من لئيم حاجة فتهن

وإن سئلت فجد مما منحت ومن

وقم بوسعك في كسب الحلال وكن

في صرفه بين تبذير وإقتار

إياك من مال أوقاف معطّلة

أو اكتساب بأسباب محرمة

وقل لمن كسبه من مال محكمة

فلس الحلال ولا دينار مظلمة

٢٣٧

شتان ما بين نيران وأنوار

يا ذا الذي همه في القوت أشغله

عن المعاد وعن زاد يحصله

دع عنك هذا وخذ فيما خلقت له

على الإله توكل دائما فله

مشيئة في الورى تمضي بأقدار

الرزق يأتيك لا بالجد والحيل

فارتح وخذ في اكتساب العلم والعمل

واسمع كلامي فإني لست بالجدل

جربت دهري فما أبقى التجلد لي

شيئا أروم كأني نلت أوطاري

لم يبق شيء عليه لست مطّلعا

في هذه الدار ما قد قيل أو سمعا

وبعد هذا عصاني الدهر وامتنعا

وحاربتني الليالي والأنام معا

بأسهم البين حتى قل أنصاري

وخانني بعض من عاشرته وشهد

بشقوتي قلت صبرا يا زمان فزد

أأختشي من جهول للإله عند

وقد دهتني أمور لو على الفلك الدّ

وّار تلقى لأضحى غير دوّار

كم لذة ما حظي غيري بأوضعها

حظيت منها بأعلاها وارفعها

ثم انقضت هل ترى دهري بمرجعها

والحمد لله في الأحوال أجمعها

والشكر لله في جهر وإسرار

وله تخميس أبيات للشيخ عبد الغني النابلسي في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في مطلعه :

يا خير من للسموات العلا عرجا

وقد رقا فوق كل الأنبياء درجا

على المسرات جيش الضر قد خرجا

يا أشرف الرسل ضاقت فاسأل الفرجا

فإنني بك قد أضمرت ألف رجا

ومنه :

فأنت أنقذتنا بالنور من ظلم

وسقتنا لطريق الحق في حكم

فكيف نحصي لما أوليت من نعم

وأنت فضلتنا قدما على أمم

مضت وعنا رفعت الإثم والحرجا

٢٣٨

وكان المترجم يوما في بستان قيصر ومعه الشيخ عبد القادر الحسبي نائب المحكمة الشرعية ونخبة من الفضلاء والأدباء ، وقد غنى المغنون ، وكانت البلابل تغرد فوق الأغصان ، وقد طرب الحاضرون ، فارتجل الشيخ عبد القادر أبياتا خاطب بها المترجم مختبرا لقريحته :

ما للبلابل قد علت أصواتها

وغدت على أفنانها متصادحه

وتقننت بالصدح فوق رؤوسنا

من غير أن نومي لهن بجارحه

أتظن أن الصدح منها فوق ما

يبديه منا من أجاد قرائحه

فأتت تفاخرنا بحسن بيانها

ويريد كل أن يبين ملائحه

فاكشف لنا هذا الذي قد رابنا

لازلت وافر كل خير رابحه

فأجابه المترجم ارتجالا :

ما ظنها ذاك التفاخر بل رأت

منا وجوها في الهوى متناصحه

وغدا البنان مزركشا أوصاف من

بهواه أفئدة الورى متطافحه

فأتت تساعدنا بنظم مديحه

وتبث أوصافا لديه راحجه

إذ كل من ذاق الغرام يسره

ذكر الحبيب ولو طيورا صادحه

هذا الذي قد لاح لي من صدحها

يا من له عين المعالي طامحه

وكان المترجم جميل الوجه أبيض اللون مشربا بحمرة طلق الوجه حلو المحاضرة قوي الحجة مهابا مقداما ميالا لركوب الخيل واقتنائها ، يتعاطى مع التدريس ونشر العلم الزراعة والتجارة ، محبا لفعل الخير واصطناع المعروف ، متباعدا عن مخالطة الأمراء والحكام محبوبا لديهم ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، مدافعا عن وطنه خصوصا في زمن الحكومة المصرية ، فإنه كان يجسر على أميرها إبراهيم باشا وينهاه وجنوده عن ارتكاب المظالم واقتراف الآثام.

وقبل دخول إبراهيم باشا المصري إلى هذه الديار وقعت حادثة مهمة كان للمترجم فيها اليد البيضاء على كثير من علماء وأعيان حلب ، وذلك أنهم كانوا اجتمعوا ذات ليلة بأمر من السلطان محمود ووقّعوا على فتوى تقضي بأن إبراهيم باشا من أهل البغي ، وأنه خارج عن إمام المسلمين محمود بغير حق ، وأنه يجب على كل من له قدرة على القتال أن

٢٣٩

ينصر الإمام عليه وعلى أتباعه ، فبعد دخول إبراهيم باشا إلى حلب ذهب بعض من لا خلاق له وأعلم الباشا بذلك ، فألقى القبض على الكثير وحبسهم ممن وقّعوا هذه الفتوى منهم عبد الرحمن أفندي المدرس مفتي الحنفية في حلب ، والشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي وغيرهم ، ثم أرسل إلى المترجم يستفتيه عن حكم جماعة أخذوا يعيثون في الأرض فسادا ويلقون بذور الشقاق بين الأهالي ويحرضونهم على قتال أميرهم القائم بنصرتهم والمنقذ لهم من حكم الأتراك وربقة أسرهم ، فاعتذر المترجم وقتئذ وطلب مهلة في إعطاء الجواب إلى حين مراجعة النقول الشرعية في مثل هذه القضية ، وفي خلالها هيأ أسباب الرحلة واستناب كلا من أخيه الشيخ أحمد وتلميذه الشيخ محمد الخانطوماني والشيخ أحمد الحجار في دروسه وكفالة عائلته ، وحرر الجواب وبيّن فيه أن الفتوى على قدر النص ، وأنه لا يسأل عن ذلك لأنهم إنما أفتوا بما اتصل بهم ، وأنهم إذا لم يثبتوا خروج إبراهيم باشا على السلطان فإنهم حينئذ يجازون ، وأطال في بيان الجواب مستدلا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ووضع الجواب في مدرسته في مكان قعوده وسافر ليلا إلى مصر. وفي اليوم الثاني أرسل إبراهيم باشا إلى المدرسة فأعلم بسفر الشيخ ليلا وأنه ترك هذه الورقة ، فأخذها ، ولما قرئت له اغتاظ جدا ، ونظرا لقرب دخوله إلى حلب لم يجسر على الفتك بأحد من موقعي الفتوى لأنه لم يستحصل على فتوى توجب قتلهم كما كان يروم ، فاضطر أن يترك أكثر هؤلاء الموقعين ، واكتفى بنفي عبد الرحمن أفندي المدرس مفتي حلب والشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي إلى عكا ثم الشام وتفرس إبراهيم باشا أن المترجم ذهب إلى مصر ، فكتب إلى والده محمد علي باشا بلزوم القبض عليه وإرساله مخفورا إلى حلب ، وكان المترجم قد دخل الأزهر وحدّث بقضيته للشيخ محمد النشواني ، وكان شيخ الأزهر وقتئذ وله الوجاهة التامة لدى محمد علي باشا ، فتداخل بالأمر واستحصل أمرا بالعفو عنه وعن المنفيين إلى الشام ، فعادوا إلى حلب.

وفي شهر ذي القعدة سنة ١٢٥٠ توجه إلى مصر بقصد التجارة ووضع ولده الشيخ عبد السلام في الأزهر ونزل ضيفا مكرما عند صديقه الشيخ محمد عياد الطنطاوي ، ولم يمض على وصوله شهر حتى أصيب بالطاعون وذلك ثالث ذي الحجة من هذه السنة ، فحزن على فقده كل من عرفه وعرف فضله ، ودفن بالقرافة الكبرى بالقرب من الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه.

٢٤٠