إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

السبعة والعشرة ، وكان شيخه العالم العابد الشيخ محمد الحموي الأصل البصري ، وكذلك العلامة الشيخ محمد العقاد وفي غيرها. وأخذ من العلوم ما بين تفسير وحديث وأصول وفقه ومعان وبيان ونحو وصرف وغير ذلك عن شيخه الأستاذ العلامة الشيخ طه الجبريني.

ومن مشايخه الفاضل الكبير الشيخ محمد بن الطيب (محشّي القاموس) المغربي نزيل الحرمين ، ومنهم العالم المحدث الشيخ عبد الكريم الشراباتي ، والفقيه المتقن الشيخ عبد القادر الديري ، ومنهم الإمام العالم المحدث الشيخ محمد الزمّار ، حضر عليه في كثير من العلوم ، وكذلك النحرير الشيخ السيد علي العطار ، قرأ عليه في الفقه والنحو والفرائض وغير ذلك.

وارتحل إلى الحج في سنة ست وسبعين ومائة وألف ، واجتمع بغالب من كان حينئذ بالحرمين وأخذ عنهم ، فمنهم العارف الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان المدني ، أخذ عنه الحديث وأجازه وأخذ عنه الطريقة القادرية ، ومنهم العلامة الشيخ محمد بن سليمان الشافعي المدني والشيخ محمد بن عبد الله المغربي والعلامة الشيخ أبو الحسن السندي شارح شرح النخبة في مصطلح الحديث للعلامة ابن حجر ، ومنهم الفاضل الشيخ يحيى الحباب المكي والشيخ عطاء الله الأزهري نزيل مكة. وأخذ بدمشق عن العلامة المحقق الشيخ علي الداغستاني ، وله مشايخ نحو الخمسين.

وكان بحلب مقيما على الاشتغال بالعلم يقرىء كتب الحديث والفقه والآلات في أموي حلب وغير ذلك ، ولزمه جماعة. وكان ملازما ومواظبا على الاعتكاف في كل سنة أربعين يوما وهي المسماة عند أهل الطريق بالخلوة ، فإنه يعتكف مع جماعة من إخوانه هذه المدة ويشتغلون فيها بالصيام والقيام والذكر. وبالجملة فهو أحد من ازدانت بهم الشهباء من الأفاضل في زماننا.

وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشر محرم سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١١٢٨ ـ محمد بن يوسف الأسبيري المتوفى سنة ١١٩٤

محمد بن يوسف بن يعقوب بن علي بن محسن بن شيخ إسكندر الغزالي الحلبي الشهير بالأسبيري ، مفتي حلب ، الشيخ الفاضل الفقيه الأوحد البارع الصالح العالم الكامل.

ولد بعينتاب سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف ، وقرأ القرآن العظيم والصرف والنحو

١٠١

والمنطق على ابن خال والده مصطفى أفندي وعلى الشيخ إلياس المرعشي ، ثم سافر إلى كلّز فقرأ المنطق على علي أفندي نجى زاده تلميذ تاتار أفندي المشهور وعلى شريكه صالح ، وأخذ أيضا «شرح مختصر المنتهى» لابن الحاجب عن شيخي زاده. وقدم حلب ولازم بها محمود أفندي الأنطاكي ، وقرأ على ابن عمه محمد أفندي أيضا ، وأخذ بعينتاب أيضا عن عبد الرحمن أفندي الخاكي وأجازه إجازة عامة سنة تسع وخمسين.

ثم دار البلاد وقرأ على مشايخ يطول ذكر أسمائهم. ثم دخل إسلامبول وصار بينه وبين نفير حبر الروم مباحثات. ثم رجع إلى حلب وتوطنها ودرس بمدرسة الرضائية وأخذ عنه جماعة كثيرون.

وله من التآليف شرح على إيساغوجي سماه «الفوائد الأسبيرية على الرسالة الأثيرية».

وله من التآليف أيضا شرح على «مغني الأصول» المسمى «بالمستغني» لكنه لم يكمل ، وشرح على أوائل المنار سماه «بدائع الأفكار» (١) ، وكتاب مناسك بالتركي سماه «تحفة الناسك فيما هو الأهم من المناسك» ، وله رسائل عديدة منها رسالة في مسألة الجزء الاختياري ، ورسالة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ورسالة في بيان معنى كلمة التوحيد ، ورسالة في نجاة الوالدين المكرمين لسيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله تعليقات على بعض المواضع المغلقة في تفسير الكشاف والبيضاوي ، ولخص الفتاوي الخيرية ، وحاشية على «شرح المنظومة المحبية» للشيخ عبد الغني النابلسي مسماة «بالخلاصتين» وأهدى منه نسخة لشيخ الإسلام مفتي الروم محمد شريف أفندي فتلقاه بالقبول وأرسل له إفتاء حلب من غير طلب ، ثم وجه له المدرسة الشعبانية ثم المدرسة الكلتاوية.

وأخذ عنه جماعة من علماء حلب وغيرهم ، منهم السيد محمد المقيد والشيخ إبراهيم المكتبي والسيد عمر ، وكان معيدا في دروسه الأشباه والنظائر الفقهية ووكيله في المدرسة الخسروية ، والشيخ يوسف النابلسي الشهير بابن الحلال وكيله في مدرسة الشعبانية ،

__________________

(١) هذان التأليفان موجودان بخطه في المكتبة المولوية بحلب وهما في مجموع واحد رقمه ٣٦٥ وغير كاملين ومكتوب على الثاني «نخبة الأفكار».

١٠٢

والسيد محمد صادق بن صالح البانقوسي وبيض له حاشية عمدة الحكام وامتدحه في أخرة بأبيات (ساقها المرادي).

وكان صاحب الترجمة يتولى في ابتداء أمره النيابات في محاكم حلب ، وكان ينتمي إلى نقيب حلب محمد أفندي طه زاده. وأفرده بالترجمة تلميذه الشيخ محمد الموقت.

وكانت وفاته في شوال سنة أربع وتسعين ومائة وألف. ا ه.

قال الطرابلسي في مجموعته : كانت وفاته في اليوم الثاني من شوال ودفن في تربة الجبيل.

١١٢٩ ـ عبد الله اليوسفي الشاعر المتوفى سنة ١١٩٤

عبد الله بن يوسف بن عبد الله المعروف باليوسفي الحلبي ، الأديب الشاعر البارع الماهر الناظم الناثر المكثار.

كان أوحد الشهباء في النظم والتاريخ والاختراعات العجيبة والأشعار الغريبة ولزوم ما لا يلزم والابتكارات في فنون الأدب من تواريخ وقصائد وغيرها ، وله بديعية التزم فيها تسمية الأنواع ، واخترع أربعة أنواع غريبة نظمها فيها وشرحها شرحا جيدا.

ولد بحلب ، وقرأ على والده مدة حياته ، ثم على الشيخ حسن السرميني ، وبعده على المحدث الشيخ طه الجبريني ، ثم على الفقيه محمود البادستاني والشيخ محمد المصري وعليه قرأ الأندلسية في علم العروض ، وقرأه مع علم القافية على الشيخ علي الميقاتي وعلى الشيخ قاسم البكرجي والشيخ محمد الحصري. واشتغل بالأدب وقريض الشعر مدة على هؤلاء الفضلاء ، وافترع (افتض) أبكار الأفكار وصاغ قلائد المعاني نظيمة الأسلاك. وله أشعار ومدائح وتواريخ وأحاج ومعميات وغيرها شيء كثير ، وامتدح الأعيان والعلماء وغيرهم ، ووقعت له بين أبناء عصره المطارحات والمساجلات.

وكان بحلب يتعانى بيع البن في حانوته الواقع بالقرب من جامعها الأموي ، فلذا اشتهر بالبني ، وكان في غاية من الفقر وضنك العيش ، وقد عرض له قبل وفاته بثلاث سنوات صمم عظيم ، وكان أولا عارضا له فزاد حتى منعه من السماع بالكلية بحيث صار الناس يخاطبونه بالإشارة ، فحصل له من ذلك كدر عظيم ، فبادر للاستغاثة بالجناب الرفيع النبوي

١٠٣

بألف بيت راجيا الشفاء من ذلك ببركتها ، وشرع فلم يتيسر له الإتمام.

وخطب مدة في جامع البهرمية نيابة عن بني الشيخ طه.

وسافر إلى طرابلس الشام ولاذقية العرب ، وقدم دمشق ووفد إليها مرارا واجتمع بوالدي وحباه من الإكرام والالتفات ما جاوز الحد والغايات ، وامتدحه بقصائد وأشعار كثيرة ، وجرى بينه وبين أدباء دمشق من المحاورات والمطارحات ما يفعم بطون الصفحات. وبالجملة فهو فريد عصره بالاختراعات الغريبة وفن التاريخ وسرعة النظم والارتجال في التاريخ.

ومن شعره مادحا والدي ومهنئا له بالإفتاء :

أيا جلّقا لازلت باسمة الثغر

بصيّب أفراح تدوم مدى الدهر

ولا برحت أنوار مجدك تنجلي

مطالعها حسنا من اليمن واليسر

وما انفك مغناك يلوح مسرة

ودوحة علياك مضمخة العطر

تسامت بقاع اليمن فيك بسادة

لهم شرف يسمو على الأنجم الزهر

لهم في انتماء المجد خير أرومة

وعلياهم تعلو على هامة النسر

ولا سيما منهم همام مكرم

مجيد عليّ الشان مرتفع القدر

هو السيد السامي الرفيع مكانة

من الفضل يستجلي المحامد بالشكر

ومن هو بالأصل الرفيع تشامخت

مراتبه العليا إلى ذروة الفجر

لقد شرّف الإفتاء نيّر فضله

ووفّق أحكام المسائل في الذكر

وأودع أنواع العلوم براعة

من الفضل لم تبرح بحضرته تجري

أما هو في عليا دمشق هلالها

وكوكبها السامي على الكوكب الدري

كفى شرفا أن المديح لمثله

يطرز أنواع القريض من الشعر

ويزهو افتخارا في نعوت كماله

ويرتع في روض البلاغة في السر

خليلي بالعهد الذي تليت به

صحائف آيات المحبة بالجهر

فنب عن بعيد الدار فضلا ومنة

بتقبيل أيد دونها ضفة البحر

وأبلغه عني أجزل المدح والثنا

وخير دعاء لم يزل أمد الدهر

فلا زال محروس الجناب ممتعا

بإقباله يجني المكارم بالبشر

١٠٤

وقوله فيه :

سعد السعود بدا أن زارني قمر

بحسنه كان أهل الحسن قد قمرا

جوريّ وجنته الحمراء مزدهر

وقد حوى وجهه في مهده الزهرا

إن قابلته شموس في الضحى قهرت

أو قابل النجم في إشراقه قهرا

وخاله عمه بالحسن فانبهرت

عقول أهل الهوى إذ بالبها بهرا

إن رحت أحكي لحسن فيه قد شهرا

قطعت دون بلوغي الدهر والشهرا

لي مقلة في هواه الليل قد سهرت

وقد شكوت سقام الجفن والسهرا

وأصل عشقي له بالعين من نظر

فليته لي بعين العطف قد نظرا

ومنذ أغنى لماه العذب عن سكر

والعقل مني بزاهي حسنه سكرا

ما بت والقلب في لقياه منجبر

ولا بجنح الدياجي باللقا جبرا

وهي طويلة أوردها المرادي بتمامها ، وأورد له غير ذلك ثم قال : ومن شعره قوله :

سكرت بعيني من أحب فلم أزل

مدى الدهر نشوانا وعقلي ذاهل

سلوا مدمنا للخمر إن كان صادقا

تكون إلى الصهباء تلك الفعائل

وقوله :

حجبتك يا قمر السماء غمامة

لم تدر ميلي للبدور كميلها

فكأنها لما رأتني مغرما

غارت عليك وأخبأتك بذيلها

وهو منتحل من قول الفاضلة عائشة الباعونية الدمشقية :

وصيرت بدر التم مذ غاب مؤنسي

أنيسي وبدر التم منه قريب

فحجّبه عني الغمام بذيله

فوا عجبا حتى الغمام رقيب

وللمترجم غير ذلك من الأشعار والمقاطيع والألغاز والمعميات وما يتعلق بذلك شيء لا يحصى ولا يعد.

وكانت وفاته بحلب في صفر سنة أربع وتسعين ومائة وألف ، ودفن خارج باب الجنان أحد أبواب حلب رحمه‌الله. ا ه.

١١٣٠ ـ أحمد بن محمد الحلوي المتوفى سنة ١١٩٥

أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن زين الدين الشهير بالحلوي ، السيد الشريف القادري

١٠٥

الحموي الأصل الحلبي المولد والمنشأ الحنفي أبو الفتوح نجيب الدين ، الشيخ العالم الأديب القدوة المتفوق الأريب البارع.

ولد بحلب يوم عاشوراء سنة سبع وعشرين ومائة وألف ، ونشأ بها في حجر أبيه ، وقرأ العلوم والفنون على الشيخ عبد اللطيف المكتبي الحلبي والشيخ عبد الغني والشيخ حسن بن ملك الحموي والوجيه عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني والإمام الشيخ حسن السرميني والشمس محمد بن أحمد المكتبي وأبي الثناء محمود الباذستاني (١) والشيخ عبد الوهاب ابن مصطفى العداس والإمام محمد بن الحسين الزمار وعبد الله البهرمي والحسن الكردي والشمس محمد الرشواني والشيخ عبد السلام الحريري وشعيب بن إسماعيل الكيالي والشيخ محمود بن محمد الأنطاكي والشيخ نعمة الله الفتال والشيخ عبد الهادي المصري والشيخ محمد بن كمال الدين الكبيسي والشيخ حسن بن عبد الله البخشي وعثمان بن عبد الرحمن العقيلي وأبي محمد بن طه العقاد وأبي الفتوح خليل المصري سبط الشعراني وقاسم النجار وقاسم البكرجي وأبي الفتوح علي بن مصطفى الميقاتي وطه بن مهنا الجبريني وأبي المواهب محمد بن صالح المواهبي وعبد الكريم بن أحمد الشراباتي وغيرهم من الواردين إلى حلب كالشمس محمد بن أحمد بن عقيلة المكي ومحمد بن الطيب المغربي نزيل المدينة ونجم الدين عمر بن نور الله الرملي الحنفي.

ورحل إلى القسطنطينية ، ودخل دمشق أربع مرات آخرها سنة تسع وثمانين ومائة وألف ، وأخذ بها عن محمد بن عبد الجليل المواهبي وصالح بن إبراهيم الجنيني والعماد إسماعيل العجلوني ومصطفى بن الشهاب أحمد الغزي العامري. وأجاز له من القاهرة الشهاب أحمد ابن عبد الفتاح الملوي والنجم محمد بن سالم الحنفي وغيرهم.

وألف المؤلفات النافعة ، فمنها «مطالب السعادات في الصلاة والسلام على سيد السادات» مشتمل على ثلاثة مطالب في كل مطلب ثلاثة فصول ، و «تعليقة على كنوز الحقائق» كتب منها إلى حرف الحاء ، و «التوضيح والتبيان في أحكام سجدات التلاوة وتعظيم القرآن» ، و «سعادة الدارين في بر الوالدين» ، و «الفوائد البهية في مولد خير البرية» ، و «المعاطر الأنسية في الفضائل القدسية» ، و «العقد الفريد في تهاني خلافة

__________________

(١) في «سلك الدرر» : البزستاني.

١٠٦

السعيد» ، و «الدر المنظم في أسلاك الذهب في التهاني بسليمانية الرتب» ، و «الموارد الروية في حديث الرحمة المسلسل بالأولية» ، و «منظومة في شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، و «منظومة في الخصال الموجبة للضلال» ، و «منظومة في التوسل بأهل بدر» ، و «رسالة في الشفاعة العظمى» ، و «منظومة في رفع الأيدي» نظم فيها ما ذكره الفقهاء ، وديوان خطب ، وديوان شعر ، و «منظومة في أشكال الرمل» ، و «رسالة في الأنغام والأبراج والطبقات والأصول» ، و «رسالة في استعمال الأعضاء للشكر واستغراق الحواس للذكر» ، و «رسالة فيمن يؤتى أجره مرتين» ، و «رسالة في السماع المجرد بالآلات» ، وغير ذلك من مجاميع وفوائد والشعر والترسلات وغيرها.

ولازم الأذكار في حلب وإقامة التوحيد ، وصار شيخ الطريقة القادرية بها واشتهر أمره بين أهلها.

واجتمعت به في دمشق لما دخلها المرة الرابعة مع نقيب أشراف حلب أبي المعالي محمد ابن أحمد بن طه الحلبي.

توفي في حلب الشهباء في ليلة الخامس والعشرين من جمادى الثانية سنة خمس وتسعين ومائة وألف.

والحلوي بفتح الحاء واللام نسبة إلى المدرسة الحلوية المعروفة بحلب ، وكل من أقام الذكر نسب إليها ومنهم المترجم. ا ه.

١١٣١ ـ أحمد بن أبي السعود الكواكبي المتوفى سنة ١١٩٧

ترجمه ولده حسن أفندي في كتابه «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» الذي جمع فيه نظم والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه ، وعقد لكل واحد من هؤلاء الشعراء ترجمة ، والكتاب محرر سنة ١٢٠٥ بخط عبد الله بن محمد بن عبد الله الميقاتي المعروف بالغرابيلي من أدباء ذلك العصر ، ويظهر أنه حرره لجامعه المذكور ، وقد نقلت ما في هذا الكتاب من التراجم التي لا وجود لها في المرادي ولا فيما نقلناه عن أبي المواهب أفندي ميرو. قال ولده :

١٠٧

ذكر الوالد المرحوم :

هو عمدة العلماء الأعلام ، وزبدة الفقهاء من مشايخ الإسلام ، الذي سار ذكره في الأقطار ، سير الشمس في الفلك الدوار ، الآخذ زمام المجد بيده يمينا ، والآلي على اقتعاد سنامه يمينا ، الهاصر من دوح المكارم ثمرها الرطيب ، والمتضمخ من عبير نورها بأنفح طيب ، الكائن في مربعه الأحمى حمى لأبناء الأدب ، والسائر في حديثه الأحلى كل مهيع ومهب ، الذي إذا سئل عن دقائق الفقه أجاب بروية ، وينظر فإذا هي في النقول مروية ، وسع حفظه الروايات والنوادر ، وأزاح عن مذاكرة حجب الأوهام والبوادر ، من لا ينسى إلّا زلات إخوانه ، ولا يبخل إلا بهجير لسانه ، ينزه سمعه عن المكروه كما ينزه لسانه ، ويواسي من ناداه كما يجامل إخوانه.

نسبه من جهة والده :

والمرحوم هو الحسيب النسيب السيد أحمد أفندي الكواكبي بن أبي السعود بن أحمد ابن محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد أبي يحيى المعروف بالكواكبي قدس‌سره ابن شيخ المشايخ والعارفين صدر الدين موسى الأردبيلي (١) قدس‌سره ابن الشيخ الرباني المسلك الصمداني صفي الدين إسحاق الأردبيلي ابن الشيخ الزاهد أمين الدين ابن الشيخ السالك جبريل ابن الشيخ المقتدي صالح ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر ابن الشيخ صلاح الدين رشيد ابن الشيخ المرشد الزاهد محمد الحافظ ابن الشيخ الصالح الناسك عوض الخواص ابن سلطان المشايخ فيروز شاه البخاري بن مهدي بن بدر الدين حسن بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد ابن الأمير داود بن علي ابن الإمام موسى الثاني ابن الإمام إبراهيم المرتضي ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين السبط الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

__________________

(١) الذي رأيته في عمود نسبهم المحفوظ في بيت الموقت بعد محمد أبي يحيى [هكذا] محمد أبي يحيى ابن صدر الدين إبراهيم الأردبيلي المنتقل إلى حلب ابن سلطان خوجه علاء الدين علي بن صدر الدين موسى الصفوي [فيكون قد سقط هناك شخصان] ابن السلطان صفي الدين أمين الدين جبريل [وهناك قد جعلهما شخصين] وباقي النسب كما هنا والله أعلم.

١٠٨

نسبه من جهة الأم المتصل ببني زهرة :

ووالدة المرحوم الجد أبي السعود الشريفة عفيفة بنت بهاء الدين بن إبراهيم بن بهاء الدين ابن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن شمس الدين الحسن بن علي أبي الحسن بن الحسين شمس الدين بن زهرة أبي المحاسن بن الحسن بن زهرة أبي المحاسن بن علي أبي المواهب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الإمام السبط الشهيد الحسين. (ثم قال) :

وأما اشتغاله بالعلوم الشرعية من الفقه والحديث فأمر شاع ذكره بين أهل القديم والحديث ، لو رآه النعمان لحمد اسمه وذاته ، أو ابن الحسن لأنار بالمصابيح مشكاته ، أو قاضي خان لشكر قضاياه الحسان. (إلى أن قال) :

وأما مشايخه فمنهم الشيخ العارف بالله الشيخ محمد الزمار والفاضل العالم طه الجبريني والشيخ الكامل سليمان النحوي وغيرهم.

وأخذ الطريق النقشبندي عن العارف محمد بن مراد النقشبندي الأزبكي ثم الدمشقي. وأخذ إجازة الحديث عن الشيخ عقيلة المكي بثبت موجود عندنا.

مولده سنة ثلاثين وتوفي في الحادي والعشرين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائة وألف. ا ه.

أقول : ويستفاد من الكتاب المذكور أنه تولى إفتاء حلب سنة ١١٦٤ وعزل عنها ثم تولاها سنة ١١٦٩ وسنة ١١٨٧ ، وتولى نقابة الأشراف سنة ١١٩٠.

ولشعراء عصره المدائح الكثيرة فيه حينما تولى الإفتاء أولا وثانيا وثالثا ، وحينما تولى النقابة ، ويظهر من خلال تلك المدائح أنه كان سمحا جوادا كثير البر بإخوانه وأن بيته كان مجمع الفضلاء والأدباء.

ومن نظمه الذي ينبىء عن كرم طبعه وسماحة كفه قوله :

وما كان جمعي المال إلا لأربع

دعت في الورى حتما بغير توان

صيانة عرض واكتساب فضيلة

وإسعاف إخوان وكيد زمان

١٠٩

وأورد له ولده حسن أفندي في الكتاب المتقدم كثيرا من النظم ، من جملة ذلك منظومة رائية طويلة ذكر فيها مزارات حلب وخاناتها وأسواقها ومدارسها وبساتينها نظمها سنة ١١٩٣ ، وهي عندي استنسختها عن هذا الكتاب.

ومن آثاره السبيل الذي أنشأه سنة ١١٨٧ بجانب داره المعروفة بدار ابن عبد السلام ، كما أن السبيل يعرف بهذا الاسم ، وهذه الدار من الدور العظام بحلب ، وقد تكلمت عليها في ترجمة بانيها جان بلاط في الجزء السادس. (الترجمة ذات الرقم ٩٢١).

وكان شراؤها سنة ١١٧٩ كما ذكره ولده في كتابه النفائح. وقد أكثر الشعراء في مدح هذه الدار ومدح السبيل الذي أنشأه فيها ومدح صاحبها ، وكانت تنظم له القصائد الطويلة كلما بنى شيئا من هذه الدار أو في داره العظيمة التي في محلة الجلّوم بجانب مدرسته.

وقد حاول الإنكليز حينما كانوا محتلين في حلب سنة ١٣٣٨ مع العساكر الشريفية الفيصلية أن يأخذوا هذا السبيل البديع ، فلم يسلمه له بنو الحاج حسن بيك القاطنون الآن في هذه الدار ، لكنهم لم يتخلصوا من ذلك إلا بواسطة كسره ، فتشوّه بذلك وذهبت بداعته ورونقه ، وهو يعد من جملة الآثار القديمة في حلب وملقى الآن في جنينة الدار.

ووقف المترجم على ذريته وقفا آل لبني الحاج حسن بيك ابن إبراهيم باشا زاده من جهة البنات ، لأن أمه بنت حسن أفندي ابن أحمد أفندي المترجم ولم يكن لحسن أفندي عقب سواها. ومن جملة ما وقفه طاحون السلطان ظاهر حلب من شماليها على نهر قويق ، وجميع المصبنة التي أنشأها الواقف في محلة باب قنسرين ، وجميع البستان المعروف ببستان المفتي بالقرب من قرية (بابلّا) ، وثمانية قراريط من خان العبسي الواقع أمام جامع العادلية وتاريخ كتاب وقفه سنة ١١٦٠ ، وله كتاب وقف آخر محرر سنة ١١٦٧ شرط فيه مدرسا في علم التفسير وواعظا وشيخ مكتب في جامع جده أبي يحيى المعروف به وغير ذلك.

ومن آثاره بناء المدرسة التي بالجلّوم بجانب جامع جده ووقف فيها مكتبة قيمة لا تقل أهمية عن مكتبة المدرسة الأحمدية ، لكنها الآن تفرقت أيدي سبا ، وقد تسلط عليها في أواخر القرن الماضي من لا يعرف لها قيمة ومد يده لها دون ممانع ولا معارض ، فكان يهدي منها للقضاة والكبراء الذين يأتون حلب ، وبقي منها بقية كانت موضوعة منذ عشرين سنة في خزانة داخل القبة التي فيها ضريح أبي يحيى ، ولابد أنها تعطلت بتاتا من الرطوبة

١١٠

والعفونة التي في هذه الخزانة ، ولا سائل عنها وإلى الله المشتكى.

وكان فيها من مؤلفات الكواكبية كما جاء في كتاب وقفها تعليقات الكواكبية على سورة طسم ، وثلاث مجاميع بخط المترجم وحاشية له ، وحاشيتان لمحمد بن الحسن الكواكبي على العصام وسعدي في التفسير ، ومجموعتان له ، وشرحا منظومتيه في الفقه والأصول اللذان وفقني المولى لطبعهما ، وذيل تراجم له وحواشيه على المواقف ، وحاشية لولده أحمد أفندي على شرح والده لمنظومته الأصولية ، ورحلة له إلى الآستانة نظما ، ومجموعة رسائل أدبية ، وفتاوي لأبي السعود أفندي وغير ذلك من آثار تلك العائلة ، والجميع قد تبعثر ، غير أن فتاوي أبي السعود آلت الآن إلى مكتبة المدرسة الخسروية التي نقلت حديثا إلى المدرسة الشرفية وراء الجامع. ويوجد عدة من هذه المؤلفات في مكتبة المدرسة الأحمدية وفي مكاتب الآستانة لأن الكثير من هذه العائلة توطن هناك.

ولما توفي المترجم في التاريخ المتقدم دفن في جامع جده أبي يحيى ، ورثاه الشاعر الأديب الشيخ عبد الله بن عطاء الله الصحاف بقصيدة طويلة أثبتها ولد المترجم في كتاب «النفائح واللوائح» قال في مطلعها :

لا زال صوب الرضا والعفو ينسكب

على ثرى ماجد تزكو به الكتب

من اجتلى بهجة الدنيا وزهرتها

ونال عيشا رخيا فوق ما يجب

قد كان في حلب الشهباء كوكبها

بنوره يهتدي السارون والنجب

فأوسع الآمل الجدوى ونائله

كما استطار العدى من أفقه الشهب

ولم يزل مع روق العيش معتنيا

بالدين شهما تقيا زانه الحسب

(ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا)

لا مانعا يمنع المولى إذا يهب

ومنها :

وأمة الفضل تحويهم منازله

لم يخل عنهم ذراه الواسع الرحب

كأنهم فيه إياه إذا حضروا

ونشوة الأنس تدعوهم إذا احتجبوا

وللقريض عكاظ في مجالسه

يكسى بتاج قبول عنده الأدب

١١٣٢ ـ مصطفى بن أبي بكر الكوراني المتوفى سنة ١١٩٨

مصطفى بن أبي بكر بن تاج الدين الكوراني الأصل الحلبي المولد والمنشأ.

١١١

فقيه اشتق وصفه من الشقائق النعمانية ، وتحلى جيده بفرائد الأقوال النعمانية ، واحد يشار إليه عند خفاء الكناية ، وعلم تضاف إليه أرباب النهاية ، النجم الذي يلوذ به الساري ، والشهاب الذي تنحط عنده الدراري ، من ينادي على السعد وسعد مشتمل ، ما هكذا تورد يا سعد الإبل ، لو شافه عمر البصري لأذعن له ابن زياد ، ولو نصب بعد المفاجأة لأفصح بها أهل البواد ، ولو ناظر الكسائي في دقائق الأدب ، لمثل هشام بين يديه بالأدب ، ولو ساجل أبا الطيب في منسرحه ومضارعه ، لوقف ابن الحسين عن إجازة الثواني من مطالعه ، ماء الفصاحة يقطر من لسانه ، ودرر البلاغة تتحلى بجمانه ، وأبحاث التحقيق عنده هائجة ، وأسواق الفضائل في بيته رائجة ، يعير الصبا من دماثة أخلاقه ، ويهدي إلى الربا نضارة أعراقه ، ويدع الجليس مشوفا بجنابه العامر ، وعندك ذكر من بثينة وعامر.

ولد سنة ١١٤٧ ، وتوفي في إحدى وعشرين من رمضان سنة ١١٩٨ ، ودفن في تربة أبي نمير خارج باب قنسرين. ا ه. من «النفائح واللوائح» للكواكبي. وهنا أورد له قصيدتين مدح المترجم بهما والده أحمد أفندي.

واطلعت عند بعض أحفاده على شرح له على قصيدة الفاضل الأديب السيد أحمد بن مسعود بن حسن المكي التي يقول في مطلعها :

حث قبل الصباح نخب كؤوسي

فهي تسري مسرى الغذا في النفوس

وانتجعها بكرا فقد ثوّب الدا

عي إليها من حانة القسيس

بنت كرم إن تلق ملسوع را

ح وهو جليس لا يرتضي بالجلوس (١)

وشرحه هذا يدل على تضلعه في علم الأدب وغزارة مادته في علم اللغة.

وله كما وجدته في مجموع عند بعض أحفاده لما خطر الشام قاصدا الحجاز يستنجد السيد خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام صاحب «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» :

وكم قائل لما رآني ضاربا

فواصل أسبابي بمجموع أوتادي

يسائل هل تبغي العروض وما الذي

دعاك لإتهام بعيس وإنجاد

__________________

(١) هكذا ورد البيت ، وفي وزنه اختلال.

١١٢

فقلت له أبغي العروض وإنما

يتم بإسعاف الخليل مرادي

واطلعت عند حفيده المذكور على شرح «سقط الزند» للخطيب التبريزي بخط المترجم وهو محرر سنة ١١٨٦.

وله :

وبي عاطر الأنفاس كالمسك نفحه

إذا افتر عن در يصان بعقيان

فتى تخذ الكافور جيدا وصانه

مخافة أن يفنى بفلفل خيلان

١١٣٣ ـ عبد القادر بن محمد الديري المتوفى سنة ١١٩٨

عبد القادر بن محمد الشافعي الديري نزيل حلب ، الشيخ العالم الفاضل النبيه الأصولي النحوي. كان من الفقهاء المتفوقين.

ولد بدير رحبة من أعمال بغداد في سنة عشرين ومائة وألف ، وقدم لحلب في سنة ست وثلاثين ومائة وقرأ الفقه على الشيخ عبد القادر عمر العرضي الحلبي ، والفقه أيضا والفرائض على الشيخ جابر الحوراني الحلبي ، والنحو على الشيخ عبد السلام الحريري ، والنحو والفقه أيضا على الشيخ حسين السرميني ، والمعاني والبيان والنحو والفرائض والفقه أيضا على الشيخ محمد الزمار والشيخ محمود البادستاني قرأ عليه في المنطق والنحو ، وأخذ الحديث عن الشيخ جابر والشيخ حسين المذكورين. وتفوق وأقرأ فنون العلم في حلب وانتفع به كثير من الطلاب وجمع غفير.

وكان مستقيما على حالة مرضية حسنة ، وهو من السادة الأشراف ، إلا أنه لم يتتوج بالطراز الأخضر ، وأغناه عنه نور النبوة الغناء الأوفر. وبالجملة فقد كان في الفقه إماما ، وأحرز في كل فن رتبة ومقاما رحمه‌الله تعالى ا ه.

أقول : لم يذكر تاريخ وفاته ، وقد كانت سنة ١١٩٨ كما قرأته على لوح قبره في تربة الصالحين وراء المقام.

١١٣٤ ـ عبد القادر بن صالح البانقوسي المتوفى سنة ١١٩٩

عبد القادر بن صالح بن عبد الرحمن ابن السيد الشريف الحنفي الحلبي الشهير

١١٣

بالبانقوسي ، الشيخ الفاضل الفقيه الأديب الأوحد المفنن الذكي البارع.

ولد بحلب سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف ، ونشأ بها وقرأ القرآن وأخذ الخط المنسوب. وقدم دمشق واجتمع بعلمائها وأدبائها وتكرر منه ذلك.

وكان له براعة وتفوق في جمع الفنون ، وكتب الخط الحسن (١) ، ودرس بحلب في جامعها الأموي الكبير.

وألف شرحا على «الدر المختار» للحصكفي سماه «سلك النضار على الدر المختار» (٢) ، أخبرني أخوه الشيخ صادق أنه بيض من مسوداته مجلدين وصل فيهما إلى كتاب الصوم ، وشرح كتاب «معدل الصلاة» للبركلي ، وله تعليقة نافعة على أوائل صحيح البخاري أملاها حين تدريسه وكتبها حين قراءته ، وشرح «نظم المراقي الشرنبلالية» وله غير ذلك من الآثار.

ونظمه ونثره في تفوق من البلاغة ، وله في الأدب إحاطة بالعيوب والعلل والمحاسن.

ودخل العراق والروم ودرس بأياصوفية لما ذهب للقسطنطينية في صحيح البخاري وانتفع بأفاضلها وأخذ عنهم وأخذوا عنه ، ثم رجع منها إلى بلده حلب سنة إحدى وثمانين. وقدم دمشق سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف. وامتدح والدي المرحوم السيد علي أفندي ، وكف بصره في آخر عمره.

وله شعر لطيف بنبىء عن قدر في الفضل منيف ، فمنه قوله وكتب بها إليّ في واقعة حال :

بدت تخجل الأقمار بالمنظر الأجلى

ولاحت تريك الشمس في الشرف الأعلى

وزارت على رغم الحواسد فانثنت

أمانيهم منها منكّدة حسرى

__________________

(١) رأيت بخطه الحسن مصحفا في آخره دائرة مموهة بالذهب كتب في داخلها : كتبه الفقير عبد القادر ابن السيد صالح ابن السيد عبد الرحمن ابن السيد عبد القادر الحنفي المحدث بأموي حلب الشهبا غفر الله له في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وماية وألف.

(٢) المسودة موجودة بخطه عند أسعد أفندي العينتابي من وجهاء حلب ، والمبيضة موجودة عند المرحوم الشيخ إبراهيم أفندي المرعشي وهي في مجلدين ضخمين ، وقد ذكر بقية نسبه في الشرح المذكور فقال : عبد الرحمن بن عبد القادر ابن السيد بدر الدين ابن السيد محمد شمس الدين ابن السيد ناصر الدين ابن السيد عبد الله الحنفي الحلبي.

١١٤

محجبة تهتز من مرح الصبا

فتأنف أن تلقى عقودا لها الجوزا

وعهدي بها تجلى لمن ليس كفأها

فها هي قد جاءتك تلتمس الرجعى

فألبستها من حلة المجد خلعة

تروق كما راقت على الروضة الأندى

وجاءت بشارات المسرات والهنا

تهنيك بل تهني بك المنصب الأسنى

وأصبح ثغر الدهر يفتر باسما

سرورا بما وليت من نعم تترى

نهضت بعزم يفلق الصخر طالبا

تراث أبيك الأكرم الطيب المثوى

ويممت قسطنطينة تطلب العلا

كما أم ذو يزن لمطلبه كسرى

على متن مندوب يصلي وراءه

غداة تساق الخيل داحس والغبرا

من الجرد لو كلفته وضع حافر

بأعلى عنان الجو لاقتحم الشعرى

فأنزلت فيها منزل العز والتقى

وشانيك بين الناس ينعت بالأشقى

وأصبحت مشكور المساعي حميدها

وضدك في أرجائها خابط عشوا

تقول دمشق حسرتا ثم حسرتا

أبعد عليّ كيف أذكر في الأحيا

وهل كيف يسلوه فؤادي وروحه

بآل مراد إنني بهم أحيا

إذا اختلفت أقوالهم في حياتهم

بغيرهم قالت فديتك بالموتى

سألت المعالي عنكم غير مرة

فقالت هي الشقرا مسائلها شتى

وهي طويلة أوردها المرادي في تاريخه بتمامها وأتبعها بشيء من نثره في واقعة حال له ، إلى أن قال :

وكان صاحب الترجمة من أفاضل عصره علما وأدبا ولطفا وديانة. وكف في آخر عمره. وقدم دمشق مرارا وصار بينه وبين أفاضلها مباحث. وله آداب فائقة وأشعار رائقة دونت في مجاميعه.

وكانت وفاته بحلب في اثنين وعشرين من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائة وألف ، ودفن في مقبرة الحجاج خارج بانقوسا رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١١٣٥ ـ أحمد بن إلياس الكردي المتوفى سنة ١١٩٩

أحمد الكردي بن إلياس ، الملقب بالأرّجاني الصغير أو بالقاموس الماشي ، الشافعي الكردي الأصل الدمشقي ، الشاعر المفلق اللغوي الماهر.

١١٥

كان فاضلا محققا فطنا بارعا متوقد الذهن والفكر ، وكان والده كرديا من نواحي شهرزور قدم إلى دمشق وتولى خطابة خان قرية النبك وتزوج بامرأة من القرية المذكورة وأولدها عدة بنين وبنات.

ولد في ابتداء هذا القرن ، وقرأ على والده بعض مقدمات على مذهب الإمام الشافعي ، وحبب له الطلب فرحل لدمشق ونزل بمدرسة السميساطية وقرأ على المجاورين بها وأكثر على أستاذه الشيخ أحمد المنيني وبه تدرب وصار طباخا في المدرسة المرقومة ، غير أنه كان يناضل في الانتقاد ويساهم في الاعتقاد. ولم يزل في ضنك من العيش ، ولم تخل حركاته من طيش. وحصلت منه هفوة حمله الحمق بسببها ، على أنه أقرّبها لدى الشرع ، وخشي من إقامة الحد عليه ، وكان ذلك بإغراء أحد أعيان دمشق ، فخرج منه خائفا وقصد مدينة إسلامبول دار الملك واختص ببعض أركان الدولة ، وأمن من زمانه تلك الصولة ، فجعله في خلوته نديم مرامه واختلس برهة التيه ، ونسي ما كان فيه ، ومشى مشية لم يكن ورثها عن أبيه ، فما استقام حتى نكص على عقبه لزلة قدمها ، ففارقها وفي النفوس منها ما فيها.

وقدم طرابلس الشام وتزوج بها واستقام ، وحصل له بعض وظائف ، ولبث هناك برهة من الأيام ثم قصد وكنه الأصلي ولم يجعله مقره ولا سكنه.

ثم توجه تلقاء مصر فأحله واليها الوزير محمد باشا الشهير بالراغب في أسنى المراتب ، وامتدحه بقصيدة وهي قوله :

هذي مناي بلغتها لأوانها

فالحمد للأفلاك في دورانها

الآن قرّت بالتواصل أعين

طال اغتراب النوم عن أجفانها

أقول : وهي قصيدة غراء طويلة سردها المرادي بتمامها اقتصرت منها على هذين البيتين خوف الإطالة. ثم أورد له كثيرا من النظم والنثر بما يطول الشرح لو نقلناه وكله غرر فارجع إليه إن أحببت الوقوف عليه. ومنه ما قاله مضمنا شطرا للفتح النحاس الحلبي :

بنفسك بادر رمّ بيتك واجتهد

وإن لم تجد إحكامه واصطناعه

ولا تدخل العمّار دارك إنهم

متى وجدوا خرقا أحبوا اتساعه

ثم قال : وكان قدم حلب صحبة واليها الوزير الراغب المقدم ذكره فتوفي بها.

١١٦

وكانت وفاته يوم الأحد الثاني عشر من رجب سنة تسع وتسعين ومائة وألف بتقديم تاء التسعين ، ودفن خارج باب قنسرين بتربة الشيخ ابن أبي النمير رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١١٣٦ ـ عبد الله بن محمود الأنطاكي المتوفى أواخر هذا القرن

عبد الله بن محمود الأنطاكي ثم الحلبي الحنفي مدرس الرضائية ، الشيخ الفاضل النبيل البارع.

ولد بأنطاكية بعد الثلاثين ومائة وألف ، وقرأ على والده ولازمه كثيرا. وله الذكاء المفرط والأدب الغض والنظم العالي في اللغة الفارسية والتركية ، صرف ذكاءه في الأدب ومعاشرة الأدباء ، وعجز والده عن رده فتركه ، فذهب بعد وفاة والده إلى إسلامبول ودفتر دارها يومئذ منيف أفندي الأنطاكي أحد تلامذة والده ، فأكرمه وأدخله بين كتبة الديوان ، ثم خرج صحبة الوزير الأعظم محمد راغب باشا من إسلامبول حين خرج المشار إليه (بمنصب الرها وكان عند كاتب ديوانه ، فلما عزل الوزير المشار إليه) (١) من الرها وصل معه لحلب ، ومنها فارقه وذهب إلى إسلامبول ودخل إلى القلم ثانيا ، وتزوج بإسلامبول. وشعره كثير موجود بأيدي الناس.

وكانت وفاته في أواخر هذا القرن رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١١٣٧ ـ مصطفى بن إسماعيل الشهير بروحي الكلزي المتوفى حول سنة ١٢٠٠

مصطفى بن إسماعيل بن عمر بن يوسف ، الشهير بروحي ، الكلزي الحنفي النقشبندي ، الشاعر المفلق المنشي الأديب الفاضل ، يحسن الألسن الثلاث ، واشتهر بالفارسية والتركية. وقرأ على الفاضل المحقق محمود أفندي الأنطاكي مدرس الرضائية بحلب ، وعلى العلامة محمد أفندي الكلزي مفتي حلب ، وعلى الحاج عبد الرحمن مفتي زاده الكلزي ، وعلى العارف عبد الله أفندي شيخ عبيد زاده وغيرهم.

__________________

(١) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

١١٧

ولد بكلّز سنة ١١٣٣ ، وشعره باللغة الفارسية لا يحصى كثرة. وله آثار حسنة منها شرحه على كتاب الشيخ العطار في اللغة الفارسية مسمى «بروح الشروح» وغير ذلك. دخل حلب مرات. ا ه.

١١٨

أعيان القرن الثالث عشر

١١٣٨ ـ الشيخ محمد بن عبد الله الميقاتي المتوفى سنة ١٢٠١

ترجمه السيد حسن الكواكبي في «النفائح واللوائح» فقال :

هو الورع الصالح والزناد القادح ، محمد الميقاتي بن عبد الله الخاشع المنيب الأوّاه ، شيخ الوقت وعالمه ، ومن شيدت بتحقيقاته معالمه ، المالك من محاسن الأخلاق زاكيها ، والصاعد من مراتب السعادة عاليها ، والمهتم بأمر الآخرة الآجلة ، والراغب عن الدنية العاجلة.

ولد بحلب الشهباء سنة ١١٣٦ ، ونشأ بها ، ودأب على التحصيل ، واشتغل بكل فن جليل ، واستفاد وأفاد ، وبرع بالعلم المستجاد. وكان رحمه‌الله تعالى نير القلب والعزم ، حسن السمت والفهم ، جيد المذاكرة ، لطيف المعاشرة ، انتهت إليه العلوم الفلكية ، والقواعد الحسابية ، ولم يزل في جد واشتغال ، وإصلاح علم وحال ، حتى دعاه الداعي فلباه ، ونقله إلى دار كرامته مولاه ، شهيدا بالطاعون سنة ١٢٠١.

وأورد له السيد الكواكبي عدة قصائد في مدح والده أحمد أفندي ، وشعره وسط ، ومن محاسن قوله فيه :

كريم الخيم من ساد المعالي

فأضحى دونه أوج الكمال

غدا في غرة الأيام صبحا

فلا عجب إذا زهت الليالي

إذا ما كوكب زهر الدياجي

فهذا زاهر في كل حال

ومهما زهرة الصبحين ضاءت

فيسموها بنور كالهلال

أليس له إلى الزهر انتساب

به تفنى الأكابر والأعالي

قال : وله مادحا ومؤرخا بناء المدرسة التي أنشأها الوالد (المتقدم قريبا) في محلة الجلّوم :

١١٩

سطعت ضياء زاهرات كواكب

وسمت علاء نحو أوج مراتب

فسعودها تسمو ذرى بمطالع

جلت فلا يوما ترى بمغارب

فلذا يكون الإهتداء بسنائها

فشموسها لا تختفي عن طالب

يا حسنها إذ أشرقت فجلت لنا

وهو الجدير بها ظلام غياهب

وزهت فكان سموها بالأحمد ال

أوصاف من ساد الملا بمناقب

إذ كان محتده جديرا بالتقى

والعلم والفضل الحقيق الواجب

فبنى لوجه الله مدرسة غدت

تزهو بحسن نضارة وتناسب

ونوى بها وجه الكريم تقربا

أرخ زهت مدرسة الكواكب

١١٩٦

ورأيت في مجموعة الشيخ عبد القادر المشاطي إمام الشافعية في الجامع الكبير حكاية غريبة ، وهي أن الشيخ عبد الله الغرابيلي والد المترجم كان موقتا بحلب في الحجرة التي في الباب الغربي من الجامع الكبير ، وكان رجلا عالما ، فصادف أن رمضان في الشتاء والناس لم يروا الشمس عشرين يوما ، فكان يؤذّن بالأذان على مقتضى الساعة ، فصادف أنه أذّن بالأذان للمغرب وأفطرت الناس ، وبعد دقائق برزت الشمس وغابت بعد نصف ساعة ، فخجل الشيخ عبد الله وخرج من حلب هاربا. وكان التوقيت قديما على بيت طه زاده (بيت الجلبي) ، فوكلوا به بعد الشيخ عبد الله المتقدم الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن الميقاتي الحنبلي (الآتي ذكره) ، ووكلوا به بعده ولده العالم الفاضل الشيخ عبد الرحمن شيخ القراء في حلب ، ثم وكلوا ابنيه الشيخ أحمد والشيخ عبد الله. ا ه.

١١٣٩ ـ الشيخ محمد بن عبد الكريم الشراباتي المتوفى سنة ١٢٠٣

الشيخ محمد بن عبد الكريم بن أحمد بن محمد علوان بن عبد الله ، الحلبي الشافعي الشهير كأسلافه بالشراباتي ، مفتي الشافعية بحلب ، العالم المحدث الفقيه البركة الورع الصالح ، أحد الفقهاء المشهورين من المتأخرين.

مولده سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ، واشتغل بالقراءة والتلقي والسماع والاستفادة ، فقرأ على والده وعلى أبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف الجبريني وغيرهم ،

١٢٠