إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

قعوده ، فشكى له صعوبة هذه الصنعة وعجزه عن تعلمها ، فأخذه ووضعه في صنعة البصمجي (صبغ الشاش بالألوان) عند الحاج محمد الطباخ أخي سيدي الجد الشيخ هاشم ، فبعد أيام أتى إلى أخيه وشكى له من هذه الصنعة أيضا لما فيها من كثرة الدخان ، وصادف دخول رمضان فحسّن له شيخ الزاوية الهلالية الشيخ محمد الهلالي رحمه‌الله أن يتعلم قراءة القرآن وقد ناهزت سنه ١٥ ، فأكب على ذلك في حينه ، ولم يمض رمضان إلا وقد تعلم بعض أجزاء من القرآن ، وفي قليل من الزمن أتم تعلمه ، ولما شاهد منه أخوه هذا الذكاء أخذه إلى مدرسة القرناصية ووضعه عند مدرسها الشيخ محمد الخانطوماني ، فشرع في قراءة مبادي العلوم النحوية والفقهية عليه ، ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ولازمه عدة سنين وصار يقرأ له دروسا على انفراده لما شاهده منه من الحرص على التعلم والاستفادة. ولم يزل يدأب على ذلك حتى نبل وفضل في مدة قليلة لقوة حافظته وسرعة فهمه وحرصه الشديد على التعلم مع الورع والزهد في الدنيا والإقبال الزائد على العبادة والتلاوة وقراءة الأوراد وحب العزلة عن الناس.

وفي سنة ١٢٧٧ عين مفتيا للباب وتوطنها إلى أن توفي فيها في جمادى الآخرة سنة ١٣٠٢ ودفن هناك. وتصدر فيها للوعظ والإرشاد وانتفع به أهلها وتاب على يده الكثير ، وكان لأهلها وللقرى التي حولها اعتقاد عظيم فيه ، وينسبون له عدة كرامات منها الإخبار عما في الضمائر لكثير ممن يحضر مجلسه أو دروسه على نسق شيخه الشيخ أحمد الترمانيني ، وأسف أهل تلك الديار لموته أسفا عظيما ، ولم يزالوا يتذكرون علمه وفضله ويتحدثون بمناقبه.

وكان رحمه‌الله من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم ، مسموع الكلمة هناك.

وتعلق على صناعة الشعر ، وله نظم حسن ، ومن شعره :

ما ديننا إلا اتباع نبينا

وجميع ما في ديننا حق حميد

ومنه :

قد أذهب الطبل دنياكم ودينكم

أهل القرى لو علمتم ما تلافونا

ومنه :

٣٨١

الكلب خير عند كل الناس

من تارك الصلاة غير الناسي

ومن شعره بيتان أرسلهما إلى السيد الوجيه جميل أفندي الجابري يشفع عنده في شخص اسمه أبو طه وهما :

جابري الأصل أصلا

يا جميلا كل جسمك

كن بفضل منك فضلا

مع أبي طه كإسمك

وله منظومة حسنة في التوحيد وغير ذلك.

١٢٦٧ ـ الشيخ محمد الرزّاز المتوفى سنة ١٣٠٣

الشيخ محمد ابن الشيخ شريف ابن الشيخ محمد الفرضي الشهير بالرزّاز ، خطيب الجامع المعروف بالعادلية.

ولد رحمه‌الله في شعبان سنة ١٢٤٩ ، ولما بلغ سن التميّيز تعلم القرآن وحفظه عن ظهر قلب ، ثم أخذ في طلب العلم ، فقرأ على الشيخ مصطفى الأصيل وعلى والده الشيخ شريف المذكور ، وتلقى القراءات السبع عن الشيخ مسعود المصري الضرير وأجازه إجازة حافلة ، وحضر دروس الأستاذ الترمانيني مدة طويلة.

وبعد وفاة شيخه الشيخ مصطفى الأصيل تولى خطابة جامع العادلية وإمامته. وبعد وفاة مدرسه الشيخ هاشم عيسى تولى التدريس فيه ، وبقي في هذه الوظائف إلى أن توفي. وتولى تدريس القراءات في المدرسة الأحمدية وتدريس المدرسة الصلاحية التي تعرف الآن (بالبهائية). وتولى تدريس الحديث في وقف موتياب أحمد باشا الشهير بقبض بك ، وتلقى عنه العلم والقراءات أخي الشيخ محمد الطباخ ولازمه إلى حين وفاته ، وكان أخي رحمه‌الله يزور قبره في كل يوم جمعة يكاد لا يفتر عن ذلك لكثرة محبته له لما كان عليه رحمه‌الله من دماثة الأخلاق والتواضع ولين الجانب. وممن أخذ العلم عنه ولداه الشيخ أحمد والشيخ محمد والشيخ محمد درويش فتحي وغيرهم.

وألف مولدا شريفا نثرا يغلب في عباراته تعبيرات السادة الصوفية ، وقد ضمنه بعض الآيات القرآنية ، وكثيرا ما سمعناه من ولده الشيخ أحمد.

٣٨٢

والخطب التي كان يخطبها في جامع العادلية بعضها من إنشائه وبعضها من إنشاء شيخه الأصيل. وولده الشيخ أحمد المذكور يحفظ معظم هذه الخطب ويخطب بها في الجامع المذكور.

وكانت وفاته في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ألف وثلاثمائة وثلاث ، ودفن في تربة العبارة ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٦٨ ـ الشاعر الأديب أنطوان الصقّال المتوفى سنة ١٣٠٣ (١٨٨٥ م)

أنطوان بن ميخائيل الصقال ، الشاعر الأديب.

كان على جانب عظيم من الذكاء والفطنة والنباهة ، مع دماثة أخلاق وحسن معاشرة ورقة طبع نال شهرة واسعة بين أرباب النظم والنثر وخصوصا لدى الأدباء المسيحيين في حلب ، فكانوا يعترفون له بالفضل والنبالة والتفوق في العلوم الأدبية.

ترجمه ولده الشاعر الأديب ميخائيل أفندي (مؤلف «طرائف النديم في تاريخ حلب القديم» وقد ذكرناه في المقدمة) في كتابه «لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر» وهو مطبوع فقال :

ولد والدي في اليوم الثالث من شهر آذار سنة ١٨٢٤ ، وكان يعرف من اللغات العربية والسريانية والإنكليزية والتركية معرفة تامة تكلما وكتابة ، ويعرف كثيرا من العلوم والفنون العصرية ، ألقيت إليه من مدارس مالطا ومن عين ورقة بلبنان ومن حلب.

وكان ناثرا محسنا وبارعا فصيحا قوي الحجة مسموع الكلمة صادق الرواية رزين المجلس. وكان شاعرا مجيدا له ديوان شعر وروايتان (١) إحداهما رواية غرامية أخلاقية نحابها نحو حكايات ألف ليلة وليلة ، وهي حكاية إحدى ملوك الصين المسماة بالقاهرة مع الحسن البصري نجل الملك عبد الرحيم. وله إنشادات في اللغة التركية.

وهو من رجال النهضة العلمية الأخيرة في الأمة المسيحية ، وجاهد الجهاد الحسن في سبيل العلم والتعليم ، واهتم كثيرا في نشر المجلات والجرائد حتى أقبل الناس عليها.

__________________

(١) من هنا إلى قوله : حتى أقبل الناس عليها تلقيته عن ولده الموما إليه مشافهة.

٣٨٣

وكان صيادا ماهرا ، وموسيقيا أطرب بأكثر المطربات العربية والأعجمية وفنونها في إيقاع حسن ، ومهندسا اشتهر بالأعمال اليدوية.

وكان بارا بأهله وجيرانه ، عرف بالنزاهة في معاملاته ، وذكر أيضا بالأمانة ورد الحقوق إلى أربابها ، فإذا حكم عدل وأنصف غير متردد ، يحب المساواة ، اجتهد في إزالة خرافات كثيرة من عقول كثيرين. وقد كان رصينا ثابت العزم لا يستصعب صعبا ، إذا طلب أدرك ، غير هياب ولا محجم. شهد مواقع من حرب القرم سنة ١٨٥٤ [١٢٧٠] وهو الترجمان الأول لقائد الجيوس الإنكليزية حينما ناصرت الدولة الإنكليزية للدولة العثمانية في هذه الحرب.

وكانت وفاته في اليوم الثامن من شهر كانون الأول سنة [١٨٨٥] وهي موافقة لسنة ١٣٠٣ هجرية.

وأورد له في هذا الكتاب كثيرا من شعره ، ومنه قوله :

معان تعالت عن ذكا كل فطنة

مبان توارى كنهها عن بصيرتي

شؤون أبت أن يسبر العقل غورها

لذا لم أبت منها بغير السكينة

صروف جرت في كل فعل تقلبا

كما فجّرت أمواه بحر المجرة

وذات تحاشت عن تحاديد حيز

فحاشت حدود الكل في جمع حوزة

هي الحضرة العليا ائتد ربّ غافل

تشوهت الأفكار فيه لشهوة

برت كل ما في عالم الكون فانبرى

لها قلم يجري بكل صحيفة

وقوله :

دنياك يا هذا ديار الزوال

فلا تكن فيها كظمآن آل

ومنها :

رب أصيحاب لقد حاولوا

أن يجعلوا بدر اكتمالي هلال

ما بالهم لا أصلحت حالهم

يرمون في قلب اليقين النبال

وهل يروع الوعل صمّ الصفا

مناطحا والريح شمّ الجبال

والشمس هل تنحط إن حجّبت

أنوارها يوما بنقع القتال

٣٨٤

وقوله من قصيدة أرسلها إلى صديقه فرنسيس المرّاش :

أقصاه طرف عن سناك كليل

فدهاه حتف من لقاك مهول

لا غرو أن شرق الذميم بكأسه

ففوارغ الدعوى لذاك تؤول

وإذا اللئيم أقل فخرا كاذبا

فلقلما ارتضت الفخار فحول

وإذا تصاهلت النواهق مرة

فلطالما اعترض النهيق صهيل

أرعى الذمام لمن يراعي ذمتي

والعهد عهدي لست عنه أحول

لا تبلوني في المحبة إنني

بالروح سمح بالرياء بخيل

ومنها :

أسفي لقد ضاع الزمان ولم يكن

أحد لديّ كما علمت خليل

لهفي على تلك الغدو وزهوها

لم يخش فيها للوشاة أصيل

أيام نرتع في ربيع نضارة

كم جر فيه للوفاء ذيول

وقوله من قصيدة بعث بها إلى صديقه الأديب نصر الله الدلّال :

طاوعت فيه صبابتي فعصاني

وقليت فيه معنّفي فسلاني

ما كنت أدري العشق يفعل بالفتى

فعل النسيم بأهيف الأغصان

حتى حثثت مطيتي نحو الهوى

ولويت عن نصح النصوح عناني

فركبت فلك صبابتي تيها على

لج النواح كنوح في الطوفان

يلقى رسول الفرع فيّ ضلالة

وأرى الهدى بتبلج الفرقان

وأفر من أقداح أحداق الظبا

فأرى الفؤاد مراتع الغزلان

أغدو وقلبي بين وقع مناصل

وصليل هنديّ وهزّ سنان

فأروح بين جآذر بمحاجر

وكواعب بقواضب وحسان

مالي وللعذال لا سلمت لهم

علل تقوم بفاسد البرهان

لكنهم أخذوا الجزا سلفا فلم

يبرح حشاهم موقد النيران

ومنها :

خذ بالذراع وخل عنك تطاولا

مد الذراع لعاتق الميزان

٣٨٥

فالدهر ميدان به دول النهى

تجري مع البرهان جري رهان

ومنها في المديح :

شهم إذا ما استل سيف يراعه

شمت الضلال يخر للأذقان

إن يرض للعليا الرضى فلطا لما

نزلت إليه تودّ منه تداني

وذكره الأديب قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» ومما قاله فيه : أنه كان حسن الخط مليح الصوت فصيح الكلام ولوعا بالموسيقى يضرب بمختلف آلاتها ، وله كتاب ربط فيه كثيرا من الأغاني شبيه بكتب الخطوط والأنغام الموسيقية الفرنجية (كتب النوطه). ولد في حلب سنة ١٨٢٤ وأقام في مدينة مالطة مدة يصحح الكتب العربية في مطبعتها ويدرس في إحدى مدارسها. وله كتاب «الأسهم النارية» وهو رواية ضمنها بعض الوقائع المحلية. وله مقالات بالجرائد والمجلات باسم مستعار. وكانت بينه وبين فرنسيس المراش ونصر الله الدلال وغيرهما من فضلاء معاصريه مجالسات ومطارحات وممادح ا ه ملخصا.

١٢٦٩ ـ الشيخ محمد علي الكحيل المتوفى سنة ١٣٠٤

الشيخ محمد علي بن حسين المعروف بالكحيل ، الحلبي الحنفي ، أحد فقهاء الشهباء وفضلائها.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٣٤ ، وتلقى العلوم العربية على الأحمدين الحجار والترمانيني ، وقرأ الفقه الحنفي على الشيخ مصطفى الريحاوي وعلى الشيخ عبد القادر سلطان مفتي حلب ومدرس الإسماعيلية ، قرأ عليه عدة كتب ولازمه مدة طويلة إلى أن برع في الفقه الحنفي وصار أحد أعلامه والمشار إليهم فيه.

وعين أمينا للإفتاء حينما كان الحاج عبد القادر أفندي الجابري مفتيا ، وصار مدة نائبا في المحكمة الشرعية ، وعين مدرسا في الجامع الكبير وفي مدرسة بني العشائر الكائنة في الرواق الشمالي من الجامع المذكور ، ومدرسا في جامع الصروي في محلة البياضة ، وخطيبا في جامع السفاحية ، وناظرا على وقف جامع الخسروية.

٣٨٦

وكان رحمه‌الله صالحا متعبدا ساكنا.

توفي في جمادى الأولى سنة ١٣٠٤ ، ودفن في تربة الشيخ جاكير.

وممن أخذ عنه شيخنا الشيخ بشير الغزي وأخوه الشيخ كامل والشيخ محيي الدين سلطان وغيرهم.

١٢٧٠ ـ الشيخ عبد الحميد دده المتوفى سنة ١٣٠٤

الشيخ عبد الحميد دده ابن الشيخ حسن دده البيرامي ، شيخ التكية البيرامية والفلكي المشهور.

مولده سنة ١٢٢٨. قرأ النحو والفقه على الأستاذ الكبير الترمانيني ، ثم شد الرحال إلى الديار المصرية أربع مرات وجاور في أزهرها ، وكان في كل مرة يقيم أزيد من سنتين. ورحل إلى مكة المكرمة وجاور فيها أربع سنين. ورحل إلى الآستانة عدة مرات. وكان في رحلاته جميعها يجد في تحصيل أنواع العلوم ويجني من ثمارها. وأكب على تحصيل علم الفلك إلى أن برع فيه ومهر وصارت له فيه اليد الطولى ولا يدرك شأوه فيه. ثم تصدى للتأليف فيه فألف عدة كتب أضاعتها أيدي الزمان ومزقتها كل ممزق ، وقيل أحرقها أخوه الحاج يوسف دده الشاعر المشهور بغضا فيه.

وكان عالما باللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية ، وله فيها أشعار حسنة ، لكن لم يصل إلينا منها شيء. ونظم مولدين شريفين بالعربية والفارسية سماهما «الحميدية في قصة خير البرية» ، ونظم مولدا باللغة الفارسية سماه «الابتهالات في قصة صاحب المعجزات» ألفه سنة ١٢٧٨.

ومن آثاره جرن من حجر رسم فيه دائرة تعلم منها الأوقات وهو موضوع في صحن الجامع الأموي ، ومن تأمل في هذه الرسوم يعلم تضلع المترجم في العلوم الفلكية ، وكان صنعه له سنة ١٢٩٧ وصنع نظيره للسلطان عبد الحميد الثاني سنة ١٣٠٠ وضع في سراي يلدز المشهورة في الآستانة ، وأجزل له السلطان المذكور العطاء على ذلك.

وكان شيخا للتكية البيرامية الكائنة خارج محلة آقيول ، جلس على سجادتها سنة ١٢٤٤

٣٨٧

بعد وفاة عمه حسين دده وبقي إلى سنة ١٢٩٥ ، ففيها خلّف لسبطه الحاج يوسف دده ابن الحاج إسماعيل بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد الجمالي (أحد رجال تاريخ المرادي وهو المترجم في أول هذا الجزء).

وكان مع تضلعه في العلوم الفلكية له وقوف على علم الحساب والهندسة والجبر والزايرجة ، إليه المنتهى في هذه العلوم في حلب. وبالجملة فقد كان حسنة من حسنات الشهباء المشهود لهم بالفضل والنبل ، ولم يخلفه في الشهباء بعده في فنونه مثله.

وكانت وفاته سنة ١٣٠٤ رحمه‌الله تعالى.

الكلام على تكية بابا بيرم

هذه التكية واقعة في آخر محلة آقيول من جهة الشمال عند منتهى العمران ، وهي مسماة باسم المدفون فيها وهو الشيخ بابا بيرم ، وهو على ما كتبه لي شيخ التكية الشيخ يوسف ابن الحاج إسماعيل الجمالي المتقدم الذكر بيرام خواجه أحمد اليسوي مرشد الحاج بكتاش ولي ابن الشيخ يوسف الهمداني أحد مشايخ الشيخ بهاء الدين نقشبند ، كان حضر من بلاد خراسان إلى حلب ونزل في مغارة موجودة إلى الآن داخل التكية المذكورة وصار يعبد الله هناك ، واجتمع حوله كثير من الفقراء وأخذوا عنه الطريقة البيرامية ، وظهر على يده كرامات متعددة زادت في اعتقاد الناس فيه. وبقي على ذلك إلى أن انتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى سنة ٧٦٤ ودفن بجانب المغارة ، ولا زال ضريحه باقيا إلى الآن يزوره الكثير من الناس. وبنى أهل الخير على قبره قبة ، إلى أن دخلت سنة ٨٧٥ ففيها حضر لحلب ملك العراق السلطان حسن بن علي بن عثمان الطويل ، وهو ممن ذكر في تاريخ القرماني ، فمر السلطان بهذا المكان وسئل عنه فأعلم بخبره فقال : يلزم علينا أن نزور ضريحه ، فنزل وزاره وقرأ ما تيسر من القرآن وذهب إلى حال سبيله ، وبعده بني على قبره تكية اشتهرت باسم دفينها وهو الشيخ بيرام بابا ، واشترى وقتئذ من بعض الأمراء مزرعة متاخمة لقرية عندان واقعة في جبل سمعان من أعمال حلب يقال لها مزرعة إبرن (بكسر الهمزة والراء) ووقفها على التكية وسلمها لشيخها وقتئذ ، وهي باقية إلى الآن بيد مشايخ التكية ، وشرط الواقف أن تكون التولية لمن يكون شيخ التكية ، وهي مستثناة من الأعشار وسائر التكاليف الأميرية من طرف ملوك بني عثمان. وفي سنة ٨٧٧ أرسل السلطان حسن الطويل كتابا

٣٨٨

لشيخ التكية مذيلا بتوقيعه (الواثق بالملك الرحمن حسن بن علي بن عثمان) وعلى ظاهر الكتاب تواقيع وزرائه وأختامهم ، وهو إلى الآن محفوظ عند شيخ التكية.

والتكية تحتوي على صحن واسع في وسطه حوض صغير ومزرعة فيها بعض الأشجار. وهناك قبلية كتب فوق بابها أنها جددت سنة ١٠٤٦ ، والمجدد لها أحد مشايخها الشيخ حسن دده ، وهي مربعة الشكل ، سقفها قبة واحدة طولها عشرة أذرع وعرضها كذلك ، ووراء الصحن مزرعة واسعة. وهناك من الجهة الشرقة مدفن من جملة من دفن فيه الحاج حسين دده بن عمر دده ووفاته سنة ١٢٤٤ ، والشيخ يوسف دده ابن الحاج إسماعيل المتوفى سنة ١٣٤١. وهناك حجرة واسعة في وسطها ضريح شيخ التكية الشيخ بابا بيرم. وكان في الحجرة شمعدان من النحاس أرسله السلطان المذكور ، فاستأذن متولي التكية الشيخ يوسف داده الحاكم في بيعه فباعه بستين ليرة ذهبا اشترى بها مع غلّة كانت متجمعة في واردات الوقف دارا ألحقها بوقف التكية ، وهي ملاصقة للتكية من جهة الشمال. وهناك في طرف هذه الحجرة من جهة الشمال قبر ملاصق للجدار هو قبر زوجة السلطان قانصوه الغوري ولها وقف لكنه غير معروف الآن.

وفي أول هذه المزرعة دولاب في أوائل طرفه الشرقي المغارة التي كان يتعبد فيها الشيخ بابا بيرم ، وهي واسعة جدا على قدر الصحن ، وهي واقعة تحته ، وفيها أو اوين ومصاطب. وخارج التكية من شماليها سبيل أنشأه المترجم وشرط له في كتاب وقفه ١٨٠ قرشا يشتري بها حبال ودلاء.

١٢٧١ ـ الشيخ عبد السلام الترمانيني المتوفى سنة ١٣٠٥

الشيخ عبد السلام ابن الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ الحاج أحمد ابن الشيخ نعمة الله ابن الشيخ علي ، المشهور بالترمانيني ، مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها وشيخ الحديث بمدينة حلب وما يليها.

ولد رحمه‌الله سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين في غرة رمضان ، وسماه والده عبد السلام تأريخا لسنة ولادته.

قرأ القرآن العظيم وأتقن حفظه عن ظهر قلب على شيخ القراء الشيخ سعيد الركبي ،

٣٨٩

وحفظ الخلاصة في النحو ومتن الزبد في الفقه الشافعي وألفية العراقي في المصطلح ، وقرأ على والده التحريرات النحوية تأليف والده التي ألفها باسمه ، ورحل به إلى مصر سنة ١٢٥٠ ، وقد ذكرنا ذلك هناك ، وبعد وصولهما إلى مصر بأيام توفي والده بالطاعون ، فبقي المترجم في مصر يتلقى العلوم والفنون في جامع الأزهر ، فقرأ النحو والعلوم العربية على الشيخ محمد الدمنهوري والشيخ أحمد المرصفي ، والفقه والأصول على الشيخ إبراهيم البيجوري ، والحديث والتفسير على الشيخ مصطفى المبلط ، وقرأ على الشيخ محمد الجناني والشيخ حسن البلتاني والشيخ عياد الطنطاوي فنونا عديدة من معقول ومنقول ، وتلقى الحديث المسلسل خاصة على شيخ الوقت الشيخ أحمد البهيّ الشاذلي.

وأقام في الأزهر مكبا على التحصيل ست عشرة سنة يستفيد ويفيد ، وعين هناك مدرسا في إحدى العواميد بمعلوم. ثم طلبه عمه العارف بالله تعالى الشيخ أحمد أن يعود إلى وطنه ، فاستأذن مشايخه المشار إليهم بالحضور ، فأذنوا له وأجازوه إجازة عاما بما يروونه عن مشايخهم ، وحرروا له بخطوطهم إجازات حافلة. ومن جملة ما حرره له العلامة المرصفي في إجازته مجيزا ومودعا :

يا كعبة التحقيق والعليا ومن

لحقائق العرفان أنت مجاز

عد سالما ومؤيدا فجنابكم

منا بأنواع العلوم مجاز

وودعه علماء عصره باثنتي عشرة قصيدة كل واحدة تزيد على ثلاثين بيتا.

ثم في أثناء عوده من مصر إلى حلب مر على القدس الشريف واجتمع هناك بأفاضلها ، ثم مر على يافا واجتمع هناك بصديقه الشيخ حسن أبي الإقبال الدجاني.

ثم أتى إلى بيروت ، وكان قد بلغه أن العلامة الكزبري بالشام عالي السند في الحديث ، فتوجه من بيروت إلى الشام للأخذ عن العلامة المذكور ، وحصل له احتفال عظيم من أفاضلها ، وأجازه المشار إليه بما يرويه عن مشايخه إجازة عامة.

ثم حضر إلى حلب وذلك سنة ١٢٦٦ ، وعلى أثر حضوره فرغ عليه عمه التدريس في جامع الصروي الكائن في محلة البياضة بعد امتحانه. وأكب على قراءة الدروس والإفادة في فنون عديدة ، وصار بعد وفاة عمه الأستاذ الكبير الشيخ أحمد مدرسا في المدرسة الرحيمية ، وأقبلت عليه الطلبة فأخذ عنه كثيرون فضلوا به ، منهم العلامة الشيخ أحمد

٣٩٠

الزويتيني مفتي الحنفية بحلب ، والشيخ سعيد السنكري ، والشيخ عبد القادر المشاطي ، والشيخ أحمد الكواكبي ، والشيخ محمد الرزّاز ، والعلامة الشيخ محمد الزرقا ، والشيخ أحمد المكتبي ، والشيخ عبد الله سلطان ، والشيخ محمد البدوي وغيرهم من الواردين إلى حلب.

ثم توجه عليه درس الحديث في الجامع الأموي أمام الحضرة ، وصار له إقبال تام من وجهاء حلب وكبرائها ومن الأمراء. ومن جملة من قرأ عليه من الوزراء جميل باشا والي حلب ، وكان له عنده المنزلة السامية والشفاعة المقبولة ، واستجازه بالحديث الحاج محمد توفيق أفندي النوشهري الذي حضر مفتشا على إدارة الجفتلك الهمايوني ، وكذلك استجازه بالحديث ملا صاحب بك الذي حضر مفتشا على والي حلب جميل باشا ، وعرض عليه إفتاء الحنفية مرارا فلم يقبلها.

وكان له اليد الطولى في فن النظم والنثر ، ونظم قواعد فقهية ونصائح حكمية ودينية ، وجمع من نظمه ديوان معظمه مديح في الحضرة النبوية أضاعته أيدي الزمان ، ولم يصل إلينا من شعره إلا القليل ، فمنه قصيدة وداعية ودع بها أحد رفقائه المجاورين في الأزهر مطلعها :

قسما بالعيون ذات المهنّد

إن قلبي عن السرور مجرّد

كيف عيش المحب بعدك يحلو

وصميم الفؤاد منه توقّد

حين مسراك للديار عيوني

قد كستها الدموع ثوبا مورّد

إن يغب شخصك البهيّ غيابا

فبقلبي معناك دوما مخلّد

أسأل الله أن تردّ علينا

عن قريب وبالمعالي ممجّد

وأرى هذه الشمائل تدعى

باسم خير الورى حبيبي محمّد

ومنه وقد أجاد :

كن مستقيما في الأمور جميعها

فإن (١) استقمت تك المقدّم في الملا

أفلا ترى ألف الهجاء تقدمت

لما استقامت فهي تكتب أولا

وله :

__________________

(١) في الأصل : فإذا.

٣٩١

كن محسنا مهما استطعت فإن من

فعل الأذى لابد أن يتضررا

فالباز قصر عمره لما بغى

والنسر من ترك الأذى قد عمرا

وله من قصيدة طويلة مطلعها :

تملكهم لحظ الحبيب وحاجبه

فأدخلني ظلما بذا النظم حاجبه

تعشقته عمدا وخالفت مذهبي

وآليت إني لا أزال أصاحبه

ومنها :

لعمرك ما حب الحسان محرّم

إذا سار في نهج الشريعة صاحبه

وله مطرزا اسم أسعد العطار :

أسعد الله بالصباح مليحا

تفتديه بروحها الأقمار

سل سبيلا من الرحيق بفيه

فيه يحلو وحقه الإسكار

عل يصحو من الذهول محب

حاربته بقوسها الأوتار

داعبته جفونه وهي تطفو

إذ على الطار دندن العطار

وله :

ولم أنس لما جاد دهري بقربكم

بليلة أنس بعد طول التفرّق

غفرت بها ذنب الزمان لأنني

صفوح عن الماضي قنوع بما بقي

وله أيضا يخاطب صديقا له اسمه شافع :

ولو لا افتقاري ما افتقرت لشافع

يقربني ممن أحب ويشفع

فإن زماني أهله حرموا الحجا

وما عندهم شيء سوى القرش ينفع

وله يخاطب صديقا له :

يحدثني قلبي بأن لبانتي

لها منكم كفؤ يكافي وشاتها

فإن لم تكن بين الأحبة نصرة

فمن ذا الذي يحمي الرعاة وشاتها

وكان رجل يقال له عاقل أفندي ادعى القصيدة الزهيرية التي مطلعها :

دعوا الوشاة وما قالوا وما نقلوا

بيني وبينكم ما ليس ينفصل

٣٩٢

وأرسلها في ضمن كتاب لبعض أحبابه ونسبها لنفسه وحرف فيها بعض كلمات ليخفيها على أبناء جنسه ، فبلغ ذلك المترجم فقال :

وافت إلينا على كره محبرة

بديعة الحسن لكن مسها الخجل

يا طالما كنت مشتاقا لرؤيتها

إذ صار يضرب من دهر بها المثل

أقول كيف سبيلي في الوصول لها

ما الرأي في ذاك ما التدبير ما الحيل

حتى بعثت بها هيفاء مشرقة

كأنّ ريقتها في ثغرها عسل

كانت جواهر ألفاظ مخبئة

في الكنز فاستخرجتها السادة الأول

لكن أتت في ثياب الحزن مطرقة

برأسها ودموع العين تنهمل

فقلت لا تحزني قالت ألست ترى

تداولتني في طول المدى الدول

حتى وصلت لأقوام لهم همم

تحت الثرى ودواع تحتها زحل

يستقرضون قريض الشعر واعجبا

ويدعيه الفتى منهم وينتحل

بالنقل لا العقل جهلا حرفوا كلمي

وأوجبوا كسر قلبي حينما نقلوا

فقلت بالله طيبي النفس وانشرحي

وسامرينا ولا تأسي بما فعلوا

أتعجبين وهذا العصر قد كثرت

فيه اللصوص ولكن أمرهم جلل

وكل من يدعي ما ليس يحسنه

بالقول كذبه في جهله العمل

إن الشجاعة كل الناس تزعمها

وفي الحروب يبين الفارس البطل

أما مؤلفاته فهي :

«ذخائر الآثار في تراجم رواة الحديث والآثار» ، و «تذكرة الوعاظ لجميل المعاني والألفاظ» شرح فيه الجامع الصغير بعبارة سهلة قريبة للأفهام وهو في مجلد ضخم ، وحاشية سماها «لطف التعبير على شرح التحرير» في الفقه الشافعي لم تكمل ، ورسالة سماها «رفع الخلاف والشقاق في أحكام الطلاق» ، ورسالة في «شرح بيتي الشيخ محي الدين ابن العربي في معرفة الغالب والمغلوب» ، و «بهجة الجلّاس في مذاكرة الأنفاس» في الأدب ، ورسالة «فكاهة الغريب بمسامرة الأديب» ، ورسالة في «أحكام الجامع» ، و «حواش على مختصر السعد في المعاني والبيان» ، و «حواش على البخاري» ، ومجموع يحتوي على فتاوي له وخطب نكاح من إنشائه ، ومجموع فيه مراسلاته مع أحبابه لمصر وغيرها وفيه

٣٩٣

أيضا إجازاته من مشايخه ولتلاميذه ، وله غير ذلك من التحريرات الفائقة.

ومعظم كتبه مهمشة بتقارير مشايخه ، ومنها من تحريراته ، وكلها نافعة لو جمعت لجاءت في مجلدات.

وبالجملة فقد كان من محاسن الشهباء علما وفضلا وأدبا وجاها وإقبالا.

ويروى أن نسبه متصل بسيدنا عبد الله بن مسعود أحد الصحابة المشاهير.

وما زال ينشر علمه وفضله إلى أن وافته المنية في شهر ربيع الأول سنة ١٣٠٥ بعد أن مرض ما يقرب من سنة ، ودفن في تربة السفيري في جواره بجانب جده الشيخ عبد الكريم ، وأسف الناس على فقده كثيرا ، وكانت جنازته مشهودة ، رحمه‌الله رحمة واسعة.

الكلام على المدرسة الرحيمية

قلنا إن المترجم كان مدرسا في المدرسة الرحيمية ، وإن عمه الأستاذ الكبير الشيخ أحمد كان مدرسا بها قبله ، فهذه المدرسة في محلة البياضة بجانب محلة الجبيلة وقفتها رحمة قاذين بنت عبد القادر بك ابن أحمد بك من سكان محلة الجبيلة ، وهي عبارة عن دار كانت تسكنها تحتوي على إيوان به قبتان وبيت صغير وبيتين آخرين ، وقد دفنت فيها ابنتها الست واصلة بنت عمر آغا ابن عبد الله ، وتاريخ كتاب وقفها في جمادى الأولى سنة ١١٥٦ ، وشرطت للمدرسة مدرسا في العلوم الدينية وغيرها وخادما للسبيل الذي على باب المدرسة وخادما للمدرسة ، وشرطت أن يعطى لأربعة رجال من محسني تلاوة القرآن العظيم في كل يوم (١٢) عثمانيا ليقرأ كل واحد منهم في دارها المذكورة كل يوم جزءا ، وشرطت أن يزاد عددهم في رمضان إلى عشرة.

ووقفت على هذه المدرسة البستان المعروف ببستان ابن عيد ، وكان مغتصبا فأعيد إلى الوقف بعد محاكمة من متولي الوقف الآن الشيخ إبراهيم أفندي ابن المترجم مع مغتصبه وذلك سنة ١٣٢٨. ووقفت له ستة دكاكين ومصبغة وعدسة ودارا لم تزل في يد المتولي المذكور. ووقفت فرنا في بلدة سلقين وأرضا فيها وعدة أراض في قرى حولها وفي حارم ، وقد تغلب عليها من قديم ولا شيء منها الآن في يد المتولي. ووقفت دارا في محلة جب

٣٩٤

أسد الله على من يكون مدرسا للمدرسة سكنا وإسكانا في وقفية على حدة سنة ١١٦٦ ، وهي مغتصبة أيضا إلى الآن ولله الأمر.

١٢٧٢ ـ أخي الشيخ محمد الطبّاخ المتوفى سنة ١٣٠٧

الشيخ محمد ابن الحاج محمود ابن الشيخ هاشم ابن السيد أحمد ابن السيد محمد الطبّاخ ، الحلبي الحنفي ، أخي وشقيقي. كان رحمه‌الله ممن أكرمه الله بالعلم وجمله بالحلم وزينه بالتقوى.

ولد سنة ١٢٦٧ ، وهو أكبر إخوتي وأول مولود لوالدي. وظهرت عليه أمارات النجابة والصلاح منذ نعومة أظفاره ، وكان سيدي الوالد يستصحبه معه إلى حضور مجالس الذكر في الزاوية الهلالية ، فنشأ على محبتها ومحبة العلم وأهله ، فأخذ في طلب العلم ، ولازم الشيخ محمد الرزّاز خطيب جامع العادلية ، فأخذ عنه علم القراءات وغير ذلك ، وقرأ على الشيخ بكري الزبري العلوم العربية ، وقرأ على الشيخ أحمد المرحوم الفرضي علم الفرائض ، وبرع في هذا العلم في مدة وجيزة ، وأخذ عن غيرهم من فضلاء ذلك العصر.

وكان في أول نشأته مع ما عليه من الصلاح كثير التأنق في ملبسه ، يلبس الأثواب الحريرية التي كانت تجلب من بلاد الهند ، وقد كان سيدي الوالد يستجلبها من مكة وجدة لأنه كان يتعاطى التجارة إليها في كل سنة كما سيأتي في ترجمته ، فكان سيدي الأخ يلبس منها ما يروق له ، ثم إنه أعرض عن ذلك وأقبل على استكمال فضائل النفس ، ولازم الزاوية الكيّالية ، وشيخها إذ ذاك الشيخ حسن أفندي ابن الشيخ طه الكيالي ، فأخذ عنه الطريقة الرفاعية ولازمه ملازمة الظل لصاحبه ، وكانا متحدين في العمر ، وأخذا في مطالعة كتب السادة الصوفية ، وطالعا عدة كتب في الزاوية المذكورة ، وصار يختلي معه فيها في كل سنة أربعين ليلة على حسب عادة أهل الطريق ، وسافر معه إلى الباب لزيارة الشيخ عقيل المنبجي ولزيارة الشيخ أبي بكر الهوّار وغيرهما. ثم سافر معه هو وبعض مريديه إلى القدس على قدم التجريد وزاروا الأماكن المقدسة هناك ، وذلك في حدود سنة ١٣٠٢ ، وصار لبسه في تلك المدة الأثواب من الكتان ، بل إنه حين سفره إلى القدس اتخذ جبة ذات رقع كثيرة لم تزل محفوظة عند ولده إلى الآن ، ولم يكن عمله هذا يشوبه شيء من الرياء أو

٣٩٥

قصد السمعة أو طلبا لدنيا ، فقد كان والحمد لله في سعة من العيش غنيا بغنى أبيه ، غير أنه زهد في هذه الدنيا وزخارفها وعلم أنها دار ممر لا دار مقر ، وأن الإنسان لم يخلق سدى بل خلق ليعبد الله تعالى ويهذب هذه النفس ويصفيها من الكدورات لتلتحق بالملأ الأعلى وتدخل في عداد النفوس التي خاطبها تعالى بقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)(١) ولذا أعرض عنها وأكب على العبادة وقراءة الأوراد وملازمة الذكر والمراقبة ، واجتهد في ذلك غاية الاجتهاد. وكان لا يفتر عن التهجد في الليل وصوم يوم الاثنين والخميس وغيرهما من الأيام المباركة. ومع ذلك لم يكن ليترك نصيبه من الدنيا ، بل كان بعد انتهائه من حضور دروسه يتوجه إلى مخزن والده الكائن في خان العلبيّة ويحرر له حساباته وتحاريره التي يرسلها إلى البلدان ، وينوب عنه في البيع والشراء في أوقات سفره ، إلا أنه لم يكن متهافتا على الدنيا متكالبا عليها كما هو شأن أبناء هذا الزمان ، بل كان مجملا في الطلب ، صادق اللهجة ، ناصحا في بيعه وشرائه ، لا يعرف الكذب ولا التغرير ، ولا يحلف لا صادقا ولا كاذبا.

وفي سنة ١٣٠٥ توجه مع أهله وولديه وبنت له إلى مكة ، أرسله سيدي الوالد في تجارة إليها وأرسل معه ما يروج هناك من بضائع هذه البلاد. وقد كان حج قبل ذلك مرتين أو ثلاثا ، ولم تكن غايته الربح بل الحج وزيارة تلك الأماكن المقدسة ، ولما وصل إلى مكة ازداد هناك زهدا في هذه الحياة وأقبل على العبادة مزيد الإقبال ، فكان يدخل إلى الحرم المكي من الساعة الحادية عشرة ويبقى فيه إلى الساعة الثالثة وهو بين طواف وصلاة ومراقبة ومشاهدة للكعبة المشرفة وذكر لله تعالى خفية ، ثم يعود إلى البيت فينام إلى الساعة الثامنة ، ثم ينهض فيعود إلى الحرم فيبقى فيه على هذه الحالة إلى أن يصلي الضحى ، ثم يخرج إلى حانوته ويأخذ في البيع والشراء على الحالة التي قدمناها.

وكان كثير الاجتماع بالشيخ حسن عرب وأخيه الشيخ أحمد والشيخ حسب الله الهندي ، وهم من علماء مكة الفضلاء ، ويتذاكر معهم في كثير من المسائل العلمية.

وبقي مجاورا في مكة على هذه الحالة إلى سنة ١٣٠٧ ، ففيها توجهت مع سيدي الوالد إلى مكة ، فوصلناها في الرابع من ذي الحجة. وفي الثامن منه خرجنا جميعا إلى عرفات

__________________

(١) الفجر : ٢٧.

٣٩٦

ونحن على أهنأ عيش وأصفى بال ، فصادف بعد نزولنا من عرفات بيوم حصول مرض الكوليرا (الهواء الأصفر) وصار يفتك في الحاج فتكا ذريعا بحيث كان يموت كل يوم ما يقرب من ألف إنسان بقي على ذلك نحو ١٥ يوما ، وكان ممن أصيب به سيدي الأخ ، وذلك في الخامس عشر من الشهر ، وفي الثامن عشر منه توفي إلى رحمة الله وعفوه ولم ينجع فيه دواء ، ودفن في المعلا ، وبعد يومين توفيت بنته وكان سنها نحو ثلاثة عشر عاما ، فكان مصابنا بهما جللا ورزؤنا عظيما ، وحزنا عليهما حزنا شديدا ، وأسف على سيدي الأخ كل من عرفه وعرف علمه وسمع بفضله ، وقد مضى على وفاته ثمان وثلاثون سنة وأنا لا أزال عليه حزينا وذلك لما كان عليه رحمه‌الله من العلم والفضل وكرم الأخلاق والزهد والورع والعبادة ، وكان مع ذلك كثير الصدقات. وفي أثناء وجوده في مكة لم يأل جهدا في إقراض المنقطعين من الحجاج الحلبيين دراهم ليعودوا إلى أوطانهم ، ولو طال عمره لكان أحد الأفراد علما وعملا وممن يشار إليه في هذا العصر ، ولكن قضاء الله لا مرد له وله الأمر من قبل ومن بعد.

١٢٧٣ ـ القاضي أمين أفندي المقيّد المتوفى سنة ١٣٠٨

الشيخ محمد أمين أفندي ابن محمد بن زكريا ابن الشيخ محمد المشهور بالمقيّد.

ولد بحلب سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ، ونشأ بها ، وقرأ العلوم على أفاضل عصره ، فأخذ الفقه عن الشيخ مصطفى الأريحاوي أمين الفتوى الفقيه المشهور وقتئذ ، والعلوم العربية وعلم الحديث عن مفتي حلب الشيخ عبد القادر سلطان ، وعلم الفرائض عن الشيخ مصطفى الشربجي والشيخ عبد المعطى البابي ثم الحلبي ، وكلاهما من المشاهير في هذا العلم. وفي مدة وجيزة ظهر فضله واستبان نبله ، وأول ما تولاه من الوظائف حفظ السجلات وقيد الصكوك في المحكمة الشرعية بحلب ، ثم معاونا لرئيس الكتاب فيها ، وذلك في سنة ست وستين ومائتين ، وفي سنة تسع وستين صار ينوب في الحكم عن قاضي حلب السيد محمد سعيد بك درناقجي زاده عند ذهابه لحضور الجلسات في المجلس الكبير المشكل وقتئذ في الولاية ، وهو كمجلس الإدارة في زماننا. وفي سنة أربع وسبعين عين لقضاء أنطاكية ، ثم عين نائبا في محكمة حلب الشرعية. وفي ست وسبعين عين درناقجي زاده المتقدم قاضيا في الشام ، فدعا المترجم إلى دمشق وجعله نائبا معه إلى أن انتهت مدته ،

٣٩٧

فعاد المترجم إلى وطنه وعين نائبا هنا من قبل قاضيها ، ثم عين رئيسا لمجلس تمييز الحقوق بها.

ولما حصل ما حصل من العربان القاطنين في دير الزور من التعدي على عابري السبيل وصاروا يسلبون الأموال من القوافل عين المترجم ، فتوجه إلى تلك الجهات وكانت له اليد الطولى في إرجاع كثير من الأموال المسلوبة إلى أربابها ، وبذل النصح لهؤلاء العربان فكفوا عن التعدي وعادوا إلى الطريقة المثلى.

وفي سنة ست وثمانين عين قاضيا للشام ، فأقام بها إلى أواخر سنة ثمان وثمانين ، وحمدت سيرته فيها وامتدح من شعرائها بعدة قصائد لما رأوه من حسن قضائه ومهارته في فصل الدعاوي.

ثم في سنة ٢٩٨ عين لقضاء نابلس ونظم محكمتها الشرعية ، فأرخ الشيخ عباس أفندي الخمّاش أحد فضلاء نابلس ذلك ببيتين كتبا على باب المحكمة وهما :

لمحكمة الشريعة حكم عدل

يزكّيه الورى سرا وجهرا

تقول وقد تباهت أرخوني

أمين شادني للشرع برا

وامتدحه في نابلس غير واحد من الشعراء منهم الشيخ عباس المذكور بقوله :

ولما درى المجد الرفيع بحالتي

هداني إلى بدر المعالي أمينه

وقال لك البشرى بوافر فضله

فما خاب من يحظى بلثم يمينه

وله ترسل حسن ونظم كذلك ، ويعرف اللغة التركية معرفة جيدة.

وفي سنة ١٣٠٨ عين للقضاء في صنعاء فتوجه إليها عن طريق مصر ، ولما وصل إلى مصر مرض فيها أياما ، ثم توفاه الله تعالى في سنة ١٣٠٨ عن ثلاث وستين من العمر ، ودفن بالقرب من مقام الشيخ العفيفي المشهور ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٧٤ ـ سيدي العم الشيخ عبد السلام الطبّاخ المتوفى سنة ١٣٠٨

الشيخ عبد السلام ابن الشيخ هاشم الطبّاخ ، عمي شقيق والدي ، وهو أكبر أولاد سيدي الجد.

٣٩٨

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٠ ، وتلقى العلوم العربية والفقه الحنفي عن سيدي الجد ، ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني فقرأ عليه علم النحو وعلم الحديث ، وقرأ علم الفرائض على الشيخ مصطفى الشربجي الفرضي المشهور. وحبب إليه الاشتغال بالطريق فلازم الزاوية الهلالية كسيدي الجد ، وأخذ الطريقة الخلوتية عن مشايخها الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم الكبير ، ثم عن ولده الشيخ عبد اللطيف ، ثم عن ولده الشيخ مصطفى الهلالي ، وكان ملازما لحضور مجلس الذكر الذي يقام في الزاوية المذكورة في كل يوم جمعة بعد العصر ، ويختلي في الشتاء أربعين ليلة على عادتهم لا يفتر عن ذلك. وأكب على مطالعة كتب السادة الصوفية خصوصا كتاب «إحياء العلوم» للإمام الغزالي.

وكان مع اشتغاله بالعلم والطريق يتعاطى صنعة البصم المسماة (بالبصمجي) إلا أنه لم ينجح فيها ، فاضطر إلى تركها ، وصار سيدي الوالد يرسله في تجارته إلى مكة في بعض السنين. وفي سنة ١٣٠٦ باع داره الكبيرة التي هي في محلة الجلّوم الكبرى في شارع الصليبة وهي من الدور العظام في هذه المحلة إلى الشيخ مصطفى الهلالي ، وقد وقفها الشيخ مصطفى على بناته ، وقد كانت آلت إلى سيدي العم بالإرث عن والده وبالشراء من أخويه وشقيقته ، ثم إنه أخذ بثمنها تجارة إلى مكة وذلك سنة ١٣٠٧ وسنة ١٣٠٨ ، ففي هذه السنة حصل هناك مرض الكوليرا كما حصل في السنة التي قبلها وأصيب به سيدي العم وتوفي هناك في السابع عشر أو الثامن عشر من ذي الحجة ودفن في المعلا.

ولما عدت من مكة مع سيدي الوالد إلى حلب وذلك في ربيع الأول سنة ١٣٠٨ كان سيدي العم معنا ونزلنا جميعا في جدة وقعدنا فيها ٤٥ يوما ننتظر مجيء سفينة تقلنا إلى بيروت أو الإسكندرونة ، وكان هناك تاجر قاطن فيها يقال له الشيخ محمد مراد الطرابلسي من أهالي طرابلس الشام ، وكان من أهل العلم والفضل وبينه وبين سيدي العم وسيدي الوالد مودة تامة وصحبة أكيدة ، فكانا أثناء إقامتنا في جدة يزورانه في كثير من الأوقات ، وكنت أذهب معهما ، فكان هو وسيدي العم يتطارحان المسائل الفقهية والأدبية ويأخذان في المناظرة ويطول الجدال بينهما ، فكان يتراءى لي وأنا صغير أن الحق تارة يكون مع السيد الطرابلسي وتارة مع سيدي العم ، وأنهما في حلبة السباق فرسا رهان ، ويتبين جلالة فضلهما ودقة نظرهما وسعة مداركهما وغزارة مادتهما. ولم يطل تمتعي بسيدي العم لأنه عاد في هذه السنة إلى مكة وتوفي بعد نزوله من عرفات كما تقدم.

٣٩٩

وأجازه الشيخ مصطفى الهلالي الدار عزاني بالطريقة القادرية الخلوتية وخلّفه ، ولذا كان حينما يحضر مجالس الذكر عنده يلبس العمامة المسماة (بالعرف) ويلبسها في أيام العيد ولا يلبسها إلا من كان مخلّفا مأذونا له بإقامة الذكر ، إلا أن سيدي العم لم يتسن له أن يتخذ له زاوية يقيم الذكر فيها ويتصدى للتسليك في الطريق والإرشاد.

وأجازه أيضا بالطريقة الرفاعية الشيخ أحمد الحريري الرفاعي الآخذ عن والده الشيخ عمر الحريري المشهور بإجازة طويلة محررة سنة ١٢٨٥ ، وخلّفه وأذن له أن يبايع ويعاهد لمن كان فيه أهلية لذلك على حسب عادة أهل الطريق.

وأجازه بالطريقة البدوية الشيخ طه ابن الشيخ مصطفى بطيخ الأحمدي.

وأخذ الطريقة القادرية أيضا عن الشيخ محمد غازي النسيمي القادري الآخذ عن والده الشيخ محمد شاكر الخوجكي وأجازه بإجازة طويلة عليها خطوط مشايخ الطريق في عصره ، وأجازه المذكور بالطريقة الرفاعية والبدوية والدسوقية والشاذلية والبكرية والخلوتية.

وأجازه بالطريقة الشاذلية والبدوية والنقشبندية مفتي حلب أبو الرضى السيد محمد بهاء الدين الرفاعي بإجازة طويلة محفوظة عندي ، ومما جاء فيها :

هذا وقد التمس مني العبد الصالح والنجيب الفالح الناسك المتعبد الصالح المتهجد الشيخ عبد السلام ابن المرحوم الشيخ هاشم أفندي الطباخ ، فاستخرت الله الذي لا إله سواه ، والتجأت بالقلب والقالب لباب علاه ، فانشرح صدري لذلك ، مع علمي بأني لست أهلا لما هنالك ، فأجبته لما سأله ، راجيا من الله سبحانه المعونة والتوفيق لي وله ، وسائلا من فضل الله وإحسانه له التوفيق ، إذ هو بالاستخلاف حقيق ، ومن خلاصة أهل الزيّ والزيق ، في الطرائق الثلاث الشاذلية والنقشبندية ، والبدوية الأحمدية ، فنهضت على قدم المبادرة ، ونظمته في سلك هذه العصابة الفاخرة ، واستخلفته في الطرائق الثلاث الشاذلية والنقشبندية والأحمدية ، وجعلته إماما قائدا أزمّة فضائلها العلية. (إلى أن قال) :

وأذنت له أن يأخذ العهد على من شاء من طالبي السلوك فيها ، ويعاهد فيها من يراه من أهليها ، كما استخلفني وبايعني وأجازني أشياخي تلقيا منهم وأخذا عنهم ، كما هو مشروح في «عقد الجواهر في سلاسل الأكابر» للسيد العارف بربه سيدي محمد عقيلة رضي‌الله‌عنه.

٤٠٠