إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

ثم ذكر سنده في الطريقة الشاذلية من غير طريق سيدي محمد عقيلة وأطال في ذلك ، ثم قال :

وقد جرت عادة أئمتنا أن يخصوا الخليفة بحديث مسلسل ، فها أنا أذكر الحديث المسلسل بالمصريين وهو حديث البطاقة وهو أرجى حديث يوجد في كتب الستة لما اشتمل عليه من البشارة.

ثم ساق سند المصريين فيه إلى أن أوصله إلى الإمام الليث بن سعد إمام المصريين عن الإمام عامر بن يحيى المصري عن الإمام عبد الرحمن المصري قال : سمعت عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فتنشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ، ثم يقول الله تبارك وتعالى : أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول الله جل شأنه : بل إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك. فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله عزوجل : إنك لا تظلم. قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). حديث مسلسل بالمصريين أخرجه الحاكم في صحيحه والإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطبري وقال الحاكم على شرط مسلم ا ه (١).

١٢٧٥ ـ الحاج محمد آغا المكانسي المتوفى سنة ١٣٠٨

الحاج محمد آغا ابن أحمد آغا ابن الحاج ناصر آغا ابن الحاج حسين آغا ابن عبد الله آغا ابن محمد جمعة ابن عابدين بن ناصر الدين بن أحمد سويدان المكانسي ، الزعيم الكبير والصدر الجليل ، وهو نابغة هذه العائلة وواسطة عقدها والمجدد لها مجدها.

ولد المترجم سنة ألف ومائة وثمان وتسعين في مدينة حلب في محلة محمد بك الشهيرة بمحلة باب النيرب ، ولما بلغ من العمر ١٩ عاما أدخله والده في سلك اليكيجرية ، يعني

__________________

(١) أقول : قد ذكر هذا الحديث برواية المصريين الجلال السيوطي رحمه‌الله في آخر صحيفة من كتابه «التدريب شرح التقريب» في علم مصطلح الحديث ، وهو مطبوع ، وهو كتاب جليل في هذا الفن.

٤٠١

العسكر الجديد ، وترقى إلى أن صار ييج آغاسي ، يعني آغة الداخلية.

وفي سنة ١٢٢٧ رحل إلى حماة لقيام أهالي حلب على الوالي جبار زاده وبقي هناك ثلاث سنين ، وبعدها عاد إلى حلب.

وفي سنة ١٢٤٠ عين مفتشا على ميناء السويدية لأجل الكشف على الأسلحة التي وردت من بعض الدول الغربية بقصد تهريبها.

ولم يزل المترجم في خدمة الدولة العثمانية إلى سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، ففيها ترك الوظيفة لمجيء إبراهيم باشا المصري لأنه كان من المخلصين إلى الدولة العثمانية. ولم يزل على ذلك حتى ذهب إبراهيم باشا من هذه البلاد ورجعت إلى حوزة الدولة العثمانية ، فحينئذ عاد المترجم إلى الجندية.

وفي سنة ١٢٦٧ عين عضوا في المجلس الكبير (كناية عن مجلس الإدارة اليوم).

وفي سنة ١٢٦٨ عين المترجم رئيسا إلى المجلس الذي تشكل للبحث عن الأموال التي نهبت في حادثة ١٢٦٧ المعروفة (بقومة البلد).

وفي سنة ١٢٦٩ صار متسلم حلب وفوض إليه أمر محافظتها ، وبقي متسلما إلى سنة ١٢٧٦ ، وكان في سنة ١٢٦٨ عين لرئاسة كتاب مقيدي النفوس في إيالة حلب علاوة على وظيفته.

وفي سنة ١٢٧٠ صار رئيس ألف (بيكباشي) للعساكر المرتبة في ولاية حلب ، وفيها وجهت عليه رتبة رأس البوابين للحضرة السلطانية المسماة (قبوجي باشي) مكافأة له على خدماته والسلطان إذ ذاك السلطان عبد المجيد خان. وفي هذه السنة حصلت الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الروسية المسماة بحرب القرم ، فجهز المترجم من ماله مائة مجاهد وأرسلهم تحت قيادة ابن أخيه حسن آغا وابن أخته محمود آغا. وفي هذه السنة تعدت عشيرة الموالي والهيب على ما حولهما من القرى وصاروا يقطعون السبل وينهبون أموال أهل القرى ، فعين المترجم لتأديبهم ، فتوجه ومعه ألف جندي ومدفعان وقبض على زعمائهم وأشقيائهم وأتى بهم إلى حلب ، فنفى بعضهم إلى الآستانة وأرجع الأموال المنهوبة إلى أربابها وأعاد الأمن إلى نصابه وعاد ظافرا.

٤٠٢

وفي سنة ١٢٧١ أرسلت الحكومة شخصين لأخذ العشر من القرى ، فبلغ خبرهما عشيرة الموالي فقبضوا عليهما بقرب تل السلطان وأخذوهما أسيرين وأعلموا الوالي أنا لا نطلقهما ما لم تطلقوا سراح زعمائنا الذين أرسلتموهم إلى الآستانة. وشقوا عصا الطاعة وصاروا يغيرون على القرى وينهبون أموالها وأموال المارة ، وأقلقوا بذلك بال الحكومة ، فعين المترجم لقمع هذه الفتنة ، فتوجه بالعسكر ومعه مدفعان وبذل منتهى النصح لهؤلاء الثائرين ، فلم يجد ذلك نفعا ، ولما أعياه أمرهم حاربهم في محل يقال له الظلمة ، فولوا الأدبار ودخلوا على عشيرة أولاد علي ، فعند ذلك انقادوا وخضعوا وسلموه الشخصين مع ما نهبوه من الأموال. وفي هذه السنة عين ناظرا على الجفتلك الهمايوني.

وفي سنة ١٢٧٥ ذهب لتأديب العصاة من عشيرة الحديديين والتركمان بسبب قطعهم الطريق وسلبهم الأموال وعاد موفقا.

وفي سنة ١٢٧٧ عادت عشيرة الحديديين إلى العبث في الأرض ، فتوجه إليها بشرذمة من العساكر وأخضعها واسترجع منها الأموال المنهوبة واستحصل منها التكاليف الأميرية المتأخرة. وفي سنة ١٢٧٩ عادت هذه العشيرة وعشيرة الموالي إلى النهب والسلب ، فعين المترجم فذهب وأدب العصاة منهما وعاد ظافرا.

وفي سنة ١٢٨٧ عين رئيسا للمجلس البلدي. وفيها عين رئيسا للجنة تحصيل الأموال الأميرية. وفي سنة ١٢٨٩ عين لرئاسة المجلس البلدي للمرة الثانية. وفي سنة ١٢٩٤ عين له للمرة الثالثة ، وكان الوالي وقتئذ في حلب الوزير كامل باشا الصدر الأعظم المشهور. وفي سنة ١٢٩٥ في شعبان فوضت إليه محافظة حلب بمقتضى مرسوم من كامل باشا المذكور ، وقد كانت حلب خالية من العساكر ، لأن من فيها كان أرسل للحرب الناشبة بين الدولة العثمانية والدولة الروسية ، فقام المترجم بالمحافظة أحسن قيام ولم يحصل في تلك المدة ما يخل بالأمن. وكان في كثير من الليالي يركب فرسه ويدور في الأسواق وفي الأزقة وكان عمره إذ ذاك سبعا وتسعين سنة.

وفي سنة ١٢٩٦ عين عضوا لمجلس أخذ العسكر المسمى (بالقرعة). وفي سنة ١٢٩٩ عين فيه أيضا. وفي سنة ١٣٠٢ عين لهذا المجلس في قرية قضاء جبل سمعان. وفي سنة ١٣٠٣ عين رئيسا إلى مجلس تحصيل الأموال الأميرية ، وكان الوالي جميل باشا وعمر المترجم

٤٠٣

يومئذ مائة وخمس سنين. وفي هذه السنة أو التي بعدها ترك المناصب ولزم بيته وهو ممتع بصحته وعقله ولم تقلع له سن ولا حني ظهره ، وصار الوزراء والكبراء وذوو الوجاهة يزورونه في منزله ويستمدون من آرائه. بقي على ذلك إلى أواخر سنة ١٣٠٨ ، ففيها توفي إلى رحمة الله تعالى ودفن في تربة الشيخ جاكير وقد بلغ من العمر مائة وعشر سنين ، وربما لا يمر عليك في تاريخنا من بلغ هذه السن.

وكان رحمه‌الله شجاعا مقداما وقورا مهابا سخيا محبا لأهل العلم مكرما لهم متواضعا حسن المعاشرة لطيف المذاكرة ، من ذلك ما حدثني به الأستاذ الكبير شيخنا الشيخ محمد أفندي الزرقا رحمه‌الله قال : اجتمعت يوما مع محمد آغا المكانسي في بيت في محلة باب النيرب في خطبة في زواج اجتمع فيه خلق كثير ومعهم المنشدون ، وقد كان ذلك عادة متبعة في ذلك الحين ، فجر الحديث إلى ذكر الموت ، فقال لي محمد آغا : الموت على ثلاثة أقسام : موت أبيض ، وموت أحمر ، وموت أسود ، أما الموت الأبيض فهو الموت الاعتيادي ، وأما الموت الأحمر فهو الفقر ، وأما الموت الأسود فإنسان يرافقك ولا يوافقك ولا يفارقك.

وكان المترجم طويل القامة أسمر اللون واسع العينين أشهلهما واسع الجبين أقنى الأنف ، تدلك رؤيته على شهامة وشجاعة وعلو جناب. وحدثت عنه غير مرة أنه كان قوي الحافظة يحفظ ما جرى معه وفي زمنه وقبل ذلك من الحوادث ، ولو كان في عصره من يكتب ما يحدّث به لجمع من ذلك تاريخ حافل مفعم بالحوادث المهمة التي حصلت في القرن الماضي.

وأخبرني ولده طاهر آغا الذي توفي سنة ١٣٤٠ وكتب لي به أيضا أن أصل عائلتهم من الغرب من بلدة مكناس ، قدم جدهم الأعلى أحمد سويدان المكناسي مع أخيه إلى حلب سنة ٨٨٥ في أيام دولة الجراكسة ، وكانت شهرتهم ببيت المكناسي ، وبتقادم الأيام حرفت إلى بيت المكانسي ، وهاجر مع جدهم المذكور اثنان من أخوته ، الواحد توجه إلى بصرى الحرير من بلاد الشام فنزلها واستوطنها وله بها ذرية إلى يومنا هذا تعرف ببيت الحريري ، والثاني نزل في حسّة البلدة التابعة لقضاء حمص وتوطنها وله بها ذرية تعرف ببيت سويدان ، منها الآن عبدو آغا سويدان من كبراء تلك البلدة وزعمائها. وأخبرني أن عائلتهم تنتسب

٤٠٤

إلى الإمام زين العابدين ، ونسب العائلة محفوظ لديهم إلى الآن والعهدة في ذلك عليه.

١٢٧٦ ـ سيدي الوالد الحاج محمود أفندي الطبّاخ المتوفى سنة ١٣٠٩

سيدي الوالد الحاج محمود أفندي ابن الشيخ هاشم ابن السيد أحمد ابن السيد محمد الطبّاخ.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٦ ، ولما ترعرع قرأ مبادىء الفقه على سيدي الجد ، وصار يأخذه معه إلى الزاوية الهلالية فيحضر معه مجالس الذكر ، وشيخ التكية وقتئذ الشيخ محمد الهلالي ابن الشيخ إبراهيم الهلالي ، وصار يحضر دروس الوعظ والفقه والتصوف على الشيخ محمد المذكور ثم على ولده الشيخ إبراهيم ، فنبت نباتا حسنا ونشأ نشأة صالحة ، وصار لديه من الفقه ما يكفيه في أمور دينه ودنياه.

وكان سيدي الجد يتعاطى صنعة البصم المسماة بالبصمه جي كما قدمته في ترجمته ، فتعاطى سيدي الوالد هذه الصنعة أسوة بأبيه ، وظهرت عليه أمارات النجابة والحذق فيها ، فسلّمه سيدي الجد وهو في سن العشرين دار طباعته التي كانت ملاصقة لداره في محلة الجلّوم ، واعتزل في بيته على العبادة والتلاوة ومطالعة كتب القوم ، فقام سيدي الوالد بإدارة أشغالها وترتيب صنّاعها والبيع والشراء أحسن قيام ، ثم أذن له أن يتخذ لنفسه دار طباعة على حدة ، وأخذ حانوتا في سوق العبي صار يبيع فيه المناديل المطبوعة ، وصار يجلب من حماة وحمص والشام ما يباع في هذا السوق من البضاعة ، فنمت تجارته في مدة قليلة ، فاشترى سنة ١٢٧٦ دارا عظيمة في محلة باب قنسرين مشتملة على دارين كبيرة وصغيرة ، باب الصغيرة من زقاق غير نافذ يعرف ببوابة بيت بيازيد ، وباب الكبيرة من بوابة تعرف بنا وهو يقابل الباب الثاني للبيمارستان الأرغوني ، وفي هذه الدار قاعة كبيرة ذات أو اوين ثلاثة مفروش صحنها بالرخام الأصفر ، وفي الوسط بركة صغيرة ، ويظهر أنه قد مضى على بنيانها نحو ٣٠٠ سنة ، وفي هذه الدار كانت ولادتي.

وفي نواحي سنة ١٢٩٠ صار سيدي الوالد يتجر إلى بلاد الحجاز ، ويأخذ مناديل تسمى دجاج الحبش وملافع أشكالا متنوعة يطبعها في مطبعته ، ويأخذ معه أنواعا من بضائع هذه البلاد مثل البسط والصايات والقصب الذهبي والفضي المعروف بالتيل وهو

٤٠٥

من مصنوعات حلب (١) ، ويأخذ معه أيضا من البضائع الإفرنجية يشتري بعضا منها من حلب وبعضا من بيروت ، ويجلب من مكة وجدة الأقمشة والزنانير الهندية والأواني النحاسية والمسك والعطر وأنواع العطارة ، وكان يتوجه هو سنة وسيدي الأخ الشيخ محمد سنة ، وربما أرسل سيدي العم الشيخ عبد السلام في بعض السنين ، ويستصحب معه أحيانا بعض إخوتي ، واستصحبني معه سنة ١٣٠٧ كما قدمته في ترجمة سيدي الأخ الشيخ محمد. وفي سنة ١٣٠٨ أرسل أخي الحاج عبد القادر وأرسل معه قريبا لنا ، وعادا في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة ١٣٠٩ ، فخرج سيدي الوالد ومعه بعض أقاربنا وكنت معهم إلى قرية ترمانين لاستقبالهما على حسب العادة المألوفة وقتئذ في استقبال الحجاج القادمين من طريق الإسكندرونة إلى هذه القرية أو قرية تقات وهي قبل تلك القرية ، وعدنا ونحن فرحون مسرورون بوصول أخي ومن معه سالمين ، فما كدنا نصل البيت إلا وظهرت أمارات الإعياء والتعب على سيدي الوالد ومرض من ذلك اليوم ، وظل مريضا اثني عشر يوما ولم ينجع معه دواء.

وفي يوم الجمعة في التاسع من شهر ربيع الثاني فارقت روحه جسمه وعمره ثلاث وستون سنة ، فعظم بذلك مصابنا وتبدلت أفراحنا أتراحا ، ولكن لا مرد لقضاء الله ولم يسعنا إلا الصبر والاحتساب. وكانت له جنازة مشهودة ، ودفن في تربة السنابلة ملاصقا لقبر سيدي الجد.

وعمل له الشاعر الأديب عبد الفتاح الطرابيشي أبياتا نقشت على قبره وهي :

إلهي ذنوبي أورثتني مذلة

وأنت إلى العاصين بالعفو موجود

أتيتك يا مولى البرية كلها

وهل يلف باب غير بابك مقصود

فحقق لظني بالذي أنت أهله

فإنك أهل الفضل والفضل مشهود

أنلني مقاما في الجنان مؤرخا

(فلطفك يا ذا العلم بالعبد محمود)

١٣٠٩

__________________

(١) صناعة القصب من الصنائع المهمة في حلب ، وقد كان لها أهمية كبرى ورواج عظيم قبل خمسين سنة ، وقد تكلم عليها حبيب مشحور الحلبي في مجلة المشرق في الجلد الرابع في سنة ١٩٠١ في صحيفة ٧٥٠ في مقالة طويلة ذكر أصل دخولها لحلب وكيفية عمل القصب إلى غير ذلك من المعلومات الدالة على مهارة الحلبيين في هذه الصناعة ، فارجع إليها إن شئت.

٤٠٦

كان سيدي الوالد مربوع القامة ، أسمر اللون سمرة قليلة ، مستدير الوجه ، متوسط اللحية ، شاب معظمها قبيل وفاته ، كثير التبسم دائم البشر حسن الملاقاة واسع الصدر لقاصده ، مبذول الجاه لا يألو جهدا في قضاء حوائج الناس ، رقيق القلب ، كثير الصدقات ، يقرض الحجاج المنقطعين في مكة ما يوصلهم إلى حلب ويستأجر لهم الجمال ويشيعهم إلى ظاهر مكة ، وله في ذلك حكايات يتحدث بها عارفوه.

وكان لا تزعزعه الكوارث ولا تزعجه المصائب ، بل يتلقاها بقلب متين وعزم شديد ، لا يفرح مهما ربح في تجارته ولا تلقاه مهموما أو محزونا مهما خسر فيها ، هو هو في الحالتين ، وهذا الخلق قليل في الناس.

وكان ناصحا في بيعه وشرائه ، مستقيما في أخذه وعطائه ، لا يروج سلعته بيمين أو قسم بشيء.

وكان يحفظ كثيرا من فروع الفقه خصوصا أحكام البيع والشراء الصحيح منها من الفاسد ، ولم يكن وحده في هذه الصفة بل كان على ذلك معظم تجار المسلمين لا يتعاطى أحدهم التجارة إلا بعد الوقوف على جانب من علم الفقه ، بخلاف تجار هذا الزمان الذي قل فيهم من يعلم ذلك.

وكان ماهرا في صنعة بصم المنديل التي كانت قبل خمسين سنة واسعة في حلب ، يتعاطاها نحو ستين شخصا يشغل كل واحد منهم فيها قدر عشرين شخصا ما بين صانع وأجير ، وتشغل هذه الصنعة قدر عشر مصابغ للنيل كل مصبغة فيها نحو عشر من الصناع ، وكان هذا المنديل يباع في بلاد القارص وأرزن الروم وأسعرد وآذنة وطرسوس وملاطية وغيرها من بلاد الأناضول وفي بغداد والموصل ومصر والحجاز والشام وطرابلس وحمص وحماة وحلب ، لكل ناحية أشكال مخصوصة يضعه فلاحو هذه البلاد على رؤوسهم رجالا ونساء. ولما صارت الحرب الروسية العثمانية سنة ١٢٩٠ واستولت روسية على مقاطعة القارص بطل ما كان يباع إليها ، لأن الحكومة الروسية وضعت على ما يدخلها إلى بلادها مكسا ثمانين في المئة ، وكان مبلغا عظيما يشغّل عدة مطابع ، وما يباع في باقي البلاد أخذ في التدني بمزاحمة البضائع الإفرنجية ، وكلما تدنت وقل رواجها يقل من عدد هؤلاء المعلمين ، بعضهم افتقر وبعضهم تعاطى صنعة غيرها. وكنت مع اشتغالي بخدمة العلم

٤٠٧

أتعاطها وأتعاطى التجارة مع أخويّ الحاج بشير والحاج عبد القادر في الخان المعروف بخان العلبية ثم بخان البرغل. وفي سنة ١٣٣٤ في المحرم توفي أخي الحاج بشير وقد كان أحذقنا في هذه الصنعة. وفي سنة ١٣٣٩ تركنا هذه الصنعة بتاتا لقلة رواجها. وفي هذه السنة أعني سنة ١٣٤٥ لم يبق من معلمي هذه الصنعة سوى اثنين ، ولا يباع هذا المنديل الآن إلا على فلاحي قرى حلب وحماة وحمص والدير ، وقد كان يباع إلى بعض بلاد الأناضول وله هناك شيء من الرواج ، وقد بطل ذلك في هذه السنين الثلاث من حين ما ألزم مصطفى كمال باشا رئيس الجمهورية التركية الأتراك بلبس القبعة (البرنيطة) وربما بطل الباقي بعد سنين قلائل. وقد مضى على وجود هذه الصنعة في حلب أكثر من مائتين وخمسين سنة.

ومكتوب على لوح قبر جد والدي (الحاج أحمد بن محمد الطباخ البصمجي) وقد كانت وفاته سنة (١٢٤٢). والشاش الذي يطبع عليه كان قبل ثمانين سنة يحاك في حلب ويقصر فيها وتسمى صنعته جبّدارا ، وكان يشتغل فيها نحو ألفي شخص كان البعض يؤخذ للبصم والبعض يتخذ للقمصان وغير ذلك ، إلا أنه لم يكن متنوعا في القماش والعرض مثل الذي يجلب في هذه الأزمنة من مانجستر ، بل كان أنواعا وعروضا معدودة. ولما صار يأتي الشاش من مانجستر ، وهو أتقن صنعة وأشد بياضا وأكثر أنواعا وأرخص سعرا ، صار ظل هذه الصنعة يتقلص إلى أن أضمحلت قبل سبعين سنة من حلب ولم يبق لها أثر الآن ، وكثير من الصنائع التي كانت في حلب وغيرها من بلاد الشرق اضمحلت وتلاشت بمزاحمة الصنائع الغربية ، ولله في خلقه شؤون.

١٢٧٧ ـ السيد محمد حسام الدين أفندي المتوفى سنة ١٣٠٩

السيد محمد حسام الدين أفندي ابن تقي الدين أفندي ابن محمد قدسي أفندي ، أحد وجوه الشهباء وأعيانها.

ولد رحمه‌الله سنة أربع وأربعين بعد المائتين والألف ، ولما صار عمره دون العشر توفي والده فربي في حجر أخيه لأبويه السيد أحمد بهاء الدين.

وقرأ على الشيخ طالب الشهير بأبي عرقية والشيخ عبد القادر سلطان بعض ما يحتاج إليه من العلوم الدينية والعقلية وحصل طرفا منها. وقرأ اللغة التركية على بعض أفاضل الأتراك

٤٠٨

إلى أن صار يحسن التكلم والكتابة فيها. وحصل قسما صالحا من اللغة الفارسية.

وفي عنفوان شبابه صار رئيسا لكتاب المجلس الكبير في حلب لما كانت إيالة أي قبل التشكيلات التي حصلت سنة ١٢٨٤ ، ثم لما ضمت ريحا والجسر إلى إدلب عين قائم مقام على إدلب ، وبعد ثلاث سنين توجه مع علي باشا الشريف إلى البصرة التي كانت وقتئذ تابعة لبغداد وعين هناك وكيلا لمتصرف البصرة ، ثم عين قائم مقام إلى كفري وغيرها من الأقضية ، ثم متصرفا للحلة مقدار خمس عشرة سنة.

وفي سنة ١٢٨٨ حضر إلى حلب وعين في وظائف موقتة. وفي سنة ١٢٩٢ عين رئيسا لتحصيلات الولاية ، ثم عين عضوا في مجلس الإدارة.

وفي سنة ١٣٠٦ عين رئيسا للمجلس البلدي وتوفي وهو في الرئاسة.

وكانت وفاته مساء يوم الاثنين سابع عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وتسع ، ودفن في تربة الصالحين.

وحاز من الرتب التي كانت تعطى من قبل الدولة العثمانية على (الرتبة الأولى) مع النيشان العثماني من الطبقة الثالثة.

وكان قصير القامة بدينا قوي الجسم حسن المحاضرة لطيف المعاشرة. وخلف ولدين هما كامل باشا ورشيد أفندي ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٧٨ ـ السيد عبد القادر أفندي القدسي المتوفى سنة ١٣٠٩

السيد عبد القادر أفندي ابن السيد تقي الدين ابن السيد محمد المشهور بالقدسي الحلبي.

ترجمه الشيخ عبد الرزاق البيطار في تاريخه «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر» ناقلا ذلك عن الكتاب المسمى «بالعقود الجوهرية في مدائح الحضرة الأحمدية الرفاعية» تأليف أحمد عزت باشا ، قال : هو صاحب الخصائل الممدوحة والآداب والمعرفة ، تدفقّ ذكاء وتجسّم حياء ، قد صيغت أخلاقه من النسيم ، وتهذبت أطواره بحكم التجاريب من الحديث والقديم ، فهو من بيت شرف وعز مستديم.

٤٠٩

كان أبوه نقيب أشراف الشهباء (١) ، وجده مفتيها ومرجع العلماء. فهم فيها عماد الشرف والمحامد ، وركن الطارف والتالد.

ولد حفظه الله سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، وترعرع في حجر والده ، ونشأ على حال عظيم من الكمال والتقوى والأدب ، وتلقى علوم العربية والفقه وغيرها من علوم السنة من أفاضل حلب ، ثم أتقن بعدها اللغة التركية والفارسية ، وأحسن المنثور والمنظوم في اللغتين العربية والتركية ، وله فيها الآثار الحسنة والأفكار المستحسنة ، ومن أعظمها أنه ترجم كتاب «البرهان المؤيد» مؤلف حضرة الغوث الرفاعي رضي‌الله‌عنه من العربية إلى التركية ، ورسالة «رحيق الكوثر» التي هي من كلام الغوث الرفاعي الأكبر ، أبدع فيها كل الإبداع ، وترجم «المجالس الأحمدية» ، ونظم حلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التركية ، وهو مطبوع في الآستانة ، وله غير ذلك من المآثر العديدة والآثار الحميدة ما تتزين به الصحائف والأوراق ، وتهتز لها الأغصان بالأوراق.

وقد تقلب مذ نشأ في خدمة الدولة العثمانية ، حتى أحرز المراتب العلية والمناصب السنية ، وهو الآن الكاتب الثاني في المابين للجناب العالي السلطاني (السلطان عبد الحميد الثاني) لا زال ملحوظا بالأنظار الخفية والجلية ، بكل غدوة وعشية.

وله نظم رقيق ، ونثر بكل مدح حقيق ، ومن نظمه تخميسه قصيدة حسن أفندي البزاز الموصلي في مدح السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره وهي :

يا سادتي فضلكم في الصحف مكتوب

وحبكم بلسان الشرع مندوب

والحمد لله أني فيه مسلوب

قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب

والصبر عن قربكم للوجد مغلوب

ولست أبغي براحا عن مودتكم

حسبي أعد دخيلا في عشيرتكم

وقد فنيت بكم من فيض همتكم

لا أستفيق غراما في محبتكم

وهل يفيق من الأشواق مسلوب

عسى بإسعافكم أستحصل الأملا

فالصبر فرّ وفيكم للمحب حلا

__________________

(١) في «حلية البشر» : نقيب حلب الشهباء.

٤١٠

كم ذا أقول وقيد البعد قد ثقلا

يا قلب صبرا على هجر الأحبة لا

تجزع لذاك فبعض الهجر تأديب

لعل يوما بلطف منهم يصلوا

أسير هجر وحبل الوصل يتصل

فلا تحد عنهم مهما بدت علل

هم الأحبة إن صدوا وإن وصلوا

بل كل ما صنع الأحباب محبوب

والقصيدة طويلة ذكرها بتمامها صاحب العقود الجوهرية ، وهي تدل على كمال صاحب الأصل والتخميس مذكورة بتمامها في ترجمة صاحبه. ا ه.

وكتب لنا السري الوجيه السيد تقي الدين أفندي ، وهو ابن أخي المترجم ، ما تولاه عمه من المناصب قال :

لما كان شابا وكانت حلب إيالة كان رئيسا لمحاسبة الواردات مع ويس باشا الذي كان رئيسا لمحاسبة المصاريف. ولما جاء الوالي سليمان باشا إلى حلب سنة ١٢٧٢ أخذه معه إلى إزمير وجعله رئيسا لديوانه الخاص. وفي سنة ١٢٧٧ صار مديرا لأوقاف حلب ، ثم توجه إلى الآستانة سنة ١٢٨٣ بناء على أمر ناظر المالية رشدي باشا الشرواني وعين رئيسا لقلم المحاسبة في نظارة المالية. وفي سنة ١٢٨٥ عين رئيسا لديوان تحريرات بورسة. وفي سنة ١٢٨٧ توجه ثانية إلى الآستانة ، وعاد منها بعد مدة إلى حلب وعين رئيسا لتحريرات ديوان الولاية ورئيسا للبلدية معا ، وبعده عين قائم مقام لعينتاب وبره جيك. وفي سنة ١٢٩٢ حضر لحلب وانتخب نائبا عن حلب في مجلس المبعوثين ، فاستقال ، ثم توجه إلى الآستانة وانتخب وهو موجود هناك سنة ١٢٩٣ نائبا لمجلس المبعوثين ، فقبل ذلك وعندما أقفل السلطان عبد الحميد المجلس عين كاتبا خامسا في البلاط الملكي ، وبعد أشهر قلائل حول إلى متصرفية حوران ، ثم حول منها وعاد إلى الآستانة وعين مفتشا للعدلية في ولاية طربزون ، ثم حول منها سنة ١٢٩٤ إلى متصرفية كليبولي ، وبعد أشهر قلائل عين كاتبا ثانيا في البلاط الملكي ، وبقي في وظيفته حتى تاريخ وفاته في القسطنطينية سنة ١٣٠٩ ، ودفن في بشك طاش في دركاه يحيى أفندي. ا ه.

أقول : كان المترجم حسن الاعتقاد في الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي ، وله اليد الطولى في تقدمه والتعريف به لدى كبراء الآستانة ، وبينهما صحبة أكيدة ومحبة زائدة ،

٤١١

وأخلص كل واحد منهما الود لصاحبه فصارا يعظمان شأن بعضهما ويذيع كل واحد منهما فضل الآخر ومزاياه ، فطار بذلك صيتهما وعظم شأنهما وصار سببا لتقدمهما ونوالهما المناصب العالية والمنازل الرفيعة ، وتقدما عند السلطان عبد الحميد تقدما زائدا وعلت منزلتهما لديه وعظم جاههما عنده ، وأقبل عليهما بذلك الخاص والعام ، فكانا ملجأ القصاد ومرجع ذوي الحاجات.

وأورد الشيخ أبو الهدى للمترجم في كتابه «تنوير الأبصار» قصيدتين طويلتين إحداهما في مدح والده الشيخ حسن وادي ومطلعها :

علوت ولا يكون علاك بدعا

فقد أترعت جيب الدهر نفعا

وقد بالغ في إطرائه وتغالى في ذلك جدا وجاوز الحد حيث قال بعد هذا البيت :

وأنت السيد الشهم المرجّى

لكل ملمة في الناس تدعى

وأنت الفرد في الدنيا ولكن

أتيت لأوحد الآباء شفعا

والثانية في مدح الشيخ محمد الرواس الذي يدعي الشيخ أبو الهدى أنه شيخه مطلعها :

خفاء كاد يستبق الظهورا

وطور قد كساه الغوث نورا

هو المهديّ فخر بني الرفاعي

خفي وبدا لنا فجرا منيرا

أمير كان في ملك المعاني

نعم لم يتخذ يوما سريرا

١٢٧٩ ـ بهاء الدين أفندي القدسي المتوفى سنة ١٣٠٩

السيد بهاء الدين أفندي ابن تقي الدين أفندي ابن السيد محمد قدسي أفندي ، السريّ الوجيه ، أحد أعيان الشهباء.

ولد سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين بحلب ، ونشأ بها. وأول ما تولاه من المناصب نقابة الأشراف وذلك سنة ١٢٥٦ حينما كان قاضيا في بلاد الروم إيلي ، ثم عين عضوا للمجلس الكبير مع بقائه في منصب النقابة ، وفي سنة ١٢٦٥ استعفى من هذه الوظيفة. ولما حصلت حادثة حلب سنة ١٢٦٧ اتهم المترجم أن له بها دخلا ، فأرسل مع المتهمين إلى الآستانة ، ثم لما تبين براءته عاد إلى حلب ، ثم عين رئيسا لمجلس التحقيق ، ثم عين

٤١٢

عضوا في المجلس الكبير للمرة الثانية. ولما حصلت التشكيلات في المحاكم وذلك سنة ١٢٨٢ رجع إلى رئاسة مجلس التحقيق. وفي سنة ١٢٨٤ صار رئيسا للبلدية ، وبقي إلى سنة ١٢٨٥ وفيها توجه إلى القسطنطينية لأشغال تتعلق بالأملاك الأميرية ، وعاد منها سنة ١٢٨٧ وعين على أثر حضوره عضوا في مجلس تمييز الولاية ، ثم اعتزل المناصب من سنة ١٢٩٠ إلى ١٢٩٥ ، ثم عين عضوا في مجلس التمييز للمرة الثانية وبقي إلى آخر سنة ١٢٩٨ ، ثم عين عضوا في مجلس الإدارة ، وبعد ستة أشهر عين أيضا رئيسا للبلدية.

وفي سنة ١٣٠٣ انسحب من وظيفته ولزم البيت لشيخوخته إلى أن توفي يوم الجمعة في الثاني عشر من شعبان سنة ١٣٠٩ ، ودفن في تربة الصالحين.

ونال من الرتب رتبة (بلاد خمس) وهي من الرتب العلمية.

ووصفه جميل أفندي الجابري في مجموعته فقال : كان طويل القامة نحيف الجسم جسورا مقداما حليما كريما سخيا ، عارك الدهر وعاركه ، لا يبالي برخاء ولا شدة ، حسن الاعتقاد مواظبا على الصلوات الخمس ، يتهجد في بعض الليالي ، قوي الحافظة يحفظ وقائع أيامه في أوقاتها وأيامها. وخلف خمسا من الذكور وهم مجيب أفندي وتقي الدين أفندي ونور الدين أفندي وجلال الدين أفندي ونجم الدين أفندي ، والأخير توفي شابا سنة ١٣١٦ ولم يتزوج.

١٢٨٠ ـ تقيّ الدين باشا المدرس المتوفى سنة ١٣١٠

تقي الدين باشا ابن الشيخ عبد الرحمن أفندي ابن الشيخ حسن أفندي المدرس. كانت ولادته سنة ١٢٣٠ تقريبا. قرأ على أفاضل بلده ، وحصل طرفا صالحا من العلوم العربية والفقهية واللسان التركي ، وتولى إفتاء حلب سنة ١٢٦٥. وبعد سنتين حصلت الواقعة المشهورة بقومة البلد ، وكثر هنا القيل والقال واتهم بأن له دخلا فيها ، فضاق بذلك ذرعا ووجد أن النزوح عنها أولى به ، فتوجه إلى بلاد الحجاز وأدى فريضة الحج سنة ١٢٦٨ ، وعاد من هناك إلى الآستانة ولم يحضر إلى حلب ، وهناك غير زيّه العلمي ولبس الطربوش ، وعين متصرفا للقارص ثم إلى أورفة ثم آدنة فكركوك فالموصل فبغداد ، وكانت البصرة وقتئذ مرتبطة ببغداد ، ثم سيواس ثم الحجاز ، وكانت توليته للحجاز سنة ١٢٩١.

٤١٣

وقد ذكره السيد الدحلاني في تاريخه «إعلام الأعلام بأمراء البلد الحرام» فقال في حوادث هذه السنة : وتولى بعده (بعد محمد رشدي باشا الشرواني) تقي الدين باشا الحلبي ، وكان مفتيا في حلب كأبيه من قبله ، ثم وقعت فتنة في حلب اتهم بالتسبب لها ، فوقع بينه وبين أهل حلب تنافر ، فعزل من الفتوى وتوجه إلى دار السلطنة ودخل في سلك الملكية وأعطي رتبة الوزارة ، وترقى وولي ولايات ، منها بغداد وليها سنة واحدة بعد نامق باشا ، ثم عزل من بغداد وجاء إلى دار السلطنة ، ثم أعطي ولاية الحجاز سنة إحدى وتسعين بعد وفاة الشرواني ، فقدم في ذي القعدة من السنة المذكورة ، وفي شهر ذي القعدة من سنة أربع وتسعين عزل عنها منها. ا ه.

أقول : ثم عين لبغداد للمرة الثانية ، وفي سنة ١٣٠٤ استعفى وعاد إلى حلب فوصلها في ٢٣ رجب كما ذكرته جريدة الفرات الرسمية ، فبقي مقدار شهرين ، ثم توجه إلى الآستانة ، وله فيها منزل فأقام فيه إلى أن توفي في رمضان سنة ١٣١٠.

ووقف كتبا كثيرا فيها المخطوط والمطبوع على المدرسة العثمانية بحلب وضعت مع الموقوفة من زمن الواقف ، وأرسل هذه الكتب من بغداد ، ووقف جميع أملاكه على المدرسة المذكورة. وشرط في كتاب وقفه أن يقرأ في كل يوم بعد صلاة الصبح ثلاثون جزءا من القرآن يقرؤها ثلاثون طالبا ، وشرط لكل قارىء ثلاثين قرشا في الشهر ، والعمل جار على ذلك إلى يومنا هذا ، رحمه‌الله تعالى وأجزل ثوابه.

١٢٨١ ـ جبرائيل بن عبد الله الدلّال المتوفى سنة ١٣١٠ ه‍ و ١٨٩٢ م

ترجمه صاحب كتاب «الصحافة العربية» فقال : نشر قسطاكي بك الحمصي سنة ١٩٠٣ في كتيّب عنوانه «السحر الحلال في شعر الدلّال» ترجمته فاقتطفنا منها ما يأتي وأضفنا بعض زيادات تناسب المقام :

ولد في ٢ نيسان سنة ١٨٣٦ ، وهو سليل بيت كريم من أعرق بيوتات حلب في العز والجاه ، فنشأ في بيت أبيه عبد الله الدلال ومجلسه إذ ذاك منتدى الفضلاء ومثابة النبلاء ، يقصده أدباء الوقت وشعراؤه كفتح الله مرّاش ونصر الله الطرابلسي وسواهما. وفقد صاحب الترجمة أباه صغيرا فاعتنت شقيقته مادلينا بتربيته وهي من فاضلات النساء.

٤١٤

وقد نظم المعلم بطرس كرامة تاريخا لضريح عبد الله الدلال بقوله :

لحد ثواه ابن دلّال التقى فغدا

برحمة الملك القدوس مغمورا

قضى الحياة على نهج الصلاح وقد

لاقى المنية مبرورا ومشكورا

ناداه رب غفور إذ تؤرخه

نل جنة الخلد عبد الله مسرورا

١٨٤٧

ولما أكمل درس مبادىء اللغة العربية أرسلته أخته إلى مدرسة عين طورا بلبنان ، فلم يلبث فيها إلا ستة شهور ، ثم عاد إلى حلب وكأنه قد درس الفرنسية والإيطالية سنين طوالا ، وذلك لما أوتيه من توقد الذهن وملكة الحفظ ، فأقام فيها يطالع العلوم بنفسه ويدرس أصول اللسان التركي.

ومال إلى اقتناء الكتب فلم يقع كتاب نفيس في يده إلا اشتراه فأصاب حظا وافرا من علوم العرب. وكان يحفظ جل ما كان يقرؤه ، فكان يتذكر في الخمسين من عمره ما كان قرأه مرة واحدة قبل ذلك بثلاثين سنة. وكان يحفظ ديوان المتنبي وأكثر شعر الصفيّ ومقامات الحريري وكثيرا من مقدمة ابن خلدون والمعلقات السبع وطائفة من أشعار العرب وقسما كبيرا من القرآن.

وكانت له مشاركة في أكثر العلوم. ودرس فن الرسم فأصاب شيئا منه. وكان شديد الولوع بالغناء ، عارفا بفن الموسيقى ، متمكنا من علمي الجغرافيا والتاريخ.

وله رسالة في التاريخ العام غير كاملة.

وكان يحرز حصة حسنة من العلوم الرياضية والفلسفة والطب ، وكان يتبع العلوم والفنون العصرية والاكتشافات والاختراعات ، فكان صدره أشبه بخزانة علوم وفنون ، فلا يسأل عن علم أو اختراع أو مسألة فلكية أو سياسية إلا ويجيب أحسن جواب ، بل كثيرا ما كان يأخذ في الشرح والتعليل كأنه من أئمة ذلك الفن فيجيد غاية الإجادة.

وكان طيب الحديث لسنا فصيحا وشاعرا متفننا من الطراز الأول (في هذا مبالغة) سريع التصور لطيف الشمائل خفيف الروح صحيح الانتقاد يميل إلى المزاح أحيانا.

وكان الغالب على طباعه سلامة السريرة وكثرة الوفاء وحرية الفكر.

٤١٥

ولما كان في نحو العشرين من عمره مات له عم في القسطنطينية بلا عقب وترك ثروة كبيرة ، فسافر إليها ليستولي على حصته من التركة المذكورة ، ثم عاد إلى وطنه بعد خمسة شهور ، وعلى إثر رجوعه بمدة قصيرة تزوج فتاة من أجمل بنات الشهباء بل بنات الشرق ، جامعة بين الذكاء والصيانة. وفي سنة ١٨٦٨ عاد إلى القسطنطينية فلبث فيها إلى السنة التالية ، وفي تلك الأثناء نظم من القصائد والمقطعات شيئا كثيرا ، كقوله من قصيدة يمدح بها جودت باشا :

العلم بعض صفاته والفضل بع

ض خلاله والعلم بعض خصاله

والجود من أسمائه والسعد من

قرنائه واليمن من إقباله

ثم استصحب قرينته معه إلى أوربا وزار أكثر مدنها الشهيرة. وبعد مدة قصد صاحب الترجمة بلاد البورتوغال لقضاء حاجة كانت في نفس أحد أصحابه من الأشراف كان توسل إليه في التماسها من ملك تلك الدولة ، فلما تشرف بمقابلة الملك أجاب الملك سؤله وبلغه مأموله وربح جبرائيل من ذلك مالا جزيلا.

ومر في طريقه بإسبانيا وأحب أن يتفقد آثار العرب في الأندلس وما كان لهم هناك من ضخامة الملك واتساع الحضارة ، ثم عاد إلى مرسيليا حيث أصيبت قرينته بمرض عضال فماتت مأسوفا على شبابها ، فرثاها رثاء مؤثرا بقوله :

لي حالة يكتمها تجلدي

إظهارها يصدع قلب الجلمد

قد شرّد الغم جناني بالأسى

وقيّد الهم لساني ويدي

فباطن تبكي له أحبتي

وظاهر تضحك منه حسّدي

وما جرى نفي الكرى وفي الورى

بعد الذرى عدت أرى في الوبد (١)

في محنتي وفكرتي ولوعتي

تجلدي تسهدي تنهدي

وهمتي تأبى الخمول فترى ال

جدّ مقيمي والقضاء مقعدي

على شبابي والبلاء والفنا

واحسرتي واحزني واكمدي

ولما لم يطق الإقامة في المدينة المذكورة بعد هذا المصاب سار إلى باريس ، ومنها إلى بلاد الجزائر في المغرب الأوسط ، ومنها إلى بلجيكا. ثم رجع فألقى عصا التسيار في باريس ،

__________________

(١) الوبد : الفقر والبؤس وسوء الحال.

٤١٦

وهناك انتدبه سنة ١٨٧٧ وزير المعارف لتحرير جريدة (الصدى) العربية التي كانت تصدر فيها بأمر الحكومة الفرنسية.

وكان يترجم بين سفراء الحكومات العربية الذين كانوا يقصدون باريس كوزراء مراكش وتونس وزنجبار وبين وزراء فرنسا وغيرهم من أشراف العاصمة. وبين أولئك الوزراء نذكر خير الدين باشا وزير باي تونس ، فإنه اتخذ صاحب الترجمة نديما له وجعله أمين سره وكلفه ترجمة رسالات عديدة سياسية من اللسان العربي إلى الفرنسي وتهذيب بعض الرسائل التي كان يكتبها الوزير بالعربية. وقد توثقت عرى المودة بينهما فلم يكن يستغني عنه يوما ، حتى إنه استصحبه معه إلى حمّامات فيشي حيثما كان يذهب في صيف كل عام أكثر رجال السياسة من سائر الممالك للمذاكرة في المهمات متسترين ببراقع الاستحمام.

ومن غرر أشعاره الموشح الذي مدح به خير الدين باشا ومطلعه :

ساعد الحظّ بذا اليوم السعيد

طالع ميمون

فغدا عود اللقا أبهج عيد

صفوه مضمون

جرد البرق على عنق الغمام

صارما بتّار

فانبرى يفتك في جيش الظلام

آخذا بالثار

وهفا خفقا كعتب المستهام

إثر ركب ثار

ولما انتدب خير الدين باشا سنة ١٨٧٩ لمنصب الصدارة العظمى كتب إلى جبرائيل يستدعيه إلى القسطنطينية ، فلبى هذا أمر الصدر الأعظم ، وكان يأكل على مائدته ويملي على سمعه درر مفاكهته ، وكلفه الصدر المشار إليه إنشاء جريدة (السلام) وكان خير الدين باشا ينشر بها آراءه السياسية وأفكاره في طرق إصلاح السلطنة ، ثم ألغيت الجريدة. وكان صاحب الترجمة قد نال شهرة بعيدة لدى أعاظم رجال الدولة العثمانية.

وبعد استقالة خير الدين باشا من منصب الصدارة وردت الرسائل على الدلال من رئيس المكتب الملكي في فينا عاصمة النمسا التي يطلب بها إليه أن يكون أستاذا أول في المكتب المذكور ، فرحل إليها سنة ١٨٨٢ حيثما لبث سنتين. وألف لتلامذته رسالة في الهمزة وأحكامها ، ورسالة ثانية في قواعد اللغة العربية تقرّب منالها على الطالبين من الفرنج.

وكان يراسل في أسفاره أهم جرائد ذلك العصر كصحيفة (الجوائب) في الآستانة

٤١٧

و (الجنان) في بيروت و (الأهرام) في الإسكندرية و (مرآة الأحوال) في لندن.

وفي تلك الأثناء اقترح عليه السيد موسى المفضل وزير مراكش أن يمدح سلطانها مولاي حسن ، فنظم قصيدة من غرر القصائد حازت حسن القبول.

ولما وافى باريس ناصر الدين شاه إيران طلب وزيره حينذاك يعقوب خان إلى جبرائيل دلال أن يمدح جلالته ، فنظم قصيدة شائقة مطلعها :

يا أيها الملك المظفّر

ذو البطش والليث الغضنفر

يا ناصر الدين الذي

في الملك قام مقام حيدر

وفي صيف سنة ١٨٨٤ عاد إلى حلب بعد أن طال رحيله عنها نحو سبعة عشر عاما وقد طبقت شهرته الآفاق واشرأبت لرؤيته الأعناق ، فأقام في منزله مجلسا للآداب جمع فيه شتيت ذوي الألباب ، لم تر مثله الشهباء منذ قديم الزمان ، غير أن بعض الحساد افتروا عليه قولا زورا وفعلا يعلو هذا الصحافي علوّا كبيرا ، فعكروا صفاء أيامه ، وسئمت نفسه الإقامة في وطنه مع شدة تعلقه به ، فرحل عنه ولسان حاله ينشد مع الشاعر (١) :

سيذكرني قومي إذا جد جدّهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

وأم مدينة بيروت ، فلقي من حفاوة علمائها به ما أنساه شيئا من الأكدار التي صادفها في آخر أيام إقامته بحلب. ثم قصد القسطنطينية وحل ضيفا على صديقه منيف باشا وزير المعارف الذي أعاده إلى الشهباء وعينه لوظيفة أمين خزانة مجلس المعارف في مركز ولايتها ، وأضاف إليه منصب أستاذ أول للغة الفرنسية في المكتب الإعدادي في المدينة المذكورة ، وقال له حينئذ هذا الوزير : [إن هذا دون ما يليق بفضلك ووجاهتك ، ولكن إن قدر الله فستنال بعده ما يشرح صدور أهل الفضل] فقام الدلال بخدمة ذلك المنصب بكل أمانة ، إلى أن اتهم بتأليف وطبع قصيدة (العرش والهيكل) المشهورة التي لم ترق في عيون الحكام المستبدين في العهد الحميدي ، فعزل من منصبه وألقي في السجن مدة سنتين حتى فاجأته المنية في صبح الرابع والعشرين من كانون الأول سنة ١٨٩٢ عن ستة وخمسين عاما قضاها في الأسفار وخدمة العلم ، فتقاطر آله وأصحابه ونقلوه إلى منزله ، ثم دفن بين ذرف

__________________

(١) هو أبو فراس الحمداني.

٤١٨

العبرات وتردد الحسرات. وقد نظم قسطاكي بك حمصي هذه الأبيات لتنقش على ضريحه :

هاهنا اليوم ثوى بدر النهى

بعدما كان ينير الخافقين

هاهنا قد ألحدوا بحر الحجى

فيلسوف القطر نظّام اللجين

ذاك جبرائيل دلّال الذي

فضله قد ضاء مثل الفرقدين

يا أولي الفضل الثموا هذا الثرى

واندبوه أثرا من بعد عين

وترجمه صاحب مجلة المشرق في السنة الثالثة عشرة منها ، ومما قاله أنه نشأ على آداب والده ودرس في مدارس المرسلين في عين طورا وحلب ، وكان مغرما بالعلوم العصرية فأحرز منها حصة حسنة ، وانكب على الفنون العربية ودرس آثارها نثرا ونظما فصار من أوسع أهل وطنه معرفة بآداب العرب. وسافر غير مرة إلى الآستانة وتعلم فيها التركية ، وتجول في الأقطار حتى بلغ إسبانية والبرتغال وبلاد الجزائر ، وحط عصا التسيار في باريس فحرر مدة صحيفة (الصدى) لسان حال السياسة الفرنسوية ، وصار ترجمانا لوزارة المعارف. وتعرف في منصبه بكثيرين من أهل الوجاهة القادمين إلى باريس. ثم استدعاه الوزير خير الدين باشا لما قلد منصب الوزارة إلى دار السلطنة لينشىء فيها صحيفة (السلام) ، ولكن تلك الجريدة لم تلبث أن تلغى بعد استقالة خير الدين باشا ، فطلبه المكتب العلمي في فيانا ليدرس العربية في كليتها ، ففعل مدة سنتين ، وصنف هناك بعض المصنفات ، منها رسالة في ملخص التاريخ العام ورسالات لغوية. ثم عاد إلى وطنه سنة ١٨٨٤ بعد تغيبه عنه عشرين سنة. فبقي مدة يتعاطى الآداب ، وهناك اجتمعنا به سنة ١٨٨٧ ونقلنا بعض مخطوطات مكتبته ، وما كنا لنظن أن هذه المكتبة ستباع يوما ويقع في يدنا كثير من آثارها.

وكان صاحب الترجمة لاختلاطه بأهل السياسة في أوربة عرف ما تقتضيه بلاده من الإصلاحات ففرط منه بعض أقوال نقلت إلى ذوي الأمر ، فألقي في الحبس وبقي هناك إلى يوم وفاته في سنة ١٨٩٢ ، وقيل إنه قتل مسموما في اليوم الذي جاء الأمر بإطلاقه والله أعلم.

وكان بين جبرائيل الدلال وبعض مشاهير العصر وشعرائه مراسلات ومساجلات ، وله قدود غناء وكان بارعا بأصول الموسيقى.

٤١٩

وقد جمع الأديب البارع قسطاكي أفندي الحمصي ما وجده من آثاره الأدبية في كتاب دعاه «السحر الحلال في شعر الدلال» وصفناه في المشرق (٦ : ٨٩٥) واقتطفنا بعض جناه ، أوله فيه قصائد غراء مدح فيها علية زمانه ، فمن ذلك قصيدة نظمها في ناصر الدين شاه ملك إيران في جملتها في مدح السلم والعدل :

فالسلم أوفى واقيا

ولثروة البلدان أوفر

والعدل إن عم المما

لك شاد علياها وعمّر

والباقيات الصالحات على

مرور الدهر تذكر

ومن طيب نثره ما روي له هناك من جواب إلى صديق :

كتبت أعزك الله وقد وصلني طرسك الذي فاق الدر النضيد ببهجته ، وأزرى على رخيم الثغر بلهجته ، وإني لأحق بابتدائك بما ابتدأتني به من الصلة تفضلا ، ولكن قدر لك عليّ السبق وأن تكون في كل شيء أولا ، فلساني عاطر بشكرك ، وقلبي عامر بذكرك ، غبت أو حضرت ، سرت أو أقمت ، فو الله لم أذكر أيام اللقاء ولذتها إلا وطارت نفسي شعاعا ، ولا تخيلت ساعات الوداع وكربتها إلا وزادني الشوق التياعا ... فإن تأملت قصر مدة ألفتنا هاج بي الشوق آلاما ، وإن تذكرت صميم صحبتنا زادني التذكار هياما ، وإذا فكرت في فرقتنا قلت ما كان اللقاء إلا مناما. ا ه.

ومن بديع نثره كتاب أرسله إلى الطبيب بكري أفندي زبيدة يعزيه فيه بوفاة والدته ، وقد رأيته عند حفيده بخطه وهو :

كتبت أطال الله بقاء مولاي ولي فؤاد منشغل لبلبالك ، وخاطر كدر لاضطراب بالك ، وقد بلغني الآن (وأن الآن) الخبر الذي تعثرت فيه الألسن بالأفواه ، وأربدّت الوجوه وتطبت الجباه ، وهو وفاة سيدة العقائل ، وكريمة الأوصاف والشمائل ، حضرة والدتكم تغمدها الله برحمته ورضوانه ، وأسكنها فسيح جنانه ، وبوّأ روحها أعلى عليين ، وهيّأ ذاتها بهيئة الحور العين ، وأعانكم على تجشم فقدها بالصبر الجميل إن الله مع الصابرين ، وعظم لكم به الأجر الجزيل وثواب المحسنين ، وهي والله أعز فقيد لخير فاقد فاق أدبا وفضلا وعلما.

٤٢٠