إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

وكان له عناية في اقتناء الكتب خصوصا الكتب الأدبية والتاريخية ، وله مطالعة فيها. واستنسخ «الدر المنتخب في تاريخ حلب» المنسوب لابن الشحنة ، واقتنى نسخة من «در الحبب في تاريخ حلب» لرضيّ الدين محمد الحنبلي.

ولما عولت على وضع هذا التاريخ وأخذت في البحث عما هو موجود في الشهباء من تواريخها بلغني أن عنده «در الحبب» ، فاستعرت النسخة منه وأخذت في استنساخها بخطي ، ولما بلغت نحو النصف طلب النسخة ، فأحببت أن أطلعه على مقدار ما كتبته منها ، ولما رآها استحسن خطي ورغب في أخذ نسختي بدل نسخته ، وهكذا كان ، وهي الآن محفوظة في خزانة ولده نوري بك وهي في ٦٩٦ صحيفة أكملت كتابتها في خامس عشر ذي الحجة سنة ١٣٢٣ ، وقد ألمعت إلى ذلك في المقدمة في الكلام على «در الحبب».

وعمر في محلة الفرافرة في الزقاق المعروف بزقاق القنايات دارا عظيمة صرف عليها مبالغ طائلة ، وزخرف إيوانها زخرفة بديعة بحيث كتب في صدره من قضبان المرمر الأسود بالخط الكوفي ستة أسطر :

(١) البسملة

(٢) لا إله إلا الله

(٣) محمد رسول الله

(٤) صلى الله عليه وعلى

(٥) آله وصحبه وسلم

(٦) في سنة ١٣٢٤.

وطول تلك الكتابة نحو سبعة أشبار وعرضها أربعة ، والحجارة التي بجانبها والقنطرة المتوجة بها قد نقشت نقشا بديعا. وقد غدت تلك الكتابة وما احتف بها آية في البهاء وحسن المنظر. ثم بدا له فباعها واشترى عرصة واسعة مساحتها ٢٥ ألف ذراع في الأرض المسماة بجبل الغزالات شمالي حلب في شرقيها ، وبنى هناك دارا عظيمة بالقرب من الثكنة العسكرية ليس هناك دار سواها ، قصد بذلك تنشيط النفس وصفاء الهواء ، غير أنه لم يتم له ما أراد وفاجأته المنية قبل نوال هذه الأمنية ، فمرض أياما وتوفي يوم الثلاثاء في السادس

٥٤١

والعشرين من رجب سنة ١٣٣٤ ، ودفن بين أقاربه وذويه في تربة مقام إبراهيم عليه‌السلام المعروفة بالصالحين ، رحمه‌الله تعالى.

١٣١٧ ـ محمد صالح آغا كتخدا المتوفى سنة ١٣٣٥

محمد صالح آغا ابن مصطفى آغا ابن الحاج بكّور آغا ، أحد أعيان الشهباء وسراتها.

وجده الحاج بكّور آغا هو أول من سكن حلب ، وقد كان قاطنا في بلدة كفر تخاريم من أعمال حلب ، وكان شيخها والمشار إليه فيها ، وكان مثريا سخي اليد ، فمر به يوما قائمقام أنطاكية علي رضا باشا ، وكان يوما كثير الأمطار ، فأكرم الحاج بكور مثواه وقام به وبحاشيته أحسن قيام. ثم عيّن علي رضا باشا واليا على حلب ، وذلك سنة ١٢٤٥. وفي ذلك الوقت عصا داود باشا والي بغداد ، فأمر علي رضا باشا بالتوجه إلى بغداد لمحاربة داود باشا ، وصارت تأتيه العساكر إلى حلب وتحتشد فيها ، وأخذ علي رضا باشا في جمع الذخائر من هذه البلاد ليستصحبها معه ، فتوجه مع بعض العسكر إلى ما حول حلب من البلاد وفرض على بلدة كفر تخاريم فريضة وحيث إن أهالي هذا القضاء كانوا فقراء والمترجم غنيا ، فحينما بلغه ذلك قال لأهل بلدته : أنتم لا تدفعوا شيئا ، أنا أعطي الجميع من مالي. فبلغ ذلك مسامع علي رضا باشا ، فسر لذلك وقدر له هذا الإحسان مع إكرامه السابق له ، وحينئذ طلب منه أن يستصحبه معه إلى بغداد لفتحها ، وهكذا كان ، وذهب معه نحو ١٥ شخصا من حواشيه وأقاربه. وبعد أن تم الفتح وانتصر على داود باشا وأرسله إلى الآستانة توجه هو إليها واستصحب معه الحاج بكور آغا وأدخله على السلطان محمود ، فأكرمه وأنعم عليه بهدايا ، وبقي هناك إلى حين وفاته بها سنة ١٢٥٨.

وأما المترجم صالح آغا فقد كانت ولادته سنة ١٢٦٩. ولما ترعرع قرأ على الشيخ علي الكحيل أمين الفتوى في مقدمات العلوم وعلى غيره من فضلاء عصره ، فحصل من النحو وغيره طرفا ، وحبب إليه العلم وأهله والأدب وذووه ، ونظرا لثروته أخذ في شراء الكتب واقتنائها ، فصار لديه مكتبة نفيسة كبيرة تزيد على عشر خزائن فيها عدة كتب من نفائس المخطوطات ، منها شرح العلامة الزبيدي على القاموس المسمى «بتاج العروس» رأيته عنده ، في تسعة مجلدات ، ولما طبع هذا الشرح الجليل أرسلت هذه النسخة بالأمر من السلطان عبد الحميد خان العثماني إلى مصر ، ولما طبع هذا الكتاب أعيدت إلى هنا.

٥٤٢

٥٤٣

وكان المترجم يضع في كل بيت من بيوت داره الواسعة خزانة من كتبه فيطالع فيها في الأدب والتاريخ ، وقد كان مولعا بهما ، ويحفظ قسما كبيرا من المعلقات وغيرها. وكان منزله الخارجي (القناق) مجمعا للعلماء والأدباء أمثال شيخنا الشيخ بشير الغزي وأخيه الشيخ كامل والشاعر يوسف الداده وغيرهم.

وتولى عدة وظائف ، فصار عضوا في محكمة بداية الحقوق ، ثم في محكمة استئناف الجزاء ، ورئيسا لغرفة التجارة في حلب ، وصار رئيسا للمجلس البلدي أولا وثانيا ، وولايته للمرة الثانية كانت سنة ١٣٢٥ هجرية حينما كان والي الولاية محمد ناظم باشا.

وجرى له معه حادثة وهي أنه في السنة المتقدمة والتي قبلها حصلت عمارة في الجامع الكبير ذكرناها في أواخر الجزء الثالث (ص ٤٠١) ، وعيّن المترجم ناظرا للعمل ، وقد فاتنا أن نذكر ذلك ثمة ، وصرف وقتئذ ألفا ليرة عثمانية ذهبا. ولما قدّم المترجم دفتر المصروف لم يوافق المجلس على ختمه ، وكان المعارض في ذلك الشيخ محمد العبيسي مفتي حلب لأمر كان بينهما ، فبلغ المترجم ذلك فحمل ألفي ليرة وذهب إلى المجلس ، ولما دخل قال : إن ما صرفته على الجامع هو تبرع مني إليه ، وها هي الألفا ليرة. وحينئذ أدرك الوالي ناظم باشا وبقية الأعضاء سر المسألة وأخذوا في تلطيف خاطره وختموا له الدفتر وأعادوا له الدراهم.

ومن مزاياه أنه كان صادق اللهجة مستقيما حسن الوفاء لما وعد به ، مبسوط اليد لا يألوا جهدا في بذل المعروف لذوي الحاجة والفاقة ، مبذول الجاه لمن قصده بقدر الإمكان ، باش الوجه متواضعا. وامتدحه عدة من شعراء الشهباء بعدة قصائد. ومع مداخلته في أمور الحكومة وتوليه للوظائف المتقدمة وغيرها من اللجان (القومسيونات) التي عين فيها تارة رئيسا وتارة عضوا لم يلبس الثياب الضيقة التي يلبسها الحكام المسماة (بالسترة والبنطلون) بل بقي على لباسه العربي ، وهو الثوب المعروف بالقنباز ، وفوقه زنار من الشال الهندي وجبّة طويلة من الجوخ كما تراه في رسمه.

وفي نواحي سنة ١٣٢٧ بعد أن انتهت مدة رئاسته للبلدية لزم بيته وعكف على المطالعة كما قدمنا وعلى النظر في شؤون أملاكه وزراعته وزيتونه الذي في نواحي كفر تخاريم وسلقين ، إلى أن وافاه الأجل المحتوم ، وذلك يوم الثلاثاء في العشرين من جمادى الأولى سنة ١٣٣٥ ، ودفن في تربة الصالحين ، رحمه‌الله تعالى.

٥٤٤

١٣١٨ ـ الشيخ عبد الرحمن الحجّار المتوفى سنة ١٣٣٦

الشيخ عبد الرحمن ابن الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الحجّار المعروف بابن شنّون ، أحد من تزينت الشهباء بعلمه ، وجرّت ذيل الفخار بفضله إلى أخلاق كريمة وشمائل حسنة.

ولد رحمه‌الله تعالى في محلة الفرافرة في حدود سنة ألف ومائتين وسبعين ، ولما بلغ من العمر ثماني سنين توفي والده وذلك في سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين كما تقدم في ترجمته.

وكان قد حفظ القرآن وجوّده على المقرىء الشهير الشيخ شريف ، ثم خرج من المكتب وسنه إحدى عشرة سنة وجاور في المدرسة العثمانية مشتغلا بتحصيل العلوم ، فأخذ عن العلامة الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب ، وتلقى الحديث عن تلميذ والده الشيخ عبد القادر الحبّال وأجازه بمروياته عن شيخه والد المترجم ، ولذا كان المترجم بعد ذلك إذا حدّث يقول : بسندي عن الشيخ عبد القادر عن شيخه والدي الشيخ أحمد عن شيخه فلان ، إلى أن يصل إلى الإمام البخاري رضي‌الله‌عنه. وأخذ أيضا عن الشيخ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني والشيخ أحمد الكواكبي وغيرهم من فضلاء عصره.

وقبيل الثلاثمائة وألف توجه إلى مصر فجاور في أزهرها ثلاث سنين تقريبا ، وصادف وقتئذ احتلال الدولة الإنكليزية للديار المصرية ، وكان رفيقه وقت المجاورة الشيخ عبد الحميد الرافعي الذي تولى قضاء حلب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف ، والشيخ محمد العبيسي الحموي الذي تولى إفتاءها ، والعلامة الشيخ محمد الحسيني الطرابلسي صاحب التفسير الذي طبع منه الآن جزء واحد.

وفي حدود الثلاثماية سافر إلى الآستانة وحل ضيفا كريما في منزل الشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الشهير ، فأكرم مثواه. واتفق له وهو هناك أنه كان يتجول يوما في شوارع الآستانة ، فساقته التقادير إلى سراي السلطان مراد رحمه‌الله ، فرآه بعض الخفراء الواقفين هناك ، فمشى نحوه خطوات وأخذ بيده وكلفه بالرجوع من الحرم إلى الحل ، وقال له : لو رآك غيري لكنت طعمة للحيتان ، ولكني رأيت زيّك زيّ أهل العلم وعلمت أنك غريب الأوطان ولا تدري ما هو هذا المكان ، فإياك أن تعود إلى هنا. فكرّ راجعا وقد

٥٤٥

امتلأ قلبه فزعا وفرقا ، لأنه كان عالما بما كان عليه السلطان عبد الحميد من السطوة والبطش.

ثم إن الشيخ أبا الهدى شوّقه إلى السياحة والرحلة إلى البلاد الهندية بقصد نشر الطريقة الرفاعية هناك ، وحسّن له ذلك ، فأجابه إلى ما طلب ، وأخذ عنه الطريقة ، وسافر قاصدا تلك البلاد الشاسعة ، ولما وصلها حاول أن يتوصل إلى غرضه ويقوم بما عهد إليه ، فلم يتمكن من ذلك ، وذلك لشدة تمسك أهالي الهند بالطريقة القادرية واحترامهم العظيم المجاوز للحد للشيخ عبد القادر الكيلاني ، فأخفقت مساعيه وخابت آمال مرسله إلى هناك ، فعاد إلى وطنه حلب ، فألقى فيها عصا تسياره.

وكان قبل سفره وجه إليه درس الحديث في الجامع الكبير وهو درس أبيه ، فأخذ في قراءته وعيّن خطيبا وإماما في جامع المدرسة الشعبانية ومدرسا عاما في مسجد شاهين بك ، وصار شيخا في مشيخة الزاوية الهلالية بعد وفاة شيخها الشيخ بكّور الهلالي رحمه‌الله وكالة عن الشيخ عبد القادر الهلالي ابن الشيخ بكور إذ كان صغيرا وقتئذ. وصار يقرىء دروسا نحوية وفقهية وغير ذلك ، فتلقى عنه الشيخ عبد الرحمن أبو قوس والشيخ مظهر أفندي الريحاوي الذي تولى القضاء في عدة أقضية من معاملات حلب. وصار في أواخر حياته مستشارا في المحكمة الشرعية في حلب والشيخ زكي أفندي الكاتب قاضي منبج الآن وغيرهم.

وفي سنة عشر وثلاثمائة عيّن مفتيا للرقة من معاملات حلب ، فتوجه إليها ، ولما وصلها واستلم زمام وظيفته وجد أهلها على غاية من الجهل في أمور دينهم ودنياهم ، فنشر العلم هناك وصار يقرأ دروسا عامة ويعظ الناس ويحثهم على إقامة الصلاة ، إذ كان القليل فيهم من يؤديها لفرط جهلهم ، فلم تمض مدة وجيزة إلا وصار غالب أهاليها يقيمون الصلاة حتى النساء ، فصدق عليه حديث (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).

وأقرأ هناك كتاب «الموطأ» للإمام مالك. والخلاصة أن الأهالي هناك انتفعوا به مزيد النفع إذ قد طالت مدته فيهم. وسعى في تلك المدة ببناء جامع واسع مشتمل على عدة حجرات ، وبني بناء حسنا بحيث لا يوجد في البلدة بناء أجمل ولا أحكم منه. وسعى

٥٤٦

ببناء مكتب رشدي وصار يحث الناس على تعليم أبنائهم وإخراجهم من هذا الجهل الفاشي فيهم ، فصار الناس من ذلك الحين يرسلون بأبنائهم لهذا المكتب ، وفشت فيما بينهم القراءة والكتابة بعد أن كانت الأمية غالبة فيهم.

وكان مع تلك الهمة آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وربما سعى وهو في الرقة في إزالة المنكر بيده ، وذلك لما صار له هناك من الكلمة النافذة والقول المسموع ، ولما في قلوب الأهالي من المحبة له لما وجدوه فيه من الاستقامة والزهد فيما في أيديهم.

وكان يتردد في أثناء تلك المدة إلى حلب لزيارة أقاربه وأحبابه ، فكنت أزوره ويزورني لما بيني وبينه من الصداقة المحكمة والمودة الخالصة من عهد الآباء والأجداد ، بل ولما بيننا وبينه من نوع القرابة ، فإن أخاه الشيخ عارف الذي لا زال حيا إلى الآن كان متزوجا ببنت عمتي الحاجّة عائشة. وأذكر أنه في إحدى قدماته صادف أن عقد عقدا لبعض أقاربنا في قاعتنا الكبيرة في دارنا في محلة باب قنسرين ، وحضر هذا العقد الجم الغفير من العلماء والفضلاء والوجهاء ، وكان المترجم فخطب خطبة النكاح وهي من إنشائه الحسن ، فكان لها تأثير عظيم في النفوس ، وكان لها رنة استحسان والكثير من الناس يتذكرونها إلى الآن.

ولم يزل على طريقته الحسنة وحرمته وإجلاله عند أهالي الشهباء والرقة إلى أن توفي هناك ليلة السبت سلخ شهر ذي الحجة سنة ١٣٣٦ ، وخرج لتشييع جنازته معظم أهل الرقة الرجال والنساء والأطفال ، ودفن بالقرب من مقام أويس القرني ، رحمه‌الله تعالى. ولما جاء نبأ نعيه إلى حلب أسف عليه جميع عارفي فضله وكريم أخلاقه.

وكان مربوع القامة إلى الطول أقرب ، بدينا ، مستدير الوجه أبيضه ، كث اللحية نيّر الشيبة ، دائم البشاشة يبدو البشر على أسارير وجهه ، محبوبا لدى الحكام والوجهاء مقبول الشفاعة لديهم.

وله من المؤلفات رسالة سماها «النافجة المسكية في الظباء الهندية» حقق فيها مسألة الروح واختلاف العلماء فيها تحقيقا جميلا. ورسالة في التقاء الختانين سماها «الأكسال في حديث الإنزال» وهو (إنما الماء من الماء) ، وعدة خطب منبرية ملتزما ذكر الفروع الفقهية والمواعظ الحكمية ، وعدة خطب في عقود الأنكحة منها الخطبة التي ألمعنا إليها ، ولو لا طولها لأتينا عليها برمتها.

٥٤٧

وبالجملة فقد كان من محاسن الشهباء ومن جملة مفاخرها ، رحمه‌الله تعالى.

١٣١٩ ـ الشيخ مصطفى الهلالي المتوفى سنة ١٣٣٧

الشيخ مصطفى ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ إبراهيم الهلالي ، الحلبي مولدا ومنشأ ، الشافعي مذهبا ، القادري الخلوتي طريقة.

ولد سنة ثمان وستين ومائتين وألف. وكان جده كثير المحبة والعناية به ، ولما بلغ عشر سنين توفي جده وأوصى به أباه. وفي تلك السنة خرج من المكتب متعلما القرآن والكتابة ، فدخل المدرسة الشعبانية وأخذ في حفظ المتون وشرع في الحضور على الشيخ محمد شهيد الترمانيني الفقيه الشافعي المشهور بالعلم والورع ، قرأ عليه كتبا كثيرة ، منها شرح ابن عقيل على الألفية ، وشرح الأشموني عليها ، والباجوري على شرح ابن قاسم ، وحاشية الشرقاوي ، والمنهج في الفقه الشافعي.

وتلقى النحو على شيخنا العلامة الفقيه الكبير الشيخ محمد الزرقا ، وقرأ عليه ثانية حاشية الخضري على شرح ابن عقيل وغير ذلك.

وقرأ الحديث على الشيخ عبد القادر الحبّال وأجازه بمروياته وأسانيده.

وقرأ الفقه الحنفي على شيخنا الشيخ محمد الجزماتي ، حضر عليه حاشية ابن عابدين على الدر المختار. وقرأ على الشيخ حسين الكردي مدرس العثمانية في الأصول والتفسير ، وآخر ما حضر عليه تفسير البيضاوي. وأخذ علم الفرائض على الشيخ عبد الرحمن عقيل المشهور في معرفة هذا العلم.

وفي ٧ رمضان من سنة ١٢٨٨ توفي والده الشيخ المرشد الشيخ إبراهيم ودفن في تربة الكليباتي خارج باب قنسرين ، فجلس موضعه على السجادة وأخذ في الإرشاد. وكان قد سلّك على والده وصار يختلي معه الخلوة الأربعينية مع مريديه ، وقبيل وفاته خلّفه وألبسه الخرقة القادرية وأذن له بإقامة الذكر. وكان مع ذلك مشتغلا بتحصيل العلم على ما ذكرنا ، وحفظ القرآن في أثناء ذلك ودلائل الخيرات عن ظهر قلب. وبعد وفاة والده كثر مريدوه وإخوانه بحيث زاد عددهم على عدد مريدي والده كثيرا ، وصار له إقبال تام وخصوصا عند أهل البر ، فقد كان لهم فيه اعتقاد عظيم وصار له فيهم خلفاء كثيرون.

٥٤٨

وكان يختلي على العادة في كل سنة أربعين يوما ، يبتدىء بذلك من عشرين شعبان ويخرج أول يوم من عيد الفطر. وكان معظم أيامه صائما وخصوصا يوم الخميس والاثنين ، فقد كان ملازما لصيامهما مع الإكثار من تلاوة القرآن ودلائل الخيرات والتهجد.

ومع اشتغاله في ذلك كان له دروس يطالعها ويقرؤها لبعض الطلبة والمريدين. ومن جملة من أخذ عنه الشيخ أحمد البدوي الجميلي الذي أقام في المدرسة الشعبانية مدة طويلة ، وكان يقرىء فيها الطلبة مبادىء العلوم من فقه ونحو ، ومنهم الشيخ سعيد الإدلبي ، والشيخ عيسى البيانوني وولده الشيخ إبراهيم الذي جلس بعده على السجادة.

وبالجملة فقد كان رحمه‌الله شاغلا وقته في التعبد والتهجد وقراءة الأوراد وإقامة الذكر بعد عصر الجمعة وقراءة الدروس.

وألف كتابا سماه «إرشاد الخليقة لسلوك طريق أهل الحقيقة» وهو في بيان أركان الطريق ، ومستند القوم في الرد على المنكرين ، ومقامات النفس ، وفي الفرق بين طريقتي السادة القادرية والسادة الخلوتية.

ولما كثر إخوانه بحيث كان تضيق بهم قبلية مسجد الأصفر الذي قدمنا أنه كان يقيم الذكر فيه سعى في سنة ١٣١٥ في بناء زاوية له في الزقاق المعروف بزقاق أبي درجين في التربة الخشابية التي قدمنا ذكرها والكلام عليها في الجزء الرابع ص (٣٩٨) ، وقد كانت خربة مهجورة مغلقة الباب من سنين ، فتح لها بعض مستأجري الفرن الذي في غربيها بابا ، وصار يضع فيها القش والحطب ، فاستلمها المترجم بإذن من الحاكم الشرعي وشرع في بناء مكان واسع لإقامة الذكر ومسجد للصلاة وإقامة الجمعة وحجرة للجلوس لها مدخل إلى مكان إقامة الذكر. وساعده أهل البر والإحسان في مصاريف ذلك ، وأتم هذه العمارة في سنة ١٣١٧ وصار يقيم الذكر هناك ويجلس في تلك الحجرة لزيارة الإخوان والقراءة للمرضى وكتابة التعاويذ والحجب لهم والتعبد وتلاوة القرآن وقراءة الدروس.

وما زال على ذلك إلى أن توفي ضحوة يوم الاثنين رابع ربيع الثاني سنة ألف وثلاثماية وسبع وثلاثين ، ودفن في تربة الكليباتي رحمه‌الله رحمة واسعة.

وخلف ذكورا وإناثا. ووقف على بناته داره العظيمة في محلة الجلّوم في الزقاق المعروف

٥٤٩

بزقاق الصليبة ، وهذه الدار هي دار جدي الشيخ هاشم استقل بها بعده عمي الشيخ عبد السلام فباعها للمترجم سنة ١٣٠٨.

١٣٢٠ ـ الحاج محمد الضالع التاجر المتوفى سنة ١٣٣٧

الحاج محمد بن محمود بن عثمان المعروف بالضالع ، التاجر الأديب.

كان والده من القصيم من بلاد نجد ، فانتقل إلى بغداد واستوطنها وملك بها ، وولد له المترجم بها سنة ١٢٥٩. وبعد أن قرأ القرآن وأحسن الخط وشب صار والده يرسله في تجارة المواشي بين حلب وبغداد ، إلى أن توفي والده فأقام بحلب واستوطنها ، وذلك بعد سنة ١٢٨٠ تقريبا. وحج منها سنة ١٢٩٢ ، ولما عاد تزوج بها سنة ١٢٩٣. ولا زال دائبا على التجارة في المواشي ، فوفق في تجارته وأثرى ، ومن ذلك الحين أخذ في عمل البر والإحسان ، فأنشأ في سنة ثلاثمائة وألف مسجدا في المحلة المعروفة بالضوضو وخصص له عقارات بجانبه تفي وارداتها لوظائف إقامة الشعائر فيه.

وحبب له وهو شاب العلم وأهله والأدب والمتحلون به ، فأخذ شيئا من النحو على شيخنا العلامة الشيخ بشير الغزّي ، وطالع الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي‌الله‌عنه. وأخذ بعد أن صار لديه ملكة حسنة في النحو في مطالعة كتب التفسير والحديث ، وأكثر من النظر في كتب الأدب والتاريخ ، وأكب على مطالعة كتب ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم وغيرها من كتب السلف وأخذ في الانتصار لهم. واجتمع لديه مكتبة نفيسة حوت كثيرا من الكتب المطبوعة لم تزل محفوظة عند أولاده إلى الآن.

وكان مكثرا من مطالعة الصحف والمجلات ، واقفا على أخبار العالم وسياسة الدول ، وقلما يخطىء له رأي في مطالعاته السياسية. ولما نشبت الحرب الروسية اليابانية كان من رأيه من بدء الحرب فوز اليابان فيها ، وأخذ يبرهن على ذلك خلافا لما كان عليه الأكثرون من العارفين.

وكان من رأيه أن لا تدخل الدولة العثمانية في حرب ما مع ولاياتها المنفصلة عنها لما كان يراه من ضعفها وانصراف أولياء الأمور فيها والقابضين على زمامها إلى البذخ والترف والانغماس في الملذات والشهوات وارتكاب الموبقات وعدم إقامة العدل وفشو الرشوة في

٥٥٠

محاكمها من أكبر مأمور إلى أصغره إلا من رحم ربك ، وهذه الأمور منذرات بالخراب سائقات إلى مهاوي الهلكة والدمار ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١) تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا.

ولما أعلنت النفير العام حينما نشبت الحرب العالمية الكبرى جزم بتشتتها واضمحلالها. وكان لا يعبأ بانتصارات الألمان ولا يقيم لها وزنا ، ويبرهن على انخذالها في هذه الحرب مهما طال ثباتها وتوالت انتصاراتها.

وكان من المنتحلين للمذهب الوهّابي (المنسوب لمحمد بن عبد الوهاب) ومن الدعاة إليه ، يناظر فيه عن علم ممزوج بآداب المناظرة وحسن المجادلة ، ولا يمنعه عن المجاهرة بعقيدته وأفكاره مخالفة الناس له في ذلك. ونبذه الناس لانتحاله هذا المذهب لمناظرته فيه ومطالعته كتب الشيخين ابن تيميّة وابن القيّم وإنكاره الشديد على أهل البدع ، ونسبوا كل من كان يحضر مجالسه إلى الوهّابية ، فكان يتحاماه أكثر عارفيه خصوصا في عهد السلطان عبد الحميد ، ومع هذا فإنه لم يزل مصرا على عقيدته ومجاهرته بآرائه ، لم يثن عزمه لوم لائم ولا وشاية واش.

وله رسالة وجيزة في الرد على خطبة المسيو جبرائيل هانوتو التزم فيه السجع ، فمنها قوله :

إن مقالته تقشعر منها الجلود ، وتتفطر منها الكبود ، أوقعت بعض الإسلام في حيرة. وصارت في مجتمعاتهم سيرة ، وتغيرت منهم السريرة ، فغدوا يتساءلون عن جنايتهم ، فالإنجيل شاهد ببراءتهم ، وكذلك الإلزاس واللورين ، وهم على ذلك من الشاهدين. وغير معلوم ما الحادي للوزير على هذا الأمر سوى ما كان من مسألة الحلول بمصر ، وأقرب منه مسألة فشوده. وما حصل فيها من الإهانة على جنوده ، فهي من أمل غير بعيد وتحمسه على غير الفاعل ما يطفأ له لهيب.

أعلينا جناح كندة إذ يغنم غازيهم ومنا الجزاء (٢)

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) البيت للحارث بن حلّزة اليشكري من معلقته.

٥٥١

ومنها قوله : وقد كثر على هذه المقالة الإنكار ، وتجاذبت للاكتشاف على سرها العقول والأفكار. وأكثر ما وقع في النفوس ، أن الموسيو غير بريء من جناية دريفوس. ولما شاع إعادة محاكمته ، وطلبها من هو بريء من جنايته ، اضطربت أفكار الوزير ، حذار يوم شره مستطير ، لعلمه ما بالقوم على وطنهم من الغيرة ، ولا مراعاة لمن خانه أمير كان أو أميرة ، فاضطرته صروف الأحوال ، إلى أن قال ما قال ، أراد به التمويه على العيون ، وإن كان عقلاؤهم يعدونه ضربا من الجنون ، ليصد عن دريفوس وإعادة محاكمته الأفكار ، ويشغلها بخز عبلاته عن كشف الحقايق والأسرار ، فابتدأ قبل الرغاء بالهدير ، فإن المسيو على نفسه بصير ، تهدد وتوعد ، وللمعاهدات الدولية بدّد ، ولصنعة الخالق أفسد ، وجدّك لا محبة بالمسيح ولا بغضا بمحمد ، بل لأمر خامر قلبه ، فرام بذلك قلبه. ا ه.

ومن نظمه قصيدة رد بها على المصريين ، وسبب ذلك أن الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني مدح الشيخ محمد بن عبد الوهّاب صاحب الدعوة ومؤسس المذهب الوهّابي في نجد بقصيدة أولها :

سلامي على نجد ومن كان في نجد

وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

سرت نسمة من أرض صنعا سقا الحيا

رباها وحيّاها بقهقة الرعد

سرت من أسير يسأل الريح إذ سرت

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

يذكرني مسراك نجدا وأهلها

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

قفي واسألي عن عالم حل سوحها

به يهتدي من ضل عن منهج الرشد

محمد الهادي لسنة أحمد

فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي

لقد أنكرت كل الطوائف قوله

بلا صدر للحق منهم ولا ورد

وهي طويلة في ثمانية وستين بيتا ، فرد عليه الشيخ أبو بكر محمد بن غلبون المغربي الطرابلسي بقصيدة طويلة أيضا في أربعين بيتا مطلعها :

سلامي على أهل الإصابة والرشد

وليس على نجد ومن حل في نجد

بلاد بها بحر الجهالة مزبد

وأرض بها بحر الضلالة مستبدي

فهم فرّطوا في الدين جهلا وأبدعوا

مسائل عن نهج الإصابة في بعد

فهب سموم الزيغ من فيح أرضهم

وقوّاه من صنعاء من ضل عن رشد

٥٥٢

غدا ابن الأمير في تقاريع سوحه

كعشواء في الظلماء حيرانة القصد

تهوّر في شعر أناخ رحاله

بمهمهة قفراء ظمآنة الورد

شفاء غليلي في خميس عرمرم

يشن عليهم غارة البؤس والنكد

ورد عليه أيضا الشيخ مصطفى البولاقي بقصيدة طويلة في مائة وستة وعشرين بيتا مطلعها :

بحمد ولي الحمد لا الذم أستبدي

وبالحق لا بالخلق للحق أستهدي

وأهدي صلاة مع سلام ورحمة

إلى خير خلق الله مع كل مستهد

وبعد فقد مرت بسمعي قصيدة

هدية صنعاني إلى شيخه النجدي

يشم بها ريح الخنا من مقره

ويبصر منها كل مستبشع وغد

ومنشؤها جهل تركب فارتقى

بموصوفه أعلى ذرى الزور والجحد

وغايتها تحقيق ما هو باطل

ومحصولها مدح بملتزم الضد

فرد عليها الشيخ عبد اللطيف النجدي بقصيدة مطلعها :

تبسّم وجه النصر في طالع السعد

وأشرق نور الحق من موكب الرشد

وأيّد نظم للأمير محمد

فأدبر نحس للطوالع بالصد

وخر على الأركان من صنع ماهر

بناء بناه الناكبون عن القصد

وولى على الأعقاب أفجر عائب

يرى نفسه فردا أشد من الأسد

جهول ببولاق المصرة (ه) جهله

صريح ينادي بالتهافت في العقد

يحوم من الغربان يطلب رشده

وقد ضل من كان الغراب له يهدي

وقد حدت عن رد عليه بمنطق

عميم فخذ بالعلم عن كل مستهد

وألق سماعا للجواب ولا تكن

جهولا يرود الباب من جانب السد

فلما اطلع المترجم على الأصل والرد نظم قصيدة في الرد عليهما أيضا أولها :

سلام على من كان في قوله يهدي

بأي مكان حل في الغور أو نجد

ولا شك أن الأرض لم تخل من فتى

خلائقه ترضي وأفعاله تجدي

ومنها :

٥٥٣

ألا خبروني أنتمو وهمو فمن

يداهن في الدين الحنيفي على عمد

يرى كل أقوال الذين تقدموا

صوابا وإن كان الحلول بما يبدي

وتعظيمهم حتى غدا الدين هزأة

لكل جحود فاقد العقل والرشد

عزرتم وعزرتم به كل مارق

من الدين حتى قد تجاوز للحد

بتكذيب رسل الله والكتب التي

نهتنا عن الإشراك بالواحد الفرد

وهي طويلة أيضا. وهذه القصائد الخمس قد لخصت آراء الفريقين وما يرمي كل الآخر وما ينتقده عليه ، وإذا تأملت في ذلك ونظرت إليه بعين الإنصاف رأيت أن الطائفتين قد خرجتا من حيز الاعتدال ، فالوهّابيون فرّطوا وبعض العوام من الطائفة الأخرى أفرطوا ، وهما في حاجة إلى القصد في الأمر ونبذ رداء التغالي الذي يتردى به كلتاهما ، فهما والشيعة إذا جنحوا إلى تلك النقطة والتفوا حولها [وما ذلك على همة علماء الجميع بعظيم] نجوا جميعا من مخالب الغربي الذي تألب على الشرق ، وكان في ذلك حياتهم حياة سعيدة وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم. وما أحوج الأمة الإسلامية إلى استبدال هذا النزاع والشقاق بالوئام والوفاق. ولا سبيل إلى الوصول إلى هذه الضالة المنشودة ما دامت مختلفة النزعات متباينة العقائد ، فإذا عالجت تلك الأمراض بحكمة وروية لا تلبس عشية أو ضحاها إلا وتستعيد قوتها بعد الضعف وعزها بعد الهوان. وإني لا أيأس من أن يطلع فجر ذلك اليوم السعيد وتنير شمسه على العالم الإسلامي فيصبح منيع الجانب عظيم الشأن قوي السلطان.

ومن نظمه قصيدة رثى بها أحد علماء وأعيان الموصل مطلعها :

أتى بلسان البرق ما ضيّق الصدرا

وهيّج لي حزنا وقد أقلق الفكرا

كأني أرى فيه الصواعق أبرقت

وإني أرى من لمعه البؤس والضرا

ومنها :

جليل مقام نينوى تفتخر به

على جيله لو أنه يرتضي الفخرا

سقى الله أرضا حلها صيّب الرضى

وأبدل قبرا حله روضة خضرا

لقد كان يرجى منه خير دعائه

لنفع به في هذه الدار والأخرى

فأصبح محتاجا إليه ولم نكن

بأهل له أنى ونجتلب الوزرا

لهونا بدار اللهو في نحو من نرى

ونسعى فلا جهرا سلكنا ولا سرا

٥٥٤

ونمزج جهلا بالرياء فعالنا

ونخلط في أيماننا سفها نكرا

إلى الله أشكو ظاهري وسريرتي

وأسأله أمنا إذا بعثوا غبرا

وأسألك اللهم غفرانك الذي

هو العيش في الدنيا الهنّي وفي الأخرى

وله غير ذلك من القصائد.

وكانت وفاته ليلة الثلاثاء لأربع ليال خلت من شهر رمضان سنة ١٣٣٧ ، ودفن في تربة الشيخ جاكير. وأوصى بعشرة آلاف ليرة عثمانية ذهبا ، وهي أكبر وصية أوصي بها ، ولم نسمع برجل في هذا القرن أو الذي قبله أوصى بهذا المقدار ، وقد أنفق من هذه الوصية ألف ليرة يوم وفاته والتسعة ينفقها أولاده تباعا في حلب وفي بلاد نجد.

وكان رحمه‌الله حسن الأخلاق رقيق الحاشية مستقيما في أحواله وأطواره حسن المعاملة في تجارته. وكان يتعاطى مع التجارة بالمواشي والعطارة طبخ الصابون في المصبنة الكائنة في محلة البياضة ، وكانت إقامته للتجارة بها ، واتخذها سوق عكاظ يؤمه إليها العلماء والفضلاء ويتطارحون هناك المسائل العلمية والمحاورات الأدبية ، وخصوصا شيخنا الشيخ بشير الغزّي ، فقد كان كثير التردد إليه والزيارة له ، ولوجود شيخنا هناك بعد العصر في كثير من الأيام كان الناس يهرعون إليه للاقتباس من فوائده والالتقاط من فرائده.

١٣٢١ ـ أحمد أفندي كتخدا المتوفى سنة ١٣٣٨

أحمد أفندي ابن الحاج محمد أفندي ابن الحاج أبي بكر المشهور بكتخدا. وجيه أشرقت في سماء المعالي أنواره ، وزهت في بروج المجد أقماره ، هو في الشهباء من خواص أعيانها ، ولهذه الأسرة إنسان عينها ، مع كرم حسب وشرف نسب ، ونباهة فكر واستقامة أمر ، وكرم أخلاق ينبيك بها عن طيب تلك الأعراق.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٥٤. ولما صار عمره سنة توفي والده في طريق الحجاز وهو دون الأربعين ربيعا ، فتربى يتيما في حجر عمه مصطفى آغا. وظهرت عليه أمارات النباهة والنجابة منذ نشأته. ولما بلغ رشده انتخب عضوا في مجلس الإدارة ، وكان في سن الثلاثين ، وصار يتقلب في المناصب إلى أن عيّن عضوا في مجلس استئناف الحقوق في حلب سنة ١٢٩٧ ، وأعيد انتخابه في سنة ١٢٩٩ ، ثم صار وكيلا عن الرئيس في هذا المجلس ،

٥٥٥

وحمدت سيرته في أحكامه لتمسكه بالحق ومراعاته للوجدان ، وفي تلك السنين عين عضوا في مجلس الإدارة أيضا.

ولما صار جميل باشا واليا على حلب كان في أول الأمر على وئام تام معه ، إلى أن توفي مصطفى آغا كتخدا ، فأراد جميل باشا أن يشارك الورثة في تركة أبيهم ويتناول منها بعض ما فيها من المتاحف ، ورغب من المترجم معاضدته على ذلك ، فأبت شهامته موافقته ، وأخذ في ذلك الحين في مناهضته. وكانت حلقات الخلاف قد استحكمت بين جميل باشا وبين بني الجابري أيضا ، وعزم على نفي نافع باشا إلى مرعش وقصد إركابه على دابة وكان الوقت في تموز أملا بالقضاء عليه في الطريق ، فعارضه المترجم أشد المعارضة واشتد الخصام بينهما ، وصار جميل باشا يخابر الآستانة في شأن أحمد أفندي وأحمد أفندي يخابرها كذلك ، وخشي الناس أن يوقع جميل باشا بالمترجم ، وصار أصدقاؤه يبتعدون عنه خشية من بطش جميل باشا بهم لموالاتهم له.

وكان من جملة أصدقائه رزق الله وكيل أحد أعضاء مجلس الإدارة وقتئذ ، ولما رأى ما حصل خشي من بطش جميل باشا به لموالاته للمترجم ، فوجد من المناسب أن يذهب إلى الآستانة ويبقى فيها إلى أن تنقشع تلك السحابة ، فلم يأذن له جميل باشا إلا إذا كان أثناء وجوده هناك يشهد أمام الوزارة والسلطان أن أحمد أفندي من الموالين للدولة الإنكليزية ، وقصده إدخالها إلى هذه البلاد ، وأن في إبقائه في حلب خطرا عليها وعلى البلاد ، ومن الواجب قتله أو إبعاده. وكتب جميل باشا إلى المابين بذلك وطلب من حكومة الآستانة استشهاد رزق الله وكيل ضيف الآستانة على ما بينه في كتاباته عنه.

أما رزق الله وكيل فإنه لم يرض أن يخالف وجدانه ويتكلم بغير الحق. ولما مثل بين يدي السلطان والوزراء جاهرهم بالحقيقة ونفى ما نسبه جميل باشا إلى المترجم بتاتا وبين لهم حقيقة أخلاقه وما انطوى عليه. عندئذ أرسل السلطان عبد الحميد صاحب ملابك إلى حلب مفتشا وكان رجلا موصوفا بالصدق والصلاح والاستقامة وللسلطان فيه تمام الثقة.

فلما وصل إلى حلب نزل أولا ضيفا في التكية المولوية ، فهرع للسلام على وجوه الشهباء إلا المترجم ، فإنه لم يذهب علما منه أنما أتى لأجل قضيته والخلاف القائم بينه

٥٥٦

٥٥٧

وبين جميل باشا. وبعد أربعة أيام تجلت له الحقيقة وظهرت ظهور الشمس في رابعة النهار ، عندئذ تحول إلى منزل المترجم. وبعد أيام عاد إلى الآستانة ، فلم تمض أيام إلا وعزل جميل باشا من منصبه ، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثالث في ترجمة جميل باشا (١) ، وبقي المترجم سنين كثيرة عضوا في مجلس الإدارة ، فكان يوالي من الولاة من كان واقفا مع الحق رؤوفا بالأهلين ، ومن كان على خلاف ذلك لا يألو جهدا في مقاومته ومصارحته بالحق ، حتى إن رائف باشا لما تلقى أمرا بتحويله من حلب وحضوره إلى الآستانة سئل المترجم عن خطيئاته أثناء ولايته في حلب فلم يتأخر عن بيانها له ، وكان من جملتها مدّ يد معونته إلى دائرة الريجي التي أضرت بالأهلين أضرارا فاحشة وفتكت بهم وخصوصا في قضية بني اليكن حينما أخرج من بيتهم رزم التتن وما لحقهم بذلك من الضرر والإهانة.

وكان لا يتجدد الانتخاب لأعضاء مجلس الإدارة إلا وينتخب عضوا له ، وطالت مدته فيه ، بل كان لا تتشكل لجنة إلا ويعين رئيسا لها أو عضوا فيها ، وذلك لما عرف فيه من الاستقامة والدراية.

وفي سنة ١٣١٧ عمر دارا عظيمة في محلة الفرافرة تجاه القلعة من الجهة الشمالية بينهما الجادة ، وبعيد وفاته في التاريخ الآتي قسمت إلى دارين.

وفي ٦ صفر من سنة ١٣٣٢ عين عضوا لمجلس الأعيان المؤلف في الآستانة من أعيان البلاد العثمانية ، فذهب إليها غير راغب في ذلك نظرا لشيخوخته وعلمه بعدم انطباق أفكار معظم المعينين فيه على أفكاره. وكان زميله في هذا المجلس رشيد عاكف باشا ورضا باشا وأمثالهما ، فكانوا يثقون به ويعتمدون على آرائه وصائب فكره. وبقي في هذا المنصب سنتين. وكانت قد وقعت الحرب العامة فاستأذن وكرّ راجعا إلى وطنه ، فلازم بيته الذي عمره حديثا لا يخرج منه إلا قليلا ، إلى أن توفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ١٣٣٨ ، ودفن في تربة الصالحين شرقي مقام إبراهيم.

وكان رحمه‌الله تعالى نحيف الجسم مربوع القامة أسمر اللون ذا لحية خفيفة كما تراه في رسمه. وتوفيت زوجته وهو في سن الخامسة والثلاثين ، وبقي بعد وفاتها أربع سنوات يكاد لا يخرج من بيته حدادا عليها ، ولم يتزوج بعد ذلك.

__________________

(١) وذلك في الصحيفة (٣٧٢).

٥٥٨

وكان حسن الاعتقاد ، محبا للعلم وأهله ، محترما لحملته ، مواظبا على الصلوات الخمس ، لا يعرف الكذب ولا الخداع ، ناصحا لمن استنصحه ، حسن الصداقة ، وافيا بما يعد به ، وقافا عند الحق. وبالجملة فقد كان من خيرة الوجهاء في الشهباء.

وأطلعني حفيده الشاب النبيه السيد راغب أفندي كتخدا على نسب عائلتهم وهو محرر سنة ٨٤٦ وعليه تواقيع كثير من القضاة والأشراف والنقباء ، من جملتهم توقيع السيد حسن الكواكبي المتوفى سنة ١٢٢٩ ، وقد كتب عليه بخطه (نسب شريف ما عليه غبار قد حوى رجالا أخيار).

وأحمد أفندي المترجم هو ابن الحاج محمد ابن الحاج أبي بكر المتوفى في القسطنطينية سنة ١٢٥٨ ، وقد قدمنا شيئا من سيرته في ترجمة محمد صالح آغا كتخدا المتقدمة آنفا ، ابن محمد المتوفى بحلب سنة ١٢٢٨ المدفون في تربة السنابلة ابن إبراهيم بن محرم بن ولي الله السيد عبد الله المشهور بالذنب بن إدريس ابن السيد أحمد سيف بن محمد سيف بن محمد فارس الجزيري الحنفي الكردي المنتقل من الجزيرة إلى قرية كفر تخاريم أوائل القرن التاسع ، المتوفى بها سنة ٩٠٥ ، وهو صاحب النسب المحرر سنة ٨٤٦ ابن أحمد بن علي سيف بن عمر بن حسام بن عبد الله بن عبد الرحمن بن داود خان بن منصور بن عبد الرحمن محسن بن حسن بن موسى جهانكير بن يحيى بن ثابت بن حازم بن محمد المهدي ابن أبي القاسم محمد بن أحمد حسين بن أحمد بن موسى الثاني ابن إبراهيم المرتضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه.

١٣٢٢ ـ الشيخ محمد المسوتي المتوفى سنة ١٣٣٨

الشيخ محمد بن عبد الله الطرابيشي ، الشهير بالمسوتي ، العالم الورع الصوفي ، الحنفي مذهبا الرشيدي طريقة.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٦٨. وقرأ مبادىء النحو على المقرىء الصالح الشيخ محمد الدباغ ، ثم قرأ على الشيخ مصطفى طلس وعلى خاله العالم الشيخ سعيد السنكري ، وعلى مفتي حلب الشيخ بكري الزبري ، والشيخ أحمد الزويتيني. ولما حضر الشيخ محمد عودة

٥٥٩

الدمشقي المعروف بالشيخ أبي خالد وتوطن حلب وأخذ في نشر الطريقة الرشيدية في جامع البهرمية كان المترجم في مقدمة من تلقاها عنه ولازمه في قراءة أوراد الطريقة صباحا ومساء مع إخوان الشيخ ، وكان يقوم مقام شيخه عند غيبته ، وبقي على ذلك إلى حين وفاته.

كان رحمه‌الله صالحا ورعا منجمعا عن الناس ، فيه فضيلة وصفاء سريرة ، ملما بالأدب. وكان لا يتعاطى شرب الدخان ويكره ذلك كرها شديدا ويذهب إلى حرمة تعاطيه ، ويندد بشاربيه في كثير من مجالسه ، وألف في ذلك رسالة في أربعين صحيفة سماها «تبصرة الإخوان في بيان أضرار التبغ المشهور بالدخان» بيّن فيها أقوال الفقهاء وآراء الحكماء ، وهي مطبوعة في مصر سنة ١٣٢٨. وله في ذلك منظومة سماها «عقود الجواهر الحسان في بيان حرمة التبغ المشهور بالدخان» طبعت في مصر أيضا سنة ١٣٣١ ، وهي في كراسة ، قال في أوائلها :

اعلم بأن حرمة الدخان

قال بها جمع من الأعيان

إليهم يهرع في الأنام

عليهم التعويل في الأحكام

حجتهم في تلك أصل مقتدى

في الشرع معلوما ضروريا غدا

وذاك كل ما أضر يحرم

والتبغ ضرّار كما ستعلم

كذاك من حجتهم في الحرمة

تخديره والنهي من خليفة

ومثله الإيذاء للملائكة

وذا من اسوأ الفعال المهلكه

فواحد من هذه الأربعة

يكفي مع انفراده في الحرمة

ومن نفاها قال إن تحققا

ضرره حرم حتما مطلقا

وهو محقق لدى ذوي النظر

من أهل طب وهو شرعا معتبر

إذ قرروا جواز فطر الصائم

بخبر الطبيب ذي المفاهم

بشرط كونه خبيرا مسلما

لم يشتهر بظاهر الفسق اعلما

فحيثما اعتبر ذا الخبر في

نظير ذا فعكسه غير خفي

وعن ذوي الطب تواتر الخبر

بأن ذا الدخان يوجب الضرر

وأنه من موجب التخدير

مع اتفاقهم بلا نكير

والخبر المقبول إن تواترا

تعيّن الأخذ به بلا مرا

٥٦٠