إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

غير أنه استفيد من سفره هذا نشر كتب «أحكام القرآن» للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصّاص المتوفى سنة ٣٧٠.

فقد وجد منه شيخنا عدة نسخ في مكاتب الآستانة في تردده إليها أثناء وجوده ، فسعى لدي نظارة الأوقاف ثمة وحسّن لها طبعه ، فوافقت على ذلك ، وطبع الكتاب في الآستانة في ثلاثة مجلدات في مطبعة الأوقاف الإسلامية ، وهو كتاب جليل من كتب المتقدمين الجديرة بالنشر ، وقد صحح معظمه بنفسه فجزاه الله خيرا.

وكان نظمه متينا محكما لا حشو فيه ، حسن السبك منسجما ، غير أنه لم تكن عنايته به كثيرة ، لا ينظم إلا عند الاقتضاء والطلب. ولم يعن بجمعه فذهب ما صاغه من عقوده كأن لم يكن. والذي بقي محفوظا من آثاره الشعرية منظومته للشمسية في المنطق ومنظومته المسماة حدائق الرند في ترجمة ترجيع بند ، وهي محتوية على كثير من الحكم والأمثال والمواعظ والحقائق ، ويستشهد الآن بالكثير من أبياتها ، أولها :

ذا معمل الصنع العجيب مكتب

نقوشه عن علم غيب تعرب

وفلك طاحونة المصائب

والناس فيها مثل حب ذاهب

ملتقما أفراخه كالعفريه

وهو كوكر الطير واهي الأروية (١)

ومن يحقق يجد الأشياء

مناما او خيالا او هباء

وكل شيء للتناهي ينقلب

فانظر فصول العام كيف تنقلب

والمرء عن كسب اليقين عازب

والاعتقاد عن حجاه غائب

يا رب ما هذا العناء واللدد

وحاجة المرء بكسرة تسدّ

لا عاصم من قدر السماء

بل كل شيء هدف القضاء

والأصل أن يظهر مقدور الأزل

والخطء والصواب في الناس علل

وكل تأثير من الرحمن

لا حكم للأفلاك والأزمان

سبحان من قد حيّر العقولا

بصنعه وأعجز الفحولا

وهذا هو الفصل الأول ، وقال في الفصل الرابع :

__________________

(١) العفرية : العفريت. والأروية : جمع رواء ، وهو الرباط الذي يربط به الشيء. ا ه من الأصل.

٥٨١

للضعف صار الظبي لقمة الأسد

والذئب أضحى طعمة له النّقد (١)

وبالذباب تغتذي العناكب

والصقر أيضا للحمام خالب

كذا العقاب للبغاث تفترس

وللضفادع الأفاعي تختلس

إلى أن قال :

ظلم القويّ للضعيف جار

في الأرض والهواء والبحار

وجاء في الفصل السادس :

يفترّ ورد والهزار ينتحب

يودي العليل والطبيب يكتسب

وجيفة الميت الغني مغتنم

ينتابها العافون أمثال الرخم

نام الغريب في تراب الذلّ

وارتفق المثري وساد الدلّ

وازدهر الشمع بمجلس الطرب

واحترق الفراش من ذاك اللهب

كالنرجس الثوم تبدّى والبصل

والطيب قد خص بحبس ذي أزل

قد عز في الدنيا الخسيس الجاهل

وعاش في الذل الحسيب العاقل

ورب ذي جهل لدولة ملك

ورب ذي عقل للقمة هلك

قد قبل الناس اللئيم المفسدا

ونابذوا الشهم النصيح المرشدا

كم فاضل لجاهل مسخّر

وكم أديب عنده محقّر

العارفون رزقهم في هبط

والظالمون عيشهم في غبط

سبحان من قد حيّر العقولا

بصنعه وأعجز الفحولا

وجاء في الفصل السابع :

يا رب ما بال اللبيب في الزمن

معذب بعقله وممتحن

يا رب إنك ابتليت العارفا

بقدر ما أوليته معارفا

وهي على هذا النسق في اثني عشر فصلا ، وكلها درر وغرر ، ولو لم يكن له من النظم سواها لكفاه فخرا ونبلا.

__________________

(١) النّقد : جنس من الغنم.

٥٨٢

وكان حصل اختلاف بين جماعة في مجلس المترجم في الأرض ، هل هي متحركة أو واقفة؟ فاستدعوا لحل هذا الخلاف جلال بك من معلمي المكتب السلطاني في عهد الحكومة العثمانية ، فجاء وهو سكران وأخذ في سرد الأدلة على حركة الأرض ، فقال لهم شيخنا : إن جميع ما أتى به جلال بك من الأدلة هو ظني لا قطعي ، ونظم عند ذلك بيتين وهما :

زعموا بأن الأرض تجري مثلما

تجري الكواكب والدليل ظنون

جاؤوا بسكّير يؤيّد زعمهم

يبدي فنونا والفنون جنون

فعظم وقع هذين البيتين في نفوس الحاضرين.

وكان يتردد على شيخنا إبراهيم أفندي الكلزي حينما كان ناظرا لأوقاف حلب ، وقد عمر خانا في قرية كفر أنطوان الواقعة في الطريق بين حلب والإسكندرونة ، ولما أتم بناءه دعا شيخنا مع بعض أحبابه إلى هناك ، ولما أرادوا أن يناموا في الغرف التي فيه هجمت عليهم جيوش من البعوض والبراغيث ، فأرق شيخنا ، فارتجل عدة أبيات أسمعها من كان معه أولها :

يا ليلة في كفر أنطون بها

بتنا على أرض بغير لحاف

إلى أن قال شاكيا مما أصابهم من الهوام :

فتصرفت بدمائنا ولحومنا

كتصرف النظّار في الأوقاف

فكان لها أحسن وقع في نفوس الحاضرين وتدوولت فيما بين الناس ، غير أني لم أجد بعد البحث الكثير من يحفظ الأبيات بتمامها ، فأثبت ما وصل إليّ منها وهو المطلع والختام.

وخلاصة القول في شيخنا أنه كان علما من الأعلام ، علّامة في فنونه ، لم يخلفه في الشهباء مثله ، وفقدنا بفقده علما جما وأدبا كثيرا.

وكانت وفاته ليلة الثلاثاء في العشرين من رجب سنة ١٣٣٩ ، رحمه‌الله وأغدق على جدثه سحائب رضوانه.

٥٨٣

١٣٢٧ ـ الشيخ محمد بركات المتوفى سنة ١٣٤١

الشيخ محمد بن محمود بن عبد الرحمن الشهير ببركات ، العالم الفاضل الشريف الحسيني. يتصل نسبه كما رأيته في النسب المحفوظ عند ولده الطبيب عبد الوهاب بالشريف الفاضل والعالم العامل محمد بن صادق المولود سنة ٩٩٢ (١) ابن هاشم المولود سنة ٩٢٧ المتوفى سنة ٩٦٤ ، كما ذكره الرضيّ الحنبلي في تاريخه ، ابن ناصر الدين عباس المتوفى سنة ٩٢٢ ابن بركات (وبه أو بجده عرفت هذه الأسرة) ابن محمد بن بركات بن حسين ابن موسى بن عباس بن حيدر بن حسن بن محمد بن حسين بن عباس بن إبراهيم بن علي ابن قاسم بن محمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن فاطمة الزهراء.

وعلى هذا النسب توقيع حاكم السادة الأشراف السيد شمس الدين ابن الحنبلي ، وقد ذكر فيه أنه قد ثبت بشهادة الشيخ عمر ابن الشيخ عبد الوهاب العرضي وولده أبي الوفا والشيخ أحمد بن محمد الكواكبي والشيخ أحمد بن عثمان الحموي وغيرهم ، وهؤلاء من رجال القرن الحادي عشر.

ولد المترجم رحمه‌الله سنة ١٢٨٣. ولما ترعرع أخذ في طلب العلم ، وبعد أن حصل مباديه من نحو وصرف ومنطق وغير ذلك من العلوم الآلية اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ محمد الزرقا ، فحضر عليه شرح العلّامة القسطلاني على البخاري وحاشية ابن عابدين على الدر المختار في الفقه الحنفي.

ولما كان ذا علاقة بالأوقاف صرف عنايته إلى تعلم أحكام الأوقاف ، فمهر فيها وصارت نصب عينيه. ولما كان ممن أغناه الله بما عنده من واردات الأوقاف لم تطمح نفسه إلى تقلد شيء من الوظائف ، بل كان قانعا بما لديه منها ، غير أنه في أخريات حياته انتخب عضوا في لجنة المحاسبة في دائرة الأوقاف ، فبقي فيها مدة. وكان له فضلة مال فأعطاها لبعض التجار بطريق الشركة ، فصار يتجر له فيها ويرتزق أيضا منها.

__________________

(١) وذكر في هذا النسب أن محمد بن صادق خلف ليحيى المولود سنة ١٠١٣ وصادق المولود سنة ١٠١٧ ومصطفى المولود سنة ١٠٢٤.

٥٨٤

ولما طبعت كتاب «الفوائد السمية» وهو شرح العلامة محمد بن الحسن الكواكبي المتوفى سنة ١٠٩٦ لمنظومته في الفقه الحنفي ، كما أوضحته في ترجمته ، وانتهى من الطبع سنة ١٣٢٧ شرع المترجم في وضع حاشية عليه في إحدى وعشرين كراسة بخط دقيق ، قال في أولها : لما طالعت كتاب «الفوائد السمية شرح الفرائد السنية» كتبت عليه بعض عبارات لا تخلو من تقييدات وإيضاحات وإصلاحات أخل بها قلم الناسخ ، وقد زدت مع ذلك بعض فروع يحتاج إليها تتميما للفائدة ، وحيث لم أقف على نسخة خالية من السهو والغلط لأصلح على منوالها نسختي فجمعت ذلك لأتنبه له في المآل لا لأباهي به الأقران والأمثال.

وله أيضا من المؤلفات «منتهى الأرب في قواعد لغة العرب» وهو كتاب مفصل في النحو جعله فصولا ، وهو في ٣٢٥ صحيفة.

وله كتاب «الفوائد السنية في القواعد المنطقية» ، وهو في ٤ كراريس.

ورسالة سماها «الرد التحقيقي على مدعي الإسلام الحقيقي» رد بها على كتاب لبعض المسيحيين سماه «الإسلام الحقيقي» ، قال فيها المسيحي في كتابه : الإسلام هو الخضوع لله. والإيمان هو جوهر الدين. ثم قال المسيحي : للإسلام خمسة أركان :

(الأول) : أن يكون المعبود هو الإله الواحد وهو الله.

(الثاني) : أن يعتقد الإنسان نفسه مخطئا أثيما محتاجا للقداسة.

(الثالث) : أن الخلاص من عذاب الله لا ينال إلا بواسطة مخلص عظيم.

(الرابع) : أنه لا خلاص بدون كفارة.

(الخامس) : أن الخلاص بالإيمان.

وفي بيانه الأركان الخمسة بما ذكره مقال ، وهو أنه تقرر لدى الناس أن ركن الشيء ما تتركب منه حقيقته الظاهرة إلخ. وهي في كراسة.

وكان رحمه‌الله صالحا ساكنا ، لا يرغب في الاختلاط كثيرا ، مؤثرا للعزلة في الجملة. ظل على ذلك إلى أن غربت شمسه في ربيع الآخر سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعين ، ودفن في تربة الصالحين.

٥٨٥

١٣٢٨ ـ الشيخ محمد العبيسي الحموي المتوفى سنة ١٣٤١

الشيخ محمد ابن السيد مصطفى العبيسي ، الحموي أصلا ومولدا ومنشا ، الحلبي موطنا ووفاة.

كان والده يتعاطى التجارة بحماة مع بيع الكتب ، وكان يتردد لمصر لذلك ، فاستصحب معه في إحدى سفراته إليها ولده المترجم ، وذلك في حدود الثلاثمائة وألف ، وبقي ثمة نحو أربع سنين يتلقى الدروس في الأزهر ، إلا أنه لم يكن من المنكبين على التحصيل المجدين فيه.

ثم إنه توجه إلى الآستانة وحل بساحة الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي الشهير ، فأكرم مثواه وأقام في منزله نحو خمس سنين ، وفي سنة ١٣٠٩ عينه وكيلا عنه في مشيخة تكيته التي عمرها في حلب في محلة أغلبك (باب الأحمر) فوصل إلى حلب في جمادى الأولى أو الثانية منها ، وصار يقيم الذكر في ليالي الجمع ، وكان معظم من يؤمه ممن لهم انتساب إلى الشيخ أبي الهدى. ثم أنيط به القيام على وقف أبشير باشا الشهير الواقع في محلة الجديدة وكالة عن الشيخ أبي الهدى الذي هو متوليه بالأصالة ، وقد ذكرت ذلك في الكلام على هذا الوقف في الجزء الثالث (ص ٢١٤) ، فأحسن المترجم القيام عليه ورممه وزاد في ريعه.

وفي نواحي سنة ١٣١٥ انحلت نيابة قضاء جبل سمعان ، فعيّن لها بعض من يلوذ بالشيخ أبي الهدى ، فوكّل المعيّن للمترجم في القضاء إلى حين حضوره ، إلا أنه لم يحضر وعيّن لجهة أخرى ، فعندئذ كتب والي حلب رائف باشا بالتماس من المترجم إلى الآستانة باستحسان تعيين المترجم.

وفي هذه الأثناء في سنة ١٣١٦ توفي العلامة الشيخ أحمد الزويتيني مفتي حلب ، فكتب الوالي رائف باشا إلى الآستانة بلزوم تعيين شيخنا محمد الجزماتي لمنصب الإفتاء لأهليته لذلك وشهرته في الفقه الحنفي ، فجاء الجواب بتعيين المترجم لهذا المنصب ، وذلك أيضا بمساعي الشيخ أبي الهدى لدى باب المشيخة الإسلامية وإقناعه لها بترجيحه على الشيخ محمد الجزماتي ، ومعلوم ما كان للشيخ أبي الهدى عند السلطان عبد الحميد من المنزلة الرفيعة والكلمة المسموعة ، فوافق باب المشيخة على ذلك وكتب إلى رائف باشا بتعيين المترجم

٥٨٦

لمنصب الإفتاء ، وأن ذلك بناء على حسن شهادتكم في حقه وأن من صلح للقضاء صلح للإفتاء بالأولى. في حين أنه والحق يقال لم يكن لديه من علم الفقه ولا غيره من العلوم الآلية أو العقلية ما يؤهله أن يشغل هذا المنصب الجليل ، ولكن :

فكم في العرس أبهى من عروس

ولكن للعروس الحظ ساعد

و:

إن المقادير إذا ساعدت

ألحقت العاجز بالقادر

وحينما كان شيخا للتكية حصل له بعض الإقبال من الذين يلوذون في حلب بالشيخ أبي الهدى وينتسبون له ويشاركونه في الطريقة الرفاعية ، ولكن بعد أن صار مفتيا أقبل عليه الناس أيما إقبال وسعوا إليه في أمورهم وكثر زواره وقصاده ، شأنهم عند إقبال الدنيا على أحد كما قيل :

الناس في زمن الإقبال كالشجره

والناس من حولها ما دامت الثمره

وصار رئيسا لكثير من اللجان التي تعين من قبل الحكومة ، وعضوا طبيعيا في مجلس الإدارة ، ورئيسا للجان إدارة الأوقاف بمقتضى القوانين التركية. وربما عين نائبا عن القضاة حينما تنقضي مدتهم إلى أن يأتي القاضي الجديد. ولا ريب أنه بذلك صار له الكلمة المسموعة لدى الحكام ، ووسع دائرة ذلك انتسابه إلى الشيخ أبي الهدى ، ولا يخفى ما كان له في الآستانة من الجاه الواسع والكلمة النافذة لتقريب السلطان عبد الحميد له واتخاذه من خواصه.

ومع هذا فلم يكن المترجم يبالغ في إطراء الشيخ أبي الهدى ولا يكثر من ذكره ولا ينسب له شيئا من الكرامات التي كان يختلقها معتقدوه ومن يلوذ به ، ولا يزيد عند ذكره له عند الاقتضاء كما سمعته منه غير مرة على قوله : صاحب السماحة حفظه الله ، ثم يمضي في حديثه.

وكان المترجم أبيض اللون مربوع القامة معتدل اللحية ليست بالكثة ولا الخفيفة ، نشيطا في القيام في الأعمال التي تناط به ، ذا همة فيها.

ورمم الجامع الذي في محلة باب الأحمر المعروف بجامع أغلبك أحسن ترميم ، وقد بسطت

٥٨٧

ذلك في الكلام على هذا الجامع في ترجمة بانيه في الجزء الخامس (ص ٢٩٢) (١).

وقام على بعض العمارات التي حصلت في المدرسة الخسروية وفي الجامع الكبير ، واسمه مذكور في الأبيات التاريخية المنقوشة فوق باب القبلية المعروفة بالحجازية.

ثم إنه بأمر من الشيخ أبي الهدى اشترى عدة دور مجاورة لأصل التكية وزاد في عمارتها على الصورة التي نراها الآن ، غير أن من يرى هذه العمارة يعتقد أنه قصر لبعض أهل الغنى والثراء لا تكية عمرت لمأوى الفقراء.

وكان رحمه‌الله حسن الملتقى ، متواضعا للكبير والصغير ، كثير المداراة للحكام ملائما لأفكارهم وأفكار الوجهاء في حلب. ولعل ذلك كان سبب بقائه في هذا المنصب حتى بعد وفاة الشيخ أبي الهدى إلى حين وفاته ، ولو لا ذلك لعزل من هذا المنصب بعد إعلان الدستور لقلة بضاعته العلمية وكثرة المتصدين لهذا المنصب ، لكنه بمداراته الحسنة امتلك القلوب فصار له نصراء من الوجهاء أوجب ذلك بقاءه في منصبه. ولكنه لم يخل من الطمع في الوظائف التي لا ينبغي لمثله أن يمدّ يده إليها ، مثل قراءة بعض الأجزاء التي ينبغي أن تكون للحفّاظ وخصوصا العميان منهم والعجزة ، وإمامة بعض المساجد التي ينبغي أن تكون لطلبة العلم. وصار له على ما قيل نحو عشرين وظيفة ، وأنّى له أن يقوم بها مع اشتغاله بأمر الإفتاء واللجان وغير ذلك من مهام الأمور ، وكان ذلك موضع انتقاد الناس له.

وأثرى بعض الإثراء من هذه الوظائف ومن زراعة اتخذها في بعض القرى ، فعمر تحت القلعة بجانب الحمّام الناصري المعروفة بحمام اللبابيدية خانا ودارا واسعة ملاصقة للخان اتخذها لسكناه ، وسعى في تعريض الجادة التي أمام داره فتحسن بذلك هذا المكان. وسيزيده تقدما شروع الحكومة هذه السنة وهي سنة ١٣٤٥ ببناء دار له عظيمة بين الحمّام المتقدمة وبين المدرسة السلطانية الظاهرية التي هي تجاه باب القلعة ، وقد كان بوشر بحفر الأساسات لهذه الغاية سنة ١٣٣٦ زمن مصطفى عبد الخالق بك آخر ولاة الدولة العثمانية في حلب ، ثم أهمل بسبب الاحتلال الإنكليزي الغربي لحلب في محرم سنة ١٣٣٧ إلى هذه السنة.

__________________

(١) تنبيه : قلت ثمة إن الأبيات التي نقشت في جدار قبلية هذا الجامع هي من نظم محمود أفندي الحكيم ، ثم لدى التحقيق تبين أنها من نظم صديقنا الفاضل السيد مسعود أفندي الكواكبي.

٥٨٨

وقبيل وفاة المترجم بنحو سنتين ناهضه بعض من لهم علاقة في الأوقاف لمضادته لهم في أمور أوقافهم وحرروا في حقه المضابط المرة بعد المرة مبينين فيها عدم لياقته لهذا المنصب ، وأن الوظائف التي في عهدته لا يقوم بها ، فارتبك في أمره وتأثر من ذلك أشد التأثر بحيث أدّاه إلى الإضرار في جسمه والاضطراب في فكره ، ثم ازداد به ذلك إلى أن لزم الفراش ، ثم توفي في التاسع والعشرين من شهر صفر سنة ١٣٤١ ، ودفن في تربة الجبيلة عن ستين عاما أو زاد عن ذلك قليلا ، رحمه‌الله تعالى.

١٣٢٩ ـ محمود كامل باشا العينتابي المتوفى سنة ١٣٤١

محمود كامل باشا ابن محمد ناجي أفندي العينتابي. والده من العائلات المعروفة في عينتاب قديما ، حضر لحلب في نواحي سنة ١٢٧٠ وتوطن بها وكان مديرا للأوراق في الولاية ، بقي في هذه الوظيفة إلى أن توفي سنة ١٣١٣. وتزوج في حلب وولد له عدة أولاد ، وكان المترجم رابع ولد من أولاده الذكور ، وكانت ولادته سنة ١٢٩٧.

ولما ترعرع ختم القرآن الكريم في المدارس المحلية ، ثم دخل إلى المدرسة الرشدية العسكرية في حلب ، وظهرت علي أمارات الذكاء من ذلك الحين بحيث كان يمتاز على أقرانه ورفقائه بسرعة الانتقال مع أنه كان أصغر التلامذة في صنفه.

وخرج من هذه المدرسة وهو في سن الثالث عشر من العمر ، وذهب إلى دمشق فدخل المكتب الإعدادي العسكري ، وكان هناك موضع إعجاب معلميه لذكائه الفطري وحسن مداركه. وبعد أن أكمل التحصيل فيه توجه إلى الآستانة ودخل المدرسة الحربية ووضع في صنف الأركان الحربية ، وهناك أيضا امتاز بين أقرانه في إتقان العلوم الحربية والحركات العسكرية ، وكان هو وأنور باشا الشهير في صف واحد ، ومن ذلك العهد عقدت بينهما رابطة المودة والمحبة.

ثم خرج من هذه المدرسة برتبة (يوزباشي) وعين لمنطقة حلب العسكرية ليخدم في الصنوف الثلاثة (بياده. سواري. طوبجي) حسب الأصول المتبعة ، فحضر لمسقط رأسه ، وكان القائد العام في ذلك الوقت في منطقة حلب علي محسن باشا الفريق المشهور (دفين التكية المولوية) فقام بمهام وظيفته أحسن قيام ، فأحبه الرجال العسكريون لذلك ،

٥٨٩

ولدماثة أخلاقه. وفي أثناء ذلك وضع خريطة للحمرة (أرض واقعة بين المعرة وحماة) وكانت محلا لتربية الخيول العسكرية ، وهي نقطة دفاع بين القرى المعمورة والصحراء التي هناك ، وذلك بأمر من الحكومة ، فصارت تلك الخريطة دستور العمل في تقسيم تلك الأراضي وتوزيعها على مناطق متعددة.

وفي سنة ١٣٢٣ حدثت الثورة العظيمة في البلاد اليمانية ، فأرسل هو وأربعة من رجال الأركان الحربية إلى اليمن عن طريق الشام والعقبة مع عزة بك (الذي صار بعد ذلك مشيرا وناظرا للحربية) فوصلوا إلى الحديدة وسافروا مع القائد العام المشير علي رضا باشا إلى صنعاء ، وكانت محاصرة ، وحضر هؤلاء معركة مساجد التي قتل فيها أحدهم القائمقام عزة بك. وبعد عدة معارك شديدة تمكنوا من إزالة الحصار عنها ودخلوا صنعاء. وبعد مدة عاد الإمام حميد الدين بجيوشه الجرارة وحاصر صنعاء مرة ثانية ، وبعد المذاكرات الطويلة مع الإمام سلمت صنعاء إلى الإمام المشار إليه بموجب معاهدة حفظت حقوق الطرفين وحالت دون إهراق الدماء.

ولما بلغت هذه الاتفاقية إلى السلطان عبد الحميد خان تأثر منها ولم ترق له ، فعيّن المشير الشهير أحمد فيضي باشا الذي كان قائد الجيش السادس في بغداد ، وجهز له الجيوش الكثيرة من المملكة العثمانية ، فذهب أحمد فيضي باشا إلى اليمن عن طريق نجد والمدينة المنورة ، ولما وصل الحديدة توجه منها إلى مناحة ، وهي معقل عظيم بين الحديدة وصنعاء ، وهناك عسكر المشير بجيوشه والتحق به من كان هناك من العساكر العثمانية التي هي في قيادة المشير علي رضا باشا ، وكان المترجم محمود كامل باشا في عداد هؤلاء ، وهم الذين كانوا خرجوا من صنعاء حينما سلمت إلى الإمام كما مر. وعندئذ قام المشير أحمد فيضي باشا بالأعمال العسكرية بتلك الجيوش الجرارة ، فاسترد صنعاء ، وقضت بتراجع الإمام إلى مركزه القديم (صعدة) التي هي بجبال شهارة ، وتعقبه المشير إلى موضعه هذا وحاصره أياما فلم يتمكن من الاستيلاء عليه لمناعة تلك الجبال وكثرة الجنود من أهالي اليمن التي التفت حول الإمام.

وجرح المترجم في إحدى الوقائع التي حصلت مع قبيلة حاشد برصاصة أصابت رجله ، وذلك بجوار قلعة رمادي.

٥٩٠

وحدث أنه بينما كان ذات يوم يتجول في جبال (أنس) الذي هو تقريبا مبدأ منشأ الثورة في بلاد اليمن صادفه رجل من مقدمي هذه الجبال يقال له المقداد ، ولعله الآن في قيد الحياة ، فقال له المقداد : تعال امش معي لأريك مغارة كبيرة هامة ، فظن أنه يقصد أن يريه محلا قديما من الآثار التاريخية ، فذهب معه ، ولما دخل المغارة لم يجد فيها ما يستلفت النظر ، فعندئذ قال له : أرأيت سعة هذه المغارة يا حضرة البيك ، إن الليرات التي يدفعها أهالي هذا القضاء ظلما وفضولا لتملأ هذه المغارة عدة مرات ، وإنا إلى الآن لم نقدر أن نملأ بطن زكريا باشا الجركسي ، ولم يبق بين أيدي الأهالي سوى أحجار أبنية هذا القضاء المخرب وأنقاضه ، فهل من الممكن بعد هذا كله ألّا نعصي ولا نثور ، فأنتم يا أرباب الحل والعقد ، إذا لم تتداركوا الأمر وترفعوا الظلم والعسف فمن المستحيل أن يسود الأمن وترجع الطمأنينة إلى هذه الربوع. وكن على يقين أنا اليمانيين نحب الترك أكثر من حبهم لأنفسهم. قال هذا وتنفس الصعداء.

وقيل إنه كان لزكريا باشا هذا ثمانون ألف ليرة عثمانية ذهبا في المصرف الإنكليزي في عدن ، وشاع إذ ذاك أن الإنكليز ضبطوها وصادروها.

وكان المترجم من حين دخوله إلى اليمن إلى حين خروجه منها يدرس أحوالها وأخلاق أهليها ، ويختلط بكبرائها وساداتها والمقدمين فيها وجميع طبقات الناس ، ويذاكر علماءها ومشايخها ويطارحهم المسائل ويحاضرهم ، وذلك لمعرفته باللغة العربية وفصاحة لهجته ، ولوقوفه على كثير من الأحاديث النبوية وحفظه قسما من الأشعار العربية مثل المعلقات واللزوميات وديوان المتنبي ، ولذلك كان أينما حل يلقى من الحفاوة والإكرام ما لا يلقاه غيره ، ويلقى من أهل البلاد محبة وركونا إليه ، وكانوا إذا أرادوا الاستسلام لا يستسلمون على الأكثر إلا بواسطته ولا يثقون إلا به ويعتمدون عليه تمام الاعتماد ، وكان يعدهم بقرب انفراج الأزمة والتخلص من أوهام السلطان عبد الحميد التي بثها فيه من كان مستوليا على أفكاره من الرجال الذين كانوا محيطين فيه من المنافقين والدجالين ، حتى صارت منشأ تلك الفتن وحدوث هذه الثورات ، وكان يعني بذلك قرب إعلان الدستور.

وكان يتألم كثيرا لإراقة هذه الدماء البريئة وذهابها هدرا من الطرفين من غير ما جدوى ولا غاية ، وكل ذلك ناشىء من سوء الإدارة ومما يقع من أنواع الظلم والارتكابات.

٥٩١

وبعد أشهر عيّن إلى نظارة الدروس في المدرسة الحربية الإعدادية في (أدرنة) ، فأحب أحمد فيضي باشا أن يقنعه بالبقاء معه ووعده بترقيته بوقت قريب إلى رتبة عالية ، فاعتذر منه ورجاه أن لا يكون حائلا دون نقله إلى (أدرنة) فغادر البلاد اليمانية ودخل القاهرة متنكرا ، وهناك اجتمع مع بعض العارفين. ثم أتى إلى حلب لزيارة أهله وإخوته ، فبقي شهرا ثم سافر إلى أدرنة ، فبقي فيها مدة وجيزة ، وهناك رفّع إلى رتبة (قائمقام).

وكانت النار تشتعل شيئا فشيئا في البلقان تحت الرماد ، والمذاكرات الدولية تجري في العواصم الأوروبية بصورة خفية في أمر البلقان وتقسيم الدولة العثمانية ، وكان ضباط الأتراك والأمراء في الجيوش العثمانية يراقبون تلك المذاكرات والمقابلات الدولية عن بعد بأنواع الوسائل ويدركون نتائجها الوخيمة ، فبادروا لإعلان الدستور رغم إرادة السلطان عبد الحميد وحواشيه.

فبعد إعلانه بزمن قليل دعي المترجم إلى نظارة الحربية ، وكان الناظر إذ ذاك المشير علي رضا باشا ورئيس الأركان الحربية عزة باشا اللذين كانا حوصرا في صنعاء معا ، فشرع مع لجنة خاصة بتنظيم القوانين العسكرية وتجديدها حسبما تقضيه الترقيات العسكرية وتتطلبه الأوقات الحاضرة وإرسالها إلى مجلس المبعوثين والأعيان للتصديق عليها. وكانت الدسائس الأجنبية تلعب أدوارها ، وتنثر تلك الدول الذهب الوهاج إلى الجمعيات السرية والعلنية المتشكلة في الآستانة والبلقان وكثير من البلدان من جهة ، والسلطان عبد الحميد وحواشيه يوغرون صدور الأمراء والضباط الذين حرموا وظائفهم وفقدوا نفوذهم وغطرستهم ، وقد كان أكثرهم من [الآلايجية] أي غير المأذونين من المدارس العسكرية ، فكان نتيجة ذلك حصول فتنة ٣١ مارت سنة ١٣٢٥ ، وصارت بها الآستانة شعلة نار. وقد بسطت هذه الحادثة الجرائد في حينها ودونت في الكتب.

وكانت في تلك الأيام العصيبة جماعة مدفوعون من قبل الجمعيات المتشكلة ضد الحكومة الدستورية يأتون إلى أبواب منازل الاتحاديين ويضعون إشارة عليها بالفحم أو بالتباشير ليرسل إليهم ليلا أناس يغتالونهم. ففي بعض الأيام وجد المترجم تلك الإشارة على باب منزله في (كدك باشا) فاستقصى الأمر فأدرك المغزى ، فغادر المنزل إلى أقسراي فاختفى في دار امرأة عجوزة مدة إلى أن حضر محمود شوكت باشا إلى الآستانة بجيوشه

٥٩٢

الجرارة ودخل الآستانة عنوة وخلع السلطان عبد الحميد وأجلس السلطان محمد رشاد وسكنت تلك الفتن ، وعين لمنصب الصدارة حقي باشا ، وهذا أيضا اعتمد غاية الاعتماد على المترجم لما رآه فيه من الجد والنشاط وفرط الغيرة والإقدام ، فكان يوليه مهام الأمور ورقاه إلى رتبة (ميرالاي). وبعد مدة وجيزة أظهرت الدولة الإيطالية نواياها تجاه طرابلس الغرب ، فساقت إليها جنودها وأساطيلها ، وعندئذ أعلن الحرب بينها وبين الدولة العثمانية ودامت نحو سنة.

وكانت إيطاليا في أثناء ذلك تسعى السعي الحثيث في إيقاد نيران الفتنة والعصيان في البلقان لتشغل الدولة العثمانية عنها فتحول نظرها عن طرابلس الغرب إلى البلقان ، فظهرت فتنة الأرنؤوط وأعقبتها طغيان الماليسور في ولاية أشقودرة ، وانتشرت شرارات الفتنة إلى بلاد الأرنؤوط الجنوبية حتى حدود اليونان. فانتهزت عصابات البلغار والصرب واليونان هذه الفرص الثمينة ، وطفقت تنسل من كل حدب ، وصارت تأتي بأنواع الفظائع ، والدول الغربية تشجعها وتمدها مادة ومعنى ، فاضطرت عندئذ أن تقبل الدولة العثمانية مطاليب الأرنؤوط الأربعة عشر ، وكان أولها إسقاط الوزارة وفسخ مجلس المبعوثين ، فسقطت وزارة حقي باشا وأعقبتها وزارة سعيد باشا ، ثم ما لبثت أن سقطت وخلقتها وزارة الغازي أحمد مختار باشا.

ظن هذا الشيخ الهرم أنه يتمكن من حل تلك المشكلات العظيمة بالطرق الحكمية بالاتفاق مع الدول الغربية وتوسطهم ، واغتر بمواعيدهم الخلابة ، فأمر بصرف الجيش النظامي المحتشد في ولايات البلقان المجهز بأنواع الأسلحة من الطراز الأخير ، وكان يبلغ ١٥٠ ألفا ، وعندئذ قام غير المسلمين من عناصر (الأسلاو) في قضاء برانة والتحقوا بعصاة الماليسوريين في ولاية أشقودرة وأخذوا اعتبارا من ١٤ تموز سنة ١٣٢٨ رومية يحرقون الحصون التي على الحدود ويتجاوزون على الأطراف ويسفكون دماء الأبرياء وينهبون ويسلبون. فأرسلت حينئذ دولة النمسا قرارا إلى الدولة العثمانية يحتوي على مادتين مصدقتين من قبل الدول العظمى ، وخلاصتهما إعطاء الحكم الاختياري إلى كل من مكدونيا وبلاد الأرنؤوط ، فاستقالت عندئذ وزارة أحمد مختار باشا وخلفتها وزارة كامل باشا الصدر المشهور.

٥٩٣

وكان ناظم باشا وزيرا للحربية في هذه الوزارة ، وكان شديد البغض والعداوة لمحمود شوكت باشا فاتح الآستانة ولا يركن إلى حواشيه ومعتمديه. فصادف ذات يوم أن المترجم محمود كامل باشا ذهب مع بعض أصدقائه وإخوانه إلى (حريت أبدية تبه) وهو موضع قتل فيه بعض ضباط الاتحاديين يوم حادثة ٣١ مارت سنة ١٣٢٥ ، وتبعهم بعض جواسيس الوزارة ونفر من مخابري الجرائد [الاتحاديين والائتلافيين] فأبّن هؤلاء القتلى بخطبة وجيزة خالية عن كل مغزى سياسي ، فما مضى على ذلك بعض ساعات إلا وانتشرت تلك الخطبة في الجرائد بحذافيرها ، وصارت جرائد الاتحاديين تحبذها وجرائد الائتلافيين تبني عليها القصور والعلالي ، واتصل الخبر بالصدر كامل باشا ووزير الحربية ناظم باشا وقامت في الوزارة ضجة أصبح كل واحد من المجتمعين يوجس خيفة في نفسه من هذا الاجتماع.

وعقب ذلك بلغ ناظم باشا للمترجم أنه عينه قائدا إلى أشقودرة على جيوش القلاع والحصون ، وأنه ينبغي أن يبارح الآستانة في الحال ، فلم يجد بدا من امتثال الأمر ، فلم يصل إليها إلا بشق الأنفس ، وتعرض في طريقه لجلائل الأخطار. وقبل وصوله بأيام قلائل كانت أكثر قرى أشقودرة ومعاملاتها سقطت في يد العدو وفي أيدي العصابات ، وكان قائد الجيوش المرتبة أسعد باشا الطابطائي أحد كبار الأرنؤوط ذوي النفوذ ، وكان رئيس عشيرة ومقدما زمن السلطان عبد الحميد ، والوالي وقائد الفرقة فيها حسن رضا باشا ، وكان يسعى ضمنا وراء استقلال بلاده.

وفي ذلك الوقت أعلن الحرب رسميا بين الدولة العثمانية وبين دول البلقان الأربع البلغار والصرب وقره طاغ [الجبل الأسود] واليونان اعتبارا من ١٩ أيلول سنة ١٣٢٨ ، وتجاوزت عساكرها حدود البلاد العثمانية. وكانت العصابات قبل ذلك منتشرة في أنحاء البلقان تقطع الطرق وتنهب القوافل وتعيث فسادا في تلك الربوع ، فلم تكن عشية أوضحاها إلا وجيوش الدولة العثمانية تبعثرت وتشتت ، منها من فر ومنها من أصبح أسيرا ومنها من قتل ، وصارت أكثر بلاد الرومللي وما فيها من أنواع الأسلحة والذخائر الحربية في قبضة الأعداء. ثم زحفت جيوش الدول الأربع نحو الآستانة وامتلكوا في طريقهم بلدتي (قرق كليسا) و (لوله بور غاز) اللتين هما بمثابة مفتاحين للآستانة ، وأصبحت جيوش الأعداء أمام جتالجة ، فتفاقم عندئذ الأمر وعظم الخطب وقامت قيامة الآستانة واضطرب أهاليها أيما اضطراب ، وامتد ذلك الاضطراب إلى جميع البلاد العثمانية. فعقد حينئذ في القصر

٥٩٤

الهمايوني مجلس للمذاكرة في شروط الهدنة ، ثم عقد الصلح. حصل ذلك وكل من أدرنة ويانية وأشقودرة لم تسقط ، وكانت هذا البلاد تذب عن حياضها وتدافع دفاع الأبطال في سبيل الشرف العسكري وحب الأوطان.

وكان القائد في أدرنة شكري باشا ، وفي يانية وهيب باشا ، وفي أشقودرة أسعد باشا وحسن رضا باشا ، وكان هذان يقدمان الذخائر وسائر اللوازم ، وكانت القلاع والحصون هي التي تحارب وتدافع ، وكان القائد فيها والمدافع عنها هو المترجم (محمود كامل باشا).

وفي أثناء ذلك عقد الصدر الأعظم كامل باشا ووزير الحربية ناظم باشا الهدنة وشرعا في المذاكرة مع قواد جيوش الأعداء ، وكاد يتم الصلح على أسوأ الشروط ، ففاجأهم حضور أنور باشا من طرابلس الغرب ، وكان إذ ذاك برتبة (قائمقام) ، ولما حضر اجتمع بنبهاء الضباط والأمراء ، وتجمهر قسم من الضباط والأهالي وذهبوا إلى الباب العالي وعلى رأسهم أنور باشا ، وكان مجلس الوكلاء منعقدا ، فأراد أنور باشا الدخول فمنعته القوة المحافظة الواقفة أمام الباب ، فدخله عنوة مع بعض من معه ، ولما صعدوا إلى فوق ومشوا خطوات رأوا ناظم باشا ومعه مرافقه وفي أيديهما المسدسات ، فبادرهما أنور باشا ومن معه وأطلقوا عليهما الرصاص ، فوقعا صريعين. ثم دخل أنور باشا إلى قاعة المجلس فانهزم قسم من الوزراء وقسم اختبأ في بعض الغرف. وكان كامل باشا الصدر يرتجف خوفا وجزعا ، فكلفه أن يستقيل ، فأجابه للحال. وعقب ذلك عين محمود شوكت باشا لمنصبي الصدارة ونظارة الحربية وأعطي رتبة مشير.

ولما استلم محمود شوكت باشا زمام الصدارة والنظارة ابتدأ بشروط الصلح من جهة ، وبتنظيم الجيش وإصلاح ما طرأ عليه من الخلل وبحشد الجنود من جهة أخرى. ولما كانت الشروط المعروضة من قبل الأعداء مجحفة ردت ولم تقبل ، وجيوش الأعداء واقفة في جتالجة أمام الآستانة.

حصلت هذه الحوادث الهامة في هذه المدة والبلاد الثلاثة أدرنة ويانية وأشقودرة تدافع ولم تسكت فيها أصوات المدافع. وبعد أشهر سقطت أدرنة ، ثم تلتها يانية ، وظلت أشقودرة تقاوم أحسن المقاومة. وكانت صحف العالم تتعجب من المقاومة التي أبدتها ، وكان المهاجمون لقلاعها هم عساكر الصرب والجبل الأسود ، وتقدر عساكر الصرب

٥٩٥

بثلاثين ألفا وعساكر الجبل بخمسة عشر وذلك ما عدا المتطوعين. وكان قواد هذه الجيوش يراسلون محمود كامل باشا ويرجون منه أن يقلع عن المقاومة ويسلم بالشروط التي يرتضيها ، وهم مع ذلك كانوا يرسلون له بالأراجيف من سقوط القلاع والبلاد والآستانة وأن السلطان في الأسر ، فكان كل ذلك لا يؤثر على محمود كامل باشا ، وكان تارة لا يرد لهم جوابا ، وتارة يجاوبهم أن لديه من المؤن والذخائر والعساكر ما يكفيه سنين ، في حين أنه لم يكن لديه من كل ذلك إلا القليل ، بل وصلوا إلى التغذي بلحوم الدواب الضعيفة والمريضة وبالكلاب والهررة.

ولما لم يقبل محمود شوكت باشا بشروط الصلح ، وكان قد نظم ما لديه من الجيوش بعض التنظيم وأعد لأعدائه ما استطاع من قوة ، استأنف القتال وقاتلت الجنود والضباط قتال المستميت ، وحملت على جيوش الأعداء المتجمهرة أمام جتالجة حملات عنيفة وذادت عن حياض الآستانة ذود الآساد عن عرينها ، فانكسرت جيوش الأعداء شر كسرة وولت الأدبار ، وطاردتها الجيوش العثمانية إلى أدرنة ، وهناك حاصرتها مدة وجيزة ثم استردتها.

وبعد استرداد أدرنة وقسم كبير من البلاد تداخلت الدول بالأمر ، فعقد هدنة أخرى وبوشر بمذاكرات الصلح وأشقودرة لم تزل مثابرة على الدفاع.

وفي أثناء ذلك كان مجلس الوكلاء في الآستانة يواصل الاجتماع ليلا ونهارا ويتذاكر بمهام أمور الصلح ويتخابر مع سفراء الدول العظام ، وكانوا يستفيدون سياسة من بقاء أشقودرة على المدافعة ، وكان كل من أعضاء مجلس الوكلاء يتساءلون عن محمود كامل باشا وعن أصله ومنشئه.

وحدّث يوما جلال بك أحد ولاة حلب أثناء الحرب العامة ، وكان وزيرا للداخلية في عهد وزارة محمود شوكت باشا ، قال : كنا يوما جالسين في غرفة المجلس في الباب العالي نتذاكر في مسائل الصلح مع دول البلقان ونتحدث عن أشقودرة ووضعيتها وحراجة الموقف بها ، فالتفت إلينا محمود شوكت باشا وحملق عينيه وقالت بصوت جهوري : إن قائد القلاع في أشقودرة محمود كامل باشا هو من خيرة القواد العسكريين لا في الدولة التركية فقط بل لدى دول أوربا أيضا ، وسيصبح هذا رجلا عظيما يكون له شأن كبير ،

٥٩٦

٥٩٧

فليس ثمة من خوف على الدولة ما دام فيها رجال أمثال هذا البطل الباسل ، فلنثبت ، ولا نرضى إلا بصلح شريف مهما كلفنا الأمر.

عقد الصلح وبلغ بواسطة دولة الصرب إلى محمود باشا في أشقودرة ، وكانت ذخائره ومؤنه نفدت تقريبا ، ولكن الأعداء لم يكونوا ليعلمون بذلك ، فكان يصدق الخبر تارة ويكذبه أخرى ظنا منه أنها خدعة حربية دبرها له الأعداء ، فاحتياطا لكل طارىء عقد شروطا مباشرة مع قواد الأعداء خلاصتها أن يخرج من القلعة هو وجنوده مستصحبين معهم جميع الأسلحة القابلة للنقل من مدافع وغيرها ، وأن يجري لهم استقبال عسكري باهر مع أخذ سلام التعظيم من الجنود المحاربة كافة ، وأن يوصلوها إلى الساحل بالاطمئنان ويتكفلوا بحمل أثقالهم على دوابهم وعجلاتهم ، إلى غير ذلك من الشروط الملائمة للشرف العسكري ، فقبلت جميعها منه ، فخرج بمن معه من بقية الجيوش ، وكانت البواخر بانتظارهم في الموانىء ، فركب فيها إلى الآستانة. وعند وصوله أرسل برقية إلى أهله في حلب يخبرهم بسلامته وصحته وذلك سنة ١٣٢٨ رومية.

وحصل له يوم وصوله إلى الآستانة استقبال حافل وطاروا فرحا عند رؤيتهم له لما أبرزه من البسالة والشجاعة في أمر المدافعة ، لأن بهذا الثبات استفادت الدولة كثيرا من الأمور السياسية والاقتصادية ، وأطنبت جرائد الآستانة في مدحه والثناء على ثباته وعظيم دفاعه. وزار وقتئذ جلالة السلطان فأنعم عليه بالإحسانات والوسامات ، ومن قرأ تواريخ الحروب في العالم قل أن يجد وربما لم يجد قوادا وجيوشا كانت محصورة خرجت من حصارها وهي تحمل مدافعها وأسلحتها وسائر أعتادها الحربية.

وفي خلال الحوادث السابقة ورد كتاب لأحد إخوته في حلب من حسين حلمي باشا جوابا عن كتاب أرسله إليه مستفسرا عن صحة أخيه وسلامته ، وهذه ترجمته بالحرف :

بناء على تحريركم المؤرخ في ١٣ كانون الأول سنة ١٣٢٨ راجعت بصورة خاصة سفير دولتي أوستريا ومجارستان في جتيته مستفسرا عن صحة أخيكم محمود كامل بك قائد قلعة أشقودرة ، فورد لي الجواب أخيرا أنه لا يمكن المخابرة مع أشقودرة ، حتى إن السفير نفسه لم يتمكن من أخذ معلومات عن المعتمد الموجود

٥٩٨

في أشقودرة. وجاء في الجواب أيضا أن الحوادث المستقاة من محافل حكومة الجبل الأسود تفيد أن صحة المحصورين وعافيتهم جيدة سيدي.

(في ٧ شباط سنة ١٩١٣ سفير ويانة حسين حلمي)

وهنا نقتطف جملا من أول كتاب ورد من المترجم إلى أهله بعد عوده من حصار أشقودرة إلى الآستانة مؤرخ في ٤ حزيران سنة ١٣٢٩ رومية ، قال :

بعد غيبوبة عن إستانبول دامت قدر تسعة أشهر وبعد حرب ومحاصرة في أشقودرة طالت ستة أشهر ونصفا عدت إلى الآستانة يوم الجمعة الماضي. كنت في أشقودرة قائد طرابوش أول هجوم (بومبار دمان) حصل كان متجها على منطقتي ، وكانت منطقتي دائما هي الأكثر تعرضا للهجوم. تفادي عسكرنا وشجاعته قد حير العقول. لو كان عندنا أرزاق لما كان للعدو نصيب أن يخطو خطوة نحو أشقودرة ، ولو لا نفاد الذخائر عندنا لما سلمت أشقودرة إلى الجبليين حسب الشروط التي ترونها في جريدة طنين إلخ.

وبعد رجوعه إلى الآستانة عيّن في نظارة الحربية بوظيفة مهمة ، ثم عيّن لمستشارية نظارة الحربية ، وبعد زمن قليل رفعت رتبته إلى (مير لواء) وعين مستشارا في النظارة الموما إليها.

ولم يمض على مجيئه أشهر إلا واكفهر وجه السياسة وأخذت علائم الحرب العالمية تبدو وتتراءى أشباحها ، وكان وميض برقها يشتعل تحت الرماد ، ولا حاجة هنا لذكر ما كان يجري في العالم الغربي والعواصم الأوربوية من ضروب السياسة وأنواع المخادعات ، ذلك العالم الذي أصبح ديدنه بذر بذور الشقاق وإيجاد الشرور والفساد بين الدول والعباد ليستفيد هو من ذلك ويكون بقية العالم فريسة له يزدردها ويسد بها جوعته وجشعه. وما كانت دولة من الدول أو أحد من الناس ليظن بأن هذه الحرب ستشمل ثماني عشرة دولة من أعظم وأنظم دول الأرض ، وأنها ستدوم أربع سنين يذهب بها كما ذكره أحد علماء الإحصاء من الأمير كان أربعون مليونا من البشر هم زهرة أهل البلاد وشبانها بين قتيل وجريح وغريق وغير ذلك ، وتذهب بها ثروة العالم وتنقلب إلى أوراق تلتهمها النيران بأسرع من لمح

٥٩٩

البصر ، وتنحصر تلك الثروة العظيمة التي لا تحصى في دولتين أو ثلاث ، وأن تثل فيها عروش قياصرة الأرض وجبابرتها ، وتصبح فيها تيجان الملوك المرصعة بين الأرجل وتقتل أصحابها شر قتلة ، ويضحي البعض منهم مقيدا بالسلاسل والأصفاد ، ويمثل بالبعض منهم أشنع تمثيل في الكهوف والغابات ، ومن فر منهم وسلم من عائلاتهم وذراريهم تشتت في أطراف البلاد ، فصار منهم من يتعاطى أحط الصنائع وأدناها مثل المقاهي والمراقص ، ومنهم من لا يجد ما يسد به الجوع ولا مسكنا يأوي إليه. ولا تسل بعد ذلك عن بقية طبقات العالم حيث أصبح أولادهم يتامى ونساؤهم أيامى ، وصاروا إلى الدرك الأسفل من الفقر والفاقة ، ومات من الناس جوعا أمم لا تعد ولا تحصى.

كل ذلك لتسكين جشع أشخاص معدودين لا يتجاوزون عد الأصابع ، وهؤلاءهم الذين يسمون أنفسهم أساطين السياسة وقادة الآراء ، وينظرون إلى من دونهم وإلى جميع أصناف الجنس البشري بعين الازدراء ، ويعتقدون أنهم أنعام فيسوقونهم إلى مجازر الأطماع الاستعمارية وإلى نوال مقاصدهم الأشعبية ، لا تأخذهم بالناس رأفة ولا تجد الرحمة والشفقة إلى قلوبهم سبيلا.

أعلنت الحرب العالمية ، وذلك في غرة آب سنة ١٩١٤ وتاسع رمضان سنة ١٣٣٣ ، واشتركت فيها بعض الدول إما طوعا وإما كرها ، ولسوء الحظ اشتركت فيها الدولة العثمانية ، وكان ناظر الحربية أنور باشا ، كان هذا وجد في ألمانيا مدة غير قصيرة ، وكان معجبا في أمور حربيتها ونظامها العسكري ووفرة معداتها وإتقانها للصنائع والفنون ، وذلك هو الواقع ، وكان أكثر الناس يظنون عند نشوب الحرب أنها لا تدوم أكثر من شهور ، وأن النصر والظفر سيكون حليف الدولة الألمانية ومن اتفق معها. فاستشار أنور باشا القواد في أمر الدخول في الحرب ، فصاروا يحبذون له الانضمام إلى الدولة الألمانية إما مجاراة لفكرته وميله وإما بسائق الاجتهاد الذاتي ، ولعل الثاني أقرب إلى الحقيقة.

وكان محمود كامل باشا يقول : إني رجل عسكري تابع للأمر ومنقاد إليه ، وأي دولة حاربتم فأني مستعد لأن أبذل آخر نقطة من دمي في الذود عن حياض الوطن والدولة والدفاع عن الدين والجامعة الإسلامية.

ولما أعلن النفير العام في المملكة العثمانية عين قائدا للعسكر في (حوضه) لتجهيز

٦٠٠