إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

محيي دروس العلم بعد دروسها

فلذا عليه لواها أمسى يرفع

مبدي شموس الحق بعد طموسها

فلذاك من علياه كانت تطلع

ومنها :

مولاي يا قمر الملا وبودنا

لو كنت في الأكباد منا تهجع

ما كان ظني قبل نعشك أن أرى

طودا على أيدي الخلائق يرفع

أو أن شمس الأفق تهبط في الثرى

والبحر يحمله رجال أربع

والله لو تفدى بأرواح الورى

لفدتك أرواح البرية أجمع

لكن قضاء الله جل محتم

فإذا جرى في غاية لا يدفع

وإذا دنا الأجل المتاح فلا ترى

طبا يفيد ولا دواء ينجع

[وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع](١)

ومنها :

لا زال معهده الشميم معطرا

بعبير عفو عرفه يتضوّع

فازينت دار الخلود لروحه

وغدت لعرف لقائه تتطلع

وصفا له برد النعيم بظلها

وصفا له الورد وطاب المشرع

وأباحه الرحمن رؤية وجهه

فغذا برؤية ربه يتمتع

وأحله برضائه فردوسه

فغدا من التسنيم فيها يكرع

أو قمت أرثيه فقلت مؤرخا

يوحى الهدى كسفت فأنى تطلع (٢)

١٢٦٧

١٢٢٠ ـ الشيخ حسين بن محمد الغزي المتوفى سنة ١٢٧١

الشيخ حسين بن محمد بن مصطفى البالي الغزي ، والد الفاضل المؤرخ الشيخ كامل أفندي الغزي.

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي.

(٢) هكذا ورد البيت.

٢٨١

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٣٥ في مدينة غزة من أسرة نشأ منها عدة علماء وفضلاء ، وبعد أن ترعرع تعلم القراءة والكتابة وأخذ مبادىء العلوم من علماء بلدته ، ولما بلغ السادسة عشرة من عمره سافر إلى مصر ودخل جامع الأزهر وأكب على تحصيل العلوم والفنون وأحرز منها النصيب الأوفر في مدة وجيزة ، ثم عاد إلى بلدته فأقبل عليه أهلها ، فحسده بعض الناس لذلك ونصبوا له المكايد. ولما تنكد عيشه فيها غادرها إلى جزيرة أرواد ، ثم توجه منها إلى طرابلس الشام في أواخر سنة ستين ومائتين وألف وأخذ في نشر العلم فيها. وفي ذلك الأثناء مر بطرابلس وليّ الله الشيخ محمد المغربي الشهير متوجها إلى حلب ، فاتصل به المترجم وحظي عنده وأخذ عنه الطريقة النقشبندية ، فحسّن له الشيخ محمد المغربي أن يتوجه معه إلى حلب وبشره بأنه ينال فيها إقبالا زائدا ويبنى له مدرسة ، فتوجه معه إليها ودخلها سنة ١٢٦٤ ونزل مع أستاذه في جامع بانقوسا واختلى معه بالخلوة النقشبندية وأخفى ما لديه من العلم. وصادف في ذلك الحين أن الحاج وفا ابن الحاج أحمد الموقت أحد أعيان الشهباء وشيخ تجارها قد حج تلك السنة ، وفي عودته مر على مصر بنية إحضار أحد متفوقي علمائها إلى حلب ، وذلك لقلة العلماء وقتئذ بحلب ، وذلك للطاعون الذي حصل قبل سنتين وللفتنة الإبراهيمية التي دامت نحو ٨ سنين ، ولما ذاكر بعض العلماء في هذا الشان قيل له إن في طرابلس رجلا من أكابر العلماء وأفاضلهم يقال له الشيخ حسين الغزي ، وهو إذا رضي بالذهاب إلى حلب تكون قد حصلت على بغيتك. فتوجه الحاج وفا إلى طرابلس ، ولما وصلها وسئل عنه قيل له إنه قد سبقك إلى حلب منذ أيام قلائل ، فسر لذلك وتوجه إلى وطنه حلب ، ولما وصلها اجتمع بحضرة الأستاذ الشيخ محمد المغربي وعرّفه غرضه وطلب منه أن يكلف الشيخ حسين بنشر ما لديه من العلم ، فامتثل المترجم الأمر واختار له الحاج وفا مسجدا قريبا من سوق القصيلة وهو مسجد أشقتمر المعروف الآن بجامع السكاكيني ، فصار يقرىء الطلبة فيه ، وشاع عند ذلك فضله وأقبل عليه الطلبة من جميع أنحاء البلدة ، وكان الناس في ذلك الوقت في شوق زائد إلى طلب العلم بسبب القرعة العسكرية ومسامحة الدولة طلبة العلوم من التجنيد ، وهي أول قرعة كانت في أيام الدولة العثمانية في مدينة حلب وبلاد العرب ، وقد كثر اجتماع الطلبة لهذا السبب ، ولما كان عليه من الجد والنشاط وفصاحة اللسان وغزارة المادة وقوة التعبير عن مراده ، وبلغ عدد الدروس التي كان يقرؤها في هذا المسجد كل يوم تسعة دروس في فنون مختلفة.

٢٨٢

وكان رحمه‌الله غيورا على الطلبة حريصا على استفادتهم ، يتمنى أن لو كان العلم لقمة سائغة يضعها في فم الطالب في جلسة واحدة.

ولما رأى السيد محمد راجي ابن السيد علي بيازيد أحد كبراء تجار حلب ومن مشاهير أعيانها وأجوادها أن تمام الانتفاع من فضائل الأستاذ إنما يتحقق بواسطة مدرسة يقيم فيها الطلاب وينقطعون فيها للطلب بنى في مسجد أشقتمر المعروف الآن بجامع السكاكيني في محلة القصيلة ست حجرات في مصيف كان هناك في الجهة الشمالية ، وجعل أكبرها لإقامة حضرة الأستاذ والباقين للطلبة. وكان الحاج محمد راجي المذكور يقدم للطلبة المجاورين طعام الغداء والعشاء ، ويعطي لكل واحد منهم ثلاثين قرشا مشاهرة وكسوة في الصيف وكسوة في الشتاء ، ويصطنع لهم الولائم في المواسم وفي كل ليلة من شهر رمضان ، ويدر عليهم إحساناته ، ويقدم لحضرة الأستاذ رحمه‌الله كفايته من المؤونة والأقمشة والنقود ، وانهالت عليه الهدايا والوظائف انهيال السيل في الليل ، فكان يصرفها في سبيل بر تلامذته.

ولم يزل على هذه الحالة إلى أن توفي يوم الاثنين في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ١٢٧١ ، ودفن في مقبرة الشيخ جاكير بجانب قبة الفتياني ، وشيع جنازته ألوف من الناس ، وتخرج على يده في برهة ست سنوات كثير من العلماء والفضلاء ، منهم الشيخ أحمد الكواكبي والشيخ أحمد الزويتيني والشيخ طاهر الطيار الكيالي وأخوه الشيخ عبد الرؤوف والشيخ محمد الخياط والشيخ علي ناصر وغيرهم.

وألف رحمه‌الله عدة مؤلفات ، منها رسالة في المجاز ، ومنظومة من بحر الرجز ذكر فيها فضائل رمضان وسماها «منحة الرحمن في فضائل رمضان» وسمى شرحها «عطايا المنان» ومطلعها :

يقول راجي عفو ذي الجلال

حسين الغزي نجل البالي

حمدا لمن فضّل شهر الصوم

على الشهور عند كل القوم

ومنها بعض كراريس في شرح سلم المنطق ، ورسالة مختصرة في التوحيد (وهي موجودة في مكتبة محمود أفندي الجزار التي كانت موضوعة في الجامع الكبير) ، ورسالة في إعراب لا سيما وإعراب لا أبا لزيد ، ومسائل متفرقة من مشكلات علم النحو

٢٨٣

والصرف ، وهي دالة على فرط ذكائه وقوة التحقيق والتدقيق وسعة الاطلاع.

وكان الشعر أقل مزاياه ، وكان سريع البديهة ينظم ساعة واحدة في معان مختلفة ما لا ينظمه غيره في عدة أيام ، إلا أنه لم يكن له اعتناء بجمعه وبقي مفرقا ، غير أن بعض تلامذته جمع كراسة صغيرة من شعره وهي مفتتحة بقصيدة نبوية قال في مطلعها :

بجاه إمام الأنبياء أتوسل

ومن جوده الأوفى شفائي أؤمل

وأعرض للجاه العريض شكايتي

وبثي وأحزاني وما أتحمل

وأطلب منه كشف ضري وكربتي

وعلمي يقينا أنني لست أخذل

فقد أعيت الآسي المجرب علتي

وما ينفع الآسي ودائي معضل

ا ه ملخصا من قلم ولده الشيخ كامل أفندي ، وإنما اكتفينا منها بهذا المقدار اعتمادا منا أن يذكرها ولده بتمامها في الجزء الرابع من تاريخه.

ورأيت للمترجم فيما عندي من المسودات أبياتا يمدح فيها إلياس ناقوس الطبيب المشهور في ذلك العصر ، وقد طرز اسمه ولقبه في أول كل بيت ، وهي :

ا إن رمت حكمة بقراط وفطنته

ورمت تشفى من الأمراض والألم

ل لا تلغ قول الذي أبدى العجائب في

طب المريض وإلا تغد في ندم

ي يخفي تواضعه إفراط معرفة

وتلك أشهر من نار على علم

ا آراؤه كلها في الطب ليس لها

عيب سوى أنها مشهورة الحكم

س سل عنه دائي وما قاسيت ثم على

يديه زال الذي أشكو من السقم

ن نام الأطباء عن دائي لجهلهم

واستيقظت عينه لي فانجلت غممي

ا أجارني الله من هم أكابده

على يديه فأحياني من العدم

ق قال الأطباء عنه قول ذي سعة

جهلا وذلك شأن الحاذق الفهم

وولو أصابوا طريق الطب لالتقطوا

من لفظه دررا في صورة الكلم

س سارت بجهلهم الركبان واشتهروا

بالكذب وافتضحوا في العرب والعجم

وترجمه الأديب الشاعر قسطاكي بك الحمصي في كتابه «أدباء حلب» ترجمة موجزة قال : وله شعر كثير منه قوله في مطلع قصيدة :

قلب يجدّ به الغرام ويعبث

ويميته الحب المبيد ويبعث

٢٨٤

أنا في هواه شج أجوب حزونه

سيرا فها أنا فيه أغبر أشعث

ومن قصيدة أخرى :

كف ألحاظك المراض الصحاحا

لست أقوى ولا أطيق السلاحا

ليت شعري ما كان ذنبي حتى

أدخلتني سود العيون الجراحا

وله قصيدة بميلاد ابنه الشيخ كامل يقول في مطلعها :

كم لفضل الإله من بعد يأس

نعم أذهبت همومي وبؤسي

وبمسك ختامها يؤرخ مولده بقوله :

وصلاة على محمد الهادي وآل ما طاب تاريخ غرسي ١٢٧٠

١٢٢١ ـ الشيخ محمد الشهير بالجذبة المتوفى سنة ١٢٧٣

الشيخ محمد ابن الحاج صالح بن محمد بن عمر بن عبد الله بن عمر البصمجي ، الشهير بابن الجذبة.

قال الشيخ أبو الوفا : كان الشيخ محمد من أهل التقوى والصلاح ، حسن الأخلاق لين الجانب ، عظيم التواضع حسن المعاملة ، متحببا للناس ، يحب الخير وأهله ، محقرا لنفسه. نصبه إبراهيم باشا مفتيا ورئيسا في المجلس الذي سماه بالشورى وميزه على أرباب التمييز ، فلم يتغير عما كان فيه من الاتصاف بالأوصاف المحمودة ، بل ازداد تواضعا ولينا. وكان كثير الصوم ، مثابرا على العبادة والصلوات في أوقاتها مع الجماعة ، ملازما على الأوراد والأذكار والخلوات في المسجد الذي في جواره ، يجتمع إليه الناس وهو كأنه واحد منهم لا يمتاز على أحد منهم ، جميل الاعتقاد بالفقراء ، كثير الزيارة لقبور أهل الشهرة والصلاح ، غير متغال بالمأكل والمشرب ، يجيب إذا دعي إلى الضيافة ولو كان الداعي فقيرا غير مكترث بما يعنى به أرباب الظهور ، وليس له دعوى في مزية من المزايا ، مأمون الغوائل ميمون النقيبة صبيح الوجه ظاهر الوضاءة والنورانية والبشاشة متواضعا. وكان شهرة والده رحمه‌الله بابن الجذبة ، فكان في بعض الأوقات إذا أراد أن يكتب إمضاءه في مكتوب أو غيره

٢٨٥

يكتب : الفقير الحاج محمد الشهير بابن الجذبة ، تواضعا منه ، وله مزايا عديدة يطول شرحها.

وأخبرني أن والده الحاج صالح ثالث ثلاثة ولدوا في بطن واحدة وحملوا فيها ، وأن أخويه ماتا صغيرين وبقي والده. ا ه.

وكانت ولادته سنة ١٢٢٧ وتوفي في جمادى الأولى سنة ١٢٧٣.

١٢٢٢ ـ عبد الحميد أفندي الجابري المتوفى سنة ١٢٧٣

عبد الحميد أفندي ابن الحاج عبد القادر أفندي الجابري.

كان من الفضلاء الأدباء الوجهاء ، وهو جد صديقنا الوجيه الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي.

ومن شعره قوله :

كن في أمور الفقه صاح متابعا

للنقل واجتنب الهوى والوسوسه

واترك لما في العقل يخطر إنما

علم الشريعة ليس علم الهندسه

ومنه قوله :

وليلة قامت براغيثها

ترقص إذ غنى لها البقّ

فكدت من غيظي لأفراحها

أنشقّ لو لا الصبح ينشقّ

وقيل إنهما ليسا له.

توفي سنة ١٢٧٣ بعد أن عاش نحو ٦٥ سنة.

وذكر جميل أفندي الجابري حكاية لطيفة كثيرا ما سمعناها من الأفواه ، وهي أنه أقام الشيخ محمد أفندي الطيار الكيالي حفلة ختان دعا إليها الكثير من الفضلاء والوجهاء والمشهورين من المطربين في ذلك العصر مثل مصطفى البشنك وابن عبدو ، فبينما هم يعزفون ويغنون دخل عليهم الحاج عبد الكريم البلّه الشاعر صاحب النكت الغريبة ، فاستقبله المنشدون بإنشاد كلام مستهجن ، ولما استوفوا حظهم منه وفرغ ما عندهم قال لمن حضر :

٢٨٦

إن هؤلاء الجماعة يمدحون الأغنياء للجائزة ، والمشايخ للتبرك والدعاء ، ومثلي ليمدحهم ، فوجب عليّ مدحهم ، وأنشد ارتجالا :

ورب شداة كالحمير نواهق

بمختلف الأصوات من غير ضابط

مزاهرهم دلت على نغماتهم

كما دلت الأرياح عن إست ضارط

وكان في الحاضرين الوجيه الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري ، فنظم بيتين في الحال وأعطاهما عبد الكريم وهما :

أرح عبد الكريم كرام قوم

من التعريض في نظم القريض

وبدل هجوهم كرما بمدح

فهم مداح ذي الجاه العريض

فاعتذر عند ذلك الحاج عبد الكريم وأرسل للشيخ عبد الحميد أفندي بهذه الأبيات :

أيا مولى رقي رتب المعالي

على القمرين فضلا بالوميض

تقبل عذر عبد قد رمته

بنو الآمال بالسهم الحضيض

فلو وقفوا على مدح التهامي

لكان المدح فيهم من فروضي

ولكن أسرفوا في صفع قحفي

وزفوني بفائضة المريض

فأمطرهم سحابي مزن سلح

وحيتهم رياحي من محيض

فلا عتبا عليّ هجاء قوم

يقيسون الذبابة بالبعوض

وعبد الكريم بلّه كان رجلا ظريفا من العوام ، صاحب ملح ونوادر ، مشهورا بذلك يتناقل ملحه الطاعنون في السن إلى الآن ، وكان ذا ذكاء وفطنة ، وعني بقرض الشعر وصار عنده ملكة منه ، غير أن غالب شعره في الخلاعة والمجون ، فلم أستحسن إثبات شيء منه ، وبلغني أن له ديوانا لكني لم أعثر عليه بعد ، وكذلك لم أتمكن من الوقوف على تاريخ وفاته غير أنها كانت أواخر هذا القرن.

وترجمه الأديب قسطاكي بك الحمصي في «أدباء حلب» وأشار إلى هذه النادرة ، لكنه لم يقف منها إلا على البيتين الأوليين ، وتتمة النادرة هي ما ذكرناه.

ووجدت له في بعض المجاميع تشطيرا لبيتين وهما :

عرضنا أنفسا عزت علينا

لها في ذروة العليا مكان

٢٨٧

هي الشمس المنيرة حين مرت

عليكم فاستخف بها الهوان

ولو أنّا رفعناها لعزت

ولكن التواضع لا يشان

وما كسفت ببرج النحس شمس

ولكن كل معروض مهان

١٢٢٣ ـ الشيخ عمر المرتيني الإدلبي المتوفى سنة ١٢٧٥

الشيخ عمر ابن الشيخ أحمد المرتيني الإدلبي. ترجمه صديقنا الفاضل برهان الدين أفندي العياشي مفتي إدلب حالا في مجموعة له تفضل بإرسالها لنا قال :

ومن علماء البلدة الشيخ عمر أفندي المرتيني. كان من فضلاء البلدة وعلمائها ، وكان مولعا بنسخ الكتب ، قوي الحافظة سريع البديهة ، لا يكتب كتابا إلا ويحفظ غالبه. وكان يحفظ مقامات الحريري عن ظهر قلب ، وله الوقوف التام على أنساب العرب ووقائعهم. كتب بخطه شرح العلامة العيني على صحيح الإمام البخاري مرتين ، وجمع بخطه مكتبة جسيمة. توفي سنة ١٢٧٥. ا ه.

أقول : كان المترجم سريع الكتابة جدا مع الإتقان والضبط. رأيت فيما بقي من الكتب الخطية في خزائن البيوت في حلب كتبا كثيرة بخطه تزيد على ثلاثين ، وعندي بخطه الحسن كتاب «الدر المختار على تنوير الأبصار» في الفقه الحنفي وهو مما كتبه سنة ١٢٣٧ ، وكتاب «فاكهة الخلفاء» وهو مما كتبه سنة ١٢٦٠ ، وهذا يدلك على أنه كان مع اشتغاله بالعلم والتدريس دائبا على استنساخ الكتب العلمية والأدبية.

وكتب على قبره أبيات من نظم أخيه الشيخ صالح وهي :

يا رعى الله ضريحا قد حوى

شيخ هذا الوقت فضلا ونظر

كان في ذا القطر بدرا مشرقا

رحمة للناس بدوا وحضر

بحر علم لم يزل يشهد ما

خطه من كل فن أو أثر

إنه الفرد الذي ليس له

من نظير كائن بين البشر

مذ دعاه الشوق قد آن اللقا

وإلى الفردوس ناداه القدر

سار في موكب أملاك إلى

مقعد الصدق ويا نعم المقر

٢٨٨

وبشير العفو نادى أرّخوا

إن دار الخلد والاها عمر

١٢٧٥

ووالد المترجم الشيخ أحمد كان من العلماء الفضلاء أيضا ، جدد جامعا بإدلب يقال له الجامع الأقرعي كان تخرب ، وبنى له منارة حسنة وجعل فيه مدرسة ، وكان يقيم فيها ، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة ١٢٢٩ ودفن في التربة التي تلي تربة والده.

أقول : وقد اطلعت على حجة مؤرخة في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ١٢٣٧ في إثبات نسب المترجم لدى قاضي إدلب في ذلك الحين وأنه من الأشراف ، وقد جاء فيها : عمر بن أحمد الشهير بالمرتيني بن بركات بن حسين بن شهاب الدين البعاجي المهاوي قائلا إنهم نتجوا بقرية مرتين المجاورة لقصبة إدلب الصغرى ، وإن (١) والده ووالد والده هاجرا من قرية مرتين وتوطنا في قصبة إدلب ، وإنه رجل شريف صحيح النسب بموجب هذا النسب الذي بيده المرئي بالمجلس الشرعي المختوم بأختام كثيرة وحجة شرعية مؤرخة في سنة أربع وثلاثين وألف.

١٢٢٤ ـ أحمد آغا ابن عبد الرحمن آغا الجزّار المتوفى سنة ١٢٧٦

أحمد آغا الشهير بالجزار بن عبد الرحمن آغا الشهير بالسيّاف بن محمد بن إبراهيم بن علي بن أحمد بن مصطفى بن حسن ، السري ابن السري والوجيه ابن الوجيه.

ضم إلى سروّه علما وإلى وجاهته نبلا ، فاستنارت في سماء العلياء مصابيح مجده ، وفاح في رياض العلوم عبير فضله ، فكان للمحافل بهجتها ، وللمجالس طرازها وزينتها ، تعرف أسرته ببني السياف وهي من البيوتات القديمة في الشهباء.

وأما هو فاشتهر بالجزار ، وسبب ذلك كما حدثني به بعض أحفاده نقلا عن الشيخ المعمر الشيخ محمد عاصم أن أحمد باشا الجزار الشهير الذي كان حاكما في عكا لما انتهى من حروبه مع نابليون بونابرت قائد الجيوش الإفرنسية ونال الشهرة بالظفر على عدوه الطائر الصيت استدعاه السلطان سليم خان الثالث سنة ١٢٠٣ إلى الآستانة ليكافئه على أعماله

__________________

(١) مرتين قرية غربي إدلب تبعد عنها ساعة ، وفيها عين ماء جلبت في أقنية حديدية إلى إدلب سنة ١٣٤٣ ، وقد ذكرنا ذلك في الجزء الثالث في (ص ٢٢٢).

٢٨٩

التي قام بها ويغدق عليه من إنعاماته ، فشد الرحال إلى دار السعادة من طريق البر ، فمر بحلب فحل ضيفا عند والد المترجم عبد الرحمن آغا المشهور بالسياف ، وكان له منزل عظيم واسع في حي الفرافرة يؤمه الكبراء والعظماء الذين يمرون من الشهباء ، وكان سمح اليد رحب الصدر ، فصادف أثناء وجود أحمد باشا الجزار عنده أنه رزق غلاما ، فجاءه البشير بذلك وهو يسمر مع الباشا ، فأظهر الباشا سروره وهنأه واقترح عليه أن يسمي هذا الغلام (أحمد) ويلقبه (بالجزار) تذكارا لضيافته ، فعمل عبد الرحمن آغا بمقتضى إشارة ضيفه الكريم ، ومنذ ترعرع كان والده وأهله يدعونه بالجزار ، فصار لقبا له ولعقبه من بعده إلى الآن.

تلقى المترجم مبادىء العلوم على أفاضل عصره ، ثم وجه عنايته إلى العلوم الروحانية وعلوم الهيئة والفلك ، فمهر بها وصار من النابغين المشار إليهم فيها ، ولصرف عنايته إلى هذه الفنون اقتنى واستنسخ كتبا كثيرة فيها ، فصار لديه منها ومن غيرها كتب قيمة نادرة المثال ، واعتنى أيضا بشراء الآلات الفلكية فحصل على نفائس منها آل الجميع إلى ولده محمود أفندي الجزار الذي تلقى عنه هذه العلوم وشارك فيها مشاركة حسنة كما سنذكره في ترجمته إن شاء تعالى.

وكان شيخنا الشيخ أحمد المكتبي يثني على علم المترجم وفضله ، ويشهد له بالتفوق ورسوخ القدم في العلوم التي ذكرناها ، وكان يقول : إنه لم يكن له نظير في هذه البلاد ، وحصل منه عدة وقائع تدل على تضلعه في العلوم الروحانية والزايرجة يتحدث بها إلى الآن ويطول الشرح لو ذكرناها.

ووجدت عند بعض أحفاده مجموعة بخطه فيها جداول كثيرة لمعرفة التاريخ العربي والمسيحي والإسرائيلي ، ومسائل كثيرة تتعلق بعلم الأفلاك وبروجها ودلالات الكواكب على البلدان وسرعة دوران السيارات فيها إلى غير ذلك من الفوائد التي يعرف بها طول البلاد وعرضها ، وهي جديرة بالنشر ، وبعض هذه المجموعة بخط ولده الموما إليه.

وهناك مجموعة أخرى له أيضا قال في أولها : وبعد فهذا زيح العسيني نبغ في عصرنا نزهة زمانه هو الرصد الجديد المرصود في باريس. وقد اقتطف من أصل نسخته الكبيرة الحجم بعض العلماء تقويم النيرين والخمسة المتحيرة والاجتماع والاستقبال ، وترجمه من

٢٩٠

اللغة الفرنساوية إلى التركية في مدينة قسطنطينية وحول الرصد إليها ، وفي سنة ١٢٦١ ترجم إلى اللغة العربية في مدينة حلب الشهباء إلخ.

وكان له عناية بعلم الرمل رأيت بخطه عدة أوراق تتعلق بذلك. وبالجملة فقد كان رجل علم وعمل ، ذا همة في التحبير والتحرير ، ولو أتيح له من يترجمه في عصره خصوصا إذا كان من الواقفين على هذه العلوم لأطال ذيل ترجمته ووفاها حقها.

وكان منزل المترجم كما قدمنا في محلة الفرافرة ، ثم حصل بينه وبين بعض بني عمه نزاع دعاه أن يشتري دارا في محلة باب قنسرين تعرف بقناق الجزار إلى الآن ، ثم إنه وقفها سنة خمس وسبعين ومائتين وألف على سكنى ذريته ووقف عليهم ثلاث دور أخرى ومصبغة ودكاكين. وكان يتعاطى الزراعة شأن معظم الوجهاء في هذه البلاد وأثرى منها ، وكان يملك من القرى السفيرة وتل عرن وتل حاصل وبرقوم ، ثم في زمن السلطان عبد المجيد أخذت منه القرى الثلاث الأول وملكت لسكانها من الفلاحين وخصص له راتب كان يتناوله مدة حياته من الحكومة ، وأبقي له قرية برقوم وهي في يد أحفاده إلى الآن.

ولم يزل على وجاهته وحرمته وانكبابه على علومه المتقدمة إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة ألف ومائتين وست وسبعين ، ودفن في الجبانة الخاصة بهذه العائلة وهي واقعة بين تربة الصالحين وتربة الشيخ السفيري.

وكان للمترجم أخ يقال له محمد آغا توفي بالبصرة ، والسبب في ذهابه إليها أنه كان مر من حلب علي باشا المرسل من الآستانة واليا على البصرة ، فاصطحبه معه وولاه رياسة المالية (دفتر دار) في أيام حكمه فيها ، ثم إنه صار واليا عليها. وكانت وفاته بها ، ولم أقف على تاريخ ذلك ولا على شيء من أخباره.

١٢٢٥ ـ محمد أسعد أفندي الجابري المتوفى سنة ١٢٧٧

محمد أسعد أفندي ابن الحاج عبد القادر أفندي الجابري مفتي حلب.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢١٦ كما وجدته بخط حفيده جميل أفندي في مجموعة له ، وتلقى العلوم العربية والفقه الحنفي على علماء عصره. وكان صدرا محتشما ذا هيبة ووقار. تولى إفتاء حلب سنة ١٢٧٣ ، وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي في سنة ١٢٧٧.

٢٩١

وله شعر حسن مطبوع انتهبته أيدي الضياع ولم يجمع ، ومن قصائده المشهورة التي يتغنى بها المغنون في حلب قوله :

لله من بالهوى بالصد أفتاها

ومن على الصب بالهجران جرّاها

أهل ترى علمت أني أبرّ بها

أقسمت أن فؤادي ليس ينساها

أو هل ترى تدري ما بالقلب من شجن

كما درت مقلتي من لوعتي ماها

وأنت يا طرفها لا تبق لي رمقا

لا خير في مهجة الحب أبقاها

تنهدت رحمة لما رأت سقمي

خوفا لئلا أرى ما بين قتلاها

فأثرت خمسها في صدرها عددا

مثل العقيق على بلّور نهداها

[هكذا]

لا عيب فيها سوى معسول ريقتها (١)

مثل النبات (٢) فما قد كان أحلاها

واصلت في شعرها ليل الوصال فلم

أخش صباحا سوى ضاحي محياها

بتنا جميعا بأثواب العفاف إلى

أن قام داعي صلاة الفجر حياها

ضمت إلى صدرها صدري تودعني

ثم انثنت عن ضلوع ثم مثواها

فقام ينشدها في الروض بلبله

مذ غردت برخيم الصوت ضاهاها

قالت أتخلص من حبي فقلت لها

بمدح خاتم كل الأنبيا طاها

لا تستطيع الورى تحصي مدائحه

لو كان كل شعور الناس أفواها

صلى عليه إله العرش ما صدحت

قمرية إلفها بالبين أبكاها

والآل والصحب والأتباع ما نشدت

لله من بالهوى بالصد أفتاها

وله مخمسا :

لم يبق في الدنيا مواخ

زمن الرجا ولى وشاخ

يا ناعيا زد في الصراخ

خلت الرقاع من الرخاخ

وتفرزنت فيها البيادق

__________________

(١) في الأصل : ريقها.

(٢) أي مثل سكر النبات في شدة الحلاوة. وسكر النبات معروف وهو سكر يذاب ثم يجمد فتشتد حلاوته ، لكن النبات لا يفيد معنى الحلاوة لغة ليشبه به ، فالتعبير به مع قصد إفادة هذا المعنى الذي لا يظهر إلا بإقحام لفظ السكر بين المتضايفين لغة عامية مصطلح عليها في حلب.

٢٩٢

هي جيفة حظ الكلاب

فترى الكرام بها تصاب

ولئامها تعطى النصاب

وسطا الغراب على العقاب

واصطاد فرخ البوم باشق

حكم الإله فلا اعتراض

لرفيعها بالإنخفاض

فانظر إلى ذا الإعتياض

سكتت بلابلة الرياض

وأصبح الخفاش ناطق

ذهب الخليل مع السمير

ورقى الصغير مع الكبير

واحسرتا أين المجير

وتسابقت عرج الحمير

فقلت من عدم السوابق

ومن شعره وهو مما كتبه لي الصديق الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الجابري قوله :

يقولون تب والكاس في يد أغيد

وصوت المثاني والمثالث عالي

فقلت لهم لو كنت أضمرت توبة

وعاينت هذا في المنام بدا لي

١٢٢٦ ـ يوسف باشا ابن نعمان أفندي شريّف المتوفى سنة ١٢٧٨

يوسف باشا ابن نعمان أفندي ابن عبد الرحمن آغا ابن عبد الوهاب آغا ابن محمد ابن الحاج عثمان ابن الشيخ عبيد الله الشهير بشريّف : بضم الشين وفتح الراء وتشديد الياء ، أحد وجوه الشهباء وأعيانها.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢١٤ ، وظهرت عليه أمارات النجابة والدهاء من صغره ، ولما أتى إبراهيم باشا المصري إلى هذه البلاد عيّنه متصرفا على اللاذقية وطرابلس الشام ، فجمع من أموال هاتين البلدتين ما لا يحصى ، ثم إنه أخذ هذه الأموال وهرب بها إلى الآستانة إلى السلطان محمود وأخبره بما كان من إبراهيم باشا في هذه البلاد وحظي لدى السلطان بذلك.

وأما إبراهيم باشا فإنه حينما سمع بما أجراه يوسف باشا أمر بتصويب المدافع إلى منزله وأطلق عليه القنابل إلى أن جعله قاعا صفصفا ، فكتب بعض وجوه حلب إلى يوسف باشا بالقضية ، فأعاد له الجواب إنه يهيىء ٨٠ ألف مخلاة للخيل و ٣٠٠ ألف من العساكر

٢٩٣

الجرارة إلى قتال إبراهيم باشا ، وشاع أمر هذا الكتاب بين الأهالي ، ففترت لذلك عزائمهم وأثر ذلك فيهم تأثيرا عظيما. ولما خرج إبراهيم باشا من حلب عاد من الآستانة يوسف باشا واستقبله أهالي حلب استقبالا فخيما.

ومن آثاره ثكنة بناها في قرية أبي قلقل تعرف به إلى الآن. وصنع مدفعين في بيته ، فوشى به بعض الناس إلى الحكومة فقال : نعم عمرت ثكنة وصنعت مدفعين من مالي وأرسلتهما إليها خدمة للحكومة لتضع هناك جندا يأمن الناس على أموالهم ومزارعهم من العربان القاطنين ثمة.

وكان صاحب نفوذ عظيم ، فعينته الحكومة العثمانية متصرفا على أورفة بقصد إبعاده عن حلب ، وحوّل منها إلى معمورة العزيز ثم إلى متصرفية الموصل ، وهناك توفي على إثر مرض ألم به ودفن في الموصل وذلك سنة ١٢٧٨ وله من العمر أربع وستون سنة.

وترك إذ ذاك ما بين أملاك ونقود ومجوهرات ما ينيف عن مائة ألف ليرة ذهبا عثمانيا. وبعد وفاته اختلف أولاده فيما بينهم وكل واحد منهم وضع يده على ما أمكنه الوصول إليه من التركة وخبؤوا البعض منها عند الناس ، فضاعت بسبب ذلك وتمزق شمل هذه الثروة الطائلة وعاد أولاده فقراء بعد ذاك الغنى.

وترجمه علامة العراق الشيخ محمود أفندي الألوسي في رحلته المسماة «غرائب الاغتراب ونزهة الألباب» وهي مطبوعة في بغداد ، قال : ومنهم (أي ممن اجتمع بهم في رحلته إلى الآستانة) من أخذ بضرع الشرف فارتضع منه ما شاء وحلب ، حضرة الحاج يوسف بك ابن شريّف بصيغة التصغير ، نخبة أهل حلب ، وهو من قوم أمجاد ، ولم أجتمع به يوم جاء مع علي باشا إلى بغداد ، ولا بعد أن صار متسلم البصرة وعاد منها ، وذلك لأمور طويلة الذيل لا ينبغي أن يكشف الغطاء عنها. ولما اجتمعت به في القسطنطينية رأيته ذا خبرة بالعلوم الأديبة ، ورأيت له من مكارم الأخلاق ما وددت أن يكون مثلها في بعض وجوه العراق ، فيا لله تعالى دره من فتى عالي الجناب ، وإذا قلت قد أوتي يوسف شطر الحسن فلا عجاب. وحدثني المرحوم والدي تغمده الله برحمته أنه نزل في بعض أسفاره ضيفا عند جده ، فرأى من إكرامه إياه ما يشهد بعلو مجده ، وهذا الكعك من ذاك العجين ، وهذا الليث من ذاك العرين. وقد رجع إلى وطنه قبلي بأيام ، وبقدومه إليه استبشر على

٢٩٤

ما سمعت الخاص والعام ، وظني أنه سيكون له في الرياسة الشان ، ولا بدع فقلما رأيت مثله في رؤساء هذا الزمان. ا ه.

١٢٢٧ ـ الشيخ أحمد الحجّار المتوفى سنة ١٢٧٨

العلامة الشيخ أحمد بن قاسم شنّون الشهير بالحجّار.

ترجمه ولده الشيخ عبد الرحمن بكتاب كان أرسله لبعض أصحابه فقال :

هو المرحوم العلامة أبو عبد الرحمن الشهاب أحمد بن قاسم شنّون الحجّار الحلبي. نشأ رحمه‌الله تعالى في حجر أبيه ، وكان أبوه من الصالحين من أهل النسب الطاهر العلوي ، يتصل نسبه بالسادة الأشراف آل الجنزير بالجيم والنون والزاي آخره راء مهملة. قرأ المترجم القرآن على الشيخ عبد الكريم الترمانيني والد شيخنا الشهاب أحمد الترمانيني ، وكان الشيخ عبد الكريم من أهل العلم والخير والصلاح مشتغلا بتعليم القرآن الكريم ، وكان أصم لا يسمع غير القرآن المجيد كما ذكره الشيخ عمر الطرابيشي في ترجمته ، وحفظ المترجم عنده القرآن المجيد بالضبط والإتقان ، وقرأ عنده مقدمات العلوم من النحو والفقه وغيرهما ، إلى أن برع وصنف وقتئذ رسالته المعروفة «بالتمرين في النحو» وهي مقدمة مباركة يستدل من الانتفاع بها على الإخلاص في تأليفها ، وأقرأها وهو في المكتب لولد شيخه شيخنا الشهاب أحمد الترمانيني ، وبهذا كان يعد في مشايخ شيخنا الترمانيني كما قاله شيخنا محمد شهيد بن عبد العزيز الترمانيني عن شيخنا الشيخ أحمد الترمانيني.

ثم تجرد المترجم للتحصيل والتبحر في العلوم ولازم الشيخ أحمد الهبراوي المتوفى سنة ١٢٢٤ وغيره من علماء ذلك العصر في حلب ، ومن أجلّهم إذ ذاك العلامة الكبير والولي الشهير الشيخ إبراهيم بن محمد الدارعزاني الهلالي ولازمه وسلك على يديه وانتفع به ، ثم أذن له في الرحلة إلى دمشق الشام ، فهاجر إليها ونزل في المدرسة البدرائية ولازم العلامة الشيخ سعيد الحلبي والمولى عبد الرحمن الكزبري وأقرانهما من فضلاء ذلك العصر (١). ولما هاجر العلامة المرشد الكامل الماجد مولانا ذو الجناحين ضياء الدين الشيخ خالد الكردي النقشبندي إلى دمشق لازمه المترجم وقرأ عليه شيئا من علم الكلام وسلك على يديه وأجازه

__________________

(١) منهم الشيخ حامد العطار الشهير والسراج الداغستاني كما رأيته بخط بعض الأفاضل.

٢٩٥

ورحل معه إلى زيارة بيت المقدس ، وفي هذه الرحلة حفظ المترجم «جمع الجوامع» الأصولي عن ظهر قلب. ولم يزل مشتغلا في تحصيل العلوم حتى مهر وبهر وصار في عصره ممن برع واشتهر. ثم رجع إلى بلده حلب الشهباء ولازمه الطلبة وانتفعوا به ، وصار العلم في حلب وملحقاتها لا يرفع سنده إلا إليه في الغالب لفقد العلماء بسبب الطاعون الذي حصل في حلب وملحقاتها سنة ١٢٦٤ أيام إبراهيم باشا المصري ، إلى أن رحم الله تلك الجهة بالمترجم وبتلميذه شيخنا الشهاب أحمد الترمانيني ، فأحيا بهما العلم بعد دروسه وانطماس آثاره في حلب وملحقاتها ، كل ذلك مع اشتغال المترجم بإحياء المدارس والمساجد التي تقادم العهد عليها واندرس معظمها لا سيما في زلازل سنة ١٢٣٧ ، وضبط الناس ما بقي من أوقافها فأحيا من ذلك القدر الكثير ، ومن جملتها المسجد الكائن في وسط الزقاق الواقع شرقي الخان المعروف بخان الكمرك (١) ، وكان بعض الأجانب قد استولى عليه وجعله مربطا للدواب. وقصة تخليصه من يد الأجنبي معروفة مشهورة.

وكان رحمه‌الله مع اشتغاله بجميع ذلك مشتغلا بأمور العامة والشفاعة لهم عند الحكام وولاة الأمور ، وكان مقبول الشفاعة مرعي الجانب نافذ الأمر مسموع الكلمة ، لم يعهد أنه رد في أمر توجه به ، وكان يعيب على شيخنا الشيخ أحمد الترمانيني عزلته عن الناس وانفراده بخويصّة نفسه ويقول : إن الله يسأل العالم عن جاه العلم.

واستدعاه السلطان عبد المجيد خان عليه الرحمة والرضوان مع من استدعاهم من علماء المملكة العثمانية للإعزاز الذي أعده لختان أولاده ، ولما أذن للمترجم بالمثول لدى الحضرة الشاهانية دخل فابتدأ بالسلام المسنون وصافح أمير المؤمنين وقرأ ويده في يده سورة

__________________

(١) قال أبو ذر في كنوز الذهب في الكلام على الدروب : هذا الدرب يعرف قديما بدرب الحصادين وبه مسجد متسع عمره أبو الفتح مسعود ابن الأمير سابق الدين عثمان في سنة خمس وستماية. وسابق الدين هو ابن داية نور الدين محمود. وكان بهذا الدرب مسجد آخر معلق وقد خرب ودرجه باق. وبه مطهرة عمرها أقوش أستادار ألطنبغا كافل حلب ا ه.

أقول : أما المسجد فهو باق يقرىء فيه بعض المشايخ الأطفال وهو الذي حاول بعض الأجانب الاستيلاء عليه ، وأما المسجد المعلق فلا وجود له ، والمطهرة دخلت في عمارة خان الكمرك وأثرها باق في أول هذا الزقاق من جهة الأسواق ، وبجانبها حانوت مسدود دخل في عمارة الخان أيضا وقد كتب على حجرة فوقه : (هذا الحانوت وقف على الطهارة).

٢٩٦

(وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) حتى أتمها ، فجعلت عينا السلطان تهملان بالدمع خشية. ثم عاد معززا مكرما معرضا عن زهرة الحياة الدنيا لم يسأل شيئا ولم يقبل شيئا مما عرض عليه من المراتب والإقطاع.

وكان المترجم ممن يرجع إليه ويعول في حل المشكلات عليه لما أتقنه من العلوم والمعارف النقلية والرياضية.

وله التصانيف النافعة ، منها «مخدرات الحور منظومة في الحل والكسور» ، وقد شرحها ولده شرحا لطيفا سماه «الجوهر المنثور على مخدرات الحور» ، وشرحها أيضا الفاضل الشيخ مصطفى الشهير بابن باقو الحلبي ، ومنها «في الجمل وأقسامها» مطلعها :

يقول أضعف العباد أحمد

الله ربّ العالمين أحمد

وقد شرحها بإعراب ألفاظها نظما الفاضل الشيخ محمد الصابوني الحلبي ، ومنها «معفوات الصلاة» وشرحها على مذهب الإمام الشافعي ، ونظم مختصر المنار في أصول الفقه الحنفي وشرحه أيضا تلميذه الشيخ عبد القادر الحبال ، و «التحفة السنية نظم رسالة الفتحية في الربع المجيب» (٢) وقد شرحها الشيخ أحمد ابن الشيخ إسماعيل اللبابيدي ، و «منظومة في الرمال» ، ومقدمة في النحو سماها «تمرين الطلاب» وقد شرحها الفاضل الشيخ عمر الطرابيشي الحلبي شرحا حافلا ، و «رسالة في الاستعارات» ، ورسالة في الجهاد سماها «إرشاد العباد في أحكام الجهاد» في نحو خمس كراريس ، وشرح على رسالة الشيخ قاسم الخاني في المنطق سماها «كنز المعاني شرح رسالة الشيخ قاسم الخاني» ، و «رسالة في الطب». وله «نظم تنوير الأبصار» في الفقه ، و «تنقيح حاشية ابن عابدين» في المسائل التي انتقد فيها على الطحطاوي ، و «شرح على ورد الشيخ مصطفى البكري» ، و «مختصر نظم السراجية» للشيخ عبد الله الميقاتي الحلبي ، و «نظم أسماء أهل بدر» ، و «رسالة في تحريم الدخان» ، وله في غير ذلك في علوم شتى.

وتولى تدريس مدرسة بني العشائر في الجامع الأموي والمدرسة الصلاحية. وبالجملة

__________________

(١) العصر : ١.

(٢) هي مطبوعة مع شرح لها لبعض أفاضل الشام.

٢٩٧

فقد كان المترجم آية من آيات الله في العلم والعمل والذكاء وقوة الحافظة ، وظهر على يديه كرامات كثيرة.

توفي رحمه‌الله مساء يوم الثلاثاء حادي عشر شهر شوال سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين ، ودفن من الغد في تربة كليب العابد المعروفة بالكليماتي خارج باب قنسرين ، وصلى عليه في الجامع الكبير الأموي الأستاذ الشيخ عبد اللطيف الهلالي ، وكانت له جنازة حافلة حضرها والي حلب الوزير عصمت باشا فمن دونه. ا ه.

وترجمه الشيخ بكري الكاتب في مجموعته الكبيرة التي سماها «مراح الغيد وطوائر التغريد» وذكر له من المؤلفات غير ما ذكره ولده في ترجمته «بشائر النصر في نصائح أولي الأمر» ، و «رسالة في الحيض. وذكر أنه ولد سنة ١١٩٠ ، وبلغت قيمة مكتبته بعد موته أربعين ألفا مع أنها بيعت بغير أثمانها. وكان رحمه‌الله يحب اقتناء الكتب التي سمعنا أنه رأى كتابا يباع ولم يكن معه دراهم ، وكان عليه ثياب فنزع بعضها وباعه واشترى الكتاب في الحال.

وكان رحمه‌الله زاهدا نقشبندي الطريقة ، يستتر في الطريق بجبته لئلا ينظر إلى ما يغضب الله تعالى ، يسعى في عمل الخير ولو على إتلاف نفسه ، جسورا في الدخول على الحكام.

ومن تلامذته الذين نجحوا على يده الشيخ يحيى النعساني والشيخ عبد القادر الحبال. ا ه. ببعض حذف.

وكان له نظم يسير ، ومما وجدت له في بعض المجاميع هذا التخميس :

حللتم فؤادي فالهيام بكم يحلو

سلبتم رقادي والغرام بكم يعلو

أيا من بذكراهم يلذ لي العذل

يمينا بكم أن لا أحول ولا أسلو

ولو فتكت فيّ الآسنة والنبل

لأنتم ضيا عيني ونور بصيرتي

وأنتم منائي في رخائي وشدتي

سلوت الورى طرّا سواكم بجملتي

وكيف سلوّي عنكم يا أحبتي

وما فيّ عضو من محبتكم يخلو

طرحت الورى طرا سواكم وما السوى

سواكم غدا دائي وأنتم هو الدوا

٢٩٨

وإذ كنتم روح الوجود وما حوى

تعشقتكم طفلا وما أدري ما الهوى

وشاب عذاري والغرام بكم طفل

سعيت لأن أحيا بحسن رضاكم

وهمت لكي أحظى بطيب لقاكم

وأعرضت عن كل الأنام سواكم

وضيعت عمري في انتظاري هواكم

فيا خيبة المسعى إذا لم يكن وصل

حياتي موتي في رضاكم أولي الوفا

فنائي بقائي ثم سقمي بكم شفا

(بياض بالأصل)

وذلي فيكم عين عزي بلا خفا

كما أن عزي في سواكم هو الذل

ومن نظمه كما وجدته في بعض المجاميع وسمعته غير مرة من الأفواه :

إني لأعجب والحجارة صنعتي

وأصعب ما فيها علي يهون (١)

كيف ابتليت بقلبك القاسي الذي

عمري أعالجه وليس يلين

١٢٢٨ ـ الشيخ جوهر الحافظ المتوفى سنة ١٢٧٩

الشيخ جوهر العالم الفاضل الحافظ المتقن.

أصله من البادية من قبيلة بني عجل المشهورة. توطن حلب وخدم الشيخ إسماعيل القطان المقيم في جامع السليمانية المتوفى سنة ١٢٣٥ وقرأ العلم عليه ، ولازم بعده درس العارف بالله تعالى الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وكان الشيخ يعترف بفضله ، وكان يقول : الشيخ جوهر لا حاجة له إلى علمنا ، وهو يحضر إلينا تبركا. وكان حافظا لكتاب الله متقنا له ، وإذا سئل عما قبل هذه الآية من الآيات فإنه يجيب في الحال بلا توقف ، وهذا من النادر في الحفاظ.

وكانت وفاته سنة ١٢٧٩ ، ودفن في التربة المعروفة بقبور البيض في الصفا وقد ناهز الثمانين عاما.

١٢٢٩ ـ الشيخ محمد الطيّار الكيّالي المتوفى سنة ١٢٧٨

الأستاذ الطبيب محمد الطيّار الكيّالي ، السرميني أصلا الحلبي موطنا ، ابن السيد عبد

__________________

(١) الشطر الثاني يخالف الأول في الوزن ، ولعل الصواب : وأشد ما فيها.

٢٩٩

الرؤوف الكيالي دفين سرمين المتوفى سنة ١٢٣٧ ابن عمر بن عبد الكريم الصغير شقيق الأستاذ السيد عبد الجواد الكيالي دفين زاويته الشهيرة بحلب ، ابني أحمد الجد الجامع بين كيالية حلب والطيارية ، ابن عبد الكريم دفين زاوية سرمين ، ابن أحمد الكبير ابن عمر ابن الشهاب أحمد المحدث الكبير ابن يحيى بن عمر تاج الدين بن عبد السميع بن حسن دفين قرية معرة العليا ، ابن عيسى بن عمر دفين قرية داديخ ، ابن المكين محمد الملقب بالسمين الجد الجامع لكيالية حلب عامة مع كيالية إدلب.

ولد رحمه‌الله عام ألف ومائتين وتسعة وعشرين في قصبة سرمين ، وقد توفي والده ثم والدته وهو لم يتجاوز الربع الرابع ، فكفلته عمته السيدة آمنة إلى أن ترعرع. ومن نعم الله عليه وحسن عنايته به أن قيض الله له عالما من أفاضل العلماء وهو الشيخ عبد العال التونسي ، فإنه أتى من بلاد بعيدة وجاور في زاوية جد الطيار الأعلى الأستاذ الكبير الشيخ عبد الكريم الكائنة بقصبة سرمين ، فلازمه مدة طويلة يتلقى عنه العلوم الشرعية والعلم الطبيعي ، ومما أخذه عنه علم الطب. ولما عزم شيخه بعد مدة على النزوح من سرمين والرجوع إلى بلاده توجه الطيار إلى إدلب فأكمل الطلب على ابن عمه الأستاذ عبد القادر أبي النور الكيالي وعلى الشيخ محمد الجوهري البكفلوني وغيرهما من العلماء الأجلاء.

ولما أخذ الإجازات العالية من مشايخه وآنس من نفسه الكفاءة والاقتدار أخذ الطريقة عن ابن عمه الشيخ محمد الكيالي الإدلبي وجلس إذ ذاك شيخا في زاوية جده بسرمين التي مر ذكرها.

وفي سنة ١٢٥٥ توجه إلى حلب ونزل ضيفا على خاليه الأستاذين الفاضلين الشيخ عبد القادر والشيخ محمد ولدي الأستاذ الكبير الشيخ إسماعيل الكيالي ، فكان مدة إقامته موضع الإجلال والاحترام من أفاضل علماء الشهباء وأكابر رجالها. وقد كان الإعجاب به كثيرا لحسن روايته ودرايته. وبعد أن أقام مدة في حلب توجه إلى الآستانة يصحبه السيد أحمد الشماع أحد تلامذة أخواله ، ونزل بمدرسة السلطان الفاتح. ولما اتصل خبر قدومه بأحد رجال الدولة العثمانية الحائز على رتبة قاضيعسكر الأناضول السيد عبد الله آل الباقي الحلبي أسرع في الحال لزيارته ، وعندما رآه ارتجل هذين البيتين :

٣٠٠