إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

المشار إليه ، فأحضره يوما وذاكره ورأى فضله فأكرمه ، ثم لما طلب الوزير المشار إليه إلى دار الخلافة سنة سبعين وماية وألف للصدارة ، توجه المترجم إليها فبلغ الوزير قدومه وذلك بعد ثلاثة أيام ، فأحضره وجعله خليفة رابعا من كتاب كتخدايه وأجزل له العطية ، وعين له من كمرك دار الخلافة وظيفة سنة ، فأثرى حاله وأقام هناك.

وله نظم حسن كثير في الألسن الثلاث موجود بأيدي الناس. وله مجموعة لطيفة أودعها غرر الفوائد من كل فن وسماها «الجواري المنشآت» ، وله شرح على الصلوات الكبرى للشيخ الأكبر قدس‌سره ، وله غير ذلك. ا ه.

١١١٢ ـ عبد الكافي ابن حمّودة المتوفى سنة ١١٨٦

عبد الكافي بن حسين بن عبد الكريم الشهير بابن حمّودة الحلبي الشافعي ، الشريف (١) الفاضل الورع الكامل ، إمام السادة الشافعية بأموي حلب.

ولد بها سنة ثمان ومائة وألف ، وقرأ القرآن العظيم على الشيخ أحمد الدمياطي وحفظه عليه ، وقرأ العلوم على الشيخ حسن السرميني والشيخ محمود الزمار والشيخ طه الجبريني والسيد محمد الكبيسي ، وأخذ الطريقة القادرية على الشيخ صالح المواهبي.

وارتحل إلى مصر سنة تسع وثلاثين ومائة وألف وأخذ بها عن الشهاب أحمد الملوي والسيد علي الحنفي والبدر حسن المدابغي. وحج في هذه الرحلة وعاد لبلده ، وأخذ بطرابلس عن الشمس محمد التدمري ، وفي دمشق عن العارف الشيخ عبد الغني النابلسي والشهاب أحمد بن عبد الكريم الغزي مفتي دمشق والعماد إسماعيل بن محمد العجلوني وغيرهم.

وكان له قدم راسخ في العبادات والمجاهدات والرياضات ، وبالجملة فهو من الأفراد. وتزوج وله ولد يدعى بمحمد أمين.

وكانت وفاته يوم السبت عند طلوع الشمس ثالث عشر شهر رمضان سنة ست وثمانين

__________________

(١) في ابن ميرو هكذا : عبد الكافي الشهير بابن قطايه ، الشريف الفاضل الورع الكامل الإمام الشافعي بأموي حلب ابن السيد حسين إلخ. وقال بعد قوله على الشيخ أحمد الدمياطي : الذي كان يؤدب الأطفال ابتداء هذا القرن بالخسروية على المذكور ، وقرأ العلوم إلخ.

٦١

ومائة وألف ، وصلي عليه بالمصلى الكائن خارج باب المقام بحلب ودفن هناك رحمه‌الله تعالى.

١١١٣ ـ مصطفى بن عمر أفندي طه زاده المتوفى سنة ١١٨٦

مصطفى الشريف ابن النقيب السيد عمر أفندي ابن السيد طه زاده.

ولد عام إحدى وثلاثين وماية وألف ، وكتب وقرأ على فضلاء الشهباء ، وكان بعد والده ذا حشمة وخدم ، بقي مدة على هذه الحالة ، ثم اعتراه الجذب فخلع ثيابه الفاخرة والعمامة وصار يدور في الأسواق ويصيح بكلمات لا فائدة لها عند السامع. وقيل إن يوم ولادته أخبر بمولده العارف الشيخ عبد الغني النابلسي بما محصله أن في هذا اليوم ولد لنقيب حلب السيد عمر أفندي مولود وأثنى على هذا المولود بخير.

توفي صاحب الترجمة ليلة الأحد سلخ ذي القعدة سنة ١١٨٦ وكان له مشهد عظيم ، ودفن عند والده في المدفن الذي كان أنشأه والده بالقرب من دارهم بمحلة الجلّوم الكبرى. ا ه.

١١١٤ ـ عبد الله بن شهاب التدمري المتوفى سنة ١١٨٦

عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن أحمد بن محمد المجذوب ، الشهير بابن شهاب ، الشافعي ، التدمري الأصل الحلبي المولد.

ولد بحلب سنة ست عشرة ومائة وألف ، وربي في حجر أبيه ، ونشأ في طاعة الله تعالى ودأب على تحصيل الكمالات ففاز منها بالقدح المعلى ، وقرأ على أجلاء عصره من أفاضل الشهباء كالعلامة محمد بن الزمار أحد أفراد الزمان ، والعلامة حسن السرميني ، والعلامة محمد المكتبي ، والعلامة طه الجبريني ، والعلامة علي الميقاتي بأموي حلب ، وعلى عمدة المحدثين محمد المواهبي.

وارتحل مع والده لدمشق سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ، ودخلها بعد ذلك مرات واستجاز علماءها الأعلام مثل الإمام الأستاذ الشيخ عبد الغني الشهير بالنابلسي ، فقد

٦٢

أجازه إجازة عامة بالكتب العقلية والنقلية والتواريخ والدواوين والأدب وكتب من تقدم من السادة الصوفية قدس الله أسرارهم ، وكالعلامة عبد القادر بن عمر التغلبي الشيباني الحنبلي ، والعلامة محمد بن إبراهيم الشهير بالدكدكجي ، والولي الكامل الشيخ إلياس الكردي نزيل دمشق ، والعالم الشيخ محمد الكاملي الدمشقي ، والفاضل عبد الله الشافعي وغيرهم.

وكان صاحب الترجمة شغفا بمطالعة كتب الصوفية خصوصا الفتوحات المكية وغيرها من كتب تأليف قطب الزمان سيدي محيي الدين ابن العربي قدس الله تعالى أسراره ، وله اليد الطولى بمعرفة الروحانيات والأوفاق والتعاويذ ، وانتفع به خلق كثير بسبب ذلك واشتهر شهرة حسنة. وكان دينا عفيفا صالحا تقيا ، وبالجملة فمن رآه أحبه ورأى بارقة الصلاح عليه. وقد كان ممن جد واعتنى ، وحصل نفائس العلوم واقتنى.

وله من الشعر ما يشنف الآذان ويرتاح له الولهان ، فمنه قوله :

بلبل الأوطان غنى

فشجا قلب المعنى

وغدا يبدي شجونا

عن سماع العود أغنى

يذكر الأوطان شوقا

إذ غدا مثلي معنى

قلت مهللا يا مشوقا

زادني التذكار حزنا

قد نأى عني حبيبي

والنوى جسمي أضنى

نح قليلا يا شبيهي

إنني أصغيت أذنا

إن لي جسما ضعيفا

كلما رددت يفنى

وكذا دمعي نموم

فيضه يوليه مزنا

يا بريق الحي مهلا

قد خطفت القلب منا

إن طرفي غير لاه

عن حبيب زاد حسنا

وله متوسلا :

يا رب إني مسرف

والعفو قسم المسرف

فاغفر لعبد خائف

من هول يوم الموقف

وله أيضا :

٦٣

٦٤

بمناسبة ذكر الفتوحات المكية نضع صورة صحيفة خطية من هذا الكتاب في آخره إجازة بخط الشيخ قدس‌سره لزوجته مريم ، وهذا الجزء في خزانة الوجيه أسعد أفندي العينتابي في حلب ، ونص الإجازة :

(١) سمعت هذه المجلدة عليّ أهلي مريم بنت محمد بن عبدون.

(٢) البجائية وفقها الله وأذنت لها أن تحدث بها عني وبجميع تواليفي ورواياتي.

(٣) وكتبه محمد بن علي بن محمد ابن العربي مؤلف هذا الكتاب بخطه عند فراغ.

(٤) سماعها من هذه المجلدة وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وستماية والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

٦٥

يا من أراد انصرافي

عن مذهب الحب جهلا

قصر ملامك إني

قد بعت روحي طفلا

وكانت وفاته حادي عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين ومائة وألف ، ودفن بالقرب من والده خارج باب الملك بالقرب من مرقد الولي الكبير الشيخ محمد الزمار رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١١١٥ ـ عبد القادر بن أمير المتوفى سنة ١١٨٧

عبد القادر بن حسين ابن الحاج أمير جلبي الشهير بابن أمير ، الحلبي المولد الشافعي ، التاجر المشهور ، وهو ابن عم الحاج موسى بن الحاج حسن أمير المتقدم الذكر.

مولده سنة تسع بعد المائة والألف. دخل الهند مرتين وسافر إلى الروم مرات ، وسافر إلى بغداد والبصرة ، وحج مرات ، وله خيرات مشهورة ومساعي مشكورة ، ابتنى عدة دور في سويقة الحجارين ، وأنشأ بها السبيل ومكتبا للأطفال سنة ستين وماية وألف ، وعمل لذلك تاريخا شيخنا أبو الفتوح علي الميقاتي هو :

لجلال وجه الله أنشأ مخلصا

هذا السبيل ومكتبا لأصاغر

نجل الحسين بن الأمير سلالة

حازوا المكارم كابرا من كابر

ذاك الذي نشر المحاسن في الورى

وأجار من جور الزمان الجائر

كم ساق مكرمة إلى محتاجها

بالجاه والمال العظيم الوافر

نظر الذي في الخير ينفقه غدا

متقبلا مع ضعفه المتكاثر

فاختار للباقي على الفاني الذي

حجب النفوس عن اكتساب مآثر

فأشاد عذبا سلسبيلا باردا

يروي الظما عند اشتداد هواجر

قد ساقه من أصله لمحله

طلبا لدعوة وارد أو صادر

وبمكتب الأطفال زاد ثوابه

أحبب بتعليم الكتاب الباهر

فليهن بالأجر العظيم وما أتى

في مدح أفعال الغني الشاكر

وخلوصه هنى بتاريخ بدا

بقبولها صدقات عبد القادر

وجدد زاوية القادرية بالقرب من هذا السبيل بعد أن دثرت بالكلية سنة (لم يذكر).

٦٦

وفي تلك السنة اختلى بها شيخ القادرية الشيخ صالح فسميت بالصالحية. وأنشأ حمامه التي تجاه السبيل وهي في غاية الإتقان والزخرفة سنة خمس وسبعين وماية وألف ، وله خيرات كثيرة وجهات حسنة شهيرة ، وقيام مع أحبابه والتفقد لحوائجهم والصبر على أذى جيرانه وبغض الناس له ، من ذلك أن جارا له من طائفة الجند يسمى مصطفى الهردار استأجر له صاحب الترجمة أوقاف إبراهيم خان المشهورة بحلب خمس سنوات بالمواصلة ، كل هذا وفي المدة لم يسأله عن شيء ، فظهر للمترجم من مصطفى الغدر ، فطلبه للمحاسبة ، فقطع علائقه وملك ما في حوزة يده من المال لولده ولبس ثيابا خلقة وأتي مجلس الحساب ، فلما شاهد المترجم هذا الحال أرخى له العنان في الحساب إلى أن ظهر عنده للمترجم بإقراره سبعة وعشرون ألفا من القروش ، فادعى أنه لا يمكنه أداء المبلغ إلا بالتنجيم ، فكتب له بذلك صكا وأحضر والده وضمن كل منهما الآخر لحين أداء المبلغ بمحضر من الشهود ، ثم لما تفرقا من المجلس ندما على إقرارهما والضمان ، فقر الولد وادعى الوالد أنه كان في قراره كاذبا ، فحبس الولد بحكم الثبوت عند محصل الأموال السلطانية في قلعة حلب ثم في حبس الوزير عبد الله باشا الصدر السابق ثم في حبس الشرع بباب قنسرين أربع سنين ، وأثبت المترجم أيساره وأنه متعنت ، فضيق عليه بحبس الشرع إلى أن بني عليه بمكان يسعه فقط. وأما الولد فإنه قبض عليه بمدينة طرابلس وجيء به لحلب وحبس عند نقيب الأشراف لأنه شريف من أمه مدة تزيد على ثلاث سنين ، ولم يزدهما إلا إنكارا وصبرا على الحبس والتهديد ، وطال الحال فصدر أمر الدولة أن يخرج المحبوسين وينجم عليهما المال ، فأخرجا ففر الولد قبل التنجيم ، واتصل الأب بخدمة الوزير عثمان باشا معتق الوزير أسعد باشا كان بحلب مسافرا ، فصار أمير الأمراء بمنصب طرابلس وصحبه صحبته ، وكان مخدومه جرداويا فسافر صحبته وتوفي في الطريق في العلا.

توفي صاحب الترجمة ليلة الخميس سابع وعشرين رجب الفرد سنة سبع وثمانين وماية وألف ودفن بمقبرة العباره. ا ه. (ابن ميرو).

١١١٦ ـ محمد بن صالح المواهبي المتوفى سنة ١١٨٧

محمد بن صالح بن رجب المعروف بالمواهبي ، الحنفي الحلبي القادري الخلوتي ، الشيخ الإمام العالم الفاضل الصوفي المفضال المسلّك الكامل.

٦٧

كان متبحرا في فنون العلم من منطوق ومفهوم ، مشتغلا بنشرها وتعليمها وخدمة الحديث والقيام بمصالح الطريق وحل رموزها.

ولد بحلب في ليلة الأربعاء بعد المغرب الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة ست ومائة وألف. وكان والده الشيخ العارف معتكفا مع شيخه العالم الرباني الشيخ قاسم الخاني في الخلوة الأربعينية بالمدرسة الحلاوية ، فأخبر شيخه بمجيء ولده المترجم ، فسماه الشيخ محمد هداية الله ، فحصلت الهداية له ، فنشأ المترجم مكبا على طلب العلم ، وتفقه على والده وأخذ عنه الطريق وسلك على يديه ، وأخذ العلم قراءة ومشافهة وإجازة على كثيرين منهم الشيخ سليمان النحوي أخذ عنه وعن الشيخ عبد الرحمن العارف النحوي ، وقرأ المعاني والبيان ومنظومة الأصول على المولى أبي السعود الكواكبي ، وقرأ المنطق والعروض والحساب والفرائض على الشيخ السيد علي الباني ، وقرأ كثيرا من العلوم على الشيخ حسن السرميني ، وأخذ الحديث عن كثير من العلماء كالشيخ محمد عقيلة المكي والشيخ إلياس الكردي والشيخ محمد حياة السندي نزيل المدينة المنورة ، ثم لما جاء ابن الطيب إلى حلب وكان اجتمع به في المدينة لما كان حاجا المترجم سمع منه الحديث المسلسل بالأوليه ، ثم قرأ عليه البخاري في حلب بطرفيه وأجازه.

وجلس على سجادة المشيخة بعد وفاة والده في سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف ، وأخذ عنه الطريق خلق كثيرون. وكان عالما فاضلا مواظبا على الإفادة والإقراء.

وكانت وفاته يوم الأربعاء منتصف شوال سنة سبع وثمانين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

وترجمه العلامة الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعاد» فقال : ومنهم شيخنا الإمام الهمام ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره ، معدن السلوك والإرشاد الشيخ محمد ابن المرحوم الشيخ صالح المواهبي الحنفي الحلبي خليفة والده في الطريقة القادرية ، ووارثه في علوم الشريعة النبوية. حضرته رحمه‌الله تعالى في دروس البخاري وغيره واستفدت منه ودعا لي وأجازني بلفظه إجازة عامة بجميع ما تجوز له وعنه روايته ، وأخذت عليه العهد بعد والده فبايعني ولقنني الذكر ، ولازمته كثيرا في دروسه وفي مجلس الذكر عنده مع ما بيننا من المحبة والمودة الثابتة مدة تنوف على اثنتين وأربعين سنة.

وكان رحمه‌الله تعالى متبحرا في فنون العلوم من منطوق ومفهوم ، مشتغلا بنشرها

٦٨

وتعليمها ، والقيام بمصالح الطريق الشريف أمرها ونهيها ، والرفق بإخوانه وتعليمهم وإرشادهم وتفهيمهم بكمال الأدب واللطف ، وحسن المذاكرة والمسامرة من غير عنف. وقد اتصل سنده بأئمة كرام ومشايخ عظام ، منهم العالم العامل المتقن المحدث البركة والده الشيخ صالح المواهبي رحمه‌الله ، ومنهم العلامة المحقق والفهامة المدقق أبو السعود أفندي الكواكبي الزهراوي ، وقد قرأ عليه منظومته في أصول الفقه ومنظومته في الفروع (١) والمختصر ، وحصة وافرة من آداب البحث والاستعارات ، وهو يروي عن خاتمة المحدثين الشيخ حسن بن علي العجيمي ، وله ثبت مشهور.

١١١٧ ـ القاضي أحمد أفندي بن طه زاده واقف المدرسة الأحمدية المشهور بالجلبي المتوفى سنة ١١٧٧

لم أقف على ترجمة خاصة لهذا العالم الجليل والسيد الكريم والمحسن الكبير ، وهو جدير بأن يكون له ترجمة حافلة تزين بها الطروس وتعطر بها المجالس لما كان عليه من جلالة الفضل وكرم النفس ، ولم أعلم سببا لإهمال العلامة المرادي ترجمته في تاريخه ، إلا ما بلغني من البعض من أن العلامة المذكور كان منحازا لبني الكواكبي ، وكان بين هؤلاء وبين بني الجلبي وهم أعيان ذلك العصر وذوو الكلمة النافذة فيه وإليهم ينتهي الحل والعقد مالا يخلو عنه المتعاصرون من التنافس وتنازع البقاء ، فكان ذلك داعيا له لإهمال ترجمة من فضل وتصدر من هذه العائلة وقتئذ ، ولم يذكر منها سوى الشيخ يس بن مصطفى بن طه زاده في أربعة سطور ، وذكر منهم محمد أفندي بن المترجم الآن عرضا ، وهذا مما يؤاخذ به العلامة المرادي ، وكان من الواجب عليه أن يبتعد عن هذا الانحياز في التاريخ. وأما ابن ميرو المتقدم ذكره فلعله لم يترجمه لتأخر وفاة المترجم عنه ، ولهذا اضطررت أن أبحث عن ترجمته وأجمع ما هو متبعثر في بطون الأوراق والدفاتر من آثاره وأحواله فأقول :

قدمنا في ترجمة والده أن الشيخ عبد الغني النابلسي أرسل له أبياتا يهنئه بزفاف ولده أحمد أفندي وذلك سنة ١١٣٠ ، وحيث إن العادة قد جرت أن يكون الزواج في حدود العشرين من العمر فتكون ولادة المترجم في نواحي سنة ١١١٠. وأخذ في التلقي على

__________________

(١) هكذا ، والصواب : منظومتي جده محمد بن الحسن الكواكبي مع شرحيهما للمؤلف ، إذ ليس لأبي السعود أفندي شيء من المنظومات في الفقه أو في الأصول.

٦٩

علماء عصره إلى أن فضل ونبل ، وكانت نفسه منصرفة إلى اكتساب المعالي والجاه والثروة.

وتولى نقابة الأشراف سنة ١١٤٧ ، وهنأه الأديب الفاضل محمد بن علي الجمالي عند ذلك بالقصيدة الآتية ، وتولاها ثانيا سنة ١١٤٩.

وتولى قضاء القدس ، ويغلب على الظن أن ذلك كان في نواحي سنة ١١٥٩. وعاد منها سنة ١١٦١ وتولى قضاء بغداد سنة ١١٦٣ وهنأه الشاعر المتقدم بالقصيدة الآتية. وفي أثناء وجوده في القدس وبغداد كان يشتري نفائس الكتب ويستنسخ الكثير كما رأيته في دفتر بخطه كان محفوظا في مكتبته الآتي ذكرها ، ويظهر أنه بقي في قضاء بغداد إلى أواخر سنة ١١٦٤. وفي سنة ١١٦٥ عاد منها إلى وطنه حلب فشرع في بناء مدرسته في محلة الجلّوم وسماها الأحمدية ، ووقف فيها ما اقتناه من الكتب النفيسة والآلات الفلكية النادرة ، وتبلغ كتبه ثلاثة آلاف مجلد منها عدة مجلدات بخطه الحسن ، وقد صحح الكثير مما استنسخ له ، وذلك ولا ريب يدلك على علو همته وشدة حرصه على العلم والإفادة. وقد قال في أول فهرست المكتبة المحفوظة في المكتبة بعد الخطبة :

أما بعد ، فهذه أسماء الكتب الجليلة الشريفة التي أوقفها المولى الجليل عمدة الموالي العظام صدر الأعالي الفخام حضرة السيد أحمد أفندي الشهير نسبه الكريم بطه زاده القاضي بمدينة بغداد سابقا ، ووضعها في حجرة مخصوصة لها في مدرسته التي أنشأها بمدينة حلب الشهباء وسماها بالمدرسة الأحمدية الكائنة بمحلة الجلّوم الكبرى تجاه جامع البهرامية المشار إلى هذه الكتب في كتاب وقفه والمحررة فيه أسماء الكتب جميعا والمصرح في كتاب وقفه بأن الكتب الموقوفة لا تخرج من حجرة الكتب ولا من المدرسة لأحد لا بإعارة للقراءة والاستنساخ ولا غير ذلك بوجه من الوجوه مطلقا ، وكل من أراد المراجعة والاستنساخ من الكتب المذكورة فليأت في الأيام الأربعة المعينة لفتح حجرة الكتب ، وهي يوم الأحد والاثنين والأربعاء والخميس ، ويراجع ويستنسخ ويطالع ما شاء ويكتب ما أراد. ثم قال : وحرر في الخامس والعشرين من رمضان سنة ست وستين وماية وألف. ا ه.

إجمال كتاب وقفه :

شرط الواقف في كتاب وقفه المحرر سنة ١١٦٦ بعد أن ذكر العقارات التي وقفها بحدودها أن يبدأ من غلاتها بما فيه بقاء عينها من التعمير والترميم ودفع الأحكار ، ويدفع

٧٠

منها لأرباب الوظائف والشعائر وما سيرتب لهم ، وما فضل عن ذلك يختص به الواقف لنفسه مدة حياته ، ثم من بعده على أولاده لصلبه الذكور دون الإناث ، ولا تستحق الأنثى من أولاده ولا يستحق أولادها ذكورا كانوا أو إناثا ما دام أحد من أولاده الذكور. على أنه إذا مات أحد أولاده الذكور عن غير ولد ولا ولد ولد عاد نصيبه إلى من هو في درجته ، ومن مات عن ولد ذكر عاد نصيبه إلى ولده الذكر.

وشرط أن يكون للمدرسة مدرس عالم متمم لجميع مواد العلوم العقلية والنقلية ويكون من صلحاء أكراد ما وراء الموصل من صنجق كوي أو من صنجق بابا أو من صوران أو من غيرهم ، على أن يقرأ يوم الاثنين والخميس التفسير ويقرأ في بقية الأيام إلا يوم الجمعة ما اختاره من علوم المواد وغيرها ، وله في كل يوم ٤٠ عثمانيا فضيا حسابا عن كل ١٢٠ عثمانيا بقرش واحد. وقد عين الواقف الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عمر الكردي من صنجق كوي (١) ، وإذا انحل التدريس يوجه المتولي للتدريس لمن يوجد في المدرسة من الأكراد المذكورين ، وإن لم يوجد في المدرسة المرقومة من الأكراد يوجه التدريس لمن يوجد من الأكراد المذكورين في البلدة ، وإن لم يوجد ينيب المتولي أحدا في خدمة التدريس المذكور بالوظيفة إلى أن يقدم إلى البلدة من علماء الأكراد من هو بهذه الصفات.

وشرط محدثا يقرأ الحديث يوم الثلاثاء والجمعة في كل يوم عشر عثمانيات. وشرط محدثا حنيفا يقرأ يوم الأربعاء والأحد وله في كل يوم عشر عثمانيات. وقد وجه الشيخ محمد بن الشيخ صالح المواهبي وشرط أن يكون لكل مدرس من المدرسين الثلاثة معيد وعين لكل معيد في كل يوم ٤ عثمانيات ، وتعيين المعيدين راجع للمدرسين ، وشرط أن

__________________

(١) قال الفاضل ابن ميرو في تاريخه : أحمد بن إبراهيم الكردي الشافعي الصوراني مدرس مدرسة طه زاده بحلب. مولده بصوران سنة ١١١٧ ، وقدم حلب سنة ١١٦٤ ، قرأ ببلده على العلامة عمر المحمودي والعلامة أبي بكر التوسكي والعلامة محمود العبدلاني ، وحج سنة ١١٧٤ ورجع لحلب ، ثم عاد إلى بيت المقدس وأخذ عمن لقيه من المشايخ ، ومنها إلى القاهرة وأخذ عن العلامة الكبير أحمد الملوي والعلامة محمد الحفني ، والآن هو بحلب متصدر للإفادة متخل للعبادة ، وهو من أفراد الدهر ا ه.

أقول : لم يذكر تاريخ وفاته لتأخرها عنه ، ومجيئه إلى حلب كان في السنة التي عاد بها الواقف من قضاء بغداد ويغلب علي الظن أنه اجتمع به فيها وأعجب بعلمه وفضله وصلاحه فاستحضره معه ، وبعد أن فرغ من بناء مدرسته عينه مدرسا فيها ، ولشغفه فيه شرط في كتاب وقفه أن يكون المدرس من صلحاء أكراد ما وراء الموصل من صنجق كوي. إلخ.

٧١

يكون سكان حجر المدرسة العشرة من أكراد ما وراء الموصل وصنجق بابا وغيرهم من أكراد تلك الأطراف لا يسكنها من أهل البلدة أحد على شرط أن يكون غير متزوج ، ومن تزوج سقط حق سكناه في المدرسة ويسقط معلومه ، وشرط له في كل يوم ثماني عثمانيات على أن يحضر الدروس المذكورة ويقرأ كل يوم جزءا من القرآن في المدفن ، وشرط أن يدفع من غلة الوقف في كل يوم ستين عثمانيا لعشرين رجلا من القراء المحمودين لكل رجل في كل يوم ٣ عثمانيات على أن يقرأ كل واحد جزءا شريفا في المدفن.

وشرط أن يكون للمكتبة التي أوقفها حافظ للكتب أمين ديّن فاضل صالح يفتح أبواب المكتبة في أربعة أيام الأحد والاثنين والأربعاء والخميس لمراجعة طلاب العلم ، وله في كل يوم ٢٠ عثمانيا ، وتعطى الكتب للطلاب الساكنين في الحجر بمعرفة المدرس وكفالته.

هذا ملخص وقفيته الأولى ، وله وقفية ثانية وقف فيها ١٦ قيراطا من خان العبسي الذي هو تجاه جامع العادلية وبعض عقارات في أنطاكية ، ووقفية ثالثة وقف فيها عقارات أخر وشرط فيها أن يزاد في كل يوم ٦٠ عثمانيا للمتولي و ٢٠ لمدرس التفسير والمواد و ٦ لمدرس الحديث و ٦ لمدرس الفقه ، وزاد لكل مجاور في اليوم ١٨٠ درهما في الخبز وعثمانيين.

ومن جملة ما شرط فيها أن يدفع في كل سنة اثنا عشر قرشا لخادم المصنع الذي أنشأه ولده محمد أفندي بالقرب من قرية الأنصاري من طرف القبلة ، وأن يصرف على هذا المصنع من غلة الوقف ما يحتاجه من التعمير والترميم ، وأن يدفع ستون قرشا سنويا للشيخ محمد المواهبي شيخ الطريق القادري بحلب أحد خلفاء الشيخ قاسم الخاني ، يصرف هذا المبلغ في طعام المختلين في زاوية الصالحية ، وأن يدفع ٢٤ قرشا لشيخ تكية النسيمي ابن الصفا ، و ٢٥ قرشا لشيخ الإخلاصية في التكية الكائنة في محلة البياضة يصرفها على طعام المختلين في الخلوة الأربعينية ، و ٤٨ قرشا لشيخ تكية القرقلار قرب دار الواقف (هي دار الحكومة الآن) ، و ٣٠ لشيخ تكية الكلشنية في حلب ، و ٢٥ لشيخ زاوية الهلالية بالجلّوم ، و ٢٤ لشيخ تكية العقيلية ، ومثلها لشيخ تكية يبرق بمحلة الشيخ يبرق المدفون تجاهها الشيخ المذكور ، و ٧٢ قرشا لمدرس بالجامع الكبير يعلم الناس أحكام الفطرة والأضحية على المذهب الشافعي والحنفي في يوم التروية وآخر يوم من رمضان. وهناك شروط يطول ذكرها ، وتاريخ هذه الوقفية في ذي الحجة سنة ١١٧٨.

٧٢

ورأيت إجازة للمترجم بالطريقة القادرية من الشيخ علي ابن الشيخ عمر ابن الشيخ ياسين ابن الشيخ عبد الرزاق الكيلاني الحموي قال فيها بعد الخطبة : قد سألني العبد الفقير إلى الله تعالى الولد القلبي العالم الكامل فريدة العلماء الكاملين وقدوة الفضلاء المدرسين افتخار السادات الأشراف خاص خلاصة بني عبد مناف فرع الشجرة الزكية وطراز العصابة الهاشمية السيد الصالح السيد أحمد أفندي طه زاده وصحبته جماعة من الفقراء والأخوان وسألوا المشار إليه ومن معه من أجل خلفاء البيت الشريف القادري أن يكون خليفة وشيخا على الفقراء القادرية لما هو منطو عليه من الدين والعفة ، فاستخرت الله كثيرا واتخذته هاديا ونصيرا فأجبتهم إلى سؤلهم فأقمته خليفة وشيخا على الفقراء القادرية ... إلخ. وهي متوجة بختمه.

ولم يزل المترجم على وجاهته وحشمته وتصدره في الشهباء إلى أن توفاه الله في النصف من رمضان سنة ألف ومائة وسبع وثمانين ودفن في مدفن المدرسة عن يمين الباب الذي تدخل منه إلى الحجرة التي دفن فيها والده.

وذكر الشيخ بكري الكاتب في مجموعته أن المترجم بعد أن تمم عمارة القاسارية التي هي تجاه خان القصابية دخل إليها ثم خرج وقعد في خان الكمرك وشرب القهوة فأخذ يشكو وجع قلبه ، فأخذ إلى منزله في الحال ومات من ذلك رحمه‌الله وأجزل له الثواب.

وامتدحه شعراء عصره منهم الأديب محمد بن علي الجمالي المتقدم الذكر فقال فيه مؤرخا ومهنئا له بنقابة حلب سنة ١١٤٧ :

فز بالمنى يا سيد الفضلاء

وارق العلا بالرتبة القعساء

واهنأ بأبرك منصب قلدته

لازلت فيه ممتعا بهناء

دامت لك العلياء تبلغ شأوها

وتحف بالإجلال والعلياء

مولاي يا شرف الزمان ومن حبي

شيما متوجة بكل بهاء

حزت المفاخر كابرا من كابر

إرثا من الأجداد والآباء

وحويت كل فخامة وشهامة

وصيانة وأمانة وحياء

وجنيت أثمار المكارم غضة

بمحامد كالروضة الفيحاء

وسموت بالعرض العريض مفاخرا

للنيّرين ببهجة وثناء

٧٣

وحبيت بالشرف الرفيع عماده

وكسيت نورا منه ذا لألاء

وملكت للمجد الأثيل أزمة ال

فضل الجليل ونلت كل ثناء

ولك النقابة أذعنت منقادة

تختال في حلل من الإبقاء

ووديعة عظماء أنت محلها

وأمانة كبراء ذات علاء

طرّست حلتها بسؤددك الذي

أضحى مناط الفخر في الشهباء

ألقت عصاها في ذراك وعينها

قرت بمجدك وازدهت بصفاء

فلها التهاني حيث أحمد كفؤها

بل نجل طه أعظم الأكفاء

شهم لنجدته عنت شهب العلا

وزهت أسرّته على الجوزاء

وربا بمحمدة على أقرانه

وسما بمحتده على النظراء

لا زال في نعم الإله مغمّرا

في ظل عيش وارف الأرجاء

ويدوم مرتقي العلا ما غردت

ورقاء في فنن بطيب غناء

قد قلت مذ أنوار بشر أشرقت

بمسرة ومبرة غراء

شمس السيادة أسفرت أرخت عن

بدر النقابة أحمد النقباء

وقال مؤرخا ومهنيا بقدومه لحلب سنة ١١٦١ ، ويظهر أن ذلك بعد انفصاله عن قضاء القدس :

بدر السرور زها بحسن توقد

وازدان من أوج الحبور السرمد

ومعالم الإجلال والإفضال قد

أضحى الفخار لها جلي المشهد

وسمت ربوع المكرمات وتوجت

شرفا بمقدم ذي الوقار الأرغد

مولى الموالي أحمد الأقوال وال

أفعال والمجد الأعم الأوحد

قاضي قضاة المسلمين ومن غدت

أحكامه تزهو بحسن تسدد

كرمت خلايقه فكل الصيد في

جوف الفرا فاقصد حماه ترفد

السيد المفضال بهجة دهرنا

والأمجد ابن الأمجد ابن الأمجد

من طاب خيما من ذؤابة هاشم

وحبي انتسابا للجناب المصمد

وبه بنوطه تسامى فخرهم

وافتر ثغر علاهمو بالسودد

وأنارت الشهباء عند قدومه

وسمت على هام السها والفرقد

وغدت بنوها في قرارة أعين

وسرورهم باد به لم يجحد

٧٤

عنها نأى فازداد شأوا قدره

ورقت مراتبه لسعد الأسعد

كالشمس تجتاب البروج لتجتني

شرفا لديه النيرات بمرصد

وبعودة الأحباب عاد سرورهم

وتفطرت قهرا قلوب الحسد

يا حبذا عود كعيد للورى

أنعم بعود للمحامد أحمد

وبه غدا رمضان عيدا كله

والعيد يعقب ذا القدوم الأسعد

عيدان في شهر فحمدا للذي

قد منّ باللقيا ولطف المشهد

مولاي يا ذا الفضل والجود الذي

جدواه عمت كل عاف مجتد

دم راقيا رتب المعالي بالغا

أسنى المقاصد والمنى والسودد

فبشائر الإسعاد والإمداد قد

وافت تقول لمتهم ولمنجد

سعدا وإقبالا ويمنا أرخوا

شمس الهنا أبدت لمقدم أحمد

وقال فيه أيضا مؤرخا ومهنيا بقضاء بغداد سنة ١١٦٣ :

بشرى لبغداد بنيل مرام

من بهجة الإيمان والإسلام

ولها التهاني والأماني أقبلت

تختال في حلل الفخار النامي

وشموسها بالسعد أشرق نورها

وبدورها قد توجت بتمام

والشرع أصبح نوره متوقدا

والعدل قام بها أجل قيام

وبمحكم الأحكام قد نال المنى

من خير قاض عمدة الحكام

قاضي القضاة الفرد في أحكامه

مولى الموالي نخبة الأعلام

أعنى ابن طه أحمد المحمود في

أفعاله والفضل في الأحكام

السيد العدل التقي المنتقى

من عنصر أبدى كريم كرام

حاز السيادة من ذؤابة هاشم

وحبي النجابة (١) في أجل مقام

فضل له أهل الفضائل أذعنت

ولمجده وقفت على الأقدام

حسب ذكا في الخافقين عبيره

نسب أنار به دجى الأيام

هذا هو الفضل المؤثل في الملا

هذا هو الشرف الرفيع النامي

مولاي يابن الأكرمين ومن له

زمت مطايا سودد بزمام

هنئت أبرك منصب تحيا به

باليمن والإسعاد والإنعام

__________________

(١) في الأصل : النجاة.

٧٥

أنعم بأيمن منصب يجدي إلى

رتب الكمال بغارم (١) وسنام

فاذهب إلى دار الخلافة سالما

وارقى ذراها آمنا بسلام

وبحسن إحسان المآب فعد إلى

حلب بحكم طايل الأحكام

ما مثل مولانا نرى في دهرنا

بحرا بأنواع المكارم طامي

هو زينة العليا ورونق أهلها

هو بهجة الدنيا وكل همام

فاهنوا بني بغداد منه فعامكم

بوجوده قد ظل أبرك عام

حقا ببغداد أقول مؤرخا

شرع الرسول بيمن أحمد سامي

وقال مؤرخا بناء المدرسة الأحمدية سنة ١١٦٥ :

قد بنى أحمد بن طه محلا

لدروس المنطوق والمفهوم

وبنور التوفيق قد تم أرخ

مسجد شاد للتقى والعلوم

وهما منقوشان فوق باب قبلية المدرسة.

الكلام على مكتبة هذه المدرسة :

هذه المكتبة أعظم مكتبة في الشهباء وأنفسها ، وقد حفظتها لنا أيدي الزمان ولم يفقد منها سوى بضع كتب ، منها كتاب بحر الأنساب وهو من نفائس الكتب كان أرسله المتولي السابق الحاج عبد القادر أفندي الجلبي إلى الشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي المشهور إلى الآستانة ليستنسخه ويرده إلى المكتبة ، ولم يرده وذهب فيما ذهب من كتب الشيخ أبي الهدى بعد وفاته.

والمكتبة مغلقة دائما ، ومفاتيحها بيد خادم المدرسة سلمها إليه القيم عليها وهذا لا يفتحها إلا عند الطلب خلافا لشرط الواقف الذي اشترط أن تفتح أربعة أيام في الأسبوع ، ولذا قلت الاستفادة منها. ومن جهة أخرى فإنه ليس لها فهرست منظم يعلم منه نفائسها ، وطالما راجعت القيم في لزوم وضع فهرست لها على الطرق الحديثة وزيادة خزائنها لتصف على الاستقامة ليسهل تناول الكتاب المطلوب ، فكان يعد بذلك ولم يف بوعده إلى الآن. ومن العبث أن ينتظم أمر هذه المكتبة ومكتبة المدرسة العثمانية التي تكلمت عليها في الجزء

__________________

(١) لعل الصواب : بغارب.

٧٦

الثالث (ص ٢٦٠) ما لم تتوجه إليهما همة دائرة الأوقاف وتلزم المتولين عليهما بذلك.

الكلام على الحالة العلمية في هذه المدرسة :

علمت مما تقدم أن الواقف اشترط أن يكون المجاورون العشرة في هذه المدرسة من أكراد ما وراء الموصل ، ولا ريب أن قصده من ذلك أن يأتي هؤلاء من بلادهم فيتلقوا العلم في هذه المدرسة إلى أن يتأهلوا ، ثم يخرجون منها فيسعون في نشر علمهم في هذه البلاد أو في غيرها ، والذي شاهدناه منذ أربعين سنة إلى الآن أن أكراد تلك البلاد يأتون إلى هذه المدرسة ويتخذونها دارا للبطالة ، وقل منهم من يشتغل بالعلم اشتغالا يجعله في صفوف العلماء الذين يستفاد منهم ، ولما لم يكن في شرط الواقف مدة مخصوصة فكان أحدهم ربما جاور في هذه المدرسة ثلاثين سنة أو أكثر وليس له من الغرض سوى تناول الوظيفة ويبقى على ذلك إلى أن يموت وهو لم يحصل على طائل فلا استفاد ولا أفاد ، ويساعده على البطالة وعدم الاهتمام بالتحصيل عدم انتظام أمر التدريس أيضا ، فكان ذلك داعية لأن لا يخرج من هذا المعهد العلمي هذه المدة مع وفرة واردات عقارات أوقافه أحد تستفيد منه الأمة ، ولم تتحقق غاية الواقف ، وكانت تذهب تلك الوظائف أدراج الرياح ، ولأن تسمى هذه المدرسة دار عجزة أولى من أن تسمى دار علم ودراسة. ومن جهة أخرى فإن هذه المدرسة تعطلت أثناء الحرب العامة وأصبحت خالية من الطلاب بتاتا فكانت كما قال الشاعر (١) :

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومهبط وحي مقفر العرصات

كانت ذكراها وذكرى غيرها من المدارس في حلب يؤلم قلبي ويذكرني قول القائل :

كفى حزنا أن المدارس عطّلت

وأن بني الآداب في الناس ضيعوا

وأن ملوك الأرض لم يحظ عندهم

من الناس إلا من يغنّي ويصفع

حياة بلا علم حياة ذميمة

وعلم بلا جاه كلام مضيّع

فلما عينت نائبا في مجلس الأوقاف الأعلى الذي افتتح للمرة الأولى في دمشق في جمادى الأولى سنة ١٣٤٠ الموافق لكانون الثاني سنة ١٩٢٢ بينت حالة هذه المدرسة وحالة المدرسة

__________________

(١) هو دعبل بن علي.

٧٧

الشعبانية التي اشترط واقفها أن يكون مجاوروها من الغرباء ، وقد أصبحت حالتها مثل حالة هذه المدرسة ، فقرر المجلس وقتئذ في قراره (٢٩) ما يأتي :

فهم أن بعض المدارس في حلب التي اشترطها واقفوها لطلاب العلم الشريف الغرباء من قطر معين ولهم مرتبات معلومة هي معطلة من بضع سنين لعدم وجودهم ، ولما كان هذا الشرط متعذر العمل به الآن ومفوتا لغرض الواقفين تقرر إلزام المتولين بإسكان هذه المدارس ممن وجد من طلاب العلم الفقراء وإجراء الرواتب عليهم حسبما جاء في المادة ١٤ من قرار المجلس الأعلى رقم ـ ١٦ ـ إلى أن يحضر الغرباء المشروط لهم فيقدمون عندئذ عملا بشرط الواقف وذلك حرصا على إحياء الغاية الأساسية من نشر العلم الذي هو غرض الواقفين الواجب مراعاته. ا ه.

وقد الزمت دائرة الأوقاف بمقتضى هذا القرار المتولين على المدرستين أن يقبلوا فيهما الطلاب سواء كانوا من أهل هذه البلاد أو من غيرها ، إلا أنه لم تتحقق الغاية المطلوبة لعدم انتظام أمر التدريس فيهما وعدم العناية بأمر الطلاب وتطبيق النظام الموضوع للمدرسة الخسروية ، ولذا لا يؤمل أن تخرج لنا هاتان المدرستان ما دامت هذه حالتهما رجالا لا يخدمون دينهم وأمتهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.

١١١٨ ـ عمر بن حسين اللبقي المتوفى سنة ١١٨٩

(١) عمر بن حسين بن عمر الشهير باللبقي ، الحنفي الحلبي الفاضل الأديب.

كان ذكيا له يد ومعرفة بفنون الأدب ، حسن الأخلاق سهل المعاشرة لطيف الخلال.

ولد في سنة ست عشرة ومائة وألف ، وقرأ على عبد الوهاب العداس وعبد السلام

__________________

(١) تنبيه : ذكرت في ترجمة والد المترجم العارف بالله طه زاده أن وفاته كان سنة ١١٣٧ كما أرخ بذلك الشاعر البيري بقوله (لطه منزل في الخلد رحب) ثم وجدت على باب تربته هذه الأبيات :

تغمد الله طاها

برحمة لا تناها

فقد سما باجتهاد

وطال عزا وجاها

ومذ قضي حل أرخ

بجنة الخلد طاها

(١١٣٦)

فما هنا أصح مما هناك.

٧٨

الحريري ومحمد بن إبراهيم الطرابلسي نزيل حلب ومفتيها. وسافر إلى إسلامبول ، ثم عاد إلى حلب وتولى نيابة القضاء في محاكمها الأربع. وارتحل إلى طرابلس الشام وإلى الموصل مع حاكمها الوزير أحمد ، ثم قدم حلب ومكث بها ، ثم ارتحل للقدس ثانيا في زمن مفتيها المولى أحمد بن الشيخ طه ، وأخذ الحديث عن الشيخ محمد التافلاني ، وفي مروره مع القاضي المذكور على دمشق نزلا في دارنا واستقاما مدة عندنا ، وكان بين والدي وبين القاضي المذكور مودة ومحبة.

وكان والد المترجم من التجار المشاهير بحلب والرؤساء أرباب الشهرة والشان ، وولده صاحب الترجمة اشتهر بالأدب والكمالات ، وكانت تجري بين أدباء عصره ومصره وبينه المحاورات والمطارحات ، وفي آخر أمره ترك تعاطي أمور الأحكام ولازم ما لابد منه.

وله شعر مقبول رأيت أكثره ، فمن ذلك قوله لما أصاب حلب من الزلزال ما أصاب :

سنا نور سر الذات أشرق في الحشا

فزال بذاك النور عن طرفي الغشا

وشاهدت أن لا شيء دون وصالها

وأيقنت فضل الله يؤتيه من يشا

ونزهت طرفي في رياض جمالها

فعاد بريّا نشرها القلب منعشا

فحيا شذاها ميت قلبي وحبها

تملك أحشائي وفي اللب عرّشا

ومذ علمت أني أسير بحبها

فجادت بما أبغيه منها وما أشا

وبت بنادي القرب أرشف ثغرها

فأصبحت نشوانا وسرّي قد فشا

وذاع لدى العشاق أمري وأنني

خلعت عذاري واسترحت من الوشا

وبادرت نحو الحان من فرط شوقها

أنادي أيا خمار كن لي منعشا

فجاء بها عذراء بكرا قديمة

وقال لي افضض ختمها كيفما تشا

تعاطيتها صرفا ومزجا مشاهدا

بها كشف أسرار لعقلي أدهشا

عرفت فلما أن أفقت سمعت من

فؤادي مناد عج من داخل الحشا

أيا مفزع الجاني وأكرم شافع

وأعظم مبعوث وأشرف من مشى

إليك أنبنا والتجأنا فنجنا

من الخطب والأهوال فالرعب قد غشا

فأمّن بحق الحق قلبي لأنه

من الخسف والزلزال قد خاف واختشى

عليه وأسبل ذيل أمنك واكفه

بجاهك عند الله في الصبح والعشا

٧٩

وله وقد أخذ المعنى من شعر فارسي وعربي :

في المرء إن لم يكن شيء يميزه

عن جنسه بذكاء الفهم والأدب

كما إذا لم تكن في العود رائحة

لكان لا فرق بين العود والحطب

وله مضمنا :

وما كل ذي رأي مصيب برأيه

ولا كل راء في الحقيقة باصر

لعمري ما الأبصار تنفع أهلها

إذا لم يكن للمبصرين بصائر

وله :

وشادن قلت له

دعني أقبل شفتك

فقال لي كم مرة

قبلتها ما شفتك

وله مخمسا أبيات الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه :

مذ مقلتي كشفت لها أستاره

وتلألأت بجوانحي أنواره

طرفي بكى فحكى الحيا مدراره

قالوا أتبكي من بقلبك داره

جهل العواذل داره بجميعي

فأنا المقيم بحانه وبديره

ثملا أجول بفضله وبخيره

وأقول للاحي المجد بسيره

لم أبكه لكن لرؤية غيره

طهّرت أجفاني بفيض دموعي

وله مشطرا :

والطل في سلك الغصون كلؤلؤ

قد شنفوا فيه الحسان وقرطوا

فتراه كلل كل غصن يانع

رطب يصافحه النسيم فيسقط

والورق تقرأ والغدير صحائف

والروض يستملي الحديث ويضبط

والظل قد مد المداد يراعه

والريح يرقم والغمام ينقّط

وله في كتاب «الشفاء الشريف» :

دع الدواء وداوي بالشفاء إذا

أعيا العليل عضال الداء من ألم

٨٠