إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

ملازما بها لإفادة الطالبين ، محمود السيرة في الإيراد والإصدار ولكل فضل مبين ، سالكا سبل النجاح والهدى ، متزرا بالعفاف وبالفضل ارتدى ، وله الأدب الغض ، والنظم الرائق الذي ما وضع من قدره ناقل ولا غض ، سهم أدبه لشوا كل الأغراض مصيب ، أحرز من الفضل أوفى سهم ونصيب ، جرى في مضمار القريض ملء عنانه ، وقلد الطروس أبهى عقد من جواهر لفظه وبديع جمانه ، وهو من خواص أحبابنا والملازمين لنا ، ووالده كذلك ، وله كمال المحبة والصداقة للمرحوم الوالد وأنه من أعز أحبابه ، وأخص ندمائه وأترابه. وله مدائح كثيرة كأنها القلائد ، أو درر في جيد الزمان فرائد. وهو الآن من الأحياء ، حماه الله من الأسواء. ثم أورد هنا مدائحه في والده السيد أحمد الكواكبي ، منها تهنئته بعد مرض ألم به :

يا كوكب المجد أنت المفرد العلم

وأنت مصباحنا إن عمت الظلم

كأن شهباءنا جسم وأنت لها

روح فما دمت فيها ما بها ألم

فالمجد والفضل مع حلم وعز تقى

والجود والشرف الوضاح والكرم

إن دمت دامت ولا يوجدن إن عدمت

أوصافك الغر لا زالوا ولا عدموا

يا أوحد العصر يا عز الأكارم يا

تاج الأماجد إجلالا وإن عظموا

فالمجد مبتهل والحلم يضرع في

بقاء ذاتك ركن بل وملتزم

فلا أرانا بك المولى سوى فرح

مع المسرات فيها الدهر يبتسم

ولا برحت على الشهباء كوكبها

ثغورها من سنا علياك تبتسم

فإن داعي التهاني جاء ينشدنا

لابن الحسين وحق فيك ينتظم

(المجد عوفي إذ عوفيت والكرم

وزال عنك إلى أعدائك الألم)

(ولا أخصك في برء بتهنئة

إذا سلمت فكل الناس قد سلموا) (١)

ومن آثاره البديعة الدالة على أنه ممن ارتوى من مناهل الأدب وتضلع من فنونه رسالته المسماة ب «الهمة القدسية» (٢) التي ألفها باسم مفتي حلب وقتئذ محمد قدسي أفندي المتوفى سنة ١٢٢٢ وأودع فيها من ضمّن من علماء الشهباء وأدبائها في عصره على طريق

__________________

(١) عندي من هذه الرسالة نسختان إحداهما بخطي نقلتها سنة ١٣٢٢ عن نسخة في بيت راغب آغا والثانية وقعت لي شراء سنة ١٣٤٣ ضمن مجموع مخطوط.

(٢) البيتان الأخيران للمتنبي من قصيدة يهنىء بها سيف الدولة بمعافاته.

٢٠١

الاقتباس قوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)(١) وذلك على أثر ورود رسالة من الشام تضمنت ذكر من ضمن تلك الآية من أدباء الشام ، فحذا أدباء الشهباء حذوهم وأدلوا بين تلك الدلاء دلوهم.

ونحن نثبت هنا تلك الرسالة برمتها لندرة وجودها وحسن انسجامها وبداعة إنشائها وإن كانت على طريقة السجع التي كانت رائجة في ذلك الحين ، ولأنها تضمنت ترجمة (١٩) فاضلا وأديبا كانوا غرة في جبين عصرهم وحلوا بفضلهم جيد زمنهم ، وقد ظفرت بترجمة (١٣) شخصا منهم وهي مثبتة هنا في محالها وستة منهم وهم الأديب الحاج مصطفى آغا كوجك علي آغا ، ومحمد أفندي الخسروي ، وحسين أفندي الغوري ، والشيخ مصطفى الكردي العمادي ، والشيخ محمد طالب البكفالوني المعروف بالدهني ، والشاعر الأديب محمود المعري ، وهؤلاء لم أقف لهم على ترجمة.

وكان إنشاء المترجم لهذه الرسالة كما ذكره في آخرها سنة ١٢٠٤ وتوفي سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين كما وجدته منقوشا في لوح قبره في تربة الشعلة خارج محلة باب النيرب. قال رحمه‌الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي رفع لأهل الأدب في مقام حضرته ذكرا ، وفتح لهم باب الطلب فارتاحوا إلى سؤاله وأعقبوا النعمة شكرا ، نطق كل مصقع بما يصل إليه بيانه فاستبان العجز أوفق وأحرى ، وأخذ اليراع يترجم لسانه فأحصر المملي عن درك شأوه حصرا ، والصلوة والسلام على ناظم شتات الكمال بالذهن الذهين والنقل الرصين في العالمين خلقا وأمرا ، المجتبى لسيادة تتقاصر خطباء البلاغة عن وصف قلمها نظما ونثرا ، وسعادة تذر مواهب الوهاب على ممر الأحقاب فائضة على الوجود فلا تتناهى عدا وحصرا ، المؤيد بأرفع قدر خشع له الأشم الباذخ وتصدع من هيبته الطرد الشامخ على الملة العوجاء حتى قصم من كل جاهد ظهرا ، القائل عند سماع الموعظة إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا ، وعلى آله وأصحابه المصدري البيض حمرا بعد أن وردت هاما غبرا ، صلاة وسلاما دائمين على ما تلى التالي ذكرا.

__________________

(١) الزخرف : ٥١.

٢٠٢

وبعد : فإن المتسمين بسمة الحدس والذكاء ، المقتعدين بهمتهم متون كواكب الجوزاء ، قد طرحوا فنون الأدب مطارح الصبا ، وفرقوا ما اجتمع عندهم أيادي سبا ، وأوسعوها قلى وهجرا ، وعدوها فضولا من القول وهجرا ، لما أن جفوة الحظ داء شكته الأفاضل من قديم ، وعادة معوجة لا تكاد مدة تستقيم ، فبينما هو ينظر إليهم بوجه عبوس ، ويشن الغارة عليهم بحرب البسوس ، إذ لمحهم بمحيا طليق ، وحياهم تحية رفيق ، وأسارير السرور على غرته طالعة ، ولوائح النور على طلعته ساطعة ، فسبروا ما استوفاه لسان حاله ، وخبروا ما استخفاه من زخارف محاله ، فإذا زيفه قد بدله جيدا ، وحيفه رمى به مكانا بعيدا ، ثم أهداهم بهدية أبناء الأدب ، حسناء من نفائس مخبآت العرب ، وافت من قبل غوطة الشام ، المفتر ثغرها من عرف البشام.

أتذكر يوم تصقل عارضيها

بفرع بشامة سقي البشام (١)

فتمتع بمحاسنها أدباء العصر ، واجتلوا من لألائها بارق الجبين والثغر ، لما أن وضاءتها مقتبسة من سنا بدر المعالي ، زينة الأيام والليالي ، شمس الزمان ونور حلكه ، وجوهر الأوان وقطب فلكه ، رأس المعتنين بقواعد الإفتاء والتدريس ، وعماد المتصدرين لإشادة الأحكام والتأسيس ، أعني به الخليل الجليل ، والجهبذ النبيل ، منتدى كل حاضر وبادي ، ومنهل كل وارد وصادي ، من أصبح به بيت المراديّ شامخا إلى السهى ، ومكين الأصل والفرع لا بدأ لفضله ولا انتها ، قد نظم من ألفاظه الحسنة ، وبدائع معانيه المزينة ، أبياتا تضمنت اقتباسا لطيفا ، وموقعا بحسن الكناية ظريفا ، ونسج على منواله بعض أخدانه ، وجماعة من خلّص إخوانه. واتفق لبعض إخواننا حضور هذه المجالسة ، فأثبتها عنده في ديوانه المراسلة.

ثم لما قدم إلى شهبائنا الساطعة ، ونزل بساحتها الواسعة ، أتحف بتلك المساجلة الفائقة ، والمعارضة اللائقة ، جناب الأوحد المحترم ، عالي المكارم والشيم ، وارث مقام العلم بالاستحقاق التام ، وعامر ركن المجد عن آبائه الكرام :

إن السريّ إذا سرى فبنفسه

وابن السريّ إذا سرى أسراهما

أعني به السيد محمد أفندي قدسي ، نور الله بصيرته بالفتح القدسي ، فعارض هاتيك

__________________

(١) البيت لجرير.

٢٠٣

المساجلة بحسنها الأغر ، واقتفى أثره أعلامنا ويا نعم الأثر ، فاستحسن حفظه الله ، وأدام علاه ، التنويه بذكر جماعتنا في رسالة لطيفة ، تعرب بعلو الثناء عن مراتبهم الشريفة ، كيما يتحف بها مولانا السابق في الكلام ذكره ، البارق في جلق الشام بدره ، فامتثلت أمره ، وأوجبت شكره ، وشرعت في ذلك غير آمن من زلل ، ولا سالم من خلل ، مجانبا التغالي المذموم ، والتجازف الملوم ، ذاكرا عند ختم الترجمة ، أبيات صاحبها المنظمة.

فمنهم الهمام ابن الهمام ، والليث ابن الضرغام ، الصدر البارع ، والبدر الطالع ، تقي الدين السيد محمد أفندي قدسي المكنى بأبي حنيفة ، المتحلي بالشمائل الشريفة ، الرهاوي منشا ومولدا ، والذكائي طالعا وسوددا ، والعواصمي مهاجرا ومقاما ، والنقشبندي طريقا ومقاما ، من أصبحت به الشهباء مخضرة الأرجاء ، والخضراء منورة الظلال والأفياء ، كأنه المعني بقول من غبر ، في سالف الخبر :

لقد علم الضيف والمرملون

إذا أغبر أفق وهبّت شمالا

بأنك ربيع وغيث مريع

وأنك هناك تكون الثمالا (١)

لله من سيد لو أبصره النعمان لا تخذه شقيقا ، أو يعقوب لنظر منه يوسف منظرا أنيقا. كيف لا وهو محمد بن الحسن ، ومالك أزمّة الفصاحة واللسن ، منقح الفتيا بالنظر السديد ، ومصحح الحكم بالفحص الشديد ، عطاردي الخبر والفهم ، وبحتري النثر والنظم ، صائب القوافي الرصينة ، وحافظ اللآلي الثمينة ، إن نثر الفوائد العربية فجوهري ثاني ، أو نظم القلائد الأدبية فصاحب الأغاني ، أريحيته أريحية حاتمية ، وأياديه أياد هاشمية.

راحاته وكفت ندى وكفت ردى

تقضي بحق عداته وعداته

كالغيث في إروائه وروائه

والليث في وثباته وثباته

خلقه نسيم الصبا جاءت برياه. ووصفه نور الربا كلله نداه. ولطفه شيء لا يبلغ كنهه ، ولا ينال شأوه ، من اقتطف نور البراعة في أفنائه تذكر ما بين العذيب وبارق ، ومن سرح طرف اليراع في ميدانه جر العوالي وأجرى السوابق ، فكأن شاعر الباب له أراد. حيث قال وأجاد :

وإذا ساجلته بالأدب

يملا الدلو لعقد الكرب

__________________

(١) البيتان لعمرة أو جنوب بنت العجلان ترثي أخاها. وينسبان إلى كعب بن زهير أيضا.

٢٠٤

لا زال محطا لرحال الآمال ، ومنهلا سائغا إن كذب سراب وآل. وهذه أبياته الغرر ، وألفاظه الدرر ، وحكمه النوابغ ، أظل الله نعمه السوابغ :

عاشرت مصري أصل

أهدى من الريق خمرا

من نار خديه ألقى

إلى فؤادي جمرا

يا يوسف الحسن فارفق

تزداد بالرفق نصرا

قلبي لحبك مأوى

وصاحب الدار أدرى

فارحم لعبدك خلّي

فذاك للعبد أحرى

يا مالكا مصر قلبي

لا تدعي الملك قهرا

فقال زهوا وتيها

أليس لي ملك مصرا

ومنهم مفتي الأنام ، وإمام الأجلاء الأعلام ، ذو الحسب المفخم ، والنسب المعظم ، فرع الشرف والعلم والسيادة ، السيد حسن أفندي كواكبي زاده ، عريق نما من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنيق تفتقت من نشر أوصافه خمائل الأنواء ، أطلع على المقتبسين أنوار ذكاء من محاسن آرائه ، وأخفى عن الناظرين مثالب كيوان بقوة سعده ولألائه ، فالزهراء أهدت إليه المجد والصيانة ، والزهرة نوهت له بالصدق والأمانة ، جده أبو السعود وهو الأكبر ، ووالده أحمد الكواكب وهذا حسن أنور ، طالما تفننت الأدباء لدى مدح خيمهم فنونا ، وتغنت الورقاء على دوح أصلهم لحونا ، فهم أدلة الاهتداء لمن أراد حجة ، وكواكب الليلة الليلاء لمن طلب محجة. ثم إن مولانا حفظه الله ، وأدام كلاءته ورعاه ، عطر ذكرهم بعبير آدابه ، وعمر ركنهم بعلو جنابه ، واقتفى أثرهم علما وعملا ، وارتقى أثرهم مجدا مؤثلا ، فتحقق بمكارم أسلافه القادة ، وبفرائد أوصافه المستجادة ، ثم اجتلى من عرائس الأدب غررا ، ومن نفائس العقود دررا ، فلا يصوغ من البيان إلا ما غلا قيمة ، ولا يطوق إلا بالدرة اليتيمة. وهذه قوافيه شاهدة بذلك ، معربة بلسان حاله عما هناك ، من فضل فخيم ، ودر نظيم :

أفديه من ظبي أنس

أصلى بقلبي جمرا

لقد رماني بنبل

لما بدا همت سكرا

من غنج لحظيه أضحى

يعلّم الناس سحرا

فاق البدور سناء

بكوكب الحسن أغرى

٢٠٥

نور المحيا سنيّ

يزهو على نور زهرا

أزرى الغصون بقد

وفرقه خلت فجرا

يا نزهة الروح يا من

ملكت لبي أسرا

هل من سبيل لوصل

لكسر قلبي جبرا

قد عيل صبري لماذا ال

صدود والبعد قهرا

أجاب إني أمير

في الحسن قد سدت قسرا

فكيف يرجى وصالي

أليس لي ملك مصرا

ومنهم علم الأعلام ، وروض الفضل البسام ، بيت شرف النيرين ، وغرة وجه القمرين ، السيد الحاج عبد الله أفندي جابري زاده ، أقر الله به عيون أهل السعادة ، واحد جمع بين اثنين العلم والعمل ، وماجد سطع على الشمس في دارة الحمل ، وهمام همته فوق العبور ، وإمام تقتدي بآرائه الصدور ، وجهبذ ناظر العلم بقوة فهمه ، ومحقق أمعن النظر بنورانية علمه ، يحرر أحكام الشرع الحنيفي أحكم تحرير ، ويقرر المذهب الحنفي أبين تقرير ، ألفاظه السحر الحلال ، إلا أنها رصينة ، أو قلائد اللآل ، إلا أنها ثمينة. وتحريراته للكسائي تاج ، ولطالب الهداية منهاج ، ليس ذهنه كالسيف فينبو ، ولا النار فتخبو ، بل كالسيل الهتون ، يبرز كل در مكنون ، لم يزل صادق اللهجة في أخباره ، واضح المحجة إلى نظّاره ، دمث الأخلاق والمصافاة ، سهل المحادثة والموافاة ، يراعي جبر القلوب المهونة ، ويواسي ضنك النفوس المصونة ، يشتغل في الكلام بما يرضي ربه ، وفي النظام بما يؤمن حوبه ، فمن ذلك ما أفرغه في قالب الغزل ، ناحيا سنن السادة الأول :

ملكت قلبي قهرا

وحزت أسري قسرا

أنت الشفا وحياتي

لم أستطع عنك صبرا

يا مالكي وأميري

حاشاي أعصيك أمرا

ارحم خضوعي ترفق

الرفق والله أحرى

بحال صب كئيب

دموع عينيه تترى

فإنما العز يمضي

أين الملوك وكسرى

وأين من قال زورا

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السعيد ابن السعيد ، والوحيد بن الوحيد ، الشهم المقتعد مجده على النسر

٢٠٦

الطائر ، والخضم المستفيض رفده على النوء السائر ، السيد الحاج مصطفى آغا كوجك علي آغا زاده ، بلغه الله مناه وزاده ، نديمي وسميري ، لا بل عزيزي وأميري ، من تراضعت معه ثدي المودة الصادقة ، واجتنيت به ثمار الخلة الرائقة ، وطوقني من مصافاته بعقود حالية ، فأفصح لسان الثناء عن آثاره الباقية :

ولا غرو أن ألفى بدوحك صادحا

بأطيب ألحان لأني المطوّق

طالما أبهج العلم طلعته الباهية ، وأبلج الحلم محجته الزاهية ، ونور الفقه له قلبا ، وعمر الورع له لبا ، وزان النحو لسانه ، وشمل اللطف بيانه ، وقوافيه مطبوعة على الذوق العفيف ، ومحدثة عن مناقب الشاب الظريف ، لو نشق الوردي نشر أوصافه لا تخذ عبيرها وردا ، ولو جنى النباتي ثمر آدابه لحبل جنيها قندا ، فمن زهيرياته التي تحرك الشوق الساكن ، وتبرز الذوق الكامن ، ما جادت به بديهته المطاوعة ، وسمحته سجيته البارعة ، قوله :

لقد سباني بدر

في حسنه فاق بدرا

وصرت فيه أسيرا

وحاز قلبي أسرا

أفديه ريما تجرّى

على محبيه قهرا

كلّمته بخضوع

فتاه عجبا وكبرا

فقلت كم ذا التجني

أضرمت جسمي جمرا

فقال هذا مرامي

من يرجني يفن صبرا

فزدت فيه غراما

وزاد سكري سكرا

يا ذا العزيز تبصر

قد زال إيوان كسرى

وباد من قال مينا

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد أبو بكر أفندي كوراني زاده ، واحدنا وابن أوحدنا ، وماجدنا وابن أمجدنا ، كرم الوالد فزكا الولد ، وهذا الشبل من ذاك الأسد.

نعم الآله على العباد كثيرة

وأجلهن نجابة الأولاد

نشأ في خدمة والده ، متعطلا عن سواه ومتحليا بفرائده ، مقتبسا من أنواره ولألائه ، ومستضيئا بمحاسنه وآرائه ، مغذى بلبان الفصاحة والأدب ، وطاعما من ثمار البراعة شهي الضرب. ثم تفقه عليه في الدين الحنيف ، بمجلس الشرع الشريف ، وكان والده سقى

٢٠٧

الله مرقده المنور ، وخلد ذكره الحسن المعطر ، إمام العلماء بالنظر الثابت ، على مذهب صدر الصدور النعمان بن ثابت ، فنجب فرعه الطيب وساد ، وتمرن بملازمة الأفاضل النقاد. اشتغل بعلم سيبويه فأربى على أقرانه ، وتضلع بفقه الدين فكان غرة أهل زمانه. أمانة الفتوى عنده مصونة ، وجواهر الفقه في صدره مكنونة ، فهو حقيق بكل ثناء جميل ، وجدير أن يرقى إلى مجد أثيل ، ومقام شعره مقام منير ، ولا ينبئك مثل خبير. وهذه لآليه المشرقة ، وصوادحه المطوقة :

شقيق روحي تبدى

بوجنة خلّ جمرا

وطرة من دجاها

أبصرت لا شك فجرا

يفتر عن برد ثغر

رضابه كاد خمرا

مليك حسن رماني

وصاد قلبي أسرا

ظبي يصيد أسودا

بصارم اللحظ قهرا

جماله الفرد يحكي

يا مغرم الحسن بدرا

قلت الوصال حبيبي

تغنم بذلك أجرا

فقال إني مليك

والبعد عني أحرى

فقلت هل لك ملك

نزعته أنت جبرا

فقال يختال عجبا

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد محمد أفندي خسروي ، نديم شب في حجر الكمال ، لو عصرت الظرف من عطفيه سال ، وسمير يرغب به جذيمة أمد الدهر ، ولو أن مع سواه عمرا وألف عمرو.

إن تكلم يصاخ إلى ألفاظه القندية ، وإن تبسم يرغب في نكهته الوردية ، وإذا جرى في ميدان السمر ، تأهب خدنه لملاقاة السحر ، في أقل من لمح البصر ، افتنانا بحديثه المزخرف ، وشوقا بما هو أبهج فيه وألطف ، ثم هذا كله مع اشتغال بفقه وعلم ، واتسام بلطف وحلم ، إذ كتابة الفتوى به منوطة ، ورسوم ألفاظها بيراعه مضبوطة ، فهو كاتب ماهر ، وناظم ناثر ، وهذه أبياته النفيسة ، ومحاسنه الرئيسة :

صاد الفؤاد وأجرى

مدامع العين نهرا

ظبي شرود نفور

لقتلتي قد تجرّا

يسطو بماضي لحاظ

من صارم الهند أفرى

٢٠٨

سلطان حسن سليل

كم عاشق فيه أغرى

ذو مقلة هي تروي

عن فعل هاروت سحرا

ناديت يا من علينا

بقده هز سمرا

الله فيّ ترفق

تغنم بذلك أجرا

وانظر لمقياس دمعي

من عبرتي عاد بحرا

عسى لعل الليالي

تنيلني منك بشرا

فقال إني عزيز

وقد أبحتك برا

فاغنم لقرب وصالي

أليس لي ملك مصرا

ومنهم فرع الغادة الهاشمية ، وسبط السادة البكرية ، الحاج حسين آغا الغوري ، تقي نشأ في حجر الوقار ، ونقي براء من شعث الأكدار ، يقر عين أخدانه بشمائله ، ويشرح صدور إخوانه بفضائله ، أخذ من التقوى حظا وافيا ، ومن المروءة نصيبا كافيا ، أحرز فخامة المجد وراثة عن آبائه ، واقتعد منكب الأعنة مسامتة عن نظرائه ، وشمر عن ساعد الجد لتحصيل المآثر ، فشرع طائر السعد يثني على حظه الوافر ، ونظر في معاني الأدب بروية مستقيمة ، فنظم من عقوده فرائد يتيمة ، تشهد بما قررناه من حسن فهمه ، وتؤيد ما رمزنا من بديع نظمه ، وهي قوله :

حبي مليح المعاني

لكن عليّ تجرّا

يا حسنه من مليح

حلا مذاقا ومرا

بدر تجنى دلالا

وزاد عجبا وكبرا

ما ضر هذا المعلى

لو أبدل العجب شكرا

أفديه مياس قدّ

أردى الغصون وأزرى

وقال قولا عجيبا

حزت الملاحة طرا

كل الملوك عبيدي

يرجون مني نصرا

وإن عجبتم بهذا

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد الشيخ عبد الله الميقاتي الحنبلي ، فاضل ماهر ، وعطاردي زاهر ، نحا في النحو مكانة طالعة ، وصرف في الصرف همة بارعة ، فاستطلع بهما مواقع الأنوار الحديثية ، وأطلع منهما مواقع الأسرار الفقهية. إن بحث في الأجرام والأبعاد ، أذعن لحكمه كل حاضر

٢٠٩

وباد. وقال الغزالي طاب ثراه : من لا معرفة له بالهيئة فهو عنين في معرفة الله ، مع التفاتة إلى الموسقيريّ والأصول ، وجمع شتاب الشعب والأصول. فلله دره ما ألطف مذاقه ، وأهنأ للنفوس الأبية وفاقه. ومن الواجب على كل رئيس ، أن يصله بابن الحسن في مقالة ابن إدريس. ومقامه في فن الأدب صعب المرتقى ، وبيانه من خالص العربية منتقى ، يجمع إلى الحكمة حكمة شاردة ، ويثني إلى الفائدة فائدة زائدة ، فينطق لسانه بالقول الأحق ، وأحسن بيت أن يقال لمنشده صدق ، ومن ثم عز نظامه ، وزاده مجده واحترامه ، وينبىء عن جنى الشجرة الواحدة من ثمرها ، وعن نفاسة القلادة الشذرة من دررها. وهذه أبياته الأبيات ، وعروباته العربيات :

بدا فأخجل بدرا

بدري وبالغصن أزرى

وعنبر الخال يزكو

بورد خديه نشرا

وغنج لحظيه أضحى

يعلم الناس سحرا

ما رق قلبا لصب

لكنه رق خصرا

فقلت مولاي رفقا

بمغرم فيك مغرى

ملكت مصر فؤادي

وفيه شيدت قصرا

فقال شأني عزيز

أليس لي ملك مصرا

وهذه أيضا :

بدر الكمال له في

منازل السعد مسرى

وقد سما في ارتفاع

سما المحاسن قدرا

فقلت والقد منه

يهتز ميلا وكسرا

يا مالكا مصر قلبي

طولا وعرضا وقطرا

قد صرت حاسب وقتي

في الحب جبرا وجذرا

أدعى لساعات وصل

لديك صبحا وعصرا

فقال سمتي بعيد

أليس لي ملك مصرا

ومنهم صالح العصر والأوان ، سلطان الفضل وابن سلطان ، فاضل حرفته ملازمة العلماء الكرام ، وصنعته مجالسة الصلحاء العظام ، ودأبه نشر العلم والتقرير ، وهمته ضبط

٢١٠

الصواب والتحرير ، نبل في الفقه النفيس ، على سنن إمامنا الاعظم ابن إدريس ، واخذ من العربية حظا وافرا ، ومن علم الخليل كاملا ووافرا ، يقدم كتابه على كل جليس ، ويأنس به حيث لا أنيس ، لا يبخل بالإفادة ، ولا يستنكف عن الاستفادة ، ولا يرغب عن قليل من العلم ، بل يذهب في كثير من الحلم ، خلقه رضيّ باهي ، وخلقه وضيء زاهي ، وورعه شديد بلامين ، ودينه سديد بلامين ، اشتغاله بالتلاوة حين الفراغ من الطلب ، وبالتهجد إذا الغاسق قد وقب ، ينشد لسان حاله ، حين ذكر الشعر وأوحاله :

تركت الشعر واستبدلت منه

إذا داعي صلاة الصبح قاما

كتاب الله ليس له شريك

وودعت المدامة والندامى

وإذا ارتجل منطيق وتقدم ، يقول : إذا كان مدح فالنسيب المقدم (١). ولما افتتن بغرر أهل الشام ، عارضهم بلسان الوجد والغرام ، سالكا مسلك من قبله ، فلله ما أغزر طله وبله :

يا من تسامى دلالا

ومن تحالى ومرا

ومن بدا شمس دجن

ضاء الحوالك دهرا

ومن تثنى قواما

للغصن حاكى وأزرى

أنت الحبيب المفدى

فاسمع نصوحا مبرا

قم في الدجى وتضرع

لله سرا وجهرا

واندب ذنوبا توالت

ونب وتب واستمرا

واخضع لربك ذلا

واطرح فخارا وكبرا

وانظر لمن قد تعامى

من قوم عاد وكسرى

وقول فرعون دعه

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد عبد القادر أفندي حسبي زاده ، فقيه نظار ، وأديب مكثار ، وماهر لوذعي ، ومحاضر ألمعي ، ونحوي مستقيم اللسان ، وصرفي بطرق التمرين ملسان ، إذا زين به جيد سيبويه ، فما شب عمرو عن الطوق ، وإذا قيس به خالويه ، كان مقامه فوق الفوق ، فألفاظه صوادح البلابل ، ومعانيه نفثات بابل ، وذاته كاملة الظرف ، إلا أنه أفعم

__________________

(١) هو صدر بيت للمتنبي ، وعجزه : أكل فصيح قال شعرا متيم.

٢١١

بالعلم ، وأخلاقه مشموله باللطف ، غير أنه توج بالحلم ، ومعاريضه تشحذ خاطر النديم ، ومحاورته تشفي من الداء السقيم ، ومكانته في الشعر عالية المنار ، وسامية المقدار. فمن أبياته النوافث ، التي أسكتت كل نافث ، ما عارض بها أقرانه ، وأبدع فيها أفنانه ، قوله :

تمنّع الحب لما

رأى العوالم أسرى

وقال إني مليك

أطاع نهيا وأمرا

والدهر عبدي وإني

حزت المحاسن طرا

فقلت قد تهت عجبا

فأبدل العجب شكرا

فقال كم من مليح

لديّ يسخط قدرا

يقول عجبا وتيها

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد هاشم أفندي (١) ، عصامي المجد والعلو ، وذاتيّ الجد والسمو ، فطائر صيته صادح فوق النسر الواقع ، وسائر سعده رائح إلى الفلك الرابع ، هذب قريحته بمراجعة الأسفار ، وأشرب طويته في مطالعة الأخبار ، ومارس المشكلات بذهن وقاد ، ودارس المعضلات مع قوم نقاد ، فهو إخباريّ المحادثة ، نظريّ المباحثة ، متعمق في الألفاظ الواردة ، متأنق بالأدلة الشاهدة ، إذا شرع في الفقه أعجب به أهله ، وإذا نزع إلى أصوله أطاعه فرعه وأصله ، وإن أورد علوم العربية بلسانه ، شاقت العرب الأبية إلى براعة افتنانه ، وإن أجرى أبحر التفاعيل والصنج ، أجرى الشعراء على زنة كل خفيف وهزج ، شعره بعيد من الزحاف ، ورصفه سديد بلا خلاف ، فقره فقر عتبية ، وقوافيه قواف عربية.

من مبلغ الأعراب أني بعدها

لاقيت رسطاليس والإسكندرا

وأبياته في هذا المورد لا تفي بمقامه ، مع أنها في ديوان الأدب من بديع نظامه ، إذ هي فطرة من غيث هتون ، أو شذرة من در مكنون :

أجرى المدامع نهرا

وصير القلب مصرا

وهز عادل قدّ

يطول وصفا وذكرا

وصال باللحظ حربا

ما حرب سيف وكسرى

أسكنته بيت قلبي

وصاحب البيت أدرى

__________________

(١) هو الشيخ الكّلاسي المتوفى سنة ١٢٢٩ تقدمت له ترجمة موجزة.

٢١٢

وهو العزيز بحسن

ذلت له الناس طرا

فقال للغير فيه

قد جئت إدّا ونكرا

أتدخل الغير ملكي

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد محمد وفا أفندي الرضائي ، غبوقي وصبوحي. لا بل خليلي وشقيق روحي ، من نظمني وإياه سلك الرواية ، وأنعمني برؤياه كمال الصحبة والرعاية ، متع الله به والده الأغر ، يحيي ذكر جده عمر ، فيفوقه بحسن التلاوة والأدا ، ويروقه بالزينة على طول المدى ، ولا برح قرة عين ، لجده أحمد أبي العلمين ، مؤيدا بفتوحات محمدية ، وإمدادات أحمدية ، ومواهب شاذلية ، ومشارب قادرية ، إذ هو شاب نشأ في خدمة العلم والطريق ، وشرب من الكاسين أهنأ رحيق. فقهه منوه باعتقاد ، وعلمه منزه عن انتقاد ، وسلوكه لا يشوبه

رياء ولا خطل ، واشتغاله لا يعيبه ازدراء ولا ملل ، فهمه كالسيف حدة ، وكالنار شدة ، وكالماء في الصفاء ، وكالسيل في توارد الأنواء ، مع بديهة أطوع له من ظله ، وأسرع إليه من إدارة قوله. ومن نظر إلى أبياته بعين وامقة. سبر مقالتي إن صادقة وإن غير صادقة :

آيات حق تبدت

من المهيمن كبرى

دلت عليه وجودا

وأبرزت عنه سرا

وأظهرت كل شيء

في الكون كان استسرا

ما ثم فرد سواه

يحيط بالناس خبرا

كن فانيا عن سواه

به لترفع ذكرا

أين الملوك تفكر

وأين عاد وكسرى

وأين ذاك المنادي

أليس لي ملك مصرا

وله أيضا :

لك المحاسن طرا

وأنت عنه المورّى

وأنت في كل شيء

ظهرت سرا وجهرا

قد لذّلي فيك سلبي

ولو تهتّكت سرا

وكل ما اخترت عندي

عذب ولو كان مرا

٢١٣

ما شئت فافعل بصب

بحاله أنت أدرى

الملك ملكك حقا

ومدعيه تجرّا

حيث استخف ونادى

أليس لي ملك مصرا

وله أيضا :

هيا خليلي نجني

من روضة الحب زهرا

ونرتشف من لماه

وريقه العذب خمرا

لكن توق لحاظا

تغزوك قتلا وأسرا

فكل صاحب سيف

يعتاد للقلب كسرا

إني تهجمت يوما

عليه لاقيت غدرا

وقال هذا جزا من

على الملوك تجرا

فقلت لم أدر نادى

أليس لي ملك مصرا

ومنهم الشيخ عبد الرحمن العمري العقيلي ، زاهد متبتل خاشع ، وعابد متنسك خاضع ، راغب عن الناس بكليته ، مواظب على أذكاره وخلوته ، تخذ الصدق سفينة لنجاته ، ووسيلة إلى علو درجاته ، لا يهجر الصمت إلا فيما يعنيه ، ولا يهجر القول على رقة معانيه ، مع كف نفسه عن الشواغل ، وصرف حديثه إلى مشكلات المسائل ، ومبادرة إلى قراءة كتاب ، ومسارعة نحو رد جواب ، وفهم جيد مستقيم ، وذهن غير محتاج إلى تتميم ، وخلق ألطف من النسيم ، ومشرب أروى من شراب تسنيم. ثم إن شعره تحاشى الكذب والمين ، وتمادى عن الغلو بعد المشرقين ، فجاء على أحسن نمط ، لا بعد فيه ولا شطط. وهذا كلامه المشار إليه ، والمعوّل في الجميع عليه :

يا طالبا عز أخرى

وآملا نيل بشرى

تخل عن كل وصف

يخل بالذل عمرا

واخرج عن الكون كلا

لمن له الأمر طرا

بل عنك أيضا وسلم

إليه والزمه ذكرا

وفارق الفرق واجمع

يلح لك الطي نشرا

وافرغ من الحول واقرع

بابا به الفتح يقرا

٢١٤

واحذرك تبغي علوا

تنحط عن ذاك قدرا

أما ترى قول غاو

أرداه إذ قال كبرا

يا قوم ملكي عزيز

أليس لي ملك مصرا

ومنهم السيد عبد الله ابن المرحوم شيخنا ، أديب مهذب ، وأريب للنفوس محبب ، وضيء الوجه والفؤاد ، خليل الصدق والوداد ، يافع ليس له صبوة ، وثمل لم تعرف له نشوة ، كان لبه لب أهل اليقين ، وقلبه قلب من جاوز الأربعين ، إذا بادره داعي الصبا ، يناديه لا أهلا ولا مرحبا. دأبه كتاب ينظر فيه ، وعلم يطلع على خوافيه ، لا يبرح عن الهمة الأدبية ، ولا يظعن في البلغة النسبية ، أدّبه الطريق ، وهذبه من الورع رفيق ، له في العلم مشاركة حسنة ، وفي الفهم طريقة مستحسنة ، توارثها عن والده ، وتلقاها من فوائده. وله شعر وإفصاح ، يصدح به على الأدواح ، فمنه ما أورده في هذا المقام ، من بديع النظام ، قوله :

خير الأناس مقالا

من يتقي الحق سرا

فكن مجيبا مطيعا

في الكل نهيا وأمرا

وارهبه واخشاه واخضع

لديه سرا وجهرا

وافن عن الكون فيه

تلف المكارم تترى

ولا تكن مثل من قد

طغى فتنحط قدرا

فأين هامان أضحى

وأين عاد وكسرى

وأين من قال زورا

أليس لي ملك مصرا

وقوله :

ظبي من اللطف يبدي

من لفظه العذب سحرا

حوى طلاوة ثغر

منها العوالم سكرى

وماس بالقد عطفا

وصال باللحظ قهرا

ناديته يا منائي

رفقا بمن فيك مغرى

واكفف سهام لحاظ

دعت محبيك أسرى

واطرح عناءك واترك

من قد طغى وتجرّا

٢١٥

وقال عجبا وتيها

أليس لي ملك مصرا

ومنهم الشيخ مصطفى الكردي العمادي ، قمريّ يسجع بالمعاني الفائقة ، بل قمريّ يطلع في الليالي البارقة ، مطبوع على عذوبة اللسان ، محبب إلى كل إنسان ، متوشح ببرد اللطافة ، متسم بسمة الظرافة ، متضلع بالدين السديد ، ملازم تلاوة الكتاب المجيد ، إلى مروءة كاملة وسمت وسيم ، وفتوة فاضلة ونعت كريم ، واطلاع على الأدب وفنونه ، واتساع في أنواعه وشجونه ، وتمرين اللسان على العربية والتصريف ، وتنميق البيان بأحسن تنميق وترصيف ، وأخلاق يستعيرها نسيم الصبا ، ونكات تملأ المسامع طربا. إن أسفرت فقيسها الملوح ، أو بثينة فجميلها المبرح ، كأنه ينظر إلى قول الحريري :

فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنات المثاني

وهذا كلامه السحر الحلال ، وقوافيه الغوال ، تؤذن برقة ذوقه ، ودماثة خلقه :

عذب اللمى قد سقاني

من ريقه الشهد خمرا

أفديه من بدر تمّ

قد رق معنى وخصرا

وفي سما القلب مني

له طلوع ومسرى

مليك مصر فؤادي

يفوق في الحسن بدرا

فليس لي من حبيب

سواه سرا وجهرا

هو المنى ومرامي

له الهناء وبشرى

إذ قام في الذكر يتلو

أليس لي ملك مصرا

وله :

مدامع العين أجرى

في الحب من رام أجرا

رفقا حبيبي بصب

قد هام وجدا وسكرا

ملكت قلبي المعنى

وزدت يا بدر هجرا

يا من حوى كل حسن

عشاقه فيه أسرى

أعرضت عني بعادا

ولم أجد عنك صبرا

وقد نما فيك شوقي

وأنت بالحال أدرى

تجيبني حين أشكو

أليس لي ملك مصرا

٢١٦

ومنهم الخل الأمجد ، صديقنا الشيخ أحمد ، المعروف بالأشرفي الصحّاف ، أمده الله من فضله بعوائد الألطاف ، خل موافق ، وصديق صادق ، وسمح بالمودة على من صافاه ، وطوع في الزيارة والموافاه. مصاحب إلى طرق الخير والأمانة ، ومجانب عن سبل السوء والخيانة ، مطيب الأنفاس بلطافة قوله ، ومحبب إلى الناس بحسن صنيعه وفعله ، راغب في الطلب والاشتغال ، ذاهب إلى تقوى الله على كل حال ، حافظ كلام ربه ، ملاحظ له بعين قلبه ، لسانه شهد جنّي ، وقلبه قلب هنّي ، كأنه انطبع على مكارم الأخلاق ، واجتمع أمره على المواخاة والوفاق. لزم جماعة العلماء ، فأخذ من العلم نصيبا وافيا ، وقدم على خدمة الصلحاء ، فاجتنى من أخلاقهم مشربا صافيا ، تمرن على الفقه واللسان ، وتفنن بالعربية والبيان. وأما نظره في الشعر فليس من الغرض ، بل يتكلم فيه ثانيا وبالعرض. وهذه أبياته المتوجة بالحلي ، وخمرته المبتهجة لكل مجتلي :

صادفت ريما تثنى

وبالنفائس يشرى

بكامل الحسن يجلى

ويعذب الريق سكرا

وأعين فاتكات

به رمتني قسرا

ووجنة حار فيها

كل امرىء ذاق هجرا

في ليلة الوصل أمسى

يتيه إذ مد شعرا

ناديته صل معنى

لا ينثني عنك دهرا

ودع مقال عنيد

أليس لي ملك مصرا

ومنهم الفقير المحفوف بعوائد الألطاف ، السيد عبد الله العطائي الصحاف ، وأحد خضمهم ، وناظر أشمهم ، مادح مآثرهم الباقية ، وصادح منابرهم الراقية ، من هو حرف لحق لإفادة الحصر ، أو واو زيد في الهجاء يوما بعمرو ، كلف همته شيئا صعبا ، وطمع أن يقاوم فكره صارما عضبا ، واشرأبت نفسه أن يصل إلى مطلع ذكاء ، أو يصعد على متن الجوزاء. وينشده المقام ، حين عز المقام :

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما هكذا يا سعد تورد الإبل (١)

وربما ينظّر ببعض الكروان ، ترائي شمس الميزان ، والظليم يسمع ويروى. فقال القائل :

__________________

(١) البيت لنوار بنت جلّ بن عديّ زوجة مالك بن زيد مناة بن تميم.

٢١٧

أطرق كرى أطرق كرى ، ولو غفلت عنه عيون النقاد ، ونامت عن عرينها الآساد ، لشفى داء غرامه بخيال فهمه ، وصال في الهيجاء بحبالة وهمه.

أيا نخلتي وادي بوانة حبذا

إذا نام حراس النخيل جناكما (١)

ولكن زلة لا يقال لعاثرها لعا ، وخلة لم تدع لصاحبها موضعا ، وحرباء على عضة من تهامه ، أجل من ثقل يقف عرض ملامه ، والبدا الطائل الباع ، يرمز أن مخرنبق لينباع ، والشعراء كأفراس تتابعن في مراح ، فمنها المجلي ومنها المرتاح ، ولكن الحر يصفح ، وإذا ملك أسمح ، ومن انتمى للضعف يراش جناحه ، ومن استبان الهزال ينعم سراحه ، ومن اعترف بالتقصير لا يناقش فيه ، ومن اعتذر إلى الكريم قبله بملا فيه.

عذيري من خليلي من مراد

أيعذرني خليل بني المرادي

همام إربه علم وبحث

وحل المشكلات من انتقاد

فصيح مصقع سمح القوافي

كأن بلفظها طعم الشهاد

نشقنا نفحة القيصوم منها

وخيمنا بأفناء الخضاد

ذكرنا من أووا طلحا وضالا

من الأعراب عمار البوادي

أناسا لم يشبهم ذكر نحو

ولا احترزوا المعيب من السناد

يجيدون الكلام بغوص حدس

فيبرز كل معنى مستجاد

فحيا كل رسم من ذراهم

وهاتيك الفدافد والوهاد

ترى من يبلغهم بأني

أضحت بيان قسّهم الأيادي (٢)

وذلك من بني الشام المفدى

معلى الطرف طلاع النجاد

هزبر همة غيث نوالا

ومرغوب ومرهوب الأعادي

ملاذ للعفاة وكل ندب

ومنهل وارد منهم وصاد

كفاها جلّقا تيها ودلا

وزهوا بالعلا في كل ناد

بأن الزبرقان جلى حماها

وأشرق جونها الحلك السواد

فلا برحت منازله فخاما

وبيت مقامه عالي العماد

__________________

(١) البيت لوضاح اليمن.

(٢) هكذا في الأصل والصواب : ترى منذا. أما أضحت فهكذا في الأصل.

٢١٨

مما قلته في الاقتباس المتقدم :

طارحت ظبي كناس

يبدي من اللفظ سحرا

فقلت أي مليك

يعتاد خمرا وأمرا

فقال ذلك طرفي

أحداقه النجل سكرى

وفي الملاح أمير

يصول باللحظ قهرا

أليس منصب حسني

يزري بمنصب كسرى

أليس أهل المعالي

من تحت حكمي قسرا

ولا أقول اغترارا

أليس لي ملك مصرا

وقلت أيضا :

يا للنهى من غزال

غزا بلحظيه قسرا

مليك حسن مطاع

في الحب نهيا وأمرا

ومصره بيت قلبي

وصاحب البيت أدرى

فانظر إلينا أيا ذا ال

غزال ما دمت بدرا

واحذر صروف الليالي

إذ يطلع البدر فجرا

فقال إن مقامي

يحاول الأسد قهرا

لا بدع إن تهت عجبا

أليس لي ملك مصرا

وممن اقتبس هذا السناء ، واستنار بالمحجة الغراء ، السيد محمد طالب جلبي البكفالوني حافظ الكلام القديم ، وحائز الخلق الكريم ، من يطرب الأسماع بلفظه ، ويخلب الألباب بوعظه ، إذا صعد على منبره خطيبا ، فيالله طيبا ضمخ طيبا ، ينظم فن الشعر برويته ، ويزن حسن الكلام بسجيته ، أريحته أريحية الكرماء ، وألمعيته ألمعية الأذكياء. فمما نظم من كلامه ، وأملى من غرامه ، قوله :

عزيز قلبي ترفق

فأنت بالرفق أحرى

دع عنك كل خليل

يخل بالذات قدرا

واحذر تردّى بكبر

واخلص إلى الله شكرا

كم من مليك تغالى

فنال في ذاك قهرا

٢١٩

واخفض جناحك ذلا

تنال في ذاك نصرا

وابق التوكل دأبا

ليبدل العسر يسرا

ولا تقل من غرور

أليس لي ملك مصرا

وممن نحا هذا المنحى ، وسلك فيه ثناء ومدحا ، أحد الظرفاء ، وشقيق الأذكياء ، محمود جلبي ابن المعري ، حيث قال ، وأحسن في المقال :

عزيز قلبي مرادي

من نور وجهك بدرا

ولثم راحات جود

تفوح مسكا وعطرا

أنت المسمى خليلا

أنسيت بالعدل كسرى

من أم بابك يوما

يلق المكارم تترى

أرسلت نظما كدر

يزين في الجيد عذرا

من سحر لفظك أضحى

يميل عجبا وسكرا

أمسى ينادي هلموا

من كان يحسن شعرا

مولاي أنت مليك

حباك ربك نصرا

والملك عذر ولكن

يسمو بذاتك قدرا

ولم تقل بافتخار

أليس لي ملك مصرا

مولاي سامح محبا

على حماك تجرا

يقول جامع هذه الرسالة : لما فرغت من تحريرها ، مثلت بها جناب الطود الأعلى ، ذا القدح المعلى ، السيد محمد أفندي قدسي ، أدام الله جنابه ، وأقرّ به أحبابه ، وذلك ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من جمادى الأولى لسنة أربع ومائتين وألف من الهجرة النبوية.

هذي ألوكة شائق نحو الأولى

سكنوا دمشق الغوطة المحميه

ضمنتها ذكر الأماجد من غدت

آثارهم محفوظة مروية

ومذ انتمى لجنابه تاريخها

سميتها بالهمة القدسية

١٢٠٤

تمت الرسالة.

٢٢٠