إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

وقلما يخوض بانتقاده إلا مع الخواص الذين يعرفون الحقائق ، فكانت عداوتهما عداوة العقلاء.

خسر المترجم بتلك المحاكمة وبإدارة شركة انحصار الدخان للمرة الثانية مبلغا جسيما ، لأن الحكومة مكلفة بحفظ أماكن الشركة ، فلما حدثت فتنة الأرمن امتنع الوالي عن إرسال العساكر لمنع نهب الأرمن مال الشركة.

خسر بعدم مداراة الحكام غير ذلك من المزارع والأراضي. (منها) مزرعة جميل باشا الوالي اشتراها منه المترجم ، فاعتدى عليها زعماء التركمان بإغراء خفي حتى أخذوها. (ومنها) مزرعة كانت مستنقعات تابعة للأراضي الأميرية ، فألف لها شركة وأخذها من الحكومة وجففها ، فأغرى المغرون بعض عشائر الأكراد بالتعدي على حصته خاصة ، فحاكمهم فحكم لهم عليه بالمساعدة الخفية. وفي إثر ذلك سافر مهاجرا إلى مصر.

سياسته ورأيه في الإصلاح :

لم يكن المترجم في اشتغاله بخدمة بيته وبلده وحكومته غافلا عن شؤون المسلمين العامة ، فقد كان يقرأ الجرائد التركية والمصرية حتى الممنوعة التي كانت تدخل إلى حلب كغيرها بوسائط خفية. ولما هاجر إلى مصر كان أول أثر له فيها طبع سجل جمعية أم القرى ، وكان يقول إن لهذه الجمعية أصلا وإنه هو توسع في السجل ونقحه ست مرات آخرها عند طبعه منذ سنتين ونيف ، أعني عقب قدومه إلى مصر. وقد قال لنا مرة : الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد ، بل إن بلاد الحرية تولّد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها. ومن يقرأ الكتاب يظن أن صاحبه صرف معظم عمره في البحث عن أحوال المسلمين وتاريخهم وعقائدهم وعلومهم وآدابهم وتقاليدهم وعاداتهم ، ومنه يعلم رأي المترجم في الإصلاح.

وقد كنا معه على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح ، حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب عندما اطلع عليه. وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا الفقيد فيها في هامش الكتاب عند طبعه ، وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.

أما آراؤه ومعارفه السياسية فحسبنا منها كتاب «طبائع الاستبداد» الذي كاد يكون

٤٨١

معجزة للكتاب السياسيين. وقد زعم زاعمون أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من كتاب لفيلسوف إيطالي. ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع والسياسة من حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرا.

وإذا لاحظ مع ذلك أن هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في (المؤيد) ثم مدها صاحبها مد الأديم العكاظي وزاد فيها فكانت كتابا حافلا يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى. وإذا علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلا وزاد فيه كثيرا يعلم علم اليقين أنه ينبوع علم هذا الرجل صدره ، وأنه كان يزداد في كل يوم فيضانا وتفجيرا. نعم إنه قال في مقدمته إن بعضه مما درسه وبعضه مما اقتبسه. وإننا نعلم أنه لم يولد إنسان عالما ، ولكن فرقا عظيما بين من يحكي كلام غيره كآلة (الفوتوغراف) وبين من يحكم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح.

من كان له مثل هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في العلوم العقلية والكونية ، وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية.

وجهته الأخيرة :

وجه همته أخيرا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح على بصيرة. فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها ، ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية. ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار ، فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ، وما زال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي ، وعرف حالة البلاد الزراعية ، وعرف كثيرا من معادنها حتى إنه استحضر نموذجا منها. وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي [من موانىء الهند] وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به في سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقية الشرقية ، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق فيه الإفرنج.

٤٨٢

وكان في نفسه رحلة أخرى يتمم بها اختباره للمسلمين وهي الرحلة إلى بلاد العرب ، ولكن حالت دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم.

أرأيت رجلا كريم الأصل ، كبير العقل ، تربى أحسن تربية ، وتعلم أحسن تعليم ، ودخل في الأعمال المختلفة ، وتصدى للمشروعات المتعددة ، وكتب في أدق المسائل أحسن الكتابة ، وساح في البلاد واختبر أحوال الأمم ، حتى بلغ أشده واستوى ، كيف يكون حاله وما هي درجة استعداده. هذا هو صديقنا الذي فقدناه بالأمس ، فكأنما فقدنا به الشمس. ومثل تلك الآمال الكبيرة لا تبلغ إلا بمساعدة الحكومة أو سعة المال أو الجمعيات ، وقد كان له أمل في مصر وأميرها أراه الاختبار خلافه.

ولقد كان لموته تأثير كبير في نفوس الفضلاء والعقلاء ، وقد نعي إلى الجناب الخديوي في صبيحة الليلة التي مات فيها ، فأمر بأن يجهز على نفقة سموه وأن يعجل بدفنه ، فكان ذلك. فرحم الله فقيدنا وأحسن عزاء الإسلام والشرق فيه. ا ه. (مجلة المنار).

وترجمته أيضا على إثر وفاته جريدة اللواء والمؤيد والقاهرة والرقيب والأهرام ومجلتا المقتطف والهلال ، وكلها تضرب على وتر واحد من بيان فضله وسعة مداركه وعلو همته وآماله ، وذكرت أنه دفن في قرافة باب الوزير.

ونقش على قبره بيتان من نظم شاعر النيل محمد حافظ إبراهيم نقلتهما من ديوانه المطبوع وهما :

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى

هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا واقرؤوا أمّ الكتاب وسلموا

عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

ورثاه الأديب الفاضل الشيخ مصطفى صادق الرافعي بقوله :

أحقا رأيت الموت دامي المخالب

وفي كل ناد عصبة حول نادب

وتحت ضلوع القوم جمرا مؤججا

تسعر ما بين الحشا والترائب

وفي كل جفن عبرة حين أرسلت

رأوا كيف تهمي مثقلات السحائب

أبى الموت إلا وثبة تصدع الدجى

وكم ليلة قد باتها غير واثب

فما انفلق الإصباح حتى رأيته

وقد نشبت أظفاره بالكواكب [ي]

٤٨٣

وكم في حشا الأيام من مدلهمة

قد ازدحمت فيها بنات المصائب

هوى القمر الوهاج فاخبط معي الثرى

إذا لاح ضوء النجم بين الغياهب

ووطّن على خوض المنيات أنفسا

تساوقها الآجال سوق النجائب

فهن العواري استرجع الموت بعضها

وقصر البواقي ما جرى للذواهب

أبعد حكيم الشرق تذخر عبرة

وما هو من بعد الرحيل بآيب

حثوا فوق خديه التراب وأرسلوا

عليه سحابات الدموع السواكب

ولو رفعوا فوق السماكين قبره

لما بلغوا من حقه بعض واجب

لتبك عليه الصحف في كل معرك

إذا ما انتضى أقلامه كل كاتب

فقد كان إن هز اليراع رأيته

يصول بأمضى من فرند القواضب

ولم يك هيابا إذا حمس الوغى

ورفرفت الأعلام فوق الكتائب

وكانت سجاياه كما شاءها الهدى

وشاءت لأهليها كرام المناقب

ولا بدع أن تعزى الكواكب للعلا

وقد نسبته نفسه للكواكب

سلوا حامليه هل رأوا حول نعشه

ملائكة من حارب حلف حارب

وهل حملوا التقوى إلى حفرة الثرى

وساروا بذاك الطود فوق المناكب

وهل أغمدوا في قبره صارما إذا

تجرد راع الشرق أهل المغارب

فكم هزه الإسلام في وجه حادث

فهز صقيل الحد عضب المضارب

أرى حسرات في النفوس تهافتت

لها قطع الأحشاء من كل جانب

وما بعجيب أن ذا الدهر قلّب

إذا كان في أهليه كل العجائب

أقول : قول الفاضل صاحب (المنار) في أوائل الترجمة إنه أنشأ جريدة (الشهباء) ١٢٩٣ هو سهو ، والصواب أنه أنشأها سنة ١٢٩٥ ، وهي أسبوعية رأيت العدد الثاني عشر منها عند أسعد أفندي العينتابي أحد وجهاء الشهباء ، وهو مؤرخ في ٢٩ جمادى الثانية سنة ١٢٩٥. وقد تكلم على هذه الجريدة الأديب فليب دي طرازي في كتابه «تاريخ الصحافة العربية».

ثم عطلت هذه الجريدة ، فأصدر جريدة أخرى سماها (الاعتدال) رأيت العدد الأول منها عند الوجيه الموما إليه ، وهو مؤرخ في ٥ شعبان سنة ١٢٩٦ ه‍ و ٢٥ تموز سنة ١٨٧٩ م. ولم يطل أمد هذه أيضا لخروج المترجم فيها عن حد الاعتدال وطعنه الشديد

٤٨٤

٤٨٥

في سياسة الدولة العثمانية ، فلم يسر فيها على مقتضى ما سماها به. وقد تكلم على هذه أيضا في «تاريخ الصحافة العربية».

والسيد الكواكبي هو أول من أنشأ صحيفة في الشهباء بعد الصحيفة الرسمية ، فكان له فضل التقدم ، وذلك ينبئك عن علو همته وما انطوت عليه نفسه من حب الإصلاح ، غير أنه كان الأجدر به أن يخفف اللهجة في كتاباته ويلين القول في عباراته ، لأن الأمراء العثمانيين لم يتعودوا بعد سماع الانتقاد على سياستهم ، ولم يألفوا أن ينبهوا إلى سيىء إدارتهم ، فلا ريب أنهم يستعظمون ذلك على نفوسهم ويكافحونه بما لديهم من القوة ولا يتكافأ معهم قلم السيد الكواكبي ، وبه وحده لا تثل عروش الاستبداد ولا تدك صروح الاستعباد ، تلك سنة الله في خلقه.

ولذا كان عمر هاتين الصحيفتين قصيرا ، ولم تحصل الثمرة المقصودة ولم تنل الضالة المنشودة ، وهي استبدال الإدارة السيئة بإدارة حسنة تنتظم بها حالة البلاد والأمة.

كان الجهل فاشيا في الشهباء ، والأمية غالبة في تلك السنين ، وقل فيها من كان يكتب ويقرأ ، فكان الجدير بالسيد أن يجعل باكورة أعماله نداء الأمة نداء خفيا يحثها على طرح رداء الجهل المنتشر بين أبنائها والتحلي بحلية العلم ، ويوقظها من سباتها من حيث لا يشعر به أحد ، وينبه فيها الشعور من وراء ستار ، لتدب فيها روح الحياة ، وتتربى نفوسها على الحركة والعمل. ولا ريب أنه بذلك لا يجد في سبيل سيره معارضة ، ولا من أولي الأمر مقاومة ، وكان لا يلبث عشية أو ضحاها إلا ويرى أمامه فئة تغذت بلبان العلم واكتست برداء النباهة ، وتستبدل الشهباء حينئذ تأخرها العلمي والاقتصادي بالسير إلى الأمام في هذا السبيل من ذلك الحين ، وكان يظهر الآن أثر ذلك وتجتنى ثمرته.

وأعظم بهذه النهضة إذا بنيت على التمسك بالشريعة الإسلامية وآدابها العالية والتخلق بالأخلاق الفاضلة التي عليها بني مجدنا الغابر ، وبها كنا خير أمة أخرجت للناس.

ولا ريب أن الأمة الحلبية بعد أن تتقلد بهذا السلاح المتين كانت تلتف حوله بطبيعتها ، وتكون له خير معين على نيل مقاصده وتحقيق أمانيه ، فالمرء كثير بأخيه. وحسبنا في هذا

٤٨٦

الباب قوله تعالى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً)(١) وحديث (يد الله مع الجماعة).

ولعل غليان دم الشباب في فؤاده وقتئذ وتلك النفس المفطورة على الإباء المتعشقة من الطفولية لمحاسن الإصلاح المتطلعة إليه تطلع الأسد إلى فريسته هي التي أهابت به أن يطلق لجواد قلمه العنان في هذا الميدان ، وحال حبه الشديد لأوطانه وشغفه العظيم بانتظام أحوال بلاده بينه وبين التطلع إلى أمامه والالتفات إلى ما كان يومئذ حوله ، فكبابه يراعه [ولكل جواد كبوة] وكان ما كان ، والأمور مرهونة بأوقاتها.

١٢٩٩ ـ الشاعر الأديب الشيخ محمد حميدة المتوفى سنة ١٣٢١

الشيخ المشهور بالشيخ حمدو حميدة بن عبد المجيد النيربي المعروف بالناصر ، الشاعر الأديب الأصم.

ولد سنة ١٢٥٢ ، وتلقى العلوم العربية وغيرها على الشيخ أحمد الحجّار في مدرسة القرناصية ، وعلى الشيخ شهيد الترمانيني ، وعلى الشيخ هاشم عيسى ، وعلى الشيخ أحمد الترمانيني. وجاور في المدرسة القرناصية والمدرسة العثمانية.

ثم غلب عليه الشعر والأدب. وكان يتردد إلى إدلب وكفر تخاريم وحارم ودير كوش ويمدح أغوات هذه البلاد ، وكانوا لا يقصرون في بره وصلته ، مع عزة نفس وكرم طبع.

وله ديوان شعر وشعره جيد. وكانت له اليد الطولى في التشطير والتخميس ، ومن تخاميسه الفائقة التي يتغنى بها قوله :

شهيّ اللمى تحكي الأزاهر ثغره

وهيهات طيب المسك يعدل نشره

فإن زارني بدري وأظهر بشره

أقول له والليل قد مد ستره

علينا وقد نامت عيون الحواسد

فها أنا قد أنفقت فيك وسائلي

ولم تك يوما عن ودادي بسائلي

__________________

(١) القصص : ٣٥.

٤٨٧

وناديت لما أن تناءت عواذلي

ترى عن يقين أنت عندي مواصلي

بغير رقيب بعد ذاك التباعد

فيا ويح قلب في هواك تفطّرا

من الوجد والتبريح للعظم قد برى

وحالي لا تخفى عليك كما ترى

فقال وقد مالت به سنة الكرى

وشرب الحميّا وهو في طيّ ساعدي

لقد آن أن تلقى لديّ تعطفا

وتشفي أسقاما دعتك على شفا

فدونك ما تهوى ترى الدهر منصفا

خذ الحظ واغنم من زمانك ما صفا

فما كل وقت دهرنا بمساعد

ومن نظمه مشطّرا :

ألا قاتل الله الضرورة إنها

على الحر أمضى من سيوف قواطع

كفى خسة فيها إذا جد جدها

تعلّم خير الناس شر الطبائع

وتحوجه بالرغم عنه لمعشر

يرون اتخاذ الكبر أسنى البضائع

ومن تضامينه اللطيفة :

أسير هواكم يا آل سعد

غدا يوم الوداع سمير وجد

أصاحي إن تكن ترعى لعهد

تمتع من شميم عرار نجد

وودّع من تخلّف في الديار

سقاه الله من روض وسيم

سرى بوروده أرج النسيم

تذكّر فيه أوقات النعيم

وزوّد منه طرفك يا نديمي

فما بعد العشية من عرار

وقال مشطرا :

خلت الرقاع من الرخا

خ وشاهها للهول ذائق

والفيل ملقى في الفخا

خ وفرزنت فيها البيادق

وسطا الغراب على العقا

ب وفاخر البرذون عاتق

والأسد دانت للذئا

ب وصاد فرخ البوم باشق

سكتت بلابلة الزما

ن وكل منطيق وحاذق

٤٨٨

والدهر أخرس للقيا

ن وأصبح الخفاش ناطق

وتسابقت عرج الحمي

ر فلست تبصر غير ناهق

ولقد تداعوا للبدا

ر فقلت من عدم السوابق

وقال :

في الصين طير ناطق

يبدي لدينا حكمه

فيا له من واعظ

سبحان مولى ألهمه

يقول في تغريده

تجنبوا ماء الأمه

إني إليكم ناصح

ابن الأمه ما ألأمه

ومن منظوماته التي أحسن فيها تخميس بردة البوصيري ومطلعها :

مالي أراك حليف الوجد ذا ألم

وساجي الطرف ترعى النجم في الظلم

تالله يا من غدا في حيّز العدم

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

أم من تباريح أشواق ملازمة

لمهجة بهوى الأحباب هائمة

ولوعة منهم للقلب صارمة

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من إضم

وقال في التحذير من النفس :

فاحذر أخا الحزم منها بأس شدتها

فكم أذاقت هماما طعم حدتها

إن كنت ترتاح من بلوى مضرتها

فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها

إن الطعام يقوي شهوة النهم

فكن بها مستهينا واقطع الأملا

عنها وكن بالذي يعنيك مشتغلا

فالعمر ولى ولن تلقى له بدلا

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وتخميسه للبردة طبع في مطبعتي [العلمية] سنة ١٣٤٣.

وله مشطّرا كما وجدته في بعض المجاميع والأصل لبدر الدين بن النقيب :

٤٨٩

لي عند خدّيك أقساط من القبل

من أجلها عاد مني القلب في وجل

وأنت ذو دولة في الحسن واسعة

فوفّني البعض مما لي من الجمل

ولا تحلني على ما كان منكسرا

من طرف أحور يسبي الغصن بالميل

ولا على من يصيد الأسد في شرك

من الجفون ولا المرضى من المقل

وكان المترجم أصم ، فاصطنع له مصّاصة [قمجة] وضع في آخرها فنجانا مثقوبا ، فمن أراد أن يكلمه وضع الفنجان على فمه وخاطبه ، ويأخذ المترجم المصّاصة وقد وضع في آخرها ما سورة من معدن ويضعها في أذنه ، فكان بهذه الواسطة يسمع بسهولة.

وكانت وفاته في كفر تخاريم من أعمال حلب الغربية سنة ١٣٢١ ، ودفن ثمة رحمه‌الله تعالى.

١٣٠٠ ـ الشيخ محمد العالم المتوفى سنة ١٣٢٢

الشيخ محمد ابن الشيخ علي ابن الحاج أحمد بن أبي بكر بن مصطفى ابن السيد محمد الشهير بالعالم ، الشافعي مذهبا ، القادري طريقة.

ولد سنة ألف ومائتين وست وأربعين في بلدة كفر تخاريم مركز قضاء حارم من أعمال حلب ، وهي تبعد عنها أربع عشرة ساعة. ونشأ في حجر والدته ، فحفظ القرآن العظيم وأتقنه في مدة يسيرة. ولما بلغ اثنتي عشرة سنة شرع في تحصيل مبادىء العلوم في وطنه على من كان بها من العلماء ، ثم انتقل إلى حلب وجاور في المدرسة الصلاحية المعروفة الآن بالبهائية ، وصار يشتغل في تحصيل العلوم النقلية والعقلية.

ولما بلغ عمره اثنتين وعشرين سنة تقريبا سافر إلى مصر سنة ألف ومائتين وثمان وستين ، وجاور في جامعها الأزهر ، وأقام ثمة ثماني سنين ، وجد في التحصيل إلى أن مهر وصار معيد درس الشيخ حسن العدوي. ثم أجيز من شيخه المذكور ومن الشيخ محمد الدمنهوري والشيخ محمد الخضري والشيخ محمد الأنبابي والشيخ محمد العشماوي والشيخ مصطفى المبلط ، ودرس في الجامع الأزهر بحضور مشايخه المار ذكرهم علم الكلام والحديث والمنطق.

٤٩٠

وفي سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين آب إلى بلدته وأخذ في نشر العلم هناك ، وشرع في التأليف فاختصر من البخاري الشريف أحاديث سماها «السراج المنير في أحاديث البشير النذير» وشرحها ، وألف رسالة في علم الكلام سهلة العبارة ، وعمل قصتين في مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرع في تأليف فتاوي في الفقه الحنفي سماها «الكريمية» جمع فيها صحيح المذهب ، إلا أنها لم تتم له بسبب تجرده التام في ذلك الحين وانقطاعه عن الناس ولزومه للتعبد والتبتل.

وفي سنة ألف وتسع وثمانين ومائتين انتقل بأهله إلى مدينة حلب وتوطنها.

وفي تلك السنة سافر إلى بغداد لزيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وحصل له مزيد الإكرام من ذرية الشيخ القاطنين ثمة لما ظهر لهم من علمه وكرم أخلاقه.

وكان رحمه‌الله متقنا لعلم الحديث وتعبير الرؤيا بارعا فيهما ، وعلى جانب عظيم من الصلاح والتقوى والزهد في هذه الدنيا ، منقطعا في بيته للمطالعة والتعبد ، لا يزور أحدا من الكبراء والأمراء ولا يتطلع إلى وظيفة ، وللناس فيه اعتقاد عظيم ، يزورونه ويطلبون منه صالح الدعوات ويستشفون بما يكتب لهم من الآيات القرآنية على قطعة من السكر أو غير ذلك ، ولا يأخذ على ذلك أجرا. وكان ربما يخرج إلى سوق محلته فيقعد عند بعض الباعة قليلا ترويحا للنفس ثم يعود إلى بيته. وبالجملة فإنه ممن سلم الناس من لسانه ويده ، وممن ترك ما لا يعنيه واشتغل بخويصّة نفسه واجتهد فيما يستنير به قلبه ، واستبانت ملامح ذلك على أسارير وجهه ، فكان الناظر إليه لا يشك في صلاحه وتقواه. ورؤيت له عدة مكاشفات دلت على صفاء سريرته وعمارة باطنه وأنه من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.

ولم يزل مرضيّ الطريقة محمود الأقوال والأفعال إلى أن توفي ليلة الجمعة لأربع خلت من شهر رمضان سنة ألف وثلاثمائة واثنتين وعشرين ، وكانت جنازته حافلة ، ودفن في تربة الشيخ ثعلب غربي محلة المشارقة ، وخلف ولدين هما العالم الفاضل الشيخ علي أفندي قاضي مدينة حلب الآن (أي في سنة ١٣٤٥) والشيخ أحمد أفندي قاضي إدلب سابقا.

١٣٠١ ـ عطاء الله أفندي المدرّس المتوفى سنة ١٣٢٣

الحاج عطاء الله أفندي ابن مفتي حلب الشيخ عبد الرحمن أفندي ابن الشيخ حسن

٤٩١

أفندي الشهير بالمدرس ، تقدمت ترجمة أبيه وجده.

ولد سنة ١٢٥٦ ، ومن حين نشأته انتظم في سلك طلاب العلوم في المدرسة العثمانية الشهيرة ، وأخذ في التحصيل على مدرسها في ذلك الحين الشيخ صالح أفندي صاجلي زاده.

ثم اتصل بالأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني وبابن أخيه الشيخ عبد السلام ، فقرأ عليهما النحو والصرف والحديث والتفسير ، وقرأ الفقه الحنفي على الشيخ مصطفى الريحاوي الشهير مدرس القرناصية. وما زال دائبا في التحصيل إلى أن نال قسطا وافرا من العلوم الدينية والأدبية.

واشتغل في اللغة التركية فمهر فيها تكلما وكتابة فترجم إلى هذه اللغات كتاب «الخراج» في الفقه للإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنهما ، وفي ذلك الحين بعد صيته واشتهر فضله. وأهدى من هذا الكتاب نسخة إلى السلطان عبد الحميد خان ، فحازت لديه القبول التام وأنعم عليه وقتئذ بالنيشان المجيدي الثالث.

وتولى وظائف عديدة في الشهباء فعين عضوا في ديوان التمييز ، ورئيسا في مجلس الدعاوي ، وعضوا في مجلس الإدارة واستئناف الحقوق ، ورئيسا للجنة الأوقاف ، ورئيسا في مجلس المعارف.

وحاز عدة رتب علمية ، وأخيرا رتبة باية الحرمين الشريفين وهي رتبة لم يحرزها غيره في ولاية حلب.

وله شعر رقيق منسجم خال من التكلف ، يدخل في الآذان بلا استئذان ، ولو صرف عنايته إليه وأعاره جانبا من وقته لألحق على تأخره في الزمن في زمرة المتقدمين. وقد ذهب ما صاغه من هذه العقود وغير ذلك من آثاره في حريق حصل في الغرفة التي فيها مكتبته في داره في محلة الفرافرة وذلك سنة ١٣٢١ ، والتهم الحريق معظم المكتبة ولم يبق منها إلا القليل ، وهو باق عند أولاده.

والتقطت بعض شعره من عدة مجاميع ، فمن ذلك قصيدته الهائية التي لا زال ينشدها المنشدون في الأفراح وهي في نحو ٥٠ بيتا أثبت هنا ما وصل إلي منها بعد البحث ، ومطلعها :

٤٩٢

سلّت لحاظا أسود الغاب تخشاها

فأرخصت مهجا ما كان أغلاها

فاحذر سهاما بدت من قوس حاجبها

فالرمي يا صاح ضرب من سجاياها

يا قلب صبرا لعلّ الصبر يعقبه

شهد الوصال فبعد العسر يسراها

زارت بليل فخلت الشمس قد طلعت

أو ليلة القدر جادت لي برؤياها

لله من ليلة ما كان أحسنها

إذ لم أفز بنعيم الوصل لولاها

لا ذنب للدهر عندي بعدها أبدا

يا قلب فاشكر لها لا تنس جدواها

لقد ذكرت ظباء القاع إذ خطرت

والعطف بالميل للأغصان قد باهى

فسحّ مزن دموعي عندما سطعت

طوالع الحسن من باهي محيّاها

وافت وفي العيد زارتني مهنئة

فكدت من فرحي بالروح ألقاها

قدّمت قلبي قربانا لزورتها

فالقلب في العيد أضحى من ضحاياها

ومنها :

سارت سحيرا تبعت الركب أنشده

قلبي لقد ضاع مني يوم مسراها

فما احتيالي وشوقي زادني كمدا

واها لقلب المعنى بعدها واها

يا حادي العيس مهلا وامش متئدا

وعلل القلب يا حادي بذكراها

علّ التذكر يبقي فيه من رمق

فمهجتي أخلقت (١) والحب أبلاها

وكدت أيأس لو لم أعتصم بعرى

خير البرية أولاها وأخراها

وله مشطرا :

خلقت الجمال لنا فتنة

وصورت ألحاظا بنا يفتكون (٢)

وحذرت إذ حكمت فينا الهوى

وقلت ألا يا عبادي اتقون (٣)

وأنت جميل تحب الجمال

وخلقك طرا به مغرمون

وإن أنت أحببت خير الورى

فكيف عبادك لا يعشقون

وله وهو مما التقطته من مجموعة شيخنا الشيخ عبد الله سلطان :

__________________

(١) في الأصل : خلقت.

(٢) هكذا في الأصل وعجز البيت مختل الوزن.

(٣) هكذا في الأصل وصدر البيت مختل الوزن.

٤٩٣

وأربعة قد لازمت منك أربعا

فليست لعمري ساعة عنك تنفكّ

جبينك والسنا وريقك والطلا

وشعرك والدجا وخالك والمسك

وللشيخ أحمد المحجوب في هذا الباب :

حمى الله من تلك المحاسن أربعا

لأربعة يتبعن ما بقي الدهر

قوامك والنقا وشعرك والدجا

ونطقك والصهبا ولحظك والسحر

وللمترجم مضمنا :

أهدت شمائلكم للسمع طيب ثنا

من ذكركم عطّر الأرجا فأحيانا

لا غرو أن عشقت روحي ولم تركم

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وله أيضا :

السمع أوحى لقلبي أنه قمر

فبتّ أرعى نجوم الليل حيرانا

لا غرو أن هام سمعي قبل باصرتي

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وله أيضا :

يقول لما رأى قلبي به كلفا

متى عشقت ولم تنظر محيّانا

فقلت قد سمعت أذني بوصفكم

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وللشيخ كامل الغزّي :

لما سمعت من العشاق أنكم

في الكون أجمل خلق الله إنسانا

عشقتكم بسماعي قبل باصرتي

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وللشيخ أحمد شهيد الدار عزاني مفتي حارم :

سرت محاسن من أهواه في بصري

من بعد ما قد سرت في السمع أزمانا

قد أسرع السمع في تمثيل صورته

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

ولأحمد وهبي الإدلبي :

زار الحبيب بيوم مثل طلعته

ووصله بعد موت الصد أحيانا

٤٩٤

على السماع عشقنا حسن صورته

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

ولمراد أفندي ابن أمين أفندي مقيّد قاضي أنطاكية الآن :

تأرج الروض من عرف الكرام وقد

أهدى لنا طيبهم نشرا فأحيانا

فسمعنا هام فيهم قبل أعيننا

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وللشيخ عبد السلام الترمانيني في هذا الباب :

وفد الصبا جاءنا من نحو ربعكم

بنفح طيب فحيّانا وأحيانا

لذا عشقناكم قبل اللقا معكم

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وكان على ما فيه من أدب وفضل لطيف المعاشرة حسن المذاكرة ، مجلسه مزدحم بأهل الفضل ومنزله مقصود من الآفاق. وكان مع ذلك واسع الجاه مقداما جسورا نافذ الكلمة لدى أمراء الدولة العثمانية ، يقدرون أصالة رأيه ودرايته وحزمه ، مع حشمة ووقار ومهابة ، وكان للمجالس زينتها وللمحافل بهجتها.

وما زال على ذلك إلى أن وافاه الأجل المحتوم في الثالث والعشرين من صفر سنة ١٣٢٣ ، ودفن في تربة الجبيلة رحمه‌الله تعالى.

١٣٠٢ ـ الحاج عبد القادر الميسّر التاجر المشهور المتوفى سنة ١٣٢٣

الحاج عبد القادر بن عمر الشهير بالميسّر ، التاجر المشهور ، وبقية نسبه تقدمت في ترجمة جده الأعلى حسين باشا البابي المتوفى حول سنة ١١٦٠.

ولد رحمه‌الله سنة ١٢٤٧ ، ونشأ ملما بشيء من الفقه وأحكام البيع والشراء كما هو عادة تجار ذلك العصر ، وتعاطى بيع الطرابيش في دكان له في السوق الكائن أمام خان العلبية وأثرى من ذلك ، فصار يتعاطى مع ذلك التجارة إلى الإسكندرية وغيرها في مخزن له في الخان المذكور ، مع الصلاح والتقوى والاستقامة والحرص على قضاء حوائج الناس ، فكان لا يمنع جاهه في كل ما أمكنه.

وكان يشبه سيدي الوالد خلقا وخلقا ولباسا وعمامة ، إلا أنه كان أبيض منه.

٤٩٥

وكانت يده مطلقة في سبيل الخير والصدقة ولا يتأخر عن مكرمة دعي إليها.

فمن آثاره تجديد مسجد في زقاق النخلة في محلة باب النيرب صرف عليه ٤٠٠ ليرة عثمانية ، ولا زال ولداه يتفقدان هذا المسجد بالنفقة. وتجديد جامع الخواجا في محلة العقبة على يد الرجل الصالح الحاج خليل إكريّم وقد قدمنا ذلك. وبعد أن أنشئت المنازل في العرصة المسماة بسراي إسماعيل باشا شرقي جامع الرومي أنشأ المترجم هناك بئرا للاستقاء صرف عليه ١٠٠ ليرة ، ولا زال ولداه يتفقدان هذا البئر بالنفقة.

وفي زمن ناشد باشا لما أدخل ماء قناة حلب إلى محلة الفردوس عمر المترجم طريق القناة من قسطل باب المقام إلى محلة المعادي فالمقامات فالفردوس ، ويبلغ طول هذا الطريق نحو ألف متر صرف عليه نحو ٣٠٠ ليرة. وأنشأ سبيلا في محلة المقامات صرف عليه نحو ٤٠ ليرة. وفي سنة ١٣١٨ توهنت قبلية جامع محلة الأعجام فجدد بناءها وصرف في ذلك نحو ١٥٠. وهكذا كان رحمه‌الله لا يألو جهدا في أمثال هذه الأعمال الخيرية.

ولم يزل على ذلك إلى سنة ١٣٢٣ ، ففيها في شهر جمادى الثانية توجه إلى المدينة المنورة مهاجرا وزائرا لساكنها عليه‌السلام ، فوافته المنية فيها في العشرين من رمضان ودفن ثمة بالبقيع ، فكانت نعمت الهجرة والزيارة رحمه‌الله تعالى.

١٣٠٣ ـ محمد نصوح الجابري المتوفى سنة ١٣٢٤

محمد نصوح أفندي ابن الحاج صدّيق أفندي الجابري ، الوجيه السريّ الأديب.

ولد سنة ١٢٧٧ ، وتربى في حجر الوجاهة. ومن حين نشأته كانت همته متوجهة لطلب الكمال والتحلي بحلية أهل الفضل ، فسعى إلى تلك الدوحة واقتطف من يانع ثمارها ، وحصل من العلوم الفقهية والأدبية طرفا صالحا مع نباهة فكر وأصالة رأي.

وتوجه في نواحي سنة ١٣٠٤ إلى عكا فأخذ الطريقة اليشرطية عن نزيلها الشيخ علي اليشرطي ، وبعد عودته اهتم في نشرها في حلب.

وكان مولعا بكتب التصوف مكثرا من المطالعة فيها ، وله مع ذلك شعر حسن يميل

٤٩٦

فيه إلى الزهد والإعراض عن هذه الدنيا الفانية ، فمنه وهو مما نقلته من خط أخيه صديقنا الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي :

كل اللذائذ والآمال زائلة

وبعد عين يعود الكل في خبر

فليت شعري ما الدنيا وزينتها

وما التفاخر بالأموال والدرر

وما التصدر للعليا بمدّ يد

للّثم ثم امتداد في ثرى الحفر

ومنه قصيدة طويلة قسمها إلى عدة فصول عارض بها بردة الأبوصيري ، رأيتها بخطه ، قال في مطلعها وهو الفصل الأول :

بان الخفاء وبانت بانة العلم

ترمي بلحظ تروم الفتك في العلم (١)

فاكظم رجاءك في أرجاء كاظمة

واسلم فديتك لا تطمع بذي سلم

واقصر هوى طالما فيه هويت إلى

وهد الهوان وهذا الذل والسقم

هل يجهد الحر في تمليك مهجته

لمن يرى سلبها من واجب الذمم

هي الغواني لديها خير مكرمة

إغوا الكريم وقطع الوصل والكرم

كم من فقيد بمغناها بلا قود

للغنم وافى وإن الغنم بالغنم (٢)

ماذا التجلد للواشين تظهره

دوما وذا دمعك الهتّان كالديم

أما الذي قد جرى من مقلتيك دما

هو الفؤاد فعش جسما بغير دم

ومنها في الفصل الرابع في فضل شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قبلها :

لئن شرائعهم طبق العصور أتت

فكلها انطبقت في عصر ختمهم

وكل مستكمل سيرا لأوله

يعود يا حبذا بدء بمختتم

لذاك قلت استدار الوقت هيئته

كيوم فطرته في سالف القدم

أعظم بعصر جديد مبرز عجبا

من كل شأن بديع الحسن منتظم

كل اختراع وكشف كان عن أثر

من بعثه رحمة للعرب والعجم

فمن قرا سيرة الماضين في سلف

درى تفرد هذا العصر في الشمم

هذي الظواهر والآثار قد نطقت

ناهيك عن جوهر الأسرار ذي القيم

__________________

(١) العلم أولا اسم موضع ، وثانيا بمعنى العالم. ا ه. من خطه.

(٢) لعل الصواب : وإن الغرم بالغنم.

٤٩٧

وما حوى شرعه من كل مكرمة

وكل شأو علا الدارين ملتزم

عزائم لأولي الألباب مع رخص

للسبق تهدي الفتى في قصد معتزم

ومنها في الفصل السادس في بقية معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

سل الغزالة والأشجار كيف سعت

والجزع أنّ أنين الجازع الوجم

حيث المواليد جاءته ثلاثتها

مسخرات بأمر الواحد الحكم

منها الحصى أثبتت في بطن راحته

إلى قلوب العدى الإفراط بالصمم

ما جحدهم صمما بل كان عن حسد

إن الحسود لنشر الفضل كالخدم

ومنها في الفصل السابع في فضل أصحابه رضي‌الله‌عنهم وقومه العرب :

بشرى مصدقه طوبى لقسمته

يا فوز صاحب ذاك الحظ في القسم

يا نعم صحبا رضاء الحق صاحبهم

عنهم رضي ورضوا عنه بسيرهم

هم أمة أخرجت للناس خيرهم

في الصدق والعرف والمعروف والذمم

من معشر جودة الأخلاق فطرتهم

كخام جوهرة الأصداف في الخيم

في الجاهلية كانت فيهم شيم

عنها عري كل ذي علم بغيرهم

ما ضر ساذج أطباع تجرده

من الفنون مع الإحسان في الشيم

حتى أتت درة الأكوان مبرزة

فأبرزتهم من الأصداف والأجم

فزيّنوا عقد جيد الدهر من نعم

وليّنوا عنق وحش الكفر كالنعم

حتى غدت ملة الإسلام سالمة

وصار كل مصرّ ملقي السلم

في مدة ربع قرن ما تجاوزه

ما تلك قوة ذي القرنين أو إرم

هذا افتتاح كبدء الخلق ثانية

هدي النفوس كإحياها من العدم

أحيوا ومدوا لطير الأمن أجنحة

في الشرق والغرب من رايات عدلهم

فأوشجوا الأرض سلك النور وابتدروا

فتح القلوب قبيل البيد والأطم

هم الملوك اقتدارا همة وحجا

هم المساكين من لين ومن رحم

رهبان ليل وأبطال النهار فهم

في حب مولاهم مستغرقو الخدم

كلا تراه حكيما شاعرا بطلا

شهما وديعا أخا رفق وذا همم

وختمها بقوله وهو الفصل الحادي عشر في الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٤٩٨

مدح الرسول شفاء المستجير به

وعصمة لمحب فيه معتصم

إن الصلاة عليه خير فاتحة

إلى الهداية في بدء ومختتم

صلى عليه إله العرش ما سطعت

آلاؤه زاهرات في عروشهم

والآل والصحب تقديما لصاحبه

في الغار صدّيقه المختار بالقدم

والناشر الدين والسامي الحجا عمر

وكافل الجيش عثمان أخي الكرم

وخاتم الخلفا الأركان حيدرة

في الآل والصحب ذو السهمين في القسم

والسابقين وتالي الحزب ما تلت ال

حمائم العزب آي النوح بالنغم

تبكي ابتسام ليال بالحمى سلفت

من بعدها مرت الأيام كالظلم

رثى النصوح لشكواها فناشدها

ومن يهم صادقا نصّاحه تهم

حالي كحالك إن فتشت عن خبري

لا تحسبي دمك المسفوح غير دمي

تبديه جهرا وأخفي والخفا لمتى

بان الخفاء وبانت بانة العلم

اللازمة التي تعاد من الحاضرين للصلاة عليه :

صلاة ربي والأملاك والأمم

على الحبيب الوحيد الجامع الشيم

تعداد أسطرها برء لسامعها

فابري السقام بها يا بارىء النسم

٢٠٣

وكانت وفاته في الثامن عشر من شهر شوال سنة ١٣٢٤ ، ودفن بين أسرته في تربة الصالحين جنوبي مقام إبراهيم عليه‌السلام ، رحمه‌الله تعالى.

١٣٠٤ ـ الشيخ محمد طاهر أفندي العيّاشي مفتي إدلب المتوفى سنة ١٣٢٤

الشيخ محمد طاهر أفندي ابن السيد حسن ابن السيد محمد العيّاشي ، الإدلبي المنشأ والأصل ، والمفتي بها.

ولد ببلدة إدلب سنة أربعين ومائتين وألف ، وتلقى العلم على جملة من فضلاء بلده ، منهم الشيخ الفاضل محمد المعروف بالغزّالي ، والشيخ صلاح الدين الجوهري مفتي الحنفية ، والشيخ عمر المارتيني وغيرهم. ودأب على التحصيل إلى أن برع بين أقرانه وبهر.

٤٩٩

وتولى نقابة الأشراف بعد والده ، ثم تولى الإفتاء سنة ألف وثلاثماية.

وله رسالة سماها «أوضح المسالك في سياسة الممالك» ، و «الفتاوي العياشية» في مجلد كامل جمعها ولده الفاضل محمد برهان الدين أفندي بعد وفاته من مسوداتها.

وكان رحمه‌الله متواضعا للكبير والصغير ، سليم القلب ، يعامل المسيء إليه بالإحسان ولا يعامل أحدا على إساءته ، وكان مهابا عظيم الوقار حلو المحاضرة لطيف المسامرة ، لا يمل جليسه ويأنس به أنيسه ، لين الجانب سخي الطبع.

وكانت وفاته في محرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف.

وله مخمسا قصيدة العالم الكامل الشيخ شعيب الكيالي الإدلبي التي مطلعها : (ببابك ربي قد انخت مطيتي) وأولها :

إليك التجائي في رخائي وشدتي

وأنت رجائي يا منائي وعدتي

لقد جئت في فقري وعجزي وزلتي

ببابك ربى قد أنخت مطيتي

وأنزلت ما بي في حماك وخلتي

فبابك لا يرتد دون وقيعه

ومن لاذ فيه لم يخف من مريعه

رجوتك إحسانا فجد في سريعه

وعوّلت في أمري عليك جميعه

وأفنيت حولي في رضاك وقوتي

وهي طويلة. وله مشطّرا :

ولما رشفت الريق منها تمنعت

وفي القلب من نار الغرام ضرام

فعاودت أبغي العل من منهل اللمى

فقالت أما تخشى وأنت إمام

أتزعم أن الريق مني محلل

لعمرك ما أفتى بذاك همام

يمينا لقد أخطأت بالزعم سيدي

فريقي مدام والمدام حرام

وله مشطّرا :

ونائمة قبّلتها فتنبهت

مسارعة تختال في عادل القدّ

وجاءت قضاة الحب تبدي شكاية

وقالت هلموا واطلبوا اللص بالحدّ

فقلت لها إني لثمتك غاصبا

وكان ارتكابي الغصب من شدة الوجد

٥٠٠